خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَشَآقُّواْ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْهُدَىٰ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ
٣٢
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوۤاْ أَعْمَالَكُمْ
٣٣
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ
٣٤
فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُوۤاْ إِلَى ٱلسَّلْمِ وَأَنتُمُ ٱلأَعْلَوْنَ وَٱللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ
٣٥
إِنَّمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَٰلَكُمْ
٣٦
إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ
٣٧
هَا أَنتُمْ هَـٰؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَٱللَّهُ ٱلْغَنِيُّ وَأَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوۤاْ أَمْثَالَكُم
٣٨
-محمد

فتح القدير

قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } المراد بهؤلاء: هم المنافقون، وقيل: أهل الكتاب، وقيل: هم المطعمون يوم بدر من المشركين، ومعنى صدّهم عن سبيل الله: منعهم للناس عن الإسلام، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم معنى { شَاقُّواْ ٱلرَّسُولَ }: عادوه وخالفوه { مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْهُدَى } أي: علموا أنه صلى الله عليه وسلم نبيّ من عند الله بما شاهدوا من المعجزات الواضحة، والحجج القاطعة { لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيْئاً } بتركهم الإيمان وإصرارهم على الكفر، وما ضرّوا إلاّ أنفسهم { وَسَيُحْبِطُ أَعْمَـٰلَهُمْ } أي: يبطلها، والمراد بهذه الأعمال: ما صورته صورة أعمال الخير كإطعام الطعام، وصلة الأرحام، وسائر ما كانوا يفعلونه من الخير، وإن كانت باطلة من الأصل، لأن الكفر مانع، وقيل: المراد بالأعمال: المكائد التي نصبوها لإبطال دين الله، والغوائل التي كانوا يبغونها برسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أمر سبحانه عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله، فقال: { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ } فيما أمرتم به من الشرائع المذكورة في كتاب الله وسنة رسوله؛ ثم نهاهم عن أن يبطلوا أعمالهم، كما أبطلت الكفار أعمالها بالإصرار على الكفر، فقال: { وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَـٰلَكُمْ } قال الحسن أي: لا تبطلوا حسناتكم بالمعاصي. وقال الزهري: بالكبائر. وقال الكلبي، وابن جريج: بالرياء والسمعة. وقال مقاتل: بالمنّ. والظاهر النهي عن كل سبب من الأسباب التي توصل إلى بطلان الأعمال كائناً ما كان من غير تخصيص بنوع معين. ثم بيّن سبحانه أنه لا يغفر للمصرّين على الكفر، والصدّ عن سبيل الله، فقال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ } فقيد سبحانه عدم المغفرة بالموت على الكفر؛ لأن باب التوبة وطريق المغفرة لا يغلقان على من كان حياً، وظاهر الآية العموم وإن كان السبب خاصاً. ثم نهى سبحانه المؤمنين عن الوهن والضعف، فقال: { فَلاَ تَهِنُواْ } أي: تضعفوا عن القتال، والوهن: الضعف { وَتَدْعُواْ إِلَى ٱلسَّلْمِ } أي: ولا تدعوا الكفار إلى الصلح ابتداءً منكم، فإن ذلك لا يكون إلاّ عند الضعف. قال الزجاج: منع الله المسلمين أن يدعوا الكفار إلى الصلح، وأمرهم بحربهم حتى يسلموا. وقرأ أبو عبد الرحمٰن السلمي (وتدّعوا) بتشديد الدال من ادّعى القوم وتداعوا. قال قتادة: معنى الآية: لا تكونوا أوّل الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها.

واختلف أهل العلم في هذه الآية هل هي محكمة، أو منسوخة؟ فقيل: إنها محكمة، وإنها ناسخة لقوله: { { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَٱجْنَحْ لَهَا } [الأنفال: 61] وقيل: منسوخة بهذه الآية. ولا يخفاك أنه لا مقتضى للقول بالنسخ، فإن الله سبحانه نهى المسلمين في هذه الآية عن أن يدعوا إلى السلم ابتداءً، ولم ينه عن قبول السلم إذا جنح إليه المشركون، فالآيتان محكمتان، ولم يتواردا على محل واحد حتى يحتاج إلى دعوى النسخ، أو التخصيص، وجملة { وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ } في محل نصب على الحال، أو مستأنفة مقرّرة لما قبلها من النهي، أي: وأنتم الغالبون بالسيف والحجة. قال الكلبي: أي: آخر الأمر لكم، وإن غلبوكم في بعض الأوقات، وكذا جملة قوله: { وَٱللَّهُ مَعَكُمْ } في محل نصب على الحال، أي: معكم بالنصر، والمعونة عليهم { وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَـٰلَكُمْ } أي: لن ينقصكم شيئًا من ثواب أعمالكم، يقال: وتره يتره وتراً: إذا نقصه حقه، وأصله من وترت الرجل: إذا قتلت له قريباً، أو نهبت له مالاً، ويقال فلان مأتور: إذا قتل له قتيل، ولم يؤخذ بدمه. قال الجوهري: أي: لن ينقصكم في أعمالكم، كما تقول دخلت البيت، وأنت تريد في البيت. قال الفراء: هو مشتق من الوتر وهو الدخل، وقيل: مشتق من الوتر وهو الفرد، فكأن المعنى: ولن يفردكم بغير ثواب. { إِنَّمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } أي: باطل وغرور لا أصل لشيء منها، ولا ثبات له ولا اعتداد به { وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ } أي: إن تؤمنوا بالله، وتتقوا الكفر والمعاصي يؤتكم جزاء ذلك في الآخرة، والأجر: الثواب على الطاعة { وَلاَ يَسْـئَلْكُمْ أَمْوٰلَكُمْ } أي: لا يأمركم بإخراجها جميعها في الزكاة وسائر وجوه الطاعات، بل أمركم بإخراج القليل منها، وهو الزكاة. وقيل: المعنى: لا يسألكم أموالكم إنما يسألكم أمواله؛ لأنه أملك لها، وهو المنعم عليكم بإعطائها. وقيل: لا يسألكم أموالكم أجراً على تبليغ الرسالة، كما في قوله: { { ومَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } [الشعراء: 109] والأوّل أولى. { ؤإِن يَسْـئَلْكُمُوهَا } أي: أموالكم كلها { فَيُحْفِكُمْ } قال المفسرون: يجهدكم، ويلحف عليكم بمسألة جميعها، يقال: أحفى بالمسألة وألحف وألح بمعنى واحد، والمحفي: المستقصي في السؤال، والإحفاء: الاستقصاء في الكلام، ومنه إحفاء الشارب، أي: استئصاله، وجواب الشرط قوله: { تَبْخَلُواْ } أي: إن يأمركم بإخراج جميع أموالكم تبخلوا بها، وتمتنعوا من الامتثال { وَيُخْرِجْ أَضْغَـٰنَكُمْ } معطوف على جواب الشرط، ولهذا قرأ الجمهور { يخرج } بالجزم وروي عن يعقوب الحضرمي أنه قرأ بالنون، وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وابن محيصن، وحميد بالفوقية المفتوحة مع ضم الراء. وعلى قراءة الجمهور، فالفاعل ضمير يعود إلى الله سبحانه، أو إلى البخل المدلول عليه بتبخلوا. والأضغان: الأحقاد، والمعنى: أنها تظهر عند ذلك. قال قتادة: قد علم الله أن في سؤال المال خروج الأضغان. { هَاأَنتُمْ هَـؤُلاَء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي: ها أنتم هؤلاء أيها المؤمنون تدعون؛ لتنفقوا في الجهاد وفي طريق الخير { فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ } بما يطلب منه، ويدعى إليه من الإنفاق في سبيل الله، وإذا كان منكم من يبخل باليسير من المال، فكيف لا تبخلون بالكثير وهو جميع الأموال؟ ثم بيّن سبحانه أن ضرر البخل عائد على النفس فقال: { وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ } أي: يمنعها الأجر والثواب ببخله، وبخل يتعدى بعلى تارة وبعن أخرى. وقيل: إن أصله أن يتعدى بعلى، ولا يتعدى بعن إلاّ إذا ضمن معنى الإمساك { وَٱللَّهُ ٱلْغَنِىُّ } المطلق المتنزّه عن الحاجة إلى أموالكم { وَأَنتُمُ ٱلْفُقَرَاء } إلى الله، وإلى ما عنده من الخير والرحمة، وجملة: { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } معطوفة على الشرطية المتقدّمة، وهي: { وإن تؤمنوا }، والمعنى: وإن تعرضوا عن الإيمان والتقوى، يستبدل قوماً آخرين يكونون مكانكم هم أطوع لله منكم { ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَـٰلَكُم } في التولي عن الإيمان والتقوى. قال عكرمة: هم فارس، والروم. وقال الحسن: هم العجم. وقال شريح بن عبيد: هم أهل اليمن، وقيل: الأنصار، وقيل: الملائكة، وقيل: التابعون. وقال مجاهد: هم من شاء الله من سائر الناس. قال ابن جرير: والمعنى: { ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَـٰلَكُم } في البخل بالإنفاق في سبيل الله.

وقد أخرج عبد بن حميد، ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة، وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون أنه لا يضرّ مع لا إلٰه إلاّ الله ذنب، كما لا ينفع مع الشرك عمل حتى نزلت: { أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَـٰلَكُمْ } فخافوا أن يبطل الذنب العمل، ولفظ عبد بن حميد: فخافوا الكبائر أن تحبط أعمالهم. وأخرج ابن نصر، وابن جرير، وابن مردويه عن ابن عمر قال: كنا معشر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نرى أنه ليس شيء من الحسنات إلاّ مقبول حتى نزلت: { أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَـٰلَكُمْ } فلما نزلت هذه الآية قلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا: الكبائر الموجبات والفواحش، فكنا إذا رأينا من أصاب شيئًا منها قلنا: قد هلك، حتى نزلت هذه الآية: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [النساء: 48] فلما نزلت كففنا عن القول في ذلك. وكنا إذا رأينا أحداً أصاب منها شيئًا خفنا عليه، وإن لم يصب منها شيئًا رجوناه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: { يَتِرَكُمْ } قال: يظلمكم. وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه (عن ابي هريرة) قال: لما نزلت: { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } قالوا: من هؤلاء؟ وسلمان إلى جانب النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: هم الفرس، هذا وقومه. وفي إسناده مسلم بن خالد الزنجي وقد تفرّد به، وفيه مقال معروف. وأخرجه عنه عبد الرزاق، وعبد بن حميد، والترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط، والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } فقالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا، ثم لا يكونوا أمثالنا؟ فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على منكب سلمان، ثم قال: " هذا وقومه، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس" ، وفي إسناده أيضاً مسلم بن خالد الزنجي. وأخرج ابن مردويه من حديث جابر نحوه.