خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَٰلَهُمْ
١
وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَهُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ
٢
ذَلِكَ بِأَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱتَّبَعُواْ ٱلْبَاطِلَ وَأَنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّبَعُواْ ٱلْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ
٣
فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ
٤
سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ
٥
وَيُدْخِلُهُمُ ٱلْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ
٦
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ
٧
وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ
٨
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَٰلَهُمْ
٩
أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا
١٠
ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ مَوْلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَأَنَّ ٱلْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَىٰ لَهُمْ
١١
إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ ٱلأَنْعَامُ وَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ
١٢
-محمد

فتح القدير

قوله: { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } هم كفار قريش كفروا بالله، وصدّوا أنفسهم وغيرهم عن سبيل الله، وهو دين الإسلام بنهيهم عن الدخول فيه، كذا قال مجاهد، والسديّ. وقال الضحاك: معنى { عن سبيل الله }: عن بيت الله بمنع قاصديه. وقيل: هم أهل الكتاب، والموصول مبتدأ، وخبره { أَضَلَّ أَعْمَـٰلَهُمْ } أي: أبطلها وجعلها ضائعة. قال الضحاك: معنى { أَضَلَّ أَعْمَـٰلَهُمْ }: أبطل كيدهم ومكرهم بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وجعل الدائرة عليهم في كفرهم. وقيل: أبطل ما عملوه في الكفر مما كانوا يسمونه مكارم أخلاق: من صلة الأرحام، وفكّ الأسارى وقري الأضياف، وهذه وإن كانت باطلة من أصلها، لكن المعنى: أنه سبحانه حكم ببطلانها. ولما ذكر فريق الكافرين أتبعهم بذكر فريق المؤمنين، فقال: { وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَءامَنُواْ بِمَا نُزّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ } ظاهر هذا العموم، فيدخل تحته كل مؤمن من المؤمنين الذين يعملون الصالحات، ولا يمنع من ذلك خصوص سببها؛ فقد قيل: إنها نزلت في الأنصار، وقيل: في ناس من قريش، وقيل: في مؤمني أهل الكتاب، ولكن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وخص سبحانه الإيمان بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بالذكر مع اندراجه تحت مطلق الإيمان المذكور قبله تنبيهاً على شرفه وعلوّ مكانه، وجملة: { وَهُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ } معترضة بين المبتدأ، وهو قوله: { وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ }، وبين خبره، وهو قوله: { كَفَّرَ عَنْهُمْ سيئاتهم } ومعنى كونه الحق: أنه الناسخ لما قبله،وقوله: { مّن رَّبّهِم } في محل نصب على الحال، ومعنى { كَفَّرَ عَنْهُمْ سيئاتهم } أي: السيئات التي عملوها فيما مضى فإنه غفرها لهم بالإيمان، والعمل الصالح { سَيّئَـٰتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } أي: شأنهم وحالهم. قال مجاهد: شأنهم، وقال قتادة: حالهم. وقيل: أمرهم، والمعاني متقاربة. قال المبرد: البال: الحال ها هنا. قيل والمعنى: أنه عصمهم عن المعاصي في حياتهم، وأرشدهم إلى أعمال الخير، وليس المراد إصلاح حال دنياهم من إعطائهم المال، ونحو ذلك، وقال النقاش: إن المعنى: أصلح نياتهم، ومنه قول الشاعر:

فإن تقبلي بالودّ أقبل بمثله وإن تدبري أذهب إلى حال باليا

والإشارة بقوله: { ذٰلِكَ } إشارة إلى ما مرّ مما أوعد به الكفار، ووعد به المؤمنين، وهو مبتدأ خبره ما بعده، وقيل: إنه خبر مبتدأ محذوف أي: الأمر ذلك بسبب إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱتَّبَعُواْ ٱلْبَـٰطِلَ وَأَنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّبَعُواْ ٱلْحَقَّ مِن رَّبّهِمْ، فالباطل: الشرك، والحق: التوحيد والإيمان، والمعنى: أن ذلك الإضلال لأعمال الكافرين بسبب اتباعهم الباطل من الشرك بالله والعمل بمعاصيه، وذلك التكفير لسيئات المؤمنين وإصلاح بالهم، بسبب اتباعهم للحقّ الذي أمر الله باتباعه من التوحيد والإيمان، وعمل الطاعات { كَذَلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَـٰلَهُمْ } أي: مثل ذلك الضرب يبين للناس أمثالهم، أي: أحوال الفريقين الجارية مجرى الأمثال في الغرابة. قال الزجاج: { كذلك يضرب }: يبين الله للناس أمثال حسنات المؤمنين، وإضلال أعمال الكافرين، يعني: أن من كان كافراً أضلّ الله عمله، ومن كان مؤمناً كفر الله سيئاته. { فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرّقَابِ } لما بيّن سبحانه حال الفريقين أمر بجهاد الكفار، والمراد بالذين كفروا: المشركين ومن لم يكن صاحب عهد من أهل الكتاب، وانتصاب { ضرب } على أنه مصدر لفعل محذوف. قال الزجاج: أي: فاضربوا الرقاب ضرباً، وخصّ الرقاب بالذكر؛ لأن القتل أكثر ما يكون بقطعها، وقيل: هو منصوب على الإغراء. قال أبو عبيدة: هو كقولهم: يا نفس صبراً، وقيل التقدير: اقصدوا ضرب الرقاب. وقيل: إنما خصّ ضرب الرقاب؛ لأن في التعبير عنه من الغلظة والشدّة ما ليس في نفس القتل، وهي حزّ العنق، وإطارة العضو الذي هو رأس البدن، علوّه وأحسن أعضائه { حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ } أي: بالغتم في قتلهم، وأكثرتم القتل فيهم، وهذه غاية للأمر بضرب الرقاب، لا لبيان غاية القتل، وهو مأخوذ من الشيء الثخين، أي: الغليظ، وقد مضى تحقيق معناه في سورة الأنفال { فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ } الوثاق بالفتح ويجيء بالكسر: اسم الشيء الذي يوثق به كالرباط. قال الجوهري: وأوثقه في الوثاق أي: شدّه، قال: والوثاق بكسر الواو لغة فيه. قرأ الجمهور { فشدّوا } بضم الشين، وقرأ السلمي بكسرها. وإنما أمر سبحانه بشدّ الوثاق؛ لئلا ينفلتوا، والمعنى: إذا بالغتم في قتلهم فأسروهم، وأحيطوهم بالوثاق { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء } أي: فإما أن تمنوا عليهم بعد الأسر منا، أو تفدوا فداء، والمنّ: الإطلاق بغير عوض، والفداء: ما يفدي به الأسير نفسه من الأسر، ولم يذكر القتل هنا اكتفاءً بما تقدّم. قرأ الجمهور { فداءً } بالمد. وقرأ ابن كثير (فدى) بالقصر، وإنما قدّم المنّ على الفداء، لأنه من مكارم الأخلاق، ولهذا كانت العرب تفتخر به، كما قال شاعرهم:

ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم إذا أثقل الأعناق حمل المغارم

ثم ذكر سبحانه الغاية لذلك، فقال: { حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } أوزار الحرب التي لا تقوم إلاّ بها من السلاح والكراع، أسند الوضع إليها، وهو لأهلها على طريق المجاز، والمعنى: أن المسلمين مخيرون بين تلك الأمور إلى غاية هي أن لا يكون حرب مع الكفار. قال مجاهد: المعنى حتى لا يكون دين غير دين الإسلام، وبه قال الحسن، والكلبي. قال الكسائي: حتى يسلم الخلق. قال الفراء: حتى يؤمنوا ويذهب الكفر. وقيل المعنى: حتى يضع الأعداء المحاربون أوزارهم، وهو سلاحهم بالهزيمة، أو الموادعة. وروي عن الحسن، وعطاء أنهما قالا: في الآية تقديم وتأخير، والمعنى: فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أوزارها، فإذا أثخنتموهم، فشدّوا الوثاق.

وقد اختلف العلماء في هذه الآية هل هي محكمة، أو منسوخة؟ فقيل: إنها منسوخة في أهل الأوثان، وإنه لا يجوز أن يفادوا، ولا يمنّ عليهم، والناسخ لها قوله: { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [التوبة: 5]، وقوله: { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى ٱلْحَرْبِ فَشَرّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ } [الأنفال: 57]، وقوله: { وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَافَّةً } [التوبة: 36] وبهذا قال قتادة، والضحاك، والسديّ، وابن جريج، وكثير من الكوفيين، قالوا: والمائدة آخر ما نزل، فوجب أن يقتل كل مشرك إلاّ من قامت الدلالة على تركه من النساء والصبيان، ومن تؤخذ منه الجزية، وهذا هو المشهور من مذهب أبي حنيفة، وقيل: إن هذه الآية ناسخة لقوله: { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [التوبة: 5] روي ذلك عن عطاء وغيره. وقال كثير من العلماء: إن الآية محكمة، والإمام مخيّر بين القتل والأسر، وبعد الأسر مخير بين المنّ والفداء. وبه قال مالك، والشافعي، والثوري، والأوزاعي، وأبو عبيد وغيرهم. وهذا هو الراجح؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين من بعده فعلوا ذلك. وقال سعيد بن جبير: لا يكون فداء ولا أسر إلاّ بعد الإثخان والقتل بالسيف لقوله: { مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلأرْضِ } [الأنفال: 67] فإذا أسر بعد ذلك، فللإمام أن يحكم بما رآه من قتل أو غيره. { ذٰلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ } محل ذلك الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: الأمر ذلك، وقيل: في محل نصب على المفعولية بتقدير فعل، أي: افعلوا ذلك، ويجوز أن يكون مبتدأ، وخبره محذوف يدلّ عليه ما تقدّم، أي: ذلك حكم الكفار، ومعنى { لَّوْ يَشَاء ٱللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ }، أي: قادر على الانتصار منهم بالانتقام منهم وإهلاكهم، وتعذيبهم بما شاء من أنواع العذاب { وَلَـٰكِنِ } أمركم بحربهم { لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } أي: ليختبر بعضكم ببعض، فيعلم المجاهدين في سبيله، والصابرين على ابتلائه ويجزل ثوابهم، ويعذب الكفار بأيديهم. { وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } قرأ الجمهور: { قاتلوا } مبنياً للفاعل، وقرأ أبو عمرو، وحفص: { قتلوا } مبنياً للمفعول، وقرأ الحسن بالتشديد مبنياً للمفعول أيضاً. وقرأ الجحدري، وعيسى بن عمر، وأبو حيوة: { قتلوا } على البناء للفاعل مع التخفيف من غير ألف، والمعنى على القراءة الأولى، والرابعة: أن المجاهدين في سبيل الله ثوابهم غير ضائع، وعلى القراءة الثانية والثالثة: أن المقتولين في سبيل الله كذلك لا يضيع الله سبحانه أجرهم. قال قتادة: ذكر لنا أن هذه الآية نزلت يوم أحد. ثم ذكر سبحانه ما لهم عنده من جزيل الثواب فقال: { سَيَهْدِيهِمْ } أي: سيهديهم الله سبحانه إلى الرشد في الدنيا، ويعطيهم الثواب في الآخرة { وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } أي: حالهم وشأنهم وأمرهم. قال أبو العالية: قد ترد الهداية، والمراد بها: إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان، والطريق المفضية إليها، وقال ابن زياد: يهديهم إلى محاجة منكر ونكير { وَيُدْخِلُهُمُ ٱلْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ } أي: بيّنها لهم حتى عرفوها من غير استدلال، وذلك أنهم إذا دخلوا الجنة تفرّقوا إلى منازلهم. قال الواحدي: هذا قول عامة المفسرين. وقال الحسن: وصف الله لهم الجنة في الدنيا، فلما دخلوها عرفوها بصفتها. وقيل: فيه حذف، أي: عرفوا طرقها ومساكنها وبيوتها. وقيل: هذا التعريف بدليل يدلهم عليها، وهو الملك الموكل بالعبد يسير بين يديه حتى يدخله منزله، كذا قال مقاتل. وقيل: معنى { عَرَّفَهَا لَهُمْ }: طيبها بأنواع الملاذّ، مأخوذ من العرف، وهو الرائحة. ثم وعدهم سبحانه على نصر دينه بقوله: { يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ } أي: إن تنصروا دين الله ينصركم على الكفار، ويفتح لكم، ومثله قوله: { وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ } [الحج: 40]. قال قطرب: إن تنصروا نبيّ الله ينصركم { وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ } أي: عند القتال، وتثبيت الأقدام عبارة عن النصر، والمعونة في مواطن الحرب، وقيل: على الإسلام، وقيل: على الصراط { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ } الموصول في محل رفع على أنه مبتدأ، وخبره محذوف، تقديره: فتعسوا بدليل ما بعده، ودخلت الفاء تشبيهاً للمبتدأ بالشرط، وانتصاب { تعساً } على المصدر للفعل المقدّر خبراً. قال الفراء: مثل سقياً لهم ورعياً، وأصل التعس: الانحطاط والعثار. قال ابن السكيت: التعس: أن يجرّ على وجهه، والنكس: أن يجر على رأسه، قال: والتعس أيضاً: الهلاك. قال الجوهري: وأصله الكبّ، وهو ضد الانتعاش، ومنه قول مجمع بن هلال:

تقول وقد أفردتها من حليلها تعست كما أتعستني يا مجمع

قال المبرّد: أي: فمكروهاً لهم، قال ابن جريج: بعداً لهم، وقال السديّ: خزياً لهم. وقال ابن زيد: شقاءً لهم، وقال الحسن: شتماً لهم. وقال ثعلب: هلاكاً لهم، وقال الضحاك: خيبةً لهم، وقيل: قبحاً لهم، حكاه النقاش. وقال الضحاك: رغماً لهم. وقال ثعلب أيضاً: شرًّا لهم. وقال أبو العالية: شقوةً لهم. واللام في { لهم } للبيان، كما في قوله: { هَيْتَ لَكَ } [يوسف: 23] وقوله: { وَأَضَلَّ أَعْمَـٰلَهُمْ } معطوف على ما قبله داخل معه في خبرية الموصول. والإشارة بقوله: { ذٰلِكَ } إلى ما تقدّم مما ذكره الله من التعس والإضلال، أي: الأمر ذلك، أو ذلك الأمر { بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَا أَنزَلَ ٱللَّهُ } على رسوله من القرآن، أو ما أنزل على رسله من كتبه لاشتمالها على ما في القرآن من التوحيد والبعث { فَأَحْبَطَ } الله { أَعْمَـٰلَهُمْ } بذلك السبب، والمراد بالأعمال: ما كانوا عملوا من أعمال الخير في الصورة، وإن كانت باطلة من الأصل؛ لأن عمل الكافر لا يقبل قبل إسلامه. ثم خوّف سبحانه الكفار، وأرشدهم إلى الاعتبار بحال من قبلهم، فقال: { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ٱلأرْضِ } أي: ألم يسيروا في أرض عاد، وثمود، وقوم لوط وغيرهم؛ ليعتبروا { فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي: آخر أمر الكافرين قبلهم، فإن آثار العذاب في ديارهم باقية. ثم بيّن سبحانه ما صنع بمن قبلهم فقال: { دَمَّرَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ } والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر، والتدمير: الإهلاك، أي: أهلكهم واستأصلهم، يقال: دمّره ودمر عليه بمعنى، ثم توعد مشركي مكة فقال: { وَلِلْكَـٰفِرِينَ أَمْثَـٰلُهَا } أي: لهؤلاء الكافرين أمثال عاقبة من قبلهم من الأمم الكافرة. قال الزجاج، وابن جرير: الضمير في { أمثالها } يرجع إلى { عاقبة الذين من قبلهم }، وإنما جمع لأن العواقب متعدّدة بحسب تعدّد الأمم المعذبة، وقيل: أمثال العقوبة، وقيل: الهلكة، وقيل: التدميرة، والأوّل أولى لرجوع الضمير إلى ما هو مذكور قبله، والإشارة بقوله: { ذٰلِكَ } إلى ما ذكر من أن للكافرين أمثالها { بِأَنَّ ٱللَّهَ مَوْلَى ٱلَّذِينَ آمنوا } أي: بسبب أن الله ناصرهم، { وَأَنَّ ٱلْكَـٰفِرِينَ لاَ مَوْلَىٰ لَهُمْ } أي: لا ناصر يدفع عنهم. وقرأ ابن مسعود (ذٰلك بأن الله وليّ الذين آمنوا) قال قتادة: نزلت يوم أحد. { إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ جَنَـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأنْهَـٰرُ } قد تقدّم تفسير الآية في غير موضع، وتقدّم كيفية جري الأنهار من تحت الجنات، والجملة مسوقة لبيان ولاية الله للمؤمنين { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ ٱلأنْعَـٰمُ } أي: يتمتعون بمتاع الدنيا وينتفعون به؛ كأنهم أنعام ليس لهم همّة إلاّ بطونهم وفروجهم، ساهون عن العاقبة لاهون بما هم فيه { وَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ } أي: مقام يقيمون به، ومنزل ينزلونه ويستقرّون فيه، والجملة في محل نصب على الحال، أو مستأنفة.

وقد أخرج الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } قال: هم أهل مكة قريش نزلت فيهم: { وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ } قال: هم أهل المدينة الأنصار { وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } قال: أمرهم. وأخرج ابن المنذر عنه في قوله: { أَضَلَّ أَعْمَـٰلَهُمْ } قال: كانت لهم أعمال فاضلة لا يقبل الله مع الكفر عملاً. وأخرج النحاس عنه أيضاً في قوله: { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء } قال: فجعل الله النبيّ والمؤمنين بالخيار في الأسارى، إن شاءوا قتلوهم، وإن شاءوا استعبدوهم، وإن شاءوا فادوهم. وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عنه أيضاً في الآية قال: هذا منسوخ نسختها: { فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ } [التوبة: 5]. وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن الحسن قال: أتى الحجاج بأسارى، فدفع إلى ابن عمر رجلاً يقتله، فقال ابن عمر: ليس بهذا أمرنا إنما قال الله: { حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء }. وأخرج عبد الرزاق في المصنف، وابن المنذر، وابن مردويه عن ليث قال: قلت لمجاهد: بلغني أن ابن عباس قال: لا يحلّ قتل الأسارى؛ لأن الله قال: { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء } فقال مجاهد: لا تعبأ بهذا شيئًا أدركت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلهم ينكر هذا، ويقول: هذه منسوخة إنما كانت في الهدنة التي كانت بين النبيّ صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، فأما اليوم فلا، يقول الله: { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [التوبة: 5] ويقول: { فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرّقَابِ } فإن كان من مشركي العرب لم يقبل شيء منهم إلاّ الإسلام، فإن لم يسلموا فالقتل، وأما من سواهم فإنهم إذا أسروا، فالمسلمون فيهم بالخيار إن شاءوا قتلوهم، وإن شاءوا استحيوهم، وإن شاءوا فادوهم إذا لم يتحوّلوا عن دينهم، فإن أظهروا الإسلام لم يفادوا. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الصغير، والمرأة، والشيخ الفاني. وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يوشك من عاش منكم أن يلقى عيسى ابن مريم إماماً مهدياً وحكماً عدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، وتوضع الجزية، وتضع الحرب أوزارها" . وأخرج ابن سعد، وأحمد، والنسائي، والبغوي، والطبراني، وابن مردويه عن سلمة بن نفيل، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من حديث قال: "لا تضع الحرب أوزارها حتى يخرج يأجوج ومأجوج" . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس { وَلِلْكَـٰفِرِينَ أَمْثَـٰلُهَا } قال: لكفار قومك يا محمد مثل ما دمرت به القرى، فأهلكوا بالسيف.