خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْكُفْرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَٱحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
٤١
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآءُوكَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ
٤٢
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ ٱلتَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ ٱللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ وَمَآ أُوْلَـٰئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ
٤٣
إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ فَلاَ تَخْشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ
٤٤
-المائدة

فتح القدير

.

قوله { لاَ يَحْزُنكَ } قرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي والباقون بفتح الياء وضم الزاي، والحزن خلاف السرور، وحزن الرجل بالكسر، فهو حزن وحزين: وأحزنه غيره وحزنه. قال اليزيدي: حزنه لغة قريش وأحزنه لغة تميم، وقد قرىء بهما. وفي الآية النهي له صلى الله عليه وسلم عن التأثر لمسارعة الكفرة في كفرهم تأثراً بليغاً، لأن الله سبحانه قد وعده في غير موطن بالنصر عليهم، والمسارعة إلى الشيء: الوقوع فيه بسرعة. والمراد هنا، وقوعهم في الكفر بسرعة عند وجود فرصة، وآثر لفظ "فِى" على لفظ "إلى" للدلالة على استقرارهم فيه، و"من" في قوله: { مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ } بيانية، والجملة مبينة للمسارعين في الكفر، و"الباء" في { بِأَفْوٰهِهِم } متعلقة بـ { قالوا } لا بـ { آمنا }، وهؤلاء الذين قالوا آمنا بأفواههم، ولم تؤمن قلوبهم هم المنافقون. { وَمِنَ ٱلَّذِينَ هِادُواْ } يعني اليهود، وهو معطوف على { مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ءامَنَّا } وهو تمام الكلام. والمعنى: أن المسارعين في الكفر طائفة المنافقين وطائفة اليهود.

وقوله: { سَمَّـٰعُونَ لِلْكَذِبِ } خبر مبتدأ محذوف: أي هم سماعون للكذب، فهو راجع إلى الفريقين، أو إلى المسارعين، واللام في قوله: { لِلْكَذِبِ } للتقوية أو لتضمين السماع معنى القبول؛ وقيل إن قوله: { سَمَّـٰعُونَ } مبتدأ خبره { مّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ } أي: ومن الذين هادوا قوم { سَمَّـٰعُونَ لِلْكَذِبِ } أي: قابلون لكذب رؤسائهم المحرّفين للتوراة. قوله: { سَمَّـٰعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ } خبر ثان، واللام فيه كاللام في { للكذب }؛ وقيل اللام للتعليل في الموضعين، أي: سماعون لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لأجل الكذب عليه، وسماعون لأجل قوم آخرين، وجهوهم عيوناً لهم لأجل أن يبلغوهم، ما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: { لَمْ يَأْتُوكَ } صفة لقوم: أي لم يحضروا مجلسك وهم طائفة من اليهود، كانوا لا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبرا وتمرّداً؛ وقيل هم جماعة من المنافقين، كانوا يتجنبون مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الفراء: ويجوز سماعين كما قال { { مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ } [الأحزاب: 61].

قوله: { يُحَرّفُونَ ٱلْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوٰضِعِهِ } من جملة صفات القوم المذكورين: أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها، ويتأوّلونه على غير تأويله. والمحرّفون هم اليهود؛ وقيل: إن هذه الجملة خبر مبتدأ محذوف؛ وقيل في محل نصب على الحال من { لَمْ يَأْتُوكَ } وقيل: مستأنفة لا محل لها من الإعراب، لقصد تعداد معايبهم ومثالبهم. ومعنى: { مِن بَعْدِ مَوٰضِعِهِ } من بعد كونه موضوعاً في مواضعه، أو من بعد وضعه في مواضعه التي وضعه الله فيها، من حيث لفظه، أو من حيث معناه. قوله: { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا فَخُذُوهُ } جملة حالية، من ضمير يحرفون، أو مستأنفة، أو صفة لقوم، أو خبر مبتدأ محذوف، والإشارة بقولهم { هَـٰذَا } إلى الكلام المحرّف: أي إن أوتيتم من جهة محمد هذا الكلام الذي حرّفناه، فخذوه واعملوا به، وإن لم تؤتوه بل جاءكم بغيره، فاحذروا من قبوله والعمل به. قوله: { وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُ } أي: ضلالته { فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً } أي: فلا تستطيع دفع ذلك عنه ولا تقدر على نفعه وهدايته، وهذه الجملة مستأنفة مقررة لما قبلها، وظاهرها العموم ويدخل فيها هؤلاء الذين سياق الكلام معهم دخولاً أوّليا، والإشارة بقوله: { أُوْلَـٰئِكَ } إلى من تقدم ذكرهم، من الذين قالوا آمنا بأفواههم ومن الذين هادوا، وهو مبتدأ وخبره الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم: أي لم يرد تطهيرها من أرجاس الكفر والنفاق، كما طهّر قلوب المؤمنين { لَهُمْ فِى ٱلدُّنْيَا خِزْىٌ } بظهور نفاق المنافقين، وبضرب الجزية على الكافرين، وظهور تحريفهم وكتمهم لما أنزل الله في التوراة. قوله: { سَمَّـٰعُونَ لِلْكَذِبِ } كرّره تأكيداً لقبحه، وليكون كالمقدّمة لما بعده، وهو: أكالون للسحت، وهما من جملة أخبار ذلك المبتدأ المقدّر سابقاً. والسحت، بضم السين وسكون الحاء: المال الحرام، وأصله الهلاك والشدّة، من سحته: إذا هلكه، ومنه { { فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ } [طه: 61]، ومنه قول الفرزدق:

وعضّ زمان يابن مروان لم يدع من المال إلا مسحت أو مُجلَّفُ

ويقال للحالق اسحت: أي استأصل؛ وسمي الحرام سحتا لأنه يسحت الطاعات: أي يذهبها ويستأصلها، وقال الفراء: أصله كلب الجوع؛ وقيل هو الرشوة، والأوّل أولى، والرشوة تدخل في الحرام دخولاً أوّلياً. وقد فسره جماعة بنوع من أنواع الحرام خاص كالهدية لمن يقضى له حاجة، وحلوان الكاهن، والتعميم أولى بالصواب. قوله: { فَإِن جَاؤوكَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } فيه تخيير لرسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحكم بينهم والإعراض عنهم.

وقد استدلّ به على أن حكام المسلمين مخيرون بين الأمرين. وقد أجمع العلماء على أنه يجب على حكام المسلمين أن يحكموا بين المسلم والذمى إذا ترافعا إليهم. واختلفوا في أهل الذمة إذا ترافعوا فيما بينهم؛ فذهب قوم إلى التخيير، وذهب آخرون إلى الوجوب، وقالوا: إن هذه الآية منسوخة بقوله: { وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ } وبه قال ابن عباس، ومجاهد وعكرمة، والزهري وعمر بن عبد العزيز والسديّ: وهو الصحيح من قول الشافعي، وحكاه القرطبي عن أكثر العلماء.

قوله: { وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً } أي إن اخترت الإعراض عن الحكم بينهم، فلا سبيل لهم عليك، لأن الله حافظك وناصرك عليهم، وإن اخترت الحكم بينهم { فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِٱلْقِسْطِ } أي بالعدل الذي أمرك الله به وأنزله عليك. قوله: { وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعِندَهُمُ ٱلتَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ ٱللَّهِ } فيه تعجيب له صلى الله عليه وسلم من تحكيمهم إياه، مع كونهم لا يؤمنون به ولا بما جاء به، مع أن ما يحكمونه فيه هو موجود عندهم في التوراة كالرجم، ونحوه، وإنما يأتون إليه صلى الله عليه وسلم ويحكمونه طمعاً منهم في أن يوافق تحريفهم، وما صنعوه بالتوراة من التغيير. قوله: { ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ } عطف على يحكمونك { مِن بَعْدِ ذٰلِكَ } أي من بعد تحكيمهم لك. وجملة قوله: { وَمَا أُوْلَـئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ } لتقرير مضمون ما قبلها.

وقوله: { إِنَّا أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ } استئناف يتضمن تعظيم التوراة، وتفخيم شأنها وأن فيها الهدى والنور، وهو بيان الشرائع، والتبشير بمحمد صلى الله عليه وسلم وإيجاب اتباعه. قوله: { يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ } هم أنبياء بني إسرائيل، والجملة إما مستأنفة أو حالية، و{ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ } صفة مادحة للنبيين، وفيه إرغام لليهود المعاصرين له صلى الله عليه وسلم بأن أنبياءهم كانوا يدينون بدين الإسلام الذي دان به محمد صلى الله عليه وسلم؛ وقيل المراد بالنبيين محمد صلى الله عليه وسلم، وعبر عنه بلفظ الجمع تعظيماً. قوله: { لِلَّذِينَ هَادُواْ } متعلق بـ { يحكم }. والمعنى: أنه يحكم بها النبيون للذين هادوا وعليهم. والربانيون العلماء الحكماء، وقد سبق تفسيره، والأحبار العلماء، مأخوذ من التحبير وهو التحسين فهم يحبرون العلم: أي يحسنونه. قال الجوهري: الحبر واحد أحبار اليهود بالفتح وبالكسر والكسر أفصح، وقال الفراء: هو بالكسر، وقال أبو عبيدة: هو بالفتح.

قوله: { بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَـٰبِ ٱللَّهِ } الباء للسببية واستحفظوا أمروا بالحفظ: أي أمرهم الأنبياء بحفظ التوراة عن التغيير والتبديل، والجار والمجرور متعلق بيحكم: أي يحكمون بها بسبب هذا الاستحفاظ، قوله: { وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء } أي على كتاب الله والشهداء الرقباء، فهم يحمونه عن التغيير والتبديل بهذه المراقبة، والخطاب بقوله: { فَلاَ تَخْشَوُاْ ٱلنَّاسَ } لرؤساء اليهود، وكذا في قوله: { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَـٰتِي ثَمَنًا قَلِيلاً } والاشتراء الاستبدال، وقد تقدّم تحقيقه. قوله: { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ } لفظ "مِنْ" من صيغ العموم فيفيد أن هذا غير مختص بطائفة معينة، بل بكل من ولي الحكم؛ وقيل إنها مختصة بأهل الكتاب؛ وقيل بالكفار مطلقاً لأن المسلم لا يكفر بارتكاب الكبير؛ وقيل هو محمول على أن الحكم بغير ما أنزل الله، وقع استخفافاً، أو استحلالاً، أو جحداً، والإشارة بقوله: { أُوْلَـٰئِكَ } إلى من، والجمع باعتبار معناها، وكذلك ضمير الجماعة في قوله: { هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ }.

وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: { لاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى ٱلْكُفْرِ } قال: هم اليهود { مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ءامَنَّا بِأَفْوٰهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } قال: هم المنافقون. وأخرج أحمد، وأبو داود وابن جرير، وابن المنذر والطبراني، وأبو الشيخ وابن مردويه عنه قال: إن الله أنزل: { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ... ٱلظَّـٰلِمُونَ... ٱلْفَـٰسِقُونَ } أنزلها الله في طائفتين من اليهود قهرت إحداهما الأخرى في الجاهلية حتى اصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقاً، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق، فكانوا على ذلك حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فذلت الطائفتان كلتاهما لمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يظهر عليهم، فقتلت الذليلة من العزيزة، فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا إلينا بمائة وسق، فقالت الذليلة: وهل كان هذا في حيين قط دينهما واحد ونسبهما واحد، وبلدهما واحد، ودية بعضهم نصف دية بعض؟ إنما أعطيناكم هذا ضيماً منكم لنا وفرقاً منكم، فأما إذ قدم محمد صلى الله عليه وسلم، فلا نعطيكم ذلك، فكادت الحرب تهيج بينهما، ثم ارتضوا على أن جعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، ففكرت العزيزة فقالت: والله ما محمد يعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم، ولقد صدقوا، ما أعطونا هذا إلا ضيماً وقهراً لهم، فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يخبر لكم رأيه، فإن أعطاكم ما تريدون حكمتموه، وإن لم يعطكم حذرتموه ولم تحكموه؛ فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً من المنافقين يختبرون لهم رأيه، فلما جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الله رسوله بأمرهم، كله وما أرادوا، فأنزل الله: { ياأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ } إلى قوله: { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ } ثم قال فيهم: "والله أنزلت وإياهم عني" .

وأخرج عبد الرزاق، وأحمد وعبد بن حميد، وأبو داود وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة، قال: أوّل مرجوم رجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود زنى رجل منهم وامرأة، فقال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى هذا النبيّ، فإنه نبيّ بعث بالتخفيف، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله وقلنا: فتيا نبيّ من أنبيائك، قال: فأتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو جالس في المسجد وأصحابه، فقالوا: يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة منهم زنيا، فلم يكلمهم حتى أتى بيت مدراسهم، فقام على الباب فقال: "أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن؟" قالوا: يحمم ويجبه ويجلد، والتجبية: أن يحمل الزانيان على حمار وتقابل أقفيتهما ويطاف بهما، وسكت شاب منهم، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم سكت ألظ به النشدة فقال: اللهم إذ نشدتنا نجب فإنا نجد في التوراة الرجم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "فما أوّل ما ارتخصتم أمر الله؟" قال: زنى رجل ذو قرابة من ملك من ملوكنا، فأخر عنه الرجم، ثم زنى رجل في أسرة من الناس فأراد رجمه، فحال قومه دونه، وقالوا: والله لا ترجم صاحبنا حتى تجىء بصاحبك فترجمه، فاصطلحوا هذه العقوبة بينهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فإني أحكم بما في التوراة" ، فأمر بهما فرجما. قال الزهري: فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم { إِنَّا أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ } فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم منهم. وأخرجه ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر، والبيهقي في سننه من طريق أخرى عن أبي هريرة، وذكر فيه أن الشاب المذكور هو عبد الله بن صوريا. وأخرج نحو حديث أبي هريرة أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث البراء بن عازب.

وأخرج البخاري ومسلم، وغيرهما، من حديث عبد الله بن عمر: أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تجدون في التوراة؟" قالوا: نفضحهم ويجلدون، قال عبد الله بن سلام: كذبتم إن فيها آية الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده فإذا آية الرجم، قالوا صدق، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما.

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن جابر بن عبد الله في قوله: { وَمِنَ ٱلَّذِينَ هِادُواْ سَمَّـٰعُونَ لِلْكَذِبِ } قال: يهود المدينة { سَمَّـٰعُونَ لِقَوْمٍ ءاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوك } قال: يهود فدك { يُحَرّفُونَ ٱلْكَلِمَ } قال: يهود فدك يقولون ليهود المدينة { إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا } الجلد { فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَٱحْذَرُواْ } الرجم. وأخرج أبو داود، وابن ماجه، وابن المنذر، وابن مردويه، عنه قال: زنى رجل من أهل فدك، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة أن سلوا محمداً، وذكر القصة.

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: { أَكَّـٰلُونَ لِلسُّحْتِ } قال: أخذوا الرشوة في الحكم وقضوا بالكذب. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن مسعود قال: السحت الرشوة في الدين. قال سفيان: يعني في الحكم. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي في شعب الإيمان، عن ابن مسعود أيضاً قال: من شفع لرجل ليدفع عنه مظلمة أو يردّ عليه حقاً فأهدى له هدية فقبلها، فذلك السحت فقيل له: يا أبا عبد الرحمن إنا كنا نعدّ السحت الرشوة في الحكم، فقال ذلك الكفر { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ } وقد روي نحو هذا عنه من طرق، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: رشوة الحكام حرام. وهي السحت الذي ذكر الله في كتابه. وأخرج عبد بن حميد عن زيد بن ثابت قال: السحت الرشوة. وأخرج عبد بن حميد عن عليّ بن أبي طالب أنه سئل عن السحت فقال: الرشا، فقيل له في الحكم؟ قال: ذاك الكفر. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن عمر قال: بابان من السحت يأكلهما الناس: الرشاء في الحكم، ومهر الزانية. وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم الرشوة ما هو معروف.

وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس قال: آيتان نسختا من سورة المائدة: آية القلائد، وقوله: { فَإِن جَاؤوكَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ }، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخيراً: إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم، فردّهم إلى أحكامهم، فنزلت: { وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ } قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما في كتابنا. وأخرج نحوه في الآية الآخر عنه أبو عبيدة وابن المنذر، وابن مردويه. وأخرج عبد الرزاق عن عكرمة نحوه.

وأخرج ابن إسحاق وابن جرير، وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ، وابن مردويه عن ابن عباس أن الآيات من المائدة التي قال فيها: { فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } إلى قوله: { ٱلْمُقْسِطِينَ } إنما نزلت في الدية من بني النضير وقريظة، وذلك أن قتلى بني النضير كان لهم شرف يودون الدية كاملة، وأن بني قريظة كانوا يودون نصف الدية، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله ذلك فيهم، فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك، فجعل الدية سواء. وأخرج نحوه عنه ابن أبي شيبة وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، وابن مردويه، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في قوله: { وَعِندَهُمُ ٱلتَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ ٱللَّهِ } يعني حدود الله فأخبره الله بحكمه في التوراة، قال: { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا } إلى قوله: { وَٱلْجُرُوحَ قِصَاصٌ }.

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وأبو الشيخ عن الحسن في قوله: { يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ } يعني النبي صلى الله عليه وسلم { لِلَّذِينَ هَادُواْ } يعني اليهود. وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال: الذين أسلموا النبي ومن قبله من الأنبياء يحكمون بما فيها من الحق. وأخرج ابن جرير عن الحسن قال: الربانيون والأحبار الفقهاء والعلماء. وأخرج عن مجاهد قال: الربانيون العلماء الفقهاء، وهم فوق الأحبار. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: الربانيون العباد، والأحبار العلماء. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الربانيون الفقهاء العلماء. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه قال: الربانيون هم المؤمنون، والأحبار هم القراء.

وأخرج ابن جرير، عن السدي { فَلاَ تَخْشَوُاْ ٱلنَّاسَ } فتكتموا ما أنزلت { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَـٰتِي ثَمَنًا قَلِيلاً } على أن تكتموا ما أنزلت. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَـٰتِي ثَمَنًا قَلِيلاً } قال: لا تأكلوا السحت على كتابي. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: { وَمَن لَّمْ يَحْكُم } يقول: من جحد الحكم بما أنزل الله فقد كفر، ومن أقرّ به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس في قوله: { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ } قال: إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، وإنه ليس كفر ينقل من الملة بل دون كفره. وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن عطاء ابن أبي رباح في قوله: { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ... هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ... هُمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ } قال: كفر دون كفر وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق. وأخرج سعيد ابن منصور، وأبو الشيخ، وابن مردويه عن ابن عباس قال: إنما أنزل الله { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ } و { ٱلظَّـٰلِمُون } و { ٱلْفَـٰسِقُونَ } في اليهود خاصة. وقد روى نحو هذا عن جماعة من السلف. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، عن حذيفة، أن هذه الآيات ذكرت عنده { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ } و { ٱلظَّـٰلِمُون } و { ٱلْفَـٰسِقُونَ } فقال رجل: إن هذا في بني إسرائيل، فقال حذيفة: نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل، إن كان لكم كل حلوة ولهم كل مرّة، كلا والله لتسلكنّ طريقهم قدّ الشراك. وأخرج ابن المنذر نحوه عن ابن عباس.