خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
٣٧
وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَٰبِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ
٣٨
وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي ٱلظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ ٱللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
٣٩
-الأنعام

فتح القدير

.

هذا كان منهم تعنتاً ومكابرة، حيث لم يقتدوا بما قد أنزله الله على رسوله من الآيات البينات التي من جملتها القرآن، وقد علموا أنهم قد عجزوا عن أن يأتوا بسورة مثله، ومرادهم بالآية هنا هي التي تضطرهم إلى الإيمان كنزول الملائكة بمرأى منهم ومسمع، أو نتق الجبل كما وقع لبني إسرائيل، فأمره الله سبحانه أن يجيبهم بأن الله قادر على أن ينزل على رسوله آية تضطرهم إلى الإيمان، ولكنه ترك ذلك لتظهر فائدة التكليف الذي هو الابتلاء والامتحان، وأيضاً لو أنزل آية كما طلبوا لم يمهلهم بعد نزولها؛ بل سيعاجلهم بالعقوبة إذا لم يؤمنوا. قال الزجاج: طلبوا أن يجمعهم على الهدى، يعني جمع إلجاء { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أن الله قادر على ذلك، وأنه تركه لحكمة بالغة لا تبلغها عقولهم.

قوله: { وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى ٱلاْرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَـٰلُكُمْ } الدابة من دبّ يدبّ فهو داب: إذا مشى مشياً فيه تقارب خطو. وقد تقدّم بيان ذلك في البقرة { وَلاَ طَائِرٍ } معطوف على { دَابَّةٍ } مجرور في قراءة الجمهور. وقرأ الحسن وعبد الله بن أبي إسحاق "وَلاَ طَائِرٍ" بالرفع عطفاً على موضع من دابة على تقدير زيادة من، و{ بِجَنَاحَيْهِ } لدفع الإبهام؛ لأن العرب تستعمل الطيران لغير الطير، كقولهم: طر في حاجتي: أي أسرع. وقيل: إن اعتدال جسد الطائر بين الجناحين يعينه على الطيران، ومع عدم الاعتدال يميل، فأعلمنا سبحانه أن الطيران بالجناحين. وقيل: ذكر الجناحين للتأكيد كضرب بيده وأبصر بعينيه. والجناح: أحد ناحيتي الطير الذي يتمكن به من الطيران في الهواء، وأصله: الميل إلى ناحية من النواحي. والمعنى: ما من دابة من الدواب التي تدبّ في أيّ مكان من أمكنة الأرض، ولا طائر يطير في أيّ ناحية من نواحيها { إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَـٰلُكُمْ } أي جماعات مثلكم خلقهم الله كما خلقكم، ورزقهم كما رزقكم داخلة تحت علمه وتقديره وإحاطته بكل شيء. وقيل: أمثالنا في ذكر الله والدلالة عليه. وقيل: أمثالنا في كونهم محشورين، روى ذلك عن أبي هريرة. وقال سفيان بن عيينة: أي ما من صنف من الدوابّ والطير إلا في الناس شبه منه، فمنهم من يعدو كالأسد، ومنهم من يشره كالخنزير، ومنهم من يعوي كالكلب، ومنهم من يزهو كالطاوس. وقيل: أمثالكم في أن لها أسماء تعرف بها، وقال الزجاج أمثالكم في الخلق والرزق، والموت، والبعث، والاقتصاص. والأولى أن تحمل المماثلة على كل ما يمكن وجود شبه فيه كائناً ما كان.

قوله: { مَّا فَرَّطْنَا فِى ٱلكِتَـٰبِ مِن شَىْء } أي: ما أغفلنا عنه ولا ضيعنا فيه من شيء. والمراد بالكتاب: اللوح المحفوظ، فإن الله أثبت فيه جميع الحوادث. وقيل إن المراد به القرآن، أي ما تركنا في القرآن من شيء من أمر الدين إما تفصيلاً أو إجمالاً، ومثله قوله تعالى: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ تِبْيَانًا لّكُلّ شَىْء } [النحل: 89]، وقال: { { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ } [النحل: 44]، ومن جملة ما أجمله في الكتاب العزيز قوله: { { مَا آتَـٰكُمْ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ } [الحشر: 7] فأمر في هذه الآية باتباع ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل حكم سنه الرسول لأمته قد ذكره الله سبحانه في كتابه العزيز، بهذه الآية وبنحو قوله تعالى: { { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى } [آل عمران: 31] وبقوله: { { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [الأحزاب: 21]، «ومن» في { مِن شَىْء } مزيدة للإستغراق.

قوله: { ثُمَّ إِلَىٰ رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ } يعني: الأمم المذكورة، وفيه دلالة على أنها تحشر كما يحشر بنو آدم، وقد ذهب إلى هذا جمع من العلماء، ومنهم أبو ذرّ، وأبو هريرة، والحسن، وغيرهم. وذهب ابن عباس إلى أن حشرها موتها، وبه قال الضحاك. والأوّل أرجح للآية، ولما صح في السنة المطهرة من أنه يقاد يوم القيامة للشاة الجلحاء من الشاة القرناء، ولقول الله تعالى: { { وَإِذَا ٱلْوُحُوشُ حُشِرَتْ } [التكوير: 5]: وذهبت طائفة من العلماء إلى أن المراد بالحشر المذكور في الآية حشر الكفار، وما تخلل كلام معترض. قالوا: وأما الحديث فالمقصود به التمثيل على جهة تعظيم أمر الحساب والقصاص. واستدلوا أيضاً بأن في هذا الحديث خارج الصحيح عن بعض الرواة زيادة، ولفظه«حتى يقاد للشاة الجلحاء من القرناء، وللحجر لم ركب على الحجر؟ والعود لم خدش العود؟» قالوا: والجمادات لا يعقل خطابها ولا ثوابها ولا عقابها.

قوله: { وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـايَـٰتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ } أي لا يسمعون بأسماعهم ولا ينطقون بألسنتهم، نزلهم منزلة من لا يسمع ولا ينطق، لعدم قبولهم لما ينبغي قوله من الحجج الواضحة والدلائل الصحيحة. وقال أبو علي: يجوز أن يكون صممهم وبكمهم في الآخرة. قوله: { فِى ٱلظُّلُمَـٰتِ } أي في ظلمات الكفر، والجهل والحيرة، لا يهتدون لشيء مما فيه صلاحهم. والمعنى: كائنين في الظلمات التي تمنع من إبصار المبصرات، وضموا إلى الصمم، والبكم، عدم الانتفاع بالأبصار لتراكم الظلمة عليهم، فكانت حواسهم كالمسلوبة التي لا ينتفع بها بحال، وقد تقدّم في البقرة تحقيق المقام بما يغني عن الإعادة، ثم بين سبحانه أن الأمر بيده ما شاء يفعل، من شاء تعالى أن يضله أضله، ومن شاء أن يهديه جعله على صراط مستقيم، لا يذهب به إلى غير الحق، ولا يمشي فيه إلا إلى صوب الاستقامة.

وقد أخرج الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في قوله: { إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَـٰلُكُمْ } قال: أصنافاً مصنفة تعرف بأسمائها. وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة في الآية قال: الطير أمة، والإنس أمة، والجن أمة. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السديّ: قال: خلق أمثالكم. وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن جريح في الآية قال: الذرّة فما فوقها من ألوان ما خلق الله من الدواب. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس { مَّا فَرَّطْنَا فِى ٱلكِتَـٰبِ مِن شَىْء } يعني: ما تركنا شيئاً إلا وقد كتبناه في أم الكتاب. وأخرج عبد الرزاق، وأبو الشيخ، عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، عن ابن عباس في قوله: { ثُمَّ إِلَىٰ رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ } قال: موت البهائم حشرها، وفي لفظ قال: يعني بالحشر الموت. وأخرج عبد الرزاق، وأبو عبيد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، عن أبي هريرة قال: ما من دابة ولا طائر إلا سيحشر يوم القيامة، ثم يقتصّ لبعضها من بعض، حتى يقتص للجلحاء من ذات القرن، ثم يقال لها كوني تراباً، فعند ذلك يقول الكافر: { يَـٰلَيْتَنِى كُنتُ تُرٰباً } [النبأ: 40] وإن شئتم فاقرءوا: { وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى ٱلأَرْضِ } الآية. وأخرج ابن جرير، عن أبي ذرّ قال: انتطحت شاتان عند النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال لي: "يا أبا ذرّ أتدري فيم انتطحتا؟" قلت: لا قال: "لكنّ الله يدري وسيقضي بينهما" قال أبو ذرّ: ولقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يقلب طائر جناحيه في السماء ولا ذكر لنا منه علماً. وأخرجه أيضاً أحمد، وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لتؤدّنّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء" .