خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَـٰذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي ٱلْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
١٢٣
لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ
١٢٤
قَالُوۤاْ إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ
١٢٥
وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ
١٢٦
وَقَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ
١٢٧
قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ٱسْتَعِينُوا بِٱللَّهِ وَٱصْبِرُوۤاْ إِنَّ ٱلأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ
١٢٨
قَالُوۤاْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ
١٢٩
-الأعراف

فتح القدير

قوله: { آمَنتُمْ بِهِ } قرىء بحذف الهمزة على الإخبار وبإثباتها. أنكر على السحرة فرعون إيمانهم بموسى قبل أن يأذن لهم بذلك، ثم قال بعد الإنكار عليهم، مبيناً لما هو الحامل لهم على ذلك في زعمه { إِنَّ هَـٰذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِى ٱلْمَدِينَةِ } أي حيلة احتلتموها أنتم وموسى عن مواطأة بينكم سابقة { لِتُخْرِجُواْ } من مدينة مصر { أَهْلِهَا } من القبط، وتستولوا عليها وتسكنوا فيها أنتم وبنو إسرائيل. ومعنى { فِى ٱلْمَدِينَةِ } أن هذه الحيلة والمواطأة كانت بينكم، وأنتم بالمدينة، مدينة مصر، قبل أن تبرزوا أنتم وموسى إلى هذه الصحراء. ثم هدّدهم بقوله: { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } عاقبة صنعكم هذا، وسوء مغبته، ثم لم يكتف بهذا الوعيد المجمل، بل فصّله فقال: { لأقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ } أي الرجل اليمنى واليد اليسرى، أو الرجل اليسرى واليد اليمنى، ثم لم يكتف عدوّ الله بهذا، بل جاوزه إلى غيره فقال: { ثُمَّ لاَصَلّبَنَّكُمْ } في جذوع النخل، أي أجعلكم عليها مصلوبين زيادة تنكيل بهم، وإفراطاً في تعذيبهم، وجملة { قَالُواْ إِنَّا إِلَىٰ رَبّنَا مُنقَلِبُونَ } استئنافية جواب سؤال كما تقدّم، ومعناه: إنك وإن فعلت بنا هذا الفعل، فبْعَدْه يومُ الجزاء سيجازيك الله بصنعك، ويحسن إلينا بما أصابنا في ذاته، فتوعدوه بعذاب الله في الآخرة، لما توعدهم بعذاب الدنيا، ويحتمل أن يكون المعنى: { إِنَّا إِلَىٰ رَبّنَا مُنقَلِبُونَ } بالموت، أي لا بدّ لنا من الموت، ولا يضرّنا كونه بسبب منك.

قوله: { وَمَا تَنقِمُ مِنَّا } قرأ الحسن بفتح القاف. قال الأخفش: هي لغة، وقرأ الباقون بكسرها. يقال نقمت الأمر أنكرته، أي لست تعيب علينا وتنكر منا { إِلا أَنْ ءامَنَّا بِـئَايَـٰتِ رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا } مع أن هذا هو الشرف العظيم والخير الكامل، ومثله لا يكون موضعاً للعيب ومكاناً للإنكار، بل هو حقيق بالثناء الحسن والاستحسان البالغ، ثم تركوا خطابه وقطعوا الكلام معه والتفتوا إلى خطاب الجناب العليّ، مفوّضين الأمر إليه، طالبين منه عزّ وجلّ أن يثبتهم على هذه المحنة بالصبر قائلين: { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا } الإفراغ: الصبّ، أي اصببه علينا حتى يفيض ويغمرنا. طلبوا أبلغ أنواع الصبر، استعداداً منهم لما سينزل بهم من العذاب من عدوّ الله، وتوطيناً لأنفسهم على التصلب في الحق، وثبوت القدم على الإيمان، ثم قالوا: { وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } أي توفنا إليك حال ثبوتنا على الإسلام، غير محرّفين، ولا مبدّلين، ولا مفتونين. ولقد كان ما هم عليه من السحر، والمهارة في علمه، مع كونه شرّاً محضاً، سبباً للفوز بالسعادة، لأنهم علموا أن هذا الذي جاء به موسى خارج عن طوق البشر، وأنه من فعل الله سبحانه، فوصلوا بالشرّ إلى الخير، ولم يحصل من غيرهم ممن لا يعرف هذا العلم من أتباع فرعون، ما حصل منهم من الإذعان والاعتراف والإيمان، وإذا كانت المهارة في علم الشرّ قد تأتي بمثل هذه الفائدة، فما بالك بالمهارة في علم الخير، اللهم انفعنا بما علمتنا، وثبت أقدامنا على الحق، وأفرغ علينا سجال الصبر، وتوفنا مسلمين.

قوله: { وَقَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى ٱلأَرْضِ }؟ هذا الاستفهام منهم للإنكار عليه، أي أتتركه وقومه ليفسدوا في الأرض بإيقاع الفرقة وتشتيت الشمل؟ والمراد بالأرض هنا: أرض مصر. قوله: { وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ } قرأ نعيم بن ميسرة «ويذرك» بالرفع على تقدير مبتدأ، أي وهو يذرك، أو على العطف على { أَتَذَرُ مُوسَىٰ } أي أتذره ويذرك. وقرأ الأشهب العقيلي "وَيَذَرَك" بالجزم، إما على التخفيف بالسكون لثقل الضمة، أو على ما قيل في { { وَأَكُن مّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ } [المنافقون: 10] في توجيه الجزم. وقرأ أنس بن مالك «ونذرك» بالنون والرفع، ومعناه: أنهم أخبروا عن أنفسهم بأنهم سيذرونه وآلهته. وقرأ الباقون { ويذرك } بالنصب بأن مقدّرة على أنه جواب الاستفهام، والواو نائبة عن الفاء، أو عطفاً على { يفسدوا } أي ليفسدوا، وليذرك، لأنهم على الفساد في زعمهم، وهو يؤدّي إلى ترك فرعون وآلهته.

واختلف المفسرون في معنى: { وَءالِهَتَكَ } لكون فرعون كان يدّعي الربوبية كما في قوله: { { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِى } [القصص: 38]. وقوله: { { أَنَاْ رَبُّكُمُ } [النازعات: 24] فقيل معنى و{ آلهتك } وطاعتك. وقيل معناه: وعبادتك. ويؤيده قراءة علي، وابن عباس، والضحاك «وإلٰهتك»، وفي حرف أبي «أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض وقد تركوك أن يعبدوك» وقيل: إنه كان يعبد بقرة، وقيل: كان يعبد النجوم. وقيل: كان له أصنام يعبدها قومه تقرّباً إليه، فنسبت إليه، ولهذا قال { أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ } [النازعات: 24] قاله الزجاج. وقيل: كان يعبد الشمس. فقال فرعون مجيباً لهم، ومثبتاً لقلوبهم على الكفر { سَنُقَتّلُ أَبْنَاءهُمْ }. قرأ نافع وابن كثير «سنقتل» بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتشديد، أي سنقتل الأبناء، ونستحيـي النساء، أي نتركهنّ في الحياة. ولم يقل سنقتل موسى، لأنه يعلم. أنه لا يقدر عليه { وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَـٰهِرُونَ } أي مستعلون عليهم بالقهر والغلبة، أو هم تحت قهرنا وبين أيدينا. ما شئنا أن نفعله بهم فعلناه.

وجملة { قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ } مستأنفة جواب سؤال مقدّر، لما بلغ موسى ما قاله فرعون أمر قومه بالاستعانة بالله والصبر على المحنة، ثم أخبرهم { أَنَّ ٱلارْضَ } يعني: أرض مصر { للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } أو جنس الأرض، وهو وعد من موسى لقومه بالنصر على فرعون وقومه، وأن الله سيورثهم أرضهم وديارهم. ثم بشّرهم بأن العاقبة للمتقين، أي العاقبة المحمودة في الدنيا والآخرة للمتقين من عباده، وهم موسى ومن معه. وعاقبة كل شيء آخره. وقرىء «والعاقبة» بالنصب عطفاً على الأرض.

وجملة { قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } مستأنفة جواب سؤال مقدّر كالتي قبلها، أي أوذينا من قبل أن تأتينا رسولاً، وذلك بقتل فرعون أبناءنا عند مولدك لما أخبر بأنه سيولد مولود يكون زوال ملكه على يده { وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } رسولاً بقتل أبنائنا الآن. وقيل: المعنى أوذينا من قبل أن تأتينا باستعمالنا في الأعمال الشاقة بغير جعل { ومن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } بما صرنا فيه الآن من الخوف على أنفسنا وأولادنا وأهلنا. وقيل: إن الأذى من قبل ومن بعد واحد، وهو قبض الجزية منهم. وجملة { قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ } مستأنفة كالتي قبلها، وعدهم بإهلاك الله لعدوّهم، وهو فرعون وقومه.

قوله: { وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى ٱلأرْضِ } هو تصريح بما رمز إليه سابقاً من أن الأرض لله. وقد حقّق الله رجاءه، وملكوا مصر في زمان داود وسليمان، وفتحوا بيت المقدس مع يوشع ابن نون، وأهلك فرعون وقومه بالغرق وأنجاهم { فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } من الأعمال بعد أن يمنّ عليكم بإهلاك عدوّكم { وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى ٱلأرْضِ } فيجازيكم بما عملتم فيه من خير وشرّ.

وقد أخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السدي في قوله: { إِنَّ هَـٰذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِى ٱلْمَدِينَةِ } إذا التقيتما لتظاهرا فتخرجا منها أهلها { لأقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ } الآية، قال: فقتلهم وقطعهم كما قال. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: كان أوّل من صلب فرعون، وهو أوّل من قطع الأيدي والأرجل من خلاف. وأخرج عبد بن حميد، عن قتادة، في قوله: { مّنْ خِلَـٰفٍ } قال: يداً من ها هنا، ورجلاً من ها هنا.

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد، في قوله: { أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } قال: من قبل إرسال الله إياك ومن بعده. وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن وهب بن منبه، في الآية قال: قالت بنو إسرائيل لموسى كان فرعون يكلفنا اللبن قبل أن تأتينا. فلما جئت كلفنا اللبن مع التبن أيضاً، فقال موسى: أي ربّ أهلك فرعون، حتى متى تبقيه؟ فأوحى الله إليهم إنهم لم يعملوا الذنب الذي أهلكهم به. وأخرج عبد بن حميد، عن قتادة في الآية قال: حزا لعدوّ الله حاز أنه يولد في العام غلام يسلب ملكك، قال: فتتبع أولادهم في ذلك العام بذبح الذكر منهم، ثم ذبحهم أيضاً بعد ما جاءهم موسى.

وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال: إن بنا أهل البيت يفتح ويختم، ولا بدّ أن تقع دولة لبني هاشم فانظروا فيمن تكون من بني هاشم؟ وفيهم نزلت: { عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى ٱلأرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } وينبغي أن ينظر في صحة هذا عن ابن عباس، فالآية نازلة في بني إسرائيل، لا في بني هاشم، واقعة في هذه القصة الحاكية لما جرى بين موسى وفرعون.