خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

الۤمۤصۤ
١
كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ
٢
ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ
٣
وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ
٤
فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ
٥
فَلَنَسْأَلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ ٱلْمُرْسَلِينَ
٦
فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ
٧
-الأعراف

فتح القدير

قوله: { المص } قد تقدّم في فاتحة سورة البقرة ما يغني عن الإعادة، وهو إما مبتدأ وخبره { كتاب }، أي { المص } حروف { كِتَـٰبٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ } أو هو خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا «المص» أي المسمى به، وأما إذا كانت هذه الفواتح مسرودة على نمط التعديد فلا محل له، و{ كتاب } خبر المبتدأ على الوجه الأوّل، أو خبر مبتدأ محذوف على الثاني، أي هو كتاب. قال الكسائي: أي هذا كتاب، و{ أنزل إليك } صفة له. { فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ } الحرج: الضيق، أي لا يكن في صدرك ضيق منه، من إبلاغه إلى الناس مخافة أن يكذبوك ويؤذوك، فإن الله حافظك وناصرك. وقيل: المراد لا يضق صدرك حيث لم يؤمنوا به ولم يستجيبوا لك { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلَـٰغُ }، وقال مجاهد وقتادة: الحرج هنا الشك، لأن الشاك ضيق الصدر، أي لا تشك في أنه منزل من عند الله، وعلى هذا يكون النهي له صلى الله عليه وسلم من باب التعريض، والمراد أمته، أي لا يشك أحد منهم في ذلك، والضمير في { منه } راجع إلى الكتاب، فعلى الوجه الأوّل: يكون على تقدير مضاف، أي من إبلاغه، وعلى الثاني: يكون التقدير من إنزاله، والضمير في { لِتُنذِرَ بِهِ } راجع إلى الكتاب، أي لتنذر الناس بالكتاب الذي أنزلناه إليك، وهو متعلق بأنزل، أي أنزل إليك لإنذارك للناس به، أو متعلق بالنهي، لأن انتفاء الشك في كونه منزلاً من عند الله، أو انتفاء الخوف من قومه يقوّيه على الانذار ويشجعه، لأن المتيقن يقدم على بصيرة، ويباشر بقوّة نفس.

قوله: { وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ } الذكرى التذكير. قال البصريون: الذكرى في محل رفع على إضمار مبتدأ. وقال الكسائي: هي في محل رفع عطفاً على كتاب، ويجوز النصب على المصدر، أي وذكر به ذكرى قاله البصريون. ويجوز الجر حملاً على موضع { لتنذر } أي للإنذار والذكرى، وتخصيص الذكرى بالمؤمنين، لأنهم الذين ينجع فيهم ذلك، وفيه إشارة إلى تخصيص الإنذار بالكافرين.

قوله: { ٱتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ } يعني: الكتاب، ومثله السنة لقوله: { وَمَا ءاتَـٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ } [الحشر: 7] ونحوها من الآيات، وهو أمر للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته. وقيل: هو أمر للأمة بعد أمره صلى الله عليه وسلم بالتبليغ، وهو منزل إليهم بواسطة إنزاله إلى النبي صلى الله عليه وسلم { وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء } نهي للأمة عن أن يتبعوا أولياء من دون الله يعبدونهم ويجعلونهم شركاء لله، فالضمير على هذا في { مِن دُونِهِ } يرجع إلى ربّ، ويجوز أن يرجع إلى «ما» في { ما أنزل إليكم } أي لا تتبعوا من دون كتاب الله أولياء تقلدونهم في دينكم، كما كان يفعله أهل الجاهلية من طاعة الرؤساء فيما يحللونه لهم ويحرمونه عليهم. قوله: { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } انتصاب { قليلاً } على أنه صفة لمصدر محذوف للفعل المتأخر، أي تذكراً قليلاً، و"ما" مزيدة للتوكيد أو هو منتصب على الحال من فاعل { لا تتبعوا }، و"ما" مصدرية، أي لا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً تذكرهم، قرىء "تَذَكرُونَ" بالتخفيف بحذف إحدى التاءين، وقرىء بالتشديد على الإدغام.

قوله: { وَكَم مّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـٰهَا } "كم" هي الخبرية المفيدة للتكثير، وهي في موضع رفع على الابتداء و{ أَهْلَكْنَـٰهَا } الخبر، { من } قرية تمييز، ويجوز أن تكون في محل نصب بإضمار فعل بعدها لا قبلها، لأن لها صدر الكلام، ولولا اشتغال { أهلكناها } بالضمير لجاز انتصاب "كم" به، والقرية موضع اجتماع الناس، أي كم من قرية من القرى الكبيرة أهلكناها نفسها بإهلاك أهلها، أو أهلكنا أهلها، والمراد أردنا إهلاكها.

قوله: { فَجَاءهَا بَأْسُنَا } معطوف على أهلكنا بتقدير الإرادة كما مرّ؛ لأن ترتيب مجيء البأس على الإهلاك لا يصح إلا بهذا التقدير، إذ الإهلاك هو نفس مجيء البأس. وقال الفراء: إن الفاء بمعنى الواو فلا يلزم التقدير، والمعنى: أهلكناها وجاءها بأسنا، والواو لمطلق الجمع لا ترتيب فيها. وقيل: إن الإهلاك واقع لبعض أهل القرية؛ فيكون المعنى: وكم من قرية أهلكنا بعض أهلها فجاءها بأسنا فأهلكنا الجميع. وقيل المعنى: وكم من قرية حكمنا بإهلاكها فجاءها بأسنا. وقيل: أهلكناها بإرسال ملائكة العذاب إليها فجاءها بأسنا، والبأس: هو العذاب. وحكي عن الفراء أنه إذا كان معنى الفعلين واحداً أو كالواحد قدمت أيهما شئت فيكون المعنى: وكم من قرية جاءها بأسنا فأهلكناها، مثل دنا فقرب، وقرب فدنا. { بَيَاتًا } أي ليلاً، لأنه يبات فيه، يقال بات يبيت بيتاً وبياتاً، وهو مصدر واقع موقع الحال، أي بائتين.

قوله: { أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } معطوف على { بياتاً } أي بائتين أو قائلين، وجاءت الجملة الحالية بدون واو استثقالاً لاجتماع الواوين واو العطف وواو الحال، هكذا قال الفراء. واعترضه الزجاج فقال: هذا خطأ بل لا يحتاج إلى الواو، تقول: جاءني زيد راكباً، أو هو ماش، لأن في الجملة ضميراً قد عاد إلى الأوّل، و"أو" في هذا الموضع للتفصيل لا للشك. والقيلولة هي نوم نصف النهار. وقيل: هي مجرد الاستراحة في ذلك الوقت لشدّة الحرّ من دون نوم، وخص الوقتين لأنهما وقت السكون والدعة، فمجيء العذاب فيهما أشدّ وأفظع.

قوله: { فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُم بَأْسُنَا إِلا أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَـٰلِمِينَ } الدعوى: الدعاء، أي فما كان دعاؤهم ربهم عند نزول العذاب، إلا اعترافهم بالظلم على أنفسهم، ومثله { { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ } [يونس: 10] أي آخر دعائهم. وقيل: الدعوى هنا بمعنى الادّعاء، والمعنى: ما كان ما يدّعونه لدينهم وينتحلونه إلا اعترافهم ببطلانه وفساده، واسم كان { إِلاَّ أَن قَالُواْ } وخبرها (دعواهم) ويجوز العكس، والمعنى: ما كان دعواهم إلا قولهم إنا كنا ظالمين.

قوله: { فَلَنَسْـئَلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ } هذا وعيد شديد، والسؤال للقوم الذين أرسل الله إليهم الرسل من الأمم السالفة للتقريع والتوبيخ، واللام لام القسم، أي لنسألنهم عما أجابوا به رسلهم عند دعوتهم، والفاء لترتيب الأحوال الأخروية على الأحوال الدنيوية { وَلَنَسْأَلَنَّ ٱلْمُرْسَلِينَ } أي الأنبياء الذين بعثهم الله، أي نسألهم عما أجاب به أممهم عليهم، ومن أطاع منهم ومن عصى. وقيل المعنى: فلنسألن الذين أرسل إليهم، يعني الأنبياء، ولنسألن المرسلين، يعني الملائكة، ولا يعارض هذا قول الله سبحانه: { وَلاَ يسأَل عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ } [القصص: 78] لما قدّمنا غير مرة أن الآخرة مواطن، ففي موطن يسألون، وفي موطن لا يسألون، وهكذا سائر ما ورد مما ظاهره التعارض بأن أثبت تارة ونفى أخرى، بالنسبة إلى يوم القيامة، فإنه محمول على تعدّد المواقف مع طول ذلك اليوم طولاً عظيماً { فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ } أي على الرسل والمرسل إليهم، ما وقع بينهم عند الدعوة منهم بعلم لا بجهل، أي عالمين بما يسرون وما يعلنون { وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ } عنهم في حال من الأحوال حتى يخفى علينا شيء مما وقع بينهم.

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات، وابن النجار في تاريخه، عن ابن عباس، في قوله: { المص } قال: أنا الله أفصل. وأخرج ابن جرير، عن سعيد بن جبير، مثله. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، أن هذا ونحوه من فواتح السور قسم أقسم الله به، وهي من أسماء الله. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن السدي في قوله: { المص } قال: هو المصوّر. وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن محمد بن كعب القرظي في قوله: { المص } قال: الألف من الله والميم من الرحمن والصاد من الصمد. وأخرج أبو الشيخ، عن الضحاك، قال معناه: أنا الله الصادق، ولا يخفى عليك أن هذا كله قول بالظن، وتفسير بالحدس، ولا حجة في شيء من ذلك، والحق ما قدّمنا في فاتحة سورة البقرة.

وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس: { فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ } قال: الشك، وقال الأعرابيّ: ما الحرج فيكم؟ قال: اللبس. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد، نحوه. وأخرج أبو الشيخ، عن الضحاك، قال: ضيق. وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن مسعود: ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم، ثم قرأ { فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ } الآية. وأخرجه ابن جرير عنه مرفوعاً.

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي، عن ابن عباس { فَلَنَسْـئَلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْـئَلَنَّ ٱلْمُرْسَلِينَ } قال: نسأل الناس عما أجابوا المرسلين، ونسأل المرسلين عما بلغوا، { فلنقصنّ عليهم بعلم }، قال: بوضع الكتاب يوم القيامة فيتكلم بما كانوا يعملون. وأخرج عبد بن حميد، عن فرقد، في الآية قال: أحدهما الأنبياء، وأحدهما الملائكة. وأخرج ابن أبي حاتم، عن مجاهد، في الآية قال: نسأل الناس عن قول لا إله إلا الله، ونسأل جبريل.