خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَىٰ ٱلْمَرْضَىٰ وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٩١
وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ
٩٢
إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلْخَوَالِفِ وَطَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
٩٣
-التوبة

فتح القدير

.

لما ذكر سبحانه المعذرين، ذكر بعدهم أهل الأعذار الصحيحة المسقطة للغزو، وبدأ بالعذر في أصل الخلقة. فقال: { لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَاء } وهم: أرباب الزمانة، والهرم، والعمى، والعرج، ونحو ذلك، ثم ذكر العذر العارض، فقال: { وَلاَ عَلَىٰ ٱلْمَرْضَىٰ } والمراد بالمرضى: كل ما يصدق عليه اسم المرض لغة أو شرعاً. وقيل: إنه يدخل في المرضى: الأعمى والأعرج ونحوهما. ثم ذكر العذر الراجع إلى المال، لا إلى البدن فقال: { وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ } أي: ليست لهم أموال ينفقونها فيما يحتاجون إليه من التجهز للجهاد، فنفى سبحانه عن هؤلاء الحرج، وأبان أن الجهاد مع هذه الأعذار ساقط عنهم غير واجب عليهم، مقيداً بقوله: { إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ } وأصل النصح: إخلاص العمل من الغش، ومنه التوبة النصوح. قال نفطويه: نصح الشيء: إذا خلص، ونصح له القول، أي أخلصه له. والنصح لله: الإيمان به، والعمل بشريعته. وترك ما يخالفها كائناً ما كان، ويدخل تحته دخولاً أوّلياً نصح عباده. ومحبة المجاهدين في سبيله، وبذل النصيحة لهم في أمر الجهاد. وترك المعاونة لأعدائهم بوجه من الوجوه؛ ونصيحة الرسول صلى الله عليه وسلم: التصديق بنبوته وبما جاء به، وطاعته في كل ما يأمر به، أو ينهي عنه، وموالاة من والاه، ومعاداة من عاداه، ومحبته وتعظيم سنته، وإحياؤها بعد موته بما تبلغ إليه القدرة. وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "الدين النصيحة" ثلاثاً، قالوا: لمن؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" وجملة: { مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ } مقرّرة لمضمون ما سبق: أي ليس على المعذورين الناصحين من سبيل: أي طريق عقاب ومؤاخذة. و"من" مزيدة للتأكيد، وعلى هذا فيكون لفظ { ٱلْمُحْسِنِينَ } موضوعاً في موضع الضمير الراجع إلى المذكورين سابقاً. أو يكون المراد: ما على جنس المحسنين من سبيل، وهؤلاء المذكورون سابقاً من جملتهم، فتكون الجملة تعليلية. وجملة: { وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } تذييلية. وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: { لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [البقرة: 286]، وقوله: { لَّيْسَ عَلَى ٱلأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلْمَرِيضِ حَرَجٌ } [النور: 61].

وإسقاط التكليف عن هؤلاء المعذورين، لا يستلزم عدم ثبوت ثواب الغزو لهم الذي عذرهم الله عنه، مع رغبتهم إليه لولا حبسهم العذر عنه، ومنه حديث أنس عند أبي داود وأحمد، وأصله في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لقد تركتم بعدكم قوماً ما سرتم من مسير ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم وادياً إلا وهم معكم فيه" قالوا: يارسول الله، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ فقال: "حبسهم العذر" . وأخرجه أحمد، ومسلم، من حديث جابر.

ثم ذكر الله سبحانه من جملة المعذورين من تضمنه قوله: { وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ } والعطف على جملة { مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ } أي: ولا على الذين إذا ما أتوك إلى آخره من سبيل. ويجوز أن تكون عطفاً على الضعفاء: أي ولا على إذا ما أتوك إلى آخره حرج. والمعنى: أن من جملة المعذورين هؤلاء الذين أتوك لتحملهم على ما يركبون عليه في الغزو، فلم تجد ذلك الذي طلبوه منك. قيل: وجملة { لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ } في محل نصب على الحال من الكاف في { أتوك } بإضمار قد: أي إذا ما أتوك قائلاً لا أجد. وقيل: هي بدل من أتوك. وقيل: جملة معترضة بين الشرط والجزاء، والأوّل: أولى. وقوله: { تَوَلَّوْاْ } جواب "إذا"، وجملة: { وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ } في محل نصب على الحال: أي تولوا عنك لما قلت لهم: لا أجد ما أحملكم عليه، حال كونهم باكين، و{ حَزَناً } منصوب على المصدرية، أو على العلية، أو الحالية، و{ أَن لا يَجِدُواْ } مفعول له، وناصبه { حَزَناً } وقال الفراء: إن "لا" بمعنى ليس، أي حزناً أن ليس يجدوا. وقيل المعنى: حزناً على أن لا يجدوا. وقيل المعنى: حزناً أنهم لا يجدون ما ينفقون، لا عند أنفسهم ولا عندك.

ثم ذكر الله سبحانه من عليه السبيل من المتخلفين فقال: { إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ } أي: طريق العقوبة والمؤاخذة { عَلَى ٱلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَك } في التخلف عن الغزو، و الحال أنهم { أَغْنِيَاء } أي: يجدون ما يحملهم وما يتجهزون به، وجملة: { رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلْخَوٰلِفِ } مستأنفة كأنه قيل: ما بالهم استأذنوا وهم أغنياء. وقد تقدّم تفسير الخوالف قريباً. وجملة: { وَطَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } معطوفة على { رَضُواْ } أي: سبب الاستئذان مع الغنى أمران: أحدهما: الرضا بالصفقة الخاسرة، وهي أن يكونوا مع الخوالف، والثاني: الطبع من الله على قلوبهم { فَهُمُ } بسبب هذا الطبع { لاَّ يَعْلَمُونَ } ما فيه الربح لهم، حتى يختاروه على ما فيه الخسر.

وقد أخرج ابن أبي حاتم، والدارقطني في الإفراد، وابن مردويه، عن زيد ابن ثابت، قال: كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت براءة، فكنت أكتب ما أنزل عليه، فإني لواضع القلم عن أذني إذ أمرنا بالقتال، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ما ينزل عليه إذ جاء أعمى فقال: كيف بي يا رسول الله وأنا أعمى؟ فنزلت: { لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَاء } الآية. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، قال: أنزلت هذه الآية في عابد بن عمر المزني. وأخرج ابن أبي حاتم، عن مجاهد، قال: نزل من عند قوله: { عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ } إلى قوله: { مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } في المنافقين. وأخرج أبو الشيخ، عن الضحاك، في قوله:{ مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ } قال: ما على هؤلاء من سبيل بأنهم نصحوا لله ورسوله ولم يطيقوا الجهاد، فعذرهم الله وجعل لهم من الأجر ما جعل للمجاهدين، ألم تسمع أن الله يقول: { { لاَّ يَسْتَوِى ٱلْقَـٰعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِى ٱلضَّرَرِ } [النساء: 95]. فجعل الله للذين عذر من الضعفاء، وأولي الضرر، والذين لا يجدون ما ينفقون من الأجر مثل ما جعل للمجاهدين. وأخرج أبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: { مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ } قال: والله لأهل الإساءة { غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.

وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس، في قوله: { وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ } الآية، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينبعثوا غازين معه، فجاءت عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن مغفل المزني، فقالوا: يا رسول الله احملنا، فقال: والله ما أجد ما أحملكم عليه، فتولوا ولهم بكاء وعزيز عليهم أن يجلسوا عن الجهاد، ولا يجدون نفقة ولا محملاً، فأنزل الله عذرهم { وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ } الآية. وأخرج ابن سعد، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن عبد الله بن مغفل، قال: إني لا أجد ارهط الذين ذكر الله { وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ } الآية. وأخرج ابن جرير، عن محمد بن كعب، قال: هم سبعة نفر من بني: عمر بن عوف سالم بن عمير، ومن بني: واقف حرميّ بن عمرو، ومن بني: مازن بن النجار عبد الرحمن بن كعب يكنى أبا ليلى، ومن بني: المعلى سلمان بن صخر، ومن بني: حارثة عبد الرحمن بن زيد أبو عبلة، ومن بني: سلمة عمرو بن غنمة وعبد الله بن عمرو المزني. وقد اتفق الرواة على بعض هؤلاء السبعة. واختلفوا في البعض، ولا يأتي التطويل في ذلك بكثير فائدة.

وأخرج ابن إسحاق، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن الزهري، ويزيد بن رومان، وعبد الله بن أبي بكر، وعاصم بن عمر بن قتادة، وغيرهم؛ أن رجالاً من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم: البكاؤون، وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم، ثم ذكروا أسماءهم، وفيه، فاستحملوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا أهل حاجة. قال: { لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ }. وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، عن الحسن، قال: كان معقل بن يسار من البكائين الذين قال الله: { وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ } الآية. وأخرج ابن أبي حاتم، عن أنس بن مالك، في قوله: { لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ } قال: الماء والزاد. وأخرج ابن المنذر، عن عليّ بن صالح، قال: حدّثني مشيخة من جهينة، قالوا: أدركنا الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحملان، فقالوا: ما سألناه إلا الحملان على النعال. وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن إبراهيم بن أدهم، عمن حدّثه في قوله: { وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ } قال: ما سألوه الدوابّ ما سألوه إلا النعال. وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن بن صالح، في الآية قال: استحملوه النعال. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد، في قوله: { إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ } قال: هي وما بعدها إلى قوله { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَرْضَىٰ عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَـٰسِقِينَ } في المنافقين.