خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
١
-الفاتحة

محاسن التأويل

قال الإمام ابن جرير : إنَّ الله تعالى ذكره ، وتقدست أسماؤه ، أدّب نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بتعليمه تقديم ذكر أسماءه الحسنى أمام جميع أفعاله ، وتقدم إليه في وصفه بها قبل جميع مهماته ، وجعل - ما أدّبه به من ذلك ، وعلّمه إياه - منه لجميع خلقه : سنة يستنون بها ، وسبيلاً يتبعونه عليها ، في [ في المطبوع : فبه ] افتتاح أوائل منطقهم ، وصدور رسائلهم وكتبهم وحاجاتهم ، حتى أغنت دلالة ما ظهر ، من قول القائل : بسم الله ، على ما بطن من مراده الذي هو محذوف ، وذلك أن الباء مقتضية فعلاً يكون لها جالباً ، فإذا كان محذوفاً يقدّر بما جُعلت التسمية مبدأ له .
والاسم هنا بمعنى التسمية - كالكلام بمعنى التكليم ، والعطاء بمعنى الإعطاء - والمعنى : أقرأ بتسمية الله وذكره ، وافتتح القراءة بتسمية الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى . و : { اللَّهُ } علم على ذاته ، تعالى وتقدس ؛ قال ابن عباس : هو الذي يألهه كل شيء ويعبده ، وأصله : إلاه ؛ بمهنى مألوه أي : معبود ، فلما أُدخلت عليه الألف واللام حذفت الهمزة تخفيفاً لكثرته في الكلام ، وبعد الإدغام فخّمت تعظيماً - هذا تحقيق اللغويين .
و : { الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } قال الجوهري : هما اسمان مشتقان من الرحمة ، ونظيرهما في اللغة : نديم وندمان ؛ وهما بمعنى . ويجوز تكرير الاسمين إذا اختلف اشتقاقهما على جهة التوكيد ، كما يقال : جادّ مجد إلا أن : { الرَّحْمَنُ } اسم متخصص بالله لا يجوز أن يسمى به غيره . ألا ترى أنه قال :
{ { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن } [ الإسراء : 110 ] فعادل به الاسم الذي لا يشركه فيه غيره .
وقد ناقش في كون : { الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } بمعنى واحد ، العلامة الشيخ محمد عبده المصري في " مباحثه التفسيرية " قائلاً : إن ذلك غفلة ، نسأل الله أن يسامح صاحبها - ثم قال : - وأنا لا أجيز لمسلمٍ أن يقول ، في نفسه أو بلسانه : إن في القرآن كلمة جاءت لتأكيد غيرها ولا معنى لها في نفسها ، بل ليس في القرآن حرف جاء لغير معنى مقصود .
والجمهور : على أن معنى الرحمن : المنعم بجلائل النعم ، ومعنى الرحيم : المنعم بدقائقها . وبعضهم يقول : إن الرحمن هو المنعم بنعم عامة تشمل الكافرين مع غيرهم ، والرحيم المنعم بالنعم الخاصة بالمؤمنين ، وكل هذا تحكم باللغة مبنيٌّ على أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى ، ولكن الزيادة تدل على الوصف مطلقاً ، فصيغة : { الرَّحْمَنُ } تدل على كثرة الإحسان الذي يعطيه ، سواء كان جليلاً أو دقيقاً ، وأما كون أفراد الإحسان التي يدل عليها اللفظ الأكثر حروفاً أعظم من أفراد الإحسان التي يدل عليها اللفظ الأقل حروفاً ، فهو غير معنيّ ولا مراد ، وقد قارب من قال : إن معنى : { الرَّحْمَنُ } المحسن بالإحسان العام . ولكنه أخطأ في تخصيص مدلول الرحيم بالمؤمنين ، ولعل الذي حمل من قال : إن الثاني مؤكد للأول - على قوله هذا - وهو عدم الاقتناع بما قالوه من التفرقة ، مع عدم التفطن لما هو أحسن منه ، ثم قال : والذي أقول : إن لفظ : رحمن ؛ وصفٌ فعليٌّ فيه معنى المبالغة - كفعّال - ويدل في استعمال اللغة على الصفات العارضة - كعطشان وغرثان وغضبان - وأما لفظ : رحيم ؛ فإنه يدل في الاستعمال على المعاني الثابتة ، كالأخلاق والسجايا في الناس - كعليم وحكيم وحليم وجميل - والقرآن لا يخرج عن الأسلوب العربي البليغ في الحكاية عن صفات الله عز وجل التي تعلو عن مماثله صفات المخلوقين .
فلفظ : { الرَّحْمَنُ } ديل على من تصدر عنه آثار الرحمة بالفعل وهي إفاضة النعم والإحسان ، ولفظ : { الرَّحِيْمُ } يدل على منشأ هذه الرحمة والإحسان ، وعلى أنها من الصفات الثابتة الواجبة ، وبهذا المعنى لا يستغني بأحد الوصفين عن الآخر ، ولا يكون الثاني مؤكداً للأول ، فإذا سمع العربيّ وصف الله جل ثناؤه بـ : { الرَّحْمَنُ } ، وفهم منه أنه المفيض للنعم فعلاً ، لا يعتقد منه أن الرحمة من الصفات الواجبة له دائماً - لأن الفعل قد ينقطع إذا كان عارضاً لم ينشأ عن صفة لازمة ثابتة - فعندما يسمع لفظ [ الرحيم ] يكمل اعتقاده على الوجه الذي يليق بالله تعالى ويرضيه سبحانه . انتهى .