خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوۤءَ وَٱلْفَحْشَآءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُخْلَصِينَ
٢٤
-يوسف

محاسن التأويل

{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } ( الهم ) يكون بمعنى القصد والإرادة، ويكون فوق الإرادة ودون العزم، إذا أريد به اجتماع النفس على الأمر والإزماع عليه، وبالعزم: القصد إلى إمضائه، فهو أول العزيمة. وهذا معنى قولهم: الهم همان: همٌّ ثابت معه عزم وعقد ورضا، وهو مذموم مؤاخذ به. وهمٌّ بمعنى خاطر، وحديث نفس، من غير تصميم، وهو غير مؤاخذ به. لأنه خطور المناهي في الصدور، وتصورها في الأذهان، لا مؤاخذة بها ما لم توجد في الأعيان.
روى الشيخان وأهل السنن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها، ما لم تتكلم به، أو تعمل به " . ورواه الطبراني عن عِمْرَان بن حصين رضي الله عنهما.
فمعنى قوله تعالى: { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } أي: بمخالطته، أي: قصدتها وعزمت عليها عزماً جازماً، لا يلويها عنه صارف، بعد ما باشرت مبادئها من المراودة، وتغليق الأبواب، ودعوته إلى الإسراع إليها بقولها: { هَيْتَ لَكَ } مما اضطره إلى الهرب إلى الباب.
ومعنى قوله: { وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } أي: لولا رؤيته برهان ربه لهمَّ بها، كما همت به، لتوفر الدواعي. ولكنه رأى من تأييد الله له بالبرهان ما صرف عنه السوء والفحشاء.
قال أبو حيان: ونظيره ( قارفت الإثم لولا الله عصمك ). ولا نقول: إن جواب ( لولا ) يتقدم عليها، وإن لم يقم دليل على امتناعه، بل صريح أدوات الشرط العاملة مختلف فيها، حتى ذهب الكوفيون وأعلام البصريين إلى جواز تقدمه، بل نقول: هو محذوف لدلالة ما قبله عليه. لأن المحذوف في الشرط يقدر من الجنس ما قبله. انتهى.
فالآية حينئذ ناطقة بأنه لم يهمّ أصلاً. وقيل: جواب ( لولا ) لغشيها ونحوه. فمعنى ( الهم ) حينئذ ما قاله الإمام الرازي: من أنه خطور الشيء بالبال، أو ميل الطبع. كالصائم في الصيف. يرى الماء البارد، فتحمله نفسه على الميل إليه، وطلب شربه، ولكن يمنعه دينه عنه. وكالمرأة الفائقة حسناً وجمالاً، تتهيأ للشاب النامي القوي، فتقع بين الشهوة والعفة، وبين النفس والعقل، مجاذبة ومنازعة. ( فالهم ) هنا عبارة عن جواذب الطبيعة، ورؤية البرهان جواذب الحكمة، وهذا لا يدل على حصول الذنب، بل كلما كانت هذه الحال أشد كانت القوة على لوازم العبودية أكمل. انتهى.
وكذا قال أبو السعود: إن همه بها بمعنى ميله إليها، بمقتضى الطبيعة البشرية، وشهوة الشباب وقرمه، ميلاً جبلياً، لا يكاد يدخل تحت التكليف، لا أنه قصدها قصداً اختيارياً، ألا يرى إلى ما سبق من استعصامه المنبئ عن كمال كراهيته له، ونفرته عنه، وحكمه بعدم إفلاح الظالمين، وهل هو إلا تسجيل باستحالة صدور الهم منه - عليه السلام - تسجيلاً محكماً؟ وإنما عبر عنه بالهم؛ لمجرد وقوعه في صحبة همها في الذكر، بطريق المشاكلة، لا لشبهه به كما قيل. ولقد أشير إلى تباينهما، حيث لم يُلزا في قرن واحد من التعبير، بأن قيل: ولقد هما بالمخالطة، أو هم كل منهما بالآخر. وصُدِّر الأول بما يقرر وجوده من التوكيد القسمي، وعقب الثاني بما يعفو أثره من قوله عز وجل: { لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } أي: حجته الباهرة، الدالة على كمال قبح الزنى، وسوء سبيله. والمراد برؤيته لها كمال إيقانه، ومشاهدته لها مشاهدة واصلة إلى مرتبة عين اليقين. وكأنه عليه السلام قد شاهد الزنى بموجب ذلك البرهان النير، على ما هو عليه في حد ذاته أقبح ما يكون، وأوجب ما يجب أن يحذر منه، ولذلك فعل ما فعل من الاستعصام، والحكم بعدم إفلاح من يرتكبه.
وجواب ( لولا ) محذوف، يدل عليه الكلام. أي: لولا مشاهدة برهان ربه في شأن الزنى لجرى على موجب ميله الجبلي، ولكن حيث كان مشاهداً له من قبل؛ استمر على ما هو عليه من قضية البرهان. وفائدة هذه الشرطية بيان أن امتناعه عليه السلام، لم يكن لعدم مساعدة من جهة الطبيعة، بل لمحض العفة والنزاهة، مع وفور الدواعي الداخلية، وترتيب المقدمات الخارجية، الموجبة لظهور الأحكام الطبيعية. انتهى.
فاتضح أن لا شبهة فيها على عصمة يوسف عليه السلام، فإن الأنبياء ليسوا بمعصومين من حديث النفس، وخواطر الشهوة الجبلية، ولكنهم معصومون من طاعتها، والانقياد إليها. ولو لم توجد عندهم دواع جبلية لكانوا إما ملائكة أو عالماً آخر، ولَمَا كانوا مأجورين على ترك المناهي؛ لأنهم يكونون مقهورين على تركها طبعاً. والعنين لا يؤجر ويثاب على ترك الزنى؛ لأن الأجر لا يكون إلا على عمل، والترك بغير داعية ليس عملاً، وأما الترك مع الداعية، فهو كف النفس عما تتشوف إليه فهو عمل نفسي.
وحقيقة عصمة الأنبياء هي نزاهتهم، وبعدهم عن ارتكاب الفواحش والمنكرات التي بعثوا لتزكية الناس منها؛ لئلا يكونوا قدوة سيئة، مفسدين للأخلاق والآداب، وحجة للسفهاء على انتهاك حرمات الشرائع. وليس معناها أنهم آلهة منزهون عن جميع ما يقتضيه الطبع البشري.
هذا وقد ألصق هنا بعض المفسرين الولعين بسرد الروايات، ما تلقفوه من أهل الكتب، ومن المتصولحين، من تلك الأقاصيص المختلقة على يوسف عليه السلام، في همه، التي أنزه تأليفي عن نقلها بردها. وكلها - كما قال العلامة أبو السعود - خرافات وأباطيل، تمجها الآذان، وتردها العقول والأذهان، ويل لمن لا كها ولفقها، أو سمعها وصدقها. وسبقه الزمخشري، فجود الكلام في ردها، فلينظر، فإنه مما يسر الواقف عليه.
و ( السوء ): المنكر والفجور والمكروه. ( والفحشاء ): ما تناهى قبحه.
قال أبو السعود: وفي قوله تعالى: { لِنَصْرفَ عَنْهُ } الخ آية بينة وحجة قاطعة على أنه عليه الصلاة والسلام لم يقع منه هم بالمعصية، ولا توجه إليها قط، وإلا لقيل: لنصرفه عن السوء والفحشاء. وإنما توجه إليه ذلك من خارج، فصرفه الله تعالى بما فيه من موجبات العفة والعصمة. فتأمل.
و ( المخلصين ) قرئ بكسر اللام، بمعنى الذين أخلصوا دينهم لله، وبالفتح أي: الذين أخلصهم الله لطاعته بأن عصمهم.
قال الشهاب: قيل: إن كل من له دخل في هذه القصة شهد ببراءته عليه السلام. فشهد الله تعالى بقوله: { لِنَصرفِ } الخ، وشهد هو على نفسه بقول: { هِيَ رَاوَدَتْنِي } ونحوه، وشهدت امرأة العزيز بقولها: { وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ } وسيدها بقوله: { إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ } وإبليس بقوله: { لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } فتضمن إخباره بأنه لم يُغوه. ومع هذا كله لم يبرئه أهل القصص. انتهى. عفا الله عنهم.