خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ
٢١٦
-البقرة

محاسن التأويل

{ كُتِبَ } أي: فرض: { عَلَيْكُمُ الْقِتَال } أي: قتال المتعرضين لقتالكم، كما قال: { { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا } [البقرة: 190]، المراد بقتالهم الجهاد فيهم بما يبيدهم أو يقهرهم ويخذلهم ويضعف قوتهم.
قال بعض الحكماء: سيف الجهاد والقتال هو آية العز، وبه مصّرت الأمصار، ومدّنت المدن، وانتشرت المبادئ والمذاهب، وأيدت الشرائع والقوانين؛ وبه حمي الإسلام من أن تعبث به أيدي العابثين في الغابر، وهو الذي يحميه من طمع الطامعين في الحاضر؛ وبه امتدت سيطرة الإسلام إلى ما وراء جبال الأورال شمالاً، وخط الاستواء جنوباً، وجدران الصين شرقاً، وجبال البيرنه غرباً.. !
قال: فيجب على المسلمين أن لا يتملّصوا من قول بعض الأوربيين: إن الدين الإسلامي قد انتشر بالسيف ! فإن هذا القول لا يضر جوهر الدين شيئاً؛ فإن المنصفين من الأوربيين يعلمون أنه قام بالدعوة والإقناع، وأن السيف لم يجرد إلا لحماية الدعوة. وإنما التملص منه يضر المسلمين؛ لأنه يقعدهم عن نصرة الدين بالسيف، ويقودهم إلى التخاذل والتواكل، ويحملهم على الاعتقاد بترك الوسائل، فيستخذون إلى الضعف كما هي حالتهم اليوم، وتبتلعهم الأمم القوية التي جعلت شعار تمدنها: السيف أو القوة.. !
قال: يجب على المسلمين أن يدرسوا آيات الجهاد صباح مساء، ويطيلوا النظر في قوله تعالى:
{ { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ } [الأنفال: 60]، لعلهم يتخفزون إلى مجاراة الأمم القوية المجاهدة في الأمم الضعيفة.. !.
وقوله تعالى: { وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } من الكراهة، فوضع المصدر موضع الصوف مبالغة، كقول الخنساء:

فإنما هي إقبالٌ وإدبارٌ

كأنه في نفسه كراهة لفرط كراهتهم له، أو هو فعل بمعنى مفعول - كالخبز بمعنى المخبوز - أي: وهو مكروه لكم، وهذا الكره إنما حصل من حيث نفور الطبع عن القتال - لما فيه من مؤنة المال، ومشقة النفس، وخطر الروح والخوف - فلا ينافي الإيمان؛ لأن كراهة الطبع جبلية، لا تنافي الرضاء بما كلف به، كالمريض الشارب للدواء البشع.
وفي القاموس وشرحه: الكره بالفتح ويضم: لغتان جيدتان بمعنى الإباء والمشقة.
قال ثعلب: قرأ نافع, وأهل المدينة في سورة البقرة: { وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } بالضم في هذا الحرف خاصة، وسائر القرآن بالفتح. وكان عاصم يضم هذا الحرف والذي في الأحقاف:
{ { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً } [الأحقاف: 15]، ويقرأ سائرهن بالفتح. وكان الأعمش وحمزة والكسائي يضمون هذه الحروف الثلاثة والذي في النساء: { { لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كُرْهَاً } [النساء: 19]، ثم قرأوا كل شيء سواها بالفتح. قال الأزهري: ونختار ما عليه أهل الحجاز: أن جميع ما في القرآن بالفتح إلا الذي في البقرة خاصة، فإن القراء أجمعوا عليه !. قال ثعلب: ولا أعلم بين الأحرف التي ضمها هؤلاء وبين التي فتحوها فرقاً في العربية، ولا في سنة تتبع، ولا أرى الناس اتفقوا على الحرف الذي في سورة البقرة خاصة، إلا أنه اسم وبقية القرآن مصادر.
قال الأزهري: وقد أجمع كثير من أهل اللغة: أن الكَره والكُره لغتان، فبأي لغة وقع فجائز، إلا الفراء فإنه فرق بينهما بأن الكره بالضم: ما أكرهت نفسك عليه، وبالفتح: ما أكرهك غيرك عليه. تقول: جئتك كُرهاً، وأدخلتني كَرهاً، وقال ابن سيده: الكَره: الإباء والمشقة تتكلفها فتحتملها، وبالضم: المشقة تحتملها من غير أن تكلفها. يقال: فعل ذلك كرهاً وعلى كره. قال ابن بري: ويدل لصحة قول الفراء قول الله عز وجل:
{ { وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً } [آل عِمْرَان: 83]، ولم يقرأ أحد بضم الكاف. وقال سبحانه: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ }، ولم يقرأ أحد بفتح الكاف. فيصير الكَره بالفتح، فعل المضطر، والكُره بالضم: فعل المختار.
{ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً } - كالجهاد في سبيل الله تعالى -: { وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } إذ فيه إحدى الحسنين: إما الظفر والغنيمة، وإما الشهادة والجنة: { وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً } - كالقعود عن الغزو -: { وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ } لما فيه من الذل والفقر وحرمان الغنيمة والأجر: { وَاللّهُ يَعْلَمُ } ما هو خير لكم: { وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ذلك، فبادروا إلى ما يأمركم به وإن شقّ عليكم، فهو رؤوف بالعباد لا يأمرهم إلا بخير.
قال الحرالي: فنفي العلم عنهم بكلمة لا أي: التي هي للاستقبال حتى تفيد دوام الاستصحاب. وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً. قال: من حيث رتبة هذا الصنف من الناس من الأعراب وغيرهم، وأما المؤمنون - أي: الراسخون - فقد علّمهم الله من علمه ما علموا أن القتال خير لهم وأن التخلف شرٌّ لهم.
حتى إن علمهم ذلك أفاض على ألسنتهم ما يفيض الدموع وينير القلوب،
"حتى شاورهم النبي صلى الله عليه وسلم في التوجه إلى غزوة بدر، فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال وأحسن، ثم قام عمر رضي الله عنه فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عَمْرو رضي الله عنه فقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله، فنحن معك، والله ! لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [المائدة: 24]، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ! فوالذي بعثك بالحق لو سرت إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه.. ! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشيروا علي أيها الناس ! فقال له سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله عنه: والله ! لكأنك تريدنا يا رسول الله ! قال: أجل . قال: فقد آمنا بك وصدّقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق ! لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصُبُر في الحرب، صُدُق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينيك، فسر بنا على بركة الله" .