خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ ٱسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ
٢
-الأنبياء

محاسن التأويل

{ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ } تقريع لهم على مكافحة الحكمة بنقيضها. وتسجيل عليهم بالجهل الفاضح. فإن من حق ما يذكر أكمل تذكير، وينبه على الغفلة أتم تنبيه، أن تخشع له القلوب وتستحذي [في المطبوع: تستخذي] له الأنفس.
قال الزمخشري: بعد أن وصفهم بالغفلة مع الإعراض، قرر إعراضهم عن تنبيه المنبه وإيقاظ الموقظ، فأن الله يجدد لهم الذكر وقتاً فوقتاً. ويحدث لهم الآية بعد الآية، والسورة بعد السورة، ليكرر على أسماعهم التنبيه والموعظة، لعلهم يتعظون. فما يزيدهم استماع الآي والسور وما فيها من فنون المواعظ والبصائر، التي هي أحق الحق وأجد الجد، إلا لعباً وتلهياً واستسخاراً. والذكر هو الطائفة النازلة من القرآن. انتهى.
تنبيه:
استدل بهذه الآية من ذهب إلى حدوث كلامه تعالى المسموع. وهم المعتزلة والكرامية والأشعرية. فأما المعتزلة فقالوا إنما كان القرآن حادثاً لكونه مؤلفاً من أصوات وحروف. فهو قائم بغيره وقالوا: معنى كونه متكلماً، أنه موجد لتلك الحروف والأصوات في الجسم. كاللوح المحفوظ أو كجبريل أو النبيّ عليه الصلاة السلام، أو غيرهم كشجرة موسى.
وأما الكرامية، فلما رأوا ما التزمه المعتزلة مخالفاً للعرف واللغة، ذهبوا إلى أن كلامه صفة له مؤلفة من الحروف والأصوات الحادثة القائمة بذاته تعالى. فذهبوا إلى حدوث الدالّ والمدلول. وجوزوا كونه تعالى محلاً للحوادث.
والأشعرية قالوا: إن الكلام المتلوّ دال على الصفة القديمة النفسية، التي هي الكلام عندهم حقيقة.
قالوا: فما نزل على الأنبياء من الحروف والأصوات، وسمعوها وبلّغوها إلى أممهم، هو محدث موصوف بالتغير والتكثر والنزول. لا مدلولها التي هي تلك الصفة القديمة. والمسألة شهيرٌ ما للعلماء فيها. والقصد أن الآية المذكورة رآها من ذكر، حجة فيما ذهب إليها.
وقد عدّ الإمام ابن تيمية، عليه الرحمة والرضوان، هذا الاحتجاج من الأغلاط، وعبارته في كتابه "مطابقة المنقول للمعقول": احتج من يقول بأن القرآن أو عبارة القرآن مخلوقة، بهذه الآية، مع أن دلالة الآية على نقيض قولهم، أقوى منها على قولهم. فإنها تدل على أن بعض الذكر محدث , وبعضه ليس بمحدث، وهو ضد قولهم. والحدوث في لغة العرب العام ليس هو الحدوث في اصطلاح أهل الكلام. فإن العرب يسمون ما تجدد حادثاً، وما تقدم على غيره قديماً. وإن كان بعد أن لم يكن كقوله تعالى:
{ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ } [يّس: 39]، وقوله تعالى عن إخوة يوسف: { { إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ } [يوسف: 95] وقوله تعالى: { { وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ } [الأحقاف: 11]، وقوله تعالى عن إبراهيم: { { أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ } [الشعراء: 75 - 76]، انتهى.
وقال العارف ابن عربيّ في الباب التاسع والستين والثلاثمائة من "فتوحاته" في هذه الآية: المراد أنه محدث الإتيان، لا محدث العين. فحدث علمه عندهم حين سمعوه. وهذا كما تقول: حدث اليوم عندنا ضيف، ومعلوم أنه كان موجوداً قبل أن يأتي. وكذلك القرآن جاء في مواد حادثة تعلق السمع بها. فلم يتعلق الفهم بما دلت عليه الكلمات. فله الحدوث من وجه والقدم من وجه.
فإن قلت: فإن الكلام لله والترجمة للمتكلم. فالجواب نعم. وهو كذلك بدليل قوله تعالى مقسماً "إنَّهُ" يعني: القرآن:
{ { لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } [الحاقة: 40]. فأضاف الكلام إلى الواسطة والمترجم، كما أضافه تعالى إلى نفسه بقوله: { فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ } [التوبة: 6]، فإذا تلي علينا القرآن فقد سمعنا كلام الله تعالى. وموسى لما كلمه ربه سمع كلام الله. ولكن بين السماعين بعد المشرقين. فإن الذي يدركه من يسمع كلام الله بلا واسطة، لا يساويه من يسمعه بالوسائط. انتهى.
وبالحكمة فالمذهب المأثور عن أهل السنة والجماعة أئمة الحديث والسلف، كما قاله ابن تيمية في "منهاج السنة": أن الله تعالى لم ينزل متكلماً إذا شاء بكلام يقوم به. وهو متكلم بصوت يسمع. وأن نوع الكلام قديم، وإن لم يجعل نفس الصوت المعين قديماً.
وبعبارة أخرى: أنه تعالى لم يزل متصفاً بالكلام. يقول بمشيئته وقدرته شيئاً فشياً. فكلامه حادث الآحاد، قديم النوع.
ثم قالرحمه الله : فإن قيل لنا: فقد قلتم بقيام الحوادث بالرب. قلنا: نعم. وهذا قولنا الذي دل عليه الشرع والعقل ومن لم يقل إن البارئ يتكلم ويريد ويحب ويبغض ويرضى ويأتي ويجيء - فقد ناقض كتاب الله. ومن قال: إنه لم يزل ينادي موسى في الأزل فقد خالف كلام الله مع مكابرة العقل. لأن الله تعالى يقول:
{ { فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ } [النمل: 8]، وقال: { { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [يّس: 82]، فأتى بالحروف الدالة على الاستقبال.
ثم قالرحمه الله : قالوا - يعني أئمة أصحاب الحديث وغيرهم من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما - وبالجملة فكل ما يحتاج به المعتزلة والشيعة مما يدل على أن كلامه متعلق بمشيئته وقدرته، وأنه يتكلم إذا شاء ويتكلم شيئاً بعد شيء، فنحن نقول به. وما يقول به من يقول: إن كلام الله قائم بذاته، وأنه صفة له، والصفة لا تقوم إلا بالموصوف، فنحن نقول به. وقد أخذنا بما في قول كل من الطائفتين من الصواب، وعدلنا عما يردّه الشرع والعقل من قول كل منهما. فإذا قالوا لنا: فهذا يلزم منه أن تكون الحوادث قامت به، قلنا: ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة؟ ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل. وهو قول لازم لجميع الطوائف: ومن أنكره فلم يعرف لوازمه وملزوماته. ولفظ الحوادث مجمل فقد يراد به الأعراض والنقائض، والله منزه عن ذلك. ولكن يقوم به ما شاءه ويقدر عليه من كلامه وأفعاله ونحو ذلك، مما دل عليه الكتاب والسنة.
ثم قال: والقول بدوام كونه متكلماً ودوام كونه فاعلاً بمشيئته، منقول عن السلف وأئمة المسلمين من أهل البيت وغيرهم. كابن المبارك وأحمد بن حنبل والبخاري وعثمان بن سعيد الدارميّ وغيرهم.
ثم قال: فنحن قلنا بما يوافق العقل والنقل من كمال قدرته ومشيئته: وإنه قادر على الفعل بنفسه كيف شاء. وقلنا إنه لم يزل موصوفاً بصفات الكمال متكلماً ذاتاً. فلا نقول إن كلامه مخلوق منفصل عنه، فإن حقيقة هذا القول أنه لا يتكلم. ولا نقول إنه شيء واحد، أمر ونهي وخبر. فإن هذا مكابرة للعقل. ولا نقول أنه أصوات منقطعة متضادة أزلية، فإن الأصوات لا تبقى زمانين. وأيضا فلو قلنا بهذا القول والذي قبله، لزم أن يكون تكليم الله للملائكة ولموسى ولخلقه يوم القيامة، ليس إلا مجرد خلق الإدراك لهم، لمَاَ كان أزلياً لم ومعلوم أن النصوص دلت على ضد ذلك. ولا نقول إنه صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما. فإنه وصف له بالكمال بعد النقص وإن صار محلاً للحوادث التي كمل بها بعد نقصه. ثم حدوث ذلك الكمال لا بد له من سبب. والقول في الثاني كالقول في الأول. ففيه تجدد جلاله ودوام أفعاله. انتهى ملخصاً.
ثم بين تعالى ما كانوا يتناجون به من ضلالهم، بقوله سبحانه: { لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ..... }.