خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَللَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
١٨٠
-آل عمران

محاسن التأويل

{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ } اعلم أنه تعالى لما بالغ في التحريض على بذل النفس في الجهاد في الآيات المتقدمة، شرع ههنا في التحريض على بذل المال في سبل الله، وبيّن الوعيد الشديد لمن يبخل ببذله فيه وإيراد ما بخلوا به بعنوان: " إيتاء الله تعالى إياه من فضله " للمبالغة في بيان سوء صنيعهم، فإن ذلك من موجبات بذله في سبيله كما في قوله تعالى: { { وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } [الحديد: 7] { بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ } لاستجلاب العقاب عليهم، والتنصيص على شريته لهم، مع انفهامها من نفي خيريته، للمبالغة في ذلك، والتنوين للتفخيم: { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } بيان لكيفية شرية مآل ما بخلوا به. وقد ذهب كثير من المفسرين إلى أن هذا الوعيد على طريق التمثيل أي: سيلزمون وبال ما بخلوا به لزوم الطوق، وذهب آخرون إلى أنه على ظاهره، وأنه نوع من العذاب الأخروي المحسوس، وأيدوه بما روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته، مُثِّل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك " ، ثم تلا هذه الآية: { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ } إلى آخرها.
وروى الإمام أحمد والنسائي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إن الذي لا يؤدي زكاة ماله يمثِّل الله عز وجل له ماله يوم القيامة شجاعاً أقرع، له زبيبتان، ثم يلزمه يطوِّقه يقول: أنا كنزك، أنا كنزك " .
وروى الإمام أحمد والترمزي والنسائيَ وابن ماجه عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يمنع عبد زكاة ماله إلا جعل له شجاع أقرع يتبعه, يفر منه وهو يتبعه, فيقول: أنا كنزك " . ثم قرأ عبد الله مصداقه في كتاب الله: { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }. قال الترمذي: حسن صحيح.
وروى الحافظ أبو يعلى عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من ترك بعده كنزاً مثل له شجاعاً أقرع، له زبيبتان، يتبعه. فيقول: من أنت ويلك؟ فيقول: أنا كنزك الذي خلفت بعدك، فلا يزال يتعبه حتى يلقمه يده فيقضمها، ثم يتبع سائر جسده " ، قال الحافظ ابن كثير: إسناده جيد قوي، ولم يخرجوه، وقد رواه الطبراني عن جرير بن عبد الله البجلي. ورواه ابن جرير والحافظ ابن مردويه عن حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يأتي رجل مولاه فيسأله من فضل مال عنده، فيمنعه إياه، إلا دُعي له يوم القيامة شجاع يتلمظ فضله الذي منع " .
وروى ابن جرير مرفوعاً: " ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله من فضل جعله الله عنده، فيبخل به عليه، إلا أخرج له من جهنم شجاع يتلمظ حتى يطوقه " . ورواه أيضاً موقوفاً ومرسلاً.\
والشجاع كغراب وكتاب: الحية مطلقاً، أو الذكر منها، أو ضرب منها دقيق، وهو أجرؤها - كذا في القاموس وشرحه -.
ثم أشار تعالى إلى أنهم، وإن لم ينفقوا أموالهم في سبيله، فهي راجعة إليه بقوله: { وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } أي: ما يتوارثه أهلهما من مال وغيره، فما لهم يبخلون عليه بملكه، ولا ينفقونه في سبيله. ونظيره قوله تعالى:
{ { وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } [الحديد: 7]، فالميراث على هذا على حقيقته، أو المعنى: أنه يفني أهل السموات والأرض، ويصير أملاك أهلهما بعد فنائهم إلى خالص ملكه، كما يصير مال المورث ملك الوارث، فجرى ما هنا مجرى الوراثة، إذ كان الخلق يدعون الأملاك ظاهراً، وإلا فالكل له، وعلى هذا فهو مجاز.
قال الزجاجرحمه الله : أي: أن الله تعالى يفني أهلهما، فيفنيان بما فيهما، فليس لأحد فيهما ملك، فخوطبوا بما يعلمون، لأنهم يجعلون، ما يرجع إلى الْإِنْسَاْن ميراثاً، ملكاً له: { وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي: فيجازيكم على المنع والبخل.