خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَٰعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي ٱلدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَٱسْمَعْ وَٱنْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً
٤٦
-النساء

محاسن التأويل

{ مّنَ الّذِينَ هَادُواْ } بيان للموصول وهو: { الّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ } فإن متناول لأهل الكتابين، وقد وسط بينهما ما وسط لمزيد الاعتناء ببيان محل التشنيع والتعجيب والمسارعة إلى تنفير المؤمنين منهم، وتحذيرهم عن مخالطتهم، والاهتمام بحملهم على الثقة بالله عز وجل، والاكتفاء بولايته ونصرته.
وقوله تعالى: { يُحَرّفُونَ الْكَلم عَن مّوَاضِعِهِ } هو وما عطف عليه بيان لاشترائهم بالمذكور، وتفصيل لفنون ضلالهم، فقد روعيت في النظم الكريم طريقة التفسير بعد الإبهام، والتفصيل إثر الإجمال، روماً لزيادة تقرير يقتضيه الحال، أفاده أبو السعود.
قال الإمام ابن كثير: قوله: { يُحَرّفُونَ الْكَلم عَن مّوَاضِعِهِ } أي: يتناولونه على غير تأويله، ويفسرونه بغير مراد الله عز وجل، قصداً منهم وافتراء.
وقال العلامة الرازيّ: في كيفية التحريف وجوه:
أحدها: إنهم كانوا يبدلون اللفظ بلفظ آخر.
ثم قال: والثاني: أن المراد بالتحريف إلقاء الشبه الباطلة والتأويلات الفاسدة وصرف اللفظ من معناه الحق إلى معنى باطل بوجوه الحيل اللفظية، كما يفعله أهل البدعة في زماننا هذا، بالآيات المخالفة لمذاهبهم، وهذا هو الأصح.
والثالث: أنهم كانوا يدخلون على النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، ويسألونه عن أمر فيخبرهم ليأخذوا به، فإذا خرجوا من عنده حرفوا كلامه. انتهى.
وقال الإمام ابن القيّمرحمه الله تعالى في " إغاثة اللهفان ": قد اختلف في التوراة التي بأيديهم، هل هي مبدلة أم التبديل وقع في التأويل دون التنزيل؟ على ثلاثة أقوال:
قالت طائفة: كلها أو أكثرها مبدل، وغلا بعضهم حتى قال: يجوز الاستجمار بها.
وقالت طائفة من أئمة الحديث والفقه الكلام: إنما وقع التبديل في التأويل.
قال البخاريّ في " صحيحه ": يحرفون يزيولون، وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله، ولكنهم يتأولونه على غير تأويله، وهو اختيار الرازيّ أيضاً.
وسمعت شيخنا يقول: وقع النزاع بين الفضلاء، فأجاز هذا المذهب ووهّى غيره، فأنكر عليه، فأظهر خمسة عشر نقلاً به، ومن حجة هؤلاء، أن التوراة قد طبقت مشارق الأرض ومغاربها، وانتشرت جنوباً وشمالاً، ولا يعلم عدد نسخها إلا الله، فيمتنع التواطؤ على التبديل والتغيير في جميع تلك النسخ، حتى لا تبقى في الأرض نسخة إلا مبدلة، وهذا مما يحيله العقل، قالوا: وقد قال الله لنبيه:
{ { قُلْ فَأْتُوا بِالتّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [آل عِمْرَان: 93] قالوا: وقد اتفقوا على ترك فريضة الرجم، ولم يمكنهم تغييرها من التوراة، ولذا لما اقرؤوها على النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وضع القارئ يده على آية الرجم، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك فرفعها فإذا هي تلوح تحتها، وتوسطت طائفة فقالوا: قد زيد فيها وغُيَّر أشياء يسيرة جداً، واختاره شيخنا في " الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح " قال: وهذا كلما في التوراة عندهم: إن الله سبحانه قال لإبراهيم: اذبح ابنك بكرك أو وحيدك، إسحاق، ثم قال: قلت والزيادة باطلة من وجوه عشرة، ثم ساقها فارجع إليه، وقد نقلها عنه هنا الإمام صديق خان، فانظره في تفسيره " فتح الرحمن ".
لطيفة
قال الزمخشريّ: فإن قلت: كيف قيل ههنا: { عَن مّوَاضِعِهِ } وفي المائدة: { من بعض مواضعه }؟ قلت: أما: { عَن مّوَاضِعِهِ } فعلى ما فسرنا من إزالته عن موضعه التي أوجبت حكمة الله وضعه فيها، بما اقتضت شهواتهم من إبدال غير مكانه، وأما: { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } فالمعنى أنه كانت له مواضع، هو قَمِِنٌ بأن يكون فيها، فحين حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له بعد مواضعه ومقاره، والمعنيان متقاربان.
وقال الرازيّ: ذكر الله تعالى ههنا: { عَن مّوَاضِعِهِ } وفي المائدة: { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } والفرق: إنا إذا فسرنا التحريف بالتأويلات الفاسدة لتلك النصوص، وليس فيه بيان أنهم يخرجون تلك اللفظة من الكتاب، وأما الآية المذكورة في سورة المائدة، فهي دالة على أنهم جمعوا بين الأمرين، فكانوا يذكرون التأويلات الفاسدة وكانوا يخرجون اللفظ أيضاً من الكتاب، فقوله: { يُحَرّفُونَ الْكَلم } إشارة إلى التأويل الباطل، وقوله: { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } إشارة إلى إخراجه عن الكتاب.
وقال الناصر في " الانتصاف ": الظاهر أن الكلم المحرف إنما أريد به، في هذه الصورة مثل: { غَيْرَ مُسْمَعٍٍ } و: { رَاعِنَا } ولم يقصد ههنا تبديل الأحكام، وتوسطها بين الكلمتين بين قوله: { يُحَرّفُونَ } ويبين قوله: { لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ } والمراد أيضاً تحريف مشاهد بين على أن المحرف هما وأمثالهما، وأما في سورة المائدة فالظاهر، والله أعلم، أن المراد فيها بـ: { الْكَلم } الأحكام، وتحريفها وتبديلها، كتبديلهم الرجم بالجلد، ألا تراه عقبه بقوله:
{ { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لم تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا } [المائدة: 41]؟ ولاختلاف المراد بالكلم في السورتين، قيل في سورة المائدة: يحرفون الكلم من بعد مواضعه، أي: ينقلونه عن الموضع الذي وضعه الله فيه، فصار وطنه ومستقره، إلى غير الموضع، فبقي كالغريب المتأسف عليه الذي يقال فيه هذا غريب من بعد مواضعه ومقارّه، ولا يوجد هذا المعنى في مثل: { رَاعِنَا } و: { غَيْرَ مُسْمَعٍٍ } وإن وجد على بعد فليس الوضع اللغوي مما يعبأ بانتقاله عن موضعه كالوضع الشرعي، ولولا اشتمال هذا النقل على الهزء والسخرية لما عظم أمره، فلذلك جاء هنا: { يُحَرّفُونَ الْكَلم عَن مّوَاضِعِهِ } غير مقرون ما قرن به الأول من صورة التأسف، والله أعلم. انتهى.
وقال العلامة أبو السعود: والمراد بالتحريف ههنا، إما ما في التوراة خاصة وإما ما هو أعم منه، ومما سيحكى عنهم من الكلمات المعهودة الصادرة عنهم في أثناء المجاورة مع رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، ولا مساغ لإرادة تلك الكلمات خاصة بأن يجعل عطف قوله تعالى: { وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } وما بعده، على ما قبله عطفاً تفسيرياً، لأنه يستدعي اختصاص حكم الشرطية الآتية وما بعدها بهن من غير تعرض لتحريفهم التوراة، مع أنه معظم جناياتهم المعدودة فقولهم: { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } ينبغي أن يجري على إطلاقه من غير تقييد بزمان أو مكان ولا تخصيص بمادة دون مادة، بل وأن يحمل على ما هو أعم من القول الحقيقي ومما يترجم عنه عنادهم ومكابرتهم، أي: يقول في كل أمر مخالف لأهوائهم الفاسدة سواء كان بمحضر النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أو لا، بلسان المقال أو الحال: { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } عناداً أو تحقيقاً للمخالفة. انتهى.
قال ابن كثير: وَيَقُولُونَ: { سَمِعْنَا } أي: سَمِعْنَا مَا قُلْته يَا مُحَمَّد وَلَا نُطِيعك فِيهِ، هَكَذَا فَسَّرَهُ مُجَاهِد وَابْن زَيْد وَهُوَ الْمُرَاد، وَهَذَا أَبْلَغ فِي كُفْرهمْ وَعِنَادهمْ وَأَنَّهُمْ يَتَوَلَّوْنَ عَنْ كِتَاب اللَّه بَعْدَمَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ مَا عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْإِثْم وَالْعُقُوبَة.
{ وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍٍ } عطف على: { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } داخل تحت القول أي: ويقولون ذلك في أثناء مخاطبته عليه الصلاة والسلام خاصة، وهو كلام ذو وجهين محتمل للشر، بأن يحمل على معنى: { اسْمَعُ } حال كونك غير مسمع كلاماً أصلاً، بصمم أو موت، أي: مدعواً عليك بلا سمعت، أو غير مسمع كلاماً ترضاه، وللخير بأن يحمل على: اسمع منا غير مسمع مكروهاً، كانوا يخاطبون به النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم استهزاء به ( عليهم اللعنة ) مظهرين له إرادة المعنى الأخير وهم مضمرون المعنى الأول مطمئنون به: { وَرَاعِنَا } عطف على ما قبله، أي: ويقولون راعناً في أثناء خطابهم له صَلّى اللهُ عليّه وسلّم هذا أيضاً، وهي كلمة ذات وجهين أيضاً محتملة للخير بحملها على معنى ارقبنا وانظرنا نكلمك، وللشر بحملها على شبه كلمة عبرانية كانوا يتسابّون بها، أو على السب بالرعونة أي: الحمق، وبالجملة فكانوا، سخرية بالدين وهزؤاً برسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، يكلمونه بكلام محتمل ينوون به الشتيمة والإهانة ويظهرون به التوقير والإكرام: { لَيّا بِأَلْسِنَتِهِمْ } أي: فتلاً بها وصرفاً للكلام من وجه إلى وجه وتحريفها، أي: يفتلون بألسنتهم الحق إلى الباطل حيث يضعون: { رَاعِنَا } موضع: { انظُرْنَا } و: { غَيْرَ مُسْمَعٍٍ } موضع ( لا أسمعت مكروهاً ) أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرون من التوقير نفاقاً، فإن قلت: كيف جاؤوا بالقول المحتمل ذي الوجهين بعد ما صرحوا وقالوا: { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا }؟ قلت: جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان ولا يواجهونه بالسب ودعاء السوء، ويجوز أن يقولوه فيما بينهم ويجوز أن لا ينطقوا بذلك ولكنهم لما لم يؤمنوا جعلوا كأنهم نطقوا به، كذا في الكشاف.
وأصل: { لَيّاً } لوياً لأنه من لويت أدغمت الواو في الياء لسبقها بالسكون، ومثله ( الطيّ ).
{ وَطَعْناً فِي الدّينِ } أي: قدحاً فيه بالاستهزاء والسخرية وانتصابهما على العلّية لـ: { يَقُولُونَ } باعتبار تعلقه بالقولين الأخيرين، أي: يقولون ذلك لصرف الكلام عن وجهه إلى السب والطعن في الدين، أو على الحالية، أي: لاوين وطاعنين في الدين، أفاده أبو السعود.
{ وَلَوْ أَنّهُمْ قَالُواْ } أي: عندما سمعوا ما يتلى عليهم من أوامره تعالى: { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } أي: بدل قولهم: { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } والقول هنا كسابقه أعم من أن يكون بلسان المقال أو بلسان الحال: { وَاسْمَعْ } أي: لو قالوا عند مخاطبة النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بدل قولهم: { اسْمَعُ } فقط بلا زيادة: { غَيْرَ مُسْمَعٍٍ } المحتمل للشر: { وَانظُرْنَا } يعني بدل قولهم: { رَاعِنَا } المحتمل للمعنى الفاسد كما سلف: { لَكَانَ خَيْراً لّهُمْ وَأَقْوَمَ } في الدنيا بحقن دمائهم وعلو رتبتهم بإحاطة الكتب السماوية، وفي الآخرة بضعف الثواب، أفاده المهايميّ.
قال أبو السعود: وصيغة التفضيل إما على بابها واعتبار أصل الفضل في المفضل عليه بناء على اعتقادهم، أو بطريق التهكم، وإما بمعنى اسم الفاعل: { وَلَكِن لّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ } أي: ولكن لم يقولوا ذلك واستمروا على كفرهم فطردهم الله عن رحمته وأبعدهم عن الهدى، بسبب كفرهم: { فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً } منصوب على الاستثناء من: { لّعَنَهُمُ } أي: ولكن لعنهم الله إلا فريقاً قليلاً منهم، آمنوا فلم يلعنوا، أو على الوصفية لمصدر محذوف، أي: إلا إيماناً قليلاً أي: ضعيفاً ركيكاً لا يعبأ به، فإنهم كانوا يؤمنون بالله والتوراة وموسى، ويكفرونه ببقية المرسلين وكتبهم المنزلة، ورجح أبو عليّ الفارسي هذا، قال: لأن: { قَلِيلاً } لفظ مفرد: ولو أريد به ( ناس ) لُجمِعَ نحو قوله:
{ { إِنّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ } [الشعراء: 54]، ويمكن أن يجاب عنه بأنه قد جاء فعيل مفرداً، والمراد به الجمع قال تعالى: { { وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً } [النساء: 69]، وقال: { { وَلا يَسْأَلُ حَميمٌ حَميماً } [المعارج: 10] يبصرونهم، أفاده الرازيّ، وقد جوز على هذا أن يراد بالقلة العدم بالكلية، كقوله:

قليل التشكي للمهم يصيبه كثير الهوى شتى النوى والمسالك

أي هو كثير الهم مختلف الوجوه والطرق لا يقف أمله على فن واحد بل يتجاوزه إلى فنون مختلفة، صبور على النوائب لا يكاد يتشكى منها، فاستعمل لفظ ( قَليِل ) وأراد به نفي الكل، أو منصوب على الاستثناء من فاعل ( لا يؤمنون ) أي: فلا يؤمن منهم إلا نفر قليل، وأما قول الخفاجيّ: كان الوجه فيه الرفع على البدل لأنه من كلام غير موجب.
وأبي السعود: بأنه فيه نسبة القراء إلى الاتفاق على غير المختار - فمردود بأن النصب عربيّ جيد، وقد قرئ به في السبع في ( قَلِيلٌ ) من قوله تعالى:
{ { مَا فَعَلُوهُ إِلّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ } [النساء: 66]، وفي ( امرأتك ) من قوله تعالى: { { وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلّا امْرَأَتَكَ } [هود: 81]، كما قاله ابن هشام في التوضيح.