خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً
٥٩
-النساء

محاسن التأويل

{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } اعلم أنه تعالى، لما أمر الرعاة والولاة بأداء الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل، أمر الرعية من الجيوش وغيرهم بطاعة أولي الأمر الفاعلين لذلك في قسمهم وحكمهم ومغازيهم وغير ذلك، إلا أن يأمروا بمعصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
قال الرازيّ: قال عليّ بن أبي طالب - رَضِي اللّهُ عَنْهُ -: حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ويؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحق على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا، وقد روى الطبري بسند صحيح عن أبي هريرة: إن أولي الأمر هم الأمراء.
واحتج له الشافعي بأن قريشاً ومن يليها من العرب كانوا لا يعرفون الإمارة ولا ينقادون إلى أمير، فأمروا بالطاعة لمن ولي الأمر، والانقياد له إذا بعثهم في السرايا، وإذا ولاهم البلاد، فلا يخرجوا عليهم ولا يمتنعوا عليهم، لئلا تفترق الكلمة، ولذلك قال صَلّى اللهُ عليّه وسلّم:
" مَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي " ، متفق عليه.
وفي البخاريّ عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي إذ بعثه النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في سرية.
قال ابن كثير: وهكذا أخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجة وقال الترمذيّ: حديث حسن غريب، ولا نعرفه إلا من حديث ابن جريج.
وروى الطبري عن السدي أنها نزلت في قصة جرت لعمار بن ياسر مع خالد بن الوليد، وكان خالد أميراً، فأجاز عمار رجلاً بغير أمره، فتخاصما وارتفعا إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، فأجاز أمان عمار ونهاه أن يجبر الثانية على أمير.
قال ابن كثير: وهكذا رواه ابن أبي حاتم من طريق عن السدي مرسلاً، ورواه ابن مردويه عن السدي عن أبي صالح عن ابن عباس، فذكر بنحوه.
ولا تنافي بين الروايتين لما أسلفناه في مقدمة التفسير في بحث سبب النزول، فتذكر.
وقال الزمخشريّ: المراد بأولي الأمر منكم، أمراء الحق، لأن أمراء الجور، الله ورسوله بريئان منهم، فلا يعطفون على الله ورسوله في وجوب الطاعة لهم، وإنما يجمع بين الله ورسوله والأمراء الموافقين لهما في إيثار العدل واختيار الحق والأمر بهما والنهي عن أضدادهما، كالخلفاء الراشدين ومن تبعهم بإحسان، وكان الخلفاء يقولون: أطيعوني ما عدلت فيكم فإن خالفت فلا طاعة لي عليكم.
وفي الصحيحين عن علي - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال:
" إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ " .
وروى الإمام أحمد عن عِمْرَان بن حصين عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال: " لاَ طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةٍ الله " .
لطيفة
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح ": النكتة في إعادة العامل في الرسول دون أولي الأمر، مع أن المطاع في الحقيقة هو الله تعالى - كون الذي يعرف به ما يقع به التكليف هما القرآن والسنة، فكان التقدير: وأطيعوا الله فيما قضى عليكم في القرآن، وأطيعوا الرسول فيما بين لكم من القرآن وما ينصه عليكم من السنة، والمعنى: أطيعوا الله فيما يأمركم به من الوحي المتعبد بتلاوته، وأطيعوا الرسول فيما يأمركم به من الوحي الذي ليس بقرآن.
ومن بديع الجواب قول بعض التابعين لبعض الأمراء من بني أمية، لما قال له: أليس الله أمركم أن تطيعونا في قوله: { وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ }؟ فقال له: أليس قد نزعت عنكم، يعني الطاعة، إذا خالفتم الحق بقوله: { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍٍ فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ }؟.
قال الطيبي: أعاد الفعل في قوله: { وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ } إشارة إلى استقلال الرسول بالطاعة، ولم يعده في أولي الأمر إشارة إلى أنه يوجد فيهم من لا تجب طاعته، ثم بين ذلك بقوله: { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍٍ }، كأنه قيل فإن لم يعملوا بالحق فلا تطيعونهم وردوا ما تخالفتم فيه إلى حكم الله ورسوله. انتهى.
تنبيه
يشمل عموم وقوله: { وَأُوْلِي الأَمْرِ } العلماء، كما روى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس: أنه يعني أهل الفقه والدين، وكذا قال مجاهد وعطاء والحسن البصري وأبو العالية، وهذا ليس قولاً ثانياً في الآية بل هو مما يشمله لفظها، فهي عامة في أولي الأمر من الأمراء والعلماء وإن نزلت على سبب خاص، وقد كثرت الأوامر بطاعة العلماء كالأمراء، قال تعالى:
{ { لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرّبّانِيّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السّحْتَ } [المائدة: 63]، وقال تعالى: { { فَاسْأَلوا أَهْلَ الذّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلمونَ } [النحل: 43] وقال تعالى: { { وَلَوْ رَدّوهُ إِلَى الرّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلمهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [النساء: 83].
وفي الحديث الصحيح المتفق على صحته عن أبي هريرة عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أنه قال:
" مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ أطِاع أَمِيرَي فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عْصى أَمِيرَي فَقَدْ عَصَانِي " .
وروى أبو داود عن عبد الله بن عُمَر عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال: " السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِذا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ [ عَلَيْهِ زيادة عند أبو داوود ] وَلاَ طَاعَةَ " .
وروى البخاريّ عن أنس بن مالك - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: " اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ " .
والأحاديث في هذا كثيرة.
قال شيخ الإسلام ابن تيميةرحمه الله تعالى في كتابه " الحسبة في الإسلام ": وقد أمر الله تعالى في كتابه بطاعته وطاعة رسوله وطاعة أولي الأمر من المؤمنين وأولو الأمر أصحاب الأمر وذووه وهم الذين يأمرون الناس، وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة وأهل العلم والكلام، فلهذا كان أولو الأمر صنفين: العلماء والأمراء، فإذا صلحوا صلح الناس، وإذا فسدوا فسد الناس، كما قال أبو بكر الصديق - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - ( للأحمسية لما سألته ما بقاؤنا على هذا الأمر ) قال: ما استقامت لكم أئمتكم، ويدخل فيهم الملوك والمشايخ وأهل الديوان وكل من كان متبوعاً فإنه من أولي الأمر، وعلى كل واحد من هؤلاء أن يأمر بما أمر الله به وينهي عما نهى عنه، وعلى كل واحد ممن له عليه طاعة أن يطيعه في طاعة الله ولا يطيعه في معصية الله، كما قال أبو بكر الصديق - رَضِي اللّهُ عَنْهُ -، حين تولى أمر المسلمين وخطبهم، فقال في خطبته: أيها الناس ! القوي فيكم الضعيف عندي حتى آخذ منه الحق، والضعيف فيكم القوي عندي حتى آخذ له الحق، أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم: { فَإِن تَنَازَعْتُمْ } أي: اختلفت أنتم وأولو الأمر: { فِي شَيْءٍٍ } من الأحكام: { فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ } أي: فارجعوا فيه إلى كتابه: { وَالرّسُولِ } بالسؤال منه في زمانه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم والرجوع إلى سننه بعده لا إلى ما تهوون ولا إلى ما يهواه الحكام: { إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } الواضع لشرائع العدل: { وَالْيَوْمِ الآخِرِ } الذي يجازي فيه الموافق والمخالف لتلك الشرائع: { ذَلِكَ } أي: الرد إلى كتاب الله وسنة الرسول، والرجوع إليهما فصل النزاع.
{ خَيْرٌ } أي: لكم ولحكامكم وأصلح: { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } أي: عاقبة ومآلاً، كما قاله السديّ وغير واحد، وقال مجاهد: وأحسن جزاء، وهو قريب.
قال الحافظ ابن كثير: هذا أمر من الله عز وجل بأن كل شيء تنازع فيه الناس من أصول الدين وفروعه، أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة، كما قال تعالى:
{ { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللّهِ } [الشورى: 10]، فما حكم به الكتاب والسنة وشهدا له بالصحة فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال، ولهذا قال تعالى: { إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي: ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله، فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، فدل على أن من لم يتحاكم، في محل النزاع، إلى الكتاب والسنة، ولا يرجع إليهما في ذلك، فليس مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر. انتهى.
تنبيهات
الأول: قال البيضاوي: إن قوله تعالى: { فَإِن تَنَازَعْتُمْ } يؤيد أن المراد بأولي الأمر الأمراء لا العلماء، قال: إذ ليس للمقلد أن ينازع المجتهد في حكمه بخلاف المرؤوس، ثم قال: إلا أن يقال الخطاب لأولي الأمر، على طريقة الالتفات، وتابعه أبو السعود.
قال الخفاجي: وجه التأييد أن للناس والعامة منازعة الأمراء في بعض الأمور وليس لهم منازعة العلماء، إذ المراد بهم المجتهدون، والناس ممن سواهم لا ينازعونهم في أحكامهم، والمراد بالمرؤوس ( على وزن المفعول ) العامة التابعة للرائس والرئيس، فإذا كان الخطاب في ( تنازعتم ) لأولي الأمر على الالتفات صح إرادة العلماء، لأن للمجتهدين أن ينازع بعضهم بعضاً مجادلة ومحاجة، فيكون المراد أمرهم بالتمسك بما يقتضيه الدليل. انتهى.
وفي قوله: ( إذ ليس للمقلد إلخ ) ما ستراه.
الثاني: فيهم كثير من الناس والمفسرين أيضاً أن طاعة أولي الأمر العلماء، تقليدهم فيما يفتون به، وهو غلط قال الإمام ابن القيم في " أعلام الموقعين " في:
فصل
في عقد مجلس مناظرة بين مقلد وبين صاحب حجة منقاد للحق حيث كان.
قال المقلد: وقد أمر الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وأولي الأمر - وهم العلماء، أو العلماء والأمراء - وطاعتهم تقليدهم فيما يفتون به، فإنه لولا التقليد، لم يكن هناك طاعة تختص بهم، قال: وجوابه أن أولي الأمر، قيل: هم الأمراء، وقيل: هم العلماء، وهما روايتان عن الإمام أحمد، والتحقيق أن الآية تتناول الطائفتين، وطاعتهم من طاعة الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، لكن خفي على المقلدين أنهم يطاعون في طاعة الله إذا أمروا بأمر الله تعالى ورسوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، فأين في الآية تقديم آراء الرجال على سنة رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وإيثار التقليد عليها؟ ثم قال ابن القيم: إن هذه الآية من أكبر الحجج عليهم وأعظمها إبطالاً للتقليد، وذلك من وجوه:
أحدها: الأمر بطاعة الله التي هي امتثال أمره واجتناب نهيه.
الثاني: طاعة رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، ولا يكون العبد مطيعاً لله ولرسوله حتى يكون عالماً بأمر الله تعالى ورسوله، وأما من هو مقلد فيها لأهل العلم لم يمكنه تحقيق طاعة الله ورسوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم البتة.
الثالث: أن أولي الأمر قد نهوا عن تقليدهم، كما صح ذلك عن معاذ بن جبل وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عُمَر وعبد الله بن عباس وغيرهم من الصحابة، وذكرناه عن الأئمة الأربعة وغيرهم، وحينئذ فطاعتهم في ذلك إن كانت واجبة بطل التقليد، وإن لم تكن واجبة الاستدلال.
الرابع: أنه سبحانه وتعالى، قال في الآية نفسها: { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍٍ فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } وهذا صريح في إبطال التقليد والمنع من رد المتنازع فيه إلى رأي أو مذهب أو تقليد، فإن قيل: فما هي طاعتهم المختصة بهم؟
فإن كانت الطاعة فيما يخبرون به عن الله تعالى ورسوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، كانت الطاعة لله ورسوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لا لهم، قيل: هذا هو الحق، وطاعتهم إنما هي تبع لا استقلال، ولهذا قرنها بطاعة الرسول، وأعاد العامل لئلا يتوهم أنه إنما يطاع تبعاً كما يطاع أولو الأمر تبعاً، وليس كذلك، بل طاعته واجبة استقلالاً، كان، ما أمر به أو نهى عنه في القرآن، أو لم يكن. انتهى.
وقالرحمه الله تعالى قبل ذلك: إن فرقة التقليد قد ارتكبت مخالفة أمر الله تعالى وأمر رسوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وهدي أصحابه وأحوال أئمتهم، وسلكوا ضد طريق أهل العلم، أما أمر الله تعالى، فإنه أمر أن يرد ما تنازع فيه المسلمون إليه وإلى رسوله، والمقلدون قالوا: إنما نرده إلى من قلدناه، وأما أمر رسوله فإنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أمر عند الاختلاف بالآخذ بسنته وسنة خلفائه الراشدين المهديين، وأمر أن يتمسك بها ويعض عليها بالنواجذ، وقال المقلدون: بل عند الاختلاف نتمسك بقول من قلدناه ونقدمه على كل ما عداه، وأما هدي الصحابة رضي الله عنهم فمن المعلوم بالضرورة أنه لم يكن شخص واحد يقلد رجلاً في جميع أقواله ويخاف من عداه من الصحابة بحيث لا يرد من أقواله شيئاً ولا يقبل من أقوالهم شيئاً، وهذا من أعظم البدع وأقبح الحوادث، وأما مخالفتهم لأئمتهم فإن الأئمة نهو عن تقليدهم وحذروا منه، كما تقدم ذكر بعض ذلك عنهم وضبطها والنظر فيها وعرضها على القرآن والسنن الثابتة عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وأقوال خلفائه الراشدين، فما وافق ذلك منها قبلوه ودانوا الله تعالى به، وقبضوا به وأفتوا به، وما خالف ذلك منها لم يلتفتوا إليه وردوه، وما لم يتبين لهم كان عندهم من مسائل الاجتهاد التي غايتها أن تكون سائغة الأتباع لا واجبة الاتباع، من غير أن يلزموا بها أحداً ولا يقولوا إنها الحق دون ما خلفها، هذه طريقة أهل العلم سلفاً وخلفاً، وأما هؤلاء الخلف فعكسوا الطريق وقلبوا أوضاع الدين، فزيفوا كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وأقوال خلفائه وجميع أصحابه، وعرضوها على أقوال من قلدوه، فما وافقها منها قالوا: لنا؛ وانقادوا مذعنين، وما خالف أقوال متبوعهم منها قالوا: احتج الخصم بكذا وكذا، ولم يقبلوه ولم يدينوا به، واحتال فضلاؤهم في ردها بكل ممكن، وتطلبوا لها وجوه الحيل التي يرونها، حتى إذا كانت موافقة لمذهبهم، وكانت تلك الوجوه بعينها قائمة فيها، شنعوا على منازعهم وأنكروا عليهم ردها بمثل تلك الوجوه بعينها، وقالوا: لا تُرَدُّ النصوص بهذا، ومن له همة تسموا إلى الله ومرضاته، ونصر الحق الذي بعث به رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، أين كان ومع من كان، لا يرضى لنفسه بمثل هذا المسلك الوخيم والخلق الذميم. انتهى.
الثالث: إن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله: { فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرّسُولِ } أي: فوضوا علمه إلى الله وأسكتوا عنه ولا تتعرضوا له؟ وأيضاً، لم لا يجوز أن يكون المراد فردوا هذه الأحكام إلى البراءة الأصلية؟ قلنا: أما الأول فمدفوع، وذلك لأن هذه الآية دلت على أنه تعالى جعل الوقائع قسمين: منها ما يكون حكمها منصوصاً عليه، ومنها ما لا يكون كذلك، ثم أمر في القسم الأول بالطاعة والانقياد، وأمر في القسم الثاني بالاجتهاد فيه، وهو الرد إلى الله وإلى الرسول ولا يجوز أن يكون المراد بهذا الرد السكوت، لأن الواقعة بما كانت لا تحتمل ذلك، بل لا بد من قطع للشغب والخصومة فيها، بنفيٍٍ أو إثبات، وإذا كان كذلك امتنع حمل الرد إلى الله، على السكوت عن تلك الواقعة، وأما السؤال الثاني: فجوابه أن البراءة الأصلية معلومة بحكم العقل، فلا يكون رد الواقعة إليها رداً إلى الله بوجه من الوجوه، أما إذا رددنا حكم الواقعة إلى الأحكام المنصوص عليها، كان هذا رداً للواقعة على أحكام الله تعالى، فكان حمل اللفظ على هذا الوجه أولى: أفاده الرازيّ.
الرابع: استدل مثبتوا القياس بقوله تعالى: { فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ } إلخ قالوا: معنى الآية: فإن تنازعتم في شيء حكمه غير مذكور في الكتاب والسنة، فردوا حكمه إلى الأحكام المنصوصة في الوقائع المشابهة له، وذلك هو القياس، قالوا: ولو كان المراد من قوله تعالى: { فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرّسُولِ } طلب حكمه من نصوص الكتاب والسنة - لكان داخلاً تحت قوله: { أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ } وهو إعادة لعين ماضي ( كذا ) وهو غير جائز، وقد توسع الرازيّ في تقرير ذلك ههنا، كما توسع في أن قوله تعالى ( وأولي الأمر ) إشارة إلى الإجماع، فتكون الآية، بزعمه، دلت على الأصول الأربع، ولا يخفى ما في هذا التعمق من دقيق الاستنباط. الخامس: قدمنا رواية البخاريّ في سبب نزول هذه الآية، وأن ابن عباس قال: نزلت في عبد الله بن حذافة.
قال الداودي ( شارح الصحيح ): هذا وهم على ابن عباس، فإن عبد الله بن حذافة خرج على جيش فغضب عليهم، فأمرهم أن يوقدوا ناراً ويقتحموها، فامتنع بعضهم وهم بعض أن يفعل.
قال: فإن كانت الآية نزلت قبلُ، فكيف يخص عبد الله بن حذافة بالطاعة دون غيره؟ وإن كانت نزلت بعدُ فإنما قيل لهم: إنما الطاعة في المعروف، وما قيل لهم: لِمَ لم تطيعوه؟ انتهى.
وأجاب الحافظ ابن حجر: أي: المقصود في قصته قوله: { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍٍ فَرُدّوهُ إِلَى } لأنهم تنازعوا في امتثال ما أمرهم به، وسببه أن الذين هموا أن يعطوه وقفوا عند امتثال الأمر بالطاعة، والذين امتنعوا عارضه عندهم الفرار من النار، فناسب أن ينزل في ذلك ما يرشدهم إلى ما يفعلونه عند التنازع، وهو الرد إلى الله وإلى رسوله، أي: إن تنازعتم في جواز الشيء وعدم جوازه فارجعوا إلى الكتاب والسنة، والله أعلم. ولما أوجب تعالى على جميع المكلفين أن يطيعوا الله ورسوله، آثرها بأن المنافقين والذين في قلوبهم مرض لا يطيعون الرسول ولا يرضون بحكمه، وإنما يريدون حكم غيره، فقال:
{ أَلم تَرَ إِلَى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن ... }.