خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ رَأَيْتَ ٱلْمُنَٰفِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً
٦١
-النساء

محاسن التأويل

{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ } أي: إلى حكم ما أنزل الله في القرآن الذي تدعون الإيمان به: { وَإِلَى الرّسُولِ } أي: حكمه.
{ رَأَيْتَ المنَافِقِينَ يَصُدّونَ } أي: يمنعون خصومهم فيبعدونهم.
{ عَنكَ صُدُوداً } بليغاً ليتمكنوا مما يريدونه بالرشوة، وقوله تعالى: { وَإِذَا قِيلَ } إلخ تكملة لمادة التعجيب ببيان إعراضهم صريحاً عن التحاكم إلى كتاب الله تعالى ورسوله، إثر بيان إعراضهم عن ذلك في ضمن التحاكم إلى الطاغوت، وإظهار ( المنافقين ) في مقام الإضمار للتسجيل عليهم بالنفاق، وذمهم به، والإشعار بعلة الحكم.
تنبيه
في سبب نزولها
أخرج ابن أبي حاتم والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس قال: كان أبو برزة الأسلمي كاهناً يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه، فتنافر إليه ناس من المسلمين، فأنزل الله: { أَلم تَرَ إِلَى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنّهُمْ آمَنُواْ } إلى قوله: { إِلاّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً }.
أقول: ثم أسلم أبو برزة وصحب النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، واسمه نَضْلَة بن عبيد.
قال الحافظ ابن حجر في التقريب: صحابي مشهور بكنيته، أسلم قبل الفتح، وغزا سبع غزوات، ثم نزل البصرة، وغزا خراسان ومات بها سنة خمس وستين على الصحيح. انتهى.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عِكْرِمَة، أو سعيد، عن ابن عباس قال: كان الجلاس بن الصامت ومعتب بن قشير، ورافع بن زيد، وَبشَرٌ يدّعون الإسلام، فدعاهم رجال من قومهم من المسلمين، في خصومة كانت بينهم إلى الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، فدعوهم إلى الكهان، حكام الجاهلية، فأنزل الله فيهم: { أَلم تَرَ إِلَى الّذِينَ يَزْعُمُونَ } الآية.
وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال: كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة فقال اليهودي: أحاكمك إلى أهل دينك، أو قال: إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، لأنه قد علم أن لا يأخذ الرشوة في الحكم، فاختلفا، واتفقا على أن يأتيا كاهناً في جهينة، فنزلت، ولا تَعَاَرُضَ، لما أسلفناه في المقدمة في بحث سبب النزول، فتذكر.
قال أبو مسلم الأصفهاني: ظاهر الآية يدل على أنه كان منافقاً من أهل الكتاب، مثل: إنه كان يهودياً فأظهر الإسلام على سبيل النفاق، لأن قوله تعالى: { يَزْعُمُونَ أَنّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } إنما يليق بمثل هذا المنافق. انتهى.
أقول: ما استظهره مناف لما أسلفناه مما روي في نزولها، على أن توصيفهم بالإيمان بـ ( ما أنزل من قبل ) لا يؤيد ما ذكره، لأن هذا كثيراً ما يذكر تنويهاً به وتثبيتاً لركنيته في الإيمان، وتذكيراً له، كما لا يخفى على من سبر قاعدة التنزيل في أمثاله، فاعرفه.
مباحث
الأول: قال الحافظ ابن كثير: هذه الآية إنكار من الله عز وجل على من يدّعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم، في فصل الخصومات، إلى غير كتاب الله وسنة رسوله، كما ذُكر في سبب نزول هذه الآية، ثم ساق ما قدمناه وقال: الآية أعم من ذلك كله، فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بـ ( الطاغوت ) ههنا، واعرضوا كالمستكبرين كما قال تعالى عن المشركين:
{ { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللّهُ قَالُوا بَلْ نَتّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } [البقرة: 170] وهؤلاء بخلاف المؤمنين الذين قال الله فيهم: { { إِنّمَا كَانَ قَوْلَ المؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [النور: 51] الآية.
الثاني: قال القاضي: يجب أن يكون التحاكم إلى هذا الطاغوت كالكفر، وعدم الرضا بحكم محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كفر، ويدل عليه وجوه:
الأول: أنه تعالى قال: { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ } فجعل التحاكم إلى الطاغوت يكون إيماناً به، ولا شك أن الإيمان بالطاغوت كفر بالله، كما أن الكفر بالطاغوت إيمان بالله.
الثاني: قوله تعالى:
{ { فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّىَ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } [النساء: 65] إلى قوله: { { وَيُسَلموا تَسْلِيماً } [النساء: 65] وهذا نص في تكفير من لم يرض بحكم الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم.
الثالث: قوله تعالى:
{ { فَلْيَحْذَرِ الّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور: 63] وهذا يدل على أن مخالفته معصية عظيمة، وفي هذه الآيات دلائل على أن من رد شيئاً من أوامر الله، أو أوامر الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فهو خارج عن الإسلام، سواء رده من جهة الشك أو من جهة التمرد، وذلك يوجب صحة ما ذهبت الصحابة إليه من الحكم بارتداد مانعي الزكاة وقتلهم وسبي ذراريهم، نقله الرازيّ.
الرابع: قال بعض المفسرين: في هذه الآية وجوب الرضا بقضاء الله سبحانه، والرضا بما شرعه، وتدل على أنه لا يجوز التحكم إلى غير شريعة الإسلام.
قال الحاكم: وتدل على أن من لم يرض بحكمه كَفَرَ، وما ورد من فعل عمر وقتله المنافق يدل على أن دمه هدر، لا قصاص فيه ولا دية.
وههنا فرع، وهو أن يقال: إذا تحاكم رجلان في أمر فرضي أحدهما بحكم المسلمين وأبى الثاني، وطلب المحاكمة إلى حاكم الملاحدة، فإنه يكفر، لأن في ذلك رضا بشعار الكفرة. انتهى.
الخامس: في قوله تعالى: { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ } دقيقة بديعة، قال أبو السعود: الاقتصار في معرض التعجب والاستقباح على ذكر إرادة التحاكم، دون نفسه، مع وقوعه أيضاً - للتنبيه على أن إرادته مما يقضي منه العجب ولا ينبغي أن يدخل تحت الوقوع، فما ظنك بنفسه؟
السادس: قال المفسرون: إنما صد المنافقون عن حكم الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لأنهم كانوا ظالمين، وعلموا أنه لا يأخذ الرشا، وأنه لا يحكم إلا بمرّ الحكم، وقيل: كان ذلك الصد لعدوانهم في الدين، وقوله تعالى:
{ فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مّصِيبَةٌ بِمَا قَدّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ ... }.