خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوۤاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
٢١
-فصلت

محاسن التأويل

{ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ } أي: المدركة ألم العذاب الذي لا يدركه السمع والبصر: { لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا } أي: بما يوجب إيلامكم: { قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ } أي: بهذه الشهادة: { الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } أي: أنطق كل شيء من الحيوان. فهو من العام الذي خصه العقل، كقوله تعالى: { { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة: 284]، أي: كل شيء من المقدورات. هذا، على أن النطق على ظاهره وحقيقته. وقيل المراد ظهور علامات على الأعضاء دالة على ما كانت متلبسة به في الدنيا، بتغير أشكالها ونحوه. مما يلهم الله من رآه أنه صدر عنه ذلك؛ لارتفاع الغطاء في الآخرة. فالنطق مجاز عن الدلالة. قال القاشاني: معنى: { { شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ } [فصلت: 20] أي: غيرت صور أعضائهم، وصورت أشكالها على هيئة الأعمال التي ارتكبوها، وبدلت جلودهم، وأبشارهم فتنطق بلسان الحال، وتدل بالأشكال على ما كانوا يعملون، ولنطقها بهذا اللسان قالت: { أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } إذ لا يخلو شيء ما من النطق، ولكن الغافلين لا يفهمون. انتهى.
لكن قال الرازي: تفسير هذه الشهادة، بظهور أمارات مخصوصة على هذه الأعضاء، دالة على صدور تلك الأعمال منهم، عدول عن الحقيقة إلى المجاز. والأصل عدمه.
ثم قال: وهذه الآية يحسن التمسك بها في بيان أن البينة ليست شرطاً للحياة، ولا لشيء من الصفات المشروطة بالحياة. فالله تعالى قادر على خلق العقل، والقدرة، والنطق في كل جزء من أجزاء هذه الأعضاء. والله أعلم. تنبيه:
قال الرازي: نقل عن ابن عباس أنه قال: المراد من شهادة الجلود شهادة الفروج، وإنه من باب الكنايات كما قال:
{ { وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً } [البقرة: 235] وأراد النكاح. وقال: { { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ } [النساء: 43] و [المائدة: 6]، والمراد قضاء الحاجة. فتكون الآية وعيداً شديداً في الزنى. انتهى.
وقد أشار الإمام ابن الأثير في "المثل السائر" إلى ترجيح هذا المعنى. حيث ذكر هذه الآية في الترجيح الذي يقع بين معنيين، يدل عليهما لفظ واحد، يكون حقيقة في أحدهما، مجازاً في الآخر، وعبارته: الجلود ههنا تفسر حقيقة ومجازاً. أما الحقيقة فيراد بها الجلود مطلقاً، وأما المجاز فيراد بها الفروج خاصة، وهذا هو المانع البلاغي الذي يرجح جانب المجاز على الحقيقة، لما فيه من لطف الكناية عن المكنى عنه.
وقد يسأل ههنا في الترجيح بين الحقيقة والمجاز، عن غير الجانب البلاغي. ويقال: ما بيان هذا الترجيح؟ فيقال: طريقة لفظ الجلود عام، فلا يخلو إما أن يراد به الجلود مطلقاً، أو يراد به الجوارح التي هي أدوات الأعمال خاصة، ولا يجوز أن يراد به الجلود على الإطلاق، لأن شهادة غير الجوارح التي هي الفاعلة، شهادة باطلة؛ إذ هي شهادة غير شاهد. والشهادة هنا يراد بها الإقرار. فتقول اليد: أنا فعلت كذا وكذا. وتقول الرجل: أنا مشيت إلى كذا وكذا. وكذلك الجوارح الباقية تنطق مُقرّة بأعمالها. فترجح بهذا أن يكون المراد به شهادة الجوارح. وإذا أريد به الجوارح، فلا يخلو إما أن يراد به الكل أو البعض.
فإن أريد به الكل، دخل تحته السمع والبصر، ولم يكن لتخصيصهما بالذكر فائدة. وإن أريد به البعض، فهو بالفرج أخص منه بغيره من الجوارح؛ لأمرين:
أحدهما - أن الجوارح كلها قد ذكرت في القرآن الكريم شاهدة على صاحبها بالمعصية ما عدا الفرج. فكان حمل الجلد عليه أولى، ليستكمل ذكر الجميع.
الآخر - إنه ليس في الجوارح ما يكره التصريح بذكره إلا الفرج، فكنى عنه بالجلد؛ لأنه موضع يكره التصريح فيه بالمسمى على حقيقته.
فإن قيل: إن تخصيص السمع والبصر بالذكر، من باب التفصيل، كقوله تعالى:
{ { فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } [الرحمن: 68]. والنخل والرمان من الفاكهة. قلت في الجواب: هذا القول عليك لا لك؛ لأن النخل والرمان إنما ذكرا لتفضيلٍ لهما في الشكل، أو في الطعم، والفضيلة ههنا في ذكر الشهادة، إنما هي تعظيم لأمر المعصية. وغير السمع والبصر أعظم في المعصية؛ لأن معصية السمع إنما تكون في سماع غيبة، أو في سماع صوت مزمار، أو وتر، أو ما جرى هذا المجرى. ومعصية البصر إنما تكون في النظر إلى محرم: وكلتا المعصيتين لا حدّ فيها. وأما المعاصي التي توجد من غير السمع والبصر، فأعظم؛ لأن معصية اليد توجب القطع، ومعصية الفرج توجب جلد مائة، أو الرجم. وهذا أعظم. فكان ينبغي أن تخص بالذكر دون السمع والبصر، وإذا ثبت فساد ما ذهبت إليه، فلم يكن المراد بالجلود إلا الفروج خاصة. انتهى كلام ابن الأثير. وناقشه ابن أبي الحديد في "الفلك الدائر" بما محصله: أن حمل الجلد على الفرج إنما يتعين، إذا كان بين لفظتي الجلد، والفرج، أو معناهما مناسبة، ولا نجد مناسبة إلا أن يكون لأجل أن الجلد جزء من أجزاء ماهية الفرج. فعبر عن الكل بالبعض، وهو بعيد جداً. انتهى.
وأقول: مقصود من أثر عنه إرادة الفروج بالجلود هو إرادة الفرد الأهم والأقوى؛ وذلك لأن الجلود تصدق على ما حواه الجسم من الأعضاء والعضلات التي تكتسب الجريمة، ولا يخفى أن أهمها بالعناية , وأولاها بالإرادة هو الفرج؛ لأن معصيتها تربى على الجميع، وقد عهد في مفسري السلف اقتصارهم في التأويل من العام على فرده الأهم. كقصرهم: { سَبِيْل اللَّهِ } على الجهاد، مع أن: { سَبِيْل اللَّهِ } يصدق على كل ما فيه خير وقربة، ونفع ومعونة، على الطاعة، إلا أن أهم الجميع هو جهاد الذين يصدون عن الحق. فذكر الجهاد لا ينفي غيره. وهذه فائدة ينبغي أن يحرص على فهمها كل من له عناية بالتفسير. فإنها من فوائده الجليلة، وينحل بها إشكالات ليست بالقليلة. والله الموفق.
وقوله تعالى: { وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } إما من تمام كلام الجلود، أو مستأنف من كلامه تعالى: وعلى كل، فهو مقرر لما قبله، بأن القادر على الخلق أول مرة، قادر على إنطاق كل شيء.