خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ
٣٣
-فصلت

محاسن التأويل

{ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } أي: لا أحد أحسن مقالاً ممن دعا الناس إلى عبادته تعالى، وكان من الصالحين المؤتمرين، والمسلمين وجوههم إليه تعالى في التوحيد.
لطائف:
الأولى - قال القاشاني: وإنما قدم الدعوة إلى الحق والتكميل؛ لكونه أشرف المراتب، ولاستلزامه الكمال العلمي والعملي، وإلا لما صحت الدعوة. انتهى.
الثانية - في الآية إشارة إلى ترغيبه صلى الله عليه وسلم في الإعراض عن المشركين، وعما كانوا يقولونه من اللغو في التنزيل، مما قصه تعالى عنهم فيما تقدم. وإرشاده إلى المواظبة على التبليغ، والدعوة، ببيان أن ذلك أحسن الطاعات ورأس العبادات، فهذا هو سر انتظام هذه الآية في إثر ما سبق. وثمة وجه آخر. وهو أن مراتب السعادات اثنان: كامل وأكمل. أما الكامل فهو أن يكتسب من الصفات الفاضلة ما لأجلها يصير كاملاً في ذاته. فإذا فرغ من هذه الدرجة، اشتغل بعدها بتكميل الناقصين.
فقوله تعالى:
{ { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } [فصلت: 30] و [الأحقاف: 13]، إشارة إلى المرتبة الأولى. وهي اكتساب الأحوال التي تفيد كمال النفس في جوهرها. فإذا حصل الفراغ من هذه المرتبة، وجب الانتقال إلى المرتبة الثانية، وهي الانتقال بتكميل الناقصين، وذلك إنما يكون بدعوة الخلق إلى الدين الحق، وهو المراد من قوله تعالى: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً } الآية. واعلم أن من آتاه الله قريحة قوية، ونصيباً وافياً من العلوم الإلهية، عرف أنه لا ترتيب أحسن ولا أكمل من ترتيب آيات القرآن، أفاده الرازي.
الثالثة - يدخل في الآية كل من دعا إلى الله بطريق من الطرق المشروعة، وسبيل من السبل المأثورة؛ لأن الدعوة الصحيحة هي الدعوة النبوية، ثم ما انتهج منهجها في الصدع بالحق، وإيثاره على الخلق.
الرابعة - في الآية دليل على وجوب الدعوة إلى الله تعالى - على ما قرره الرازي - لأن الدعوة إلى الله أحسن الأعمال، وكل ما كان أحسن الأعمال، فهو واجب.
الخامسة - احتج من جوز قول: أنا مسلم. بدون تعليق على المشيئة بهذه الآية. وقال: إطلاقها يدل على أن ذلك هو الأولى، والمسألة معروفة بسطها الغزالي في "الأحياء".
وللإمام ابن حزم في "الفِصل" تحقيق لطيف لا بأس بإيراده. قالرحمه الله : اختلف الناس في قول المسلم: أنا مؤمن. فروينا عن ابن مسعود وجماعة من أصحابه الأفاضل، ومن بعده من الفقهاء، أنه كره ذلك. وكان يقول: أنا مؤمن إن شاء الله. وقال بعضهم: آمنت بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله. وكانوا يقولون: من قال أنا مؤمن، فليقل إنه من أهل الجنة.
ثم قال ابن حزم: والقول عندنا في هذه المسألة، أن هذه صفة يعلمها المرء من نفسه. فإن كان يدري أنه مصدق بالله عز وجل، وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبكل ما أتى به عليه السلام، وأنه يقر بلسانه بكل ذلك، فواجب عليه أن يعترف بذلك. كما أمر تعالى، إذا قال تعالى:
{ { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } [الضحى: 11] ولا نعمة أوكد، ولا أفضل، ولا أولى بالشكر، من نعمة الإسلام. فواجب عليه أن يقول: أنا مسلم قطعاً عند الله تعالى، وفي وقتي هذا. ولا فرق بين قوله: أنا مؤمن مسلم. وبين قوله: أنا أسود وأنا أبيض.
وهكذا سائر صفاته التي لا يشك فيها. وليس هذا من باب الامتداح، والتعجب في شيء؛ لأنه فرض عليه أن يحص دمه بشهادة التوحيد. قال تعالى:
{ { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [البقرة: 136]، وقول ابن مسعود عندنا صحيح؛ لأن الإسلام والإيمان اسمان منقولان عن موضوعهما في اللغة، إلى جميع البر والطاعات، فإنما منع ابن مسعود من القول بأنه مسلم مؤمن، على معنى أنه مستوف لجميع الطاعات. وهذا صحيح. ومن ادعى لنفسه هذا فقد كذب بلا شك، وما منع رضي الله عنه من أن يقول المرء: إني مؤمن. بمعنى مصدق. كيف؟ وهو يقول: قل آمنت بالله ورسله. أي: صدقت. وأما من قال فقل إنك في الجنة، فالجواب أننا نقول: إن متنا على ما نحن عليه الآن، فلا بد لنا من الجنة بلا شك. وبرهان ذلك أنه قد صح من نصوص القرآن، والسنة، والإجماع، أن من آمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وبكل ما جاء به، ولم يأت بما هو كفر، فإنه في الجنة، إلا أننا لا ندري ما يفعل بنا في الدنيا، ولا نأمن من مكر الله تعالى، ولا إضلاله، ولا كيد الشيطان، ولا ندري ماذا نكسب غداً، ونعوذ بالله من الخذلان. انتهى.