خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ
١٠
يَغْشَى ٱلنَّاسَ هَـٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ
١١
رَّبَّنَا ٱكْشِفْ عَنَّا ٱلْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ
١٢
-الدخان

محاسن التأويل

{ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ } أي انتظر لمجازاتهم ذلك اليوم الهائل، ولا يستعمل الارتقاب إلا في أمر مكروه. وللسلف في معنى الدخان ثلاثة أوجه:
الأول - قال بعضهم: كان ذلك حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش أن يؤخذوا بسنين كسنين يوسف، فأخذوا بالمجاعة. قالوا: وعنى بالدخان ما كان يصيبهم حينئذ في أبصارهم من شدة الجوع، من الظلمة كهيئة الدخان، روى ابن جرير عن مسروق قال: كنا عند عبد الله بن مسعود جلوساً وهو مضطجع بيننا. فأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن: إن قاصاً عند أبواب كندة يقص ويزعم أن آية الدخان تجيء فتأخذ بأنفاس الكفار، ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكام، فقال:
يا أيها الناس! اتقوا الله. فمن علم شيئاً فليقل بما يعلم , ومن لا يعلم فليقل: الله أعلم؛ فإنه أعلم لأحدكم أن يقول لما لا يعلم الله أعلم. وما على أحدكم أن يقول لما لا يعلم: لا أعلم؛ فإن الله عز وجل يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم:
{ { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } [ص: 86]، إن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى من الناس إدباراً قال: "اللهم سبعاً كسبع يوسف" . فأخذتهم سنة حصّت كل شيء حتى أكلوا الجلود، والميتة، والجيف. ينظر أحدهم إلى السماء فيرى دخاناً، من الجوع.
فأتاه أبو سفيان بن حرب فقال: يا محمد! إنك جئت تأمرنا بالطاعة وبصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا، فادع الله لهم.... قال عز وجل:
{ { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } ، إلى قوله: { { إِنَّكُمْ عَائِدُونَ } [الدخان: 15]، قال: فكشف عنهم: { { يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ } [الدخان: 16]، فالبطشة يوم بدر. وقد مضت آية الروم، وآية الدخان، والبطشة واللزام.
قال ابن كثير: وهذا الحديث مخرج في "الصحيحين"، ورواه الإمام أحمد في "مسنده" وهو عند الترمذي والنسائي في "تفسيرهما"، وعند ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق متعددة، وقد وافق ابن مسعود رضي الله عنه على تفسير الآية بهذا، وأن الدخان مضى، جماعةٌ من السلف كمجاهد، وأبي العالية، وإبراهيم النَّخَعِي، والضحاك، وعطية العوفي، وهو اختيار ابن جرير. قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": والظاهر أن مجيء أبي سفيان كان قبل الهجرة. لقول ابن مسعود: ثم عادوا. ولم ينقل أن أبا سفيان قدم المدينة قبل بدر. وعلى هذا فيحتمل أن يكون أبو طالب كان حاضراً ذلك. فلذلك قال:

وَأَبْيَضُ يُسْتَسْقَى الْغَمَاْمُ بِوَجْهِهِ

لكن روي ما يدل على أن القصة المذكورة وقعت بالمدينة، فإن لم يحمل على التعدد، وإلا فهو مشكل جداً. والله المستعان. انتهى.
وذكر ابن قتيبة في تفسير الدخان على هذا معنيين:
أحدهما - أن في سنة القحط يعظم يبس الأرض بسبب انقطاع المطر، ويرتفع الغبار الكثير، ويظلم الهواء. وذلك يشبه الدخان ولهذا يقال لسنة المجاعة: الغبراء.
ثانيهما - أن العرب يسمون الشر الغالب بالدخان، فيقولون: كان بيننا أمر ارتفع له دخان. والسبب فيه أن الْإِنْسَاْن إذا اشتد خوفه أو ضعفه، أظلمت عيناه، فيرى الدنيا كالمملوءة من الدخان. انتهى.
و قال الشهاب: الظاهر أن هذه التسمية استعارة؛ لأن الدخان مما يتأذى به، فأطلق على كل مؤذٍ يشبهه، أو على ما يلزمه، ولذا قيل:

تُرِيْدُ مُهَذَّباً لَاْ عَيْبَ فِيْهِ وَهَلْ عَوْدٌ يَفُوْحُ بِلَاْ دُخَاْنِ

الوجه الثاني في الآية - أنه دخان يظهر في العالم، وهو إحدى علامات القيامة، ولم يأت بعد، وهو آت وهو قول حذيفة. ويروى عن عليّ وابن عباس وجمع من التابعين. قال الرازي: واحتج القائلون بهذا القول بوجوه:
الأول - أن قوله: { يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ } يقتضي وجود دخان تأتي به السماء. وما ذكرتموه من الظلمة الحاصلة في العين بسبب شدة الجوع، فذاك ليس بدخان أتت به السماء. فكان حمل لفظ الآية على هذا الوجه، عدولاً عن الظاهر، لا لدليل منفصل، وإنه لا يجوز.
الثاني - أنه وصف ذلك الدخان بكونه مبيناً، والحالة التي ذكرتموها ليست كذلك لأنها عارضة تعرض لبعض الناس في أدمغتهم، ومثل هذا لا يوصف بكونه دخاناً مبيناً.
والثالث - أنه وصف ذلك الدخان بأنه يغشي الناس. وهذا إنما يصدق إذا وصل ذلك الدخان إليهم واتصل بهم، والحالة التي ذكرتموها لا تغشي الناس إلا على سبيل المجاز. وقد ذكرنا أن العدول من الحقيقة إلى المجاز لا يجوز إلا لدليل منفصل.
الرابع - ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من عدّه الدخان من الآيات المنتظرة. أما القائلون بالقول الأول، فلا شك أن ذلك يقتضي صرف اللفظ عن حقيقته إلى المجاز، وذلك لا يجوز إلا عند قيام دليل يدل على أن حمله على حقيقته ممتنع، والقوم لم يذكروا ذلك الدليل، فكان المصير إلى ما ذكروه مشكلاً جداً. فإن قالوا: الدليل على أن المراد ما ذكرناه أنه تعالى حكى عنهم أنهم يقولون: { رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ } وهذا، إذا حملناه على القحط الذي وقع بمكة، استقام. فإنه نقل أن التقحط لما اشتد، بمكة مشى إليه أبو سفيان , وناشده بالله وبالرحم، ووعده أنه إن لهم وأزال الله عنهم تلك البلية، أن يؤمنوا به. فلما أزال الله تعالى عنهم ذلك رجعوا إلى شركهم.
أما إذا حملناه على أن المراد منه ظهور علامة من علامات القيامة، لم يصح ذلك؛ لأن عند ظهور علامات القيامة. لا يمكنهم أن يقولوا: { رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ } ولم يصح أيضاً أن يقال لهم: { إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ } والجواب: لم لا يجوز أن يكون ظهور هذه العلامة جارياً مجرى ظهور سائر علامات القيامة، في أنه لا يوجب انقطاع التكليف، فتحدث هذه الحالة. ثم إن الناس يخافون جداً فيتضرعون. فإذا زالت تلك الواقعة عادوا إلى الكفر والفسق، وإذا كان هذا محتملاً، فقد سقط ما قالوه، والله أعلم. انتهى كلام الرازي.
وهكذا رجح الإمام ابن كثير الوجه الثاني، ذهاباً إلى ما صح عن ابن عباس، ترجمان القرآن ومن وافقه من الصحابة والتابعين، مع الأحاديث المرفوعة الصحاح , والحسان وغيرهما، التي أوردوها، مما فيه مقنع ودلالة ظاهرة، على أن الدخان من الآيات المنتظرة. مع أنه ظاهر القرآن، قال الله تبارك وتعالى: { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ } أي: بين واضح يراه كل أحد. وعلى ما فسر به ابن مسعود رضي الله عنه، إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد. وهكذا قوله تعالى: { يَغْشَى النَّاسَ } أي: يتغشاهم ويعمهم. ولو كان أمراً خيالياً يخص أهل مكة المشركين لما قيل فيه: { يَغْشَى النَّاسَ } وقوله تعالى: { هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي: يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً. كقوله عز وجل:
{ { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ } [الطور: 13 - 14]، أو يقول بعضهم لبعض ذلك.
وقوله سبحانه وتعالى: { رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ } أي: يقول الكافرون إذا عاينوا عذاب الله وعقابه، سائلين رفعه , وكشفه عنهم، كقوله جلت عظمته:
{ { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [الأنعام: 27]، وكذا قوله جل وعلا: { { وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ } [إبراهيم: 44]. وهكذا قال جل جلاله.