خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٥
-الحجرات

محاسن التأويل

{ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } أي: لأن خروجه باستعجالهم ربما يغضبه، فيفوتهم فوائد رؤيته وكلامه. وإن صبروا استفادوا فوائد كثيرة، مع اتصافهم بالصبر، ورعاية الحرمة لنبيهم وأنفسهم: { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي: لمن تاب من معصية الله، بندائك كذلك، وراجع أمر الله فيه، وفي غيره. تنبيهات:
الأول - قال ابن كثير: قد ذكر أنها نزلت في الأقرع بن حابس التميمي، فيما أورده غير واحد.
روى الإمام أحمد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن الأقرع بن حابس؛
"أنه نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! يا محمد! - وفي رواية: يا رسول الله! - فلم يجبه. فقال: يا رسول الله! إن حمدي لزين، وإن ذمّي لشين، فقال: ذاك الله عز وجل" .
وروى ابن إسحاق، في ذكر سنة تسع، وهي المسماة سنة الوفود "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما افتتح مكة، وفرغ من تبوك، وأسلمت ثقيف وبايعت، ضربت إليه وفود العرب من كل وجه، فكان منهم وفد بني تميم. فلما دخلوا المسجد نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته: أن أخرج إلينا يا محمد! فآذى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من صياحهم، فخرج إليهم" . ثم ساق ابن إسحاق نبأهم مطولاً ثم قال: وفيهم نزل من القرآن: { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ }.
الثاني -: { الْحُجُرَاتِ } بضمتين، وبفتح الجيم، وبسكونها. وقرئ بهن جميعاً: جمع حجرة. وهي الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوّط عليها. فعلة بمعنى مفعولة، كالغرفة والقبضة.
قال الزمخشري: والمراد حجرات نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت لكل واحدة منهن حجرة. ومناداتهم من ورائها يحتمل أنهم قد تفرقوا على الحجرات، متطلبين له، فناداه بعض من وراء هذه، وبعض من وراء تلك، وأنهم قد أتوها حجرة حجرة، فنادوه من ورائها. وأنهم نادوه من وراء الحجرة التي كان فيها. ولكنها جمعت إجلالاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكمان حرمته. والفعل - وإن كان مسنداً إلى جميعهم - فإنه يجوز أن يتولاه بعضهم، وكان الباقون راضين، فكأنهم نولوه جميعاً.
الثالث - قال الزمخشري: ورود الآية على النمط الذي وردت عليه، فيه ما لا يخفى على الناظر من بينات إكبار محل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلاله. منها - مجيئها على النظم المسجل على الصائحين به، بالسفه والجهل، لما أقدموا عليه.
ومنها - لفظ: { الْحُجُرَاتِ } وإيقاعها، كناية عن موضع خلوته ومقيله مع بعض نسائه.
ومنها - المرور على لفظها بالاقتصار على القدر الذي تبين به ما استنكر عليهم.
ومنها - التعريف باللام دون الإضافة.
ومنها - أن شفع ذمهم باستجفائهم واستركاك عقولهم، وقلة ضبطهم لمواضع التمييز في المخاطبات، تهويناً للخطب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسلية له، وإماطة لما تداخله من إيحاش تعجزهم، وسوء أدبهم، وهلم جرا... من أول السورة إلى آخر هذه الآية. فتأمل كيف ابتدئ بإيجاب أن تكون الأمور التي تنتمي إلى الله ورسوله، متقدمة على الأمور كلها، من غير حصر ولا تقييد. ثم أردف ذلك النهي عما هو من جنس التقديم من رفع الصوت والجهر، كأن الأول بساط الثاني، ووطاء لذكره. ثم ذكر ما هو ثناء على الذين تحاموا ذلك، فغضوا أصواتهم، دلالة على عظيم موقعه عند الله. ثم جيء على عقب ذلك بما هو أطم، وهجنته أتم، من الصياح برسول الله صلى الله عليه وسلم، في حال خلوته ببعض حرماته من وراء الجدر، كما يصاح بأهون الناس قدراً، لينبه على فظاعة ما أجروا إليه، وجسروا عليه، لأن من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول، حتى خاطبه جلّة المهاجرين والأنصار بأخي السرار، كان صنيع هؤلاء من المنكر الذي بلغ من التفاحش مبلغاً. ومن هذا وأمثاله يقتطف ثمر الألباب، وتقتبس محاسن الآداب، كما يحكى عن أبي عبيد - ومكانه من العلم والزهد وثقة الرواية ما لا يخفى - أنه قال: ما دققت باباً على عالم قط، حتى يخرج في وقت خروجه. انتهى.
الرابع - قال ابن كثير: قال العلماء: يكره رفع الصوت عند قبره صلى الله عليه وسلم، كما كان يكره في حياته؛ لأنه محترم حياً، وفي قبره صلى الله عليه وسلم. وقد روينا عن أمير المؤمنين عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع صوت رجلين في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قد ارتفعت أصواتهما، فحصبهما. ثم ناداهما فقال: من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف. قال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً. انتهى.
الخامس - روى البخاري عن عبد الله بن الزبير أنه قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: أمّر القعقاع بن مَعْبَد، وقال عمر: أمر الأقرع بن حابس. فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي! فقال عمر: ما أردت خلافك! فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما. فنزل في ذلك: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } حتى انقضت الآية.
وفي رواية: فأنزل الله في ذلك: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُم } الآية.
قال ابن الزبير: فما كان عمر يُسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه. وقد انفرد بهاتين الرايتين البخاري دون ومسلم.
قال الحافظ ابن حجر: وقد استشكل ذلك! قال ابن عطية: الصحيح أن سبب نزول هذه الآية كلام جفاة الأعراب.
قال ابن حجر: قلت: لا يعارض ذلك هذا الحديث، فإن الذي يتعلق بقصة الشيخين في تخالفهما في التأمير هو أول السورة: { لَا تُقَدِّمُوا } ولكن لما اتصل بها قوله: { لَا تَرْفَعُواْ } تمسك عمر منها بخفض صوته. وجفاة الأعراب الذين نزلت فيهم هم من بني تميم، والذين يختص بهم، وقوله: { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ } انتهى.
وتقدم لنا مراراً الجواب عن أمثاله، بأن قولهم: نزلت الآية في كذا، قد يكون المراد به الاستشهاد على أن مثله مما تتناوله الآية، لا أنه سبب لنزولها.
قال الإمام ابن تيمية: قولهم نزلت هذه الآية في كذا، يراد به تارة سبب النزول، ويراد به تارة أن ذلك داخل في الآية، وإن لم يكن السبب. كما تقول: عنى بهذه الآية كذا. انتهى.
وبه يجاب عما يرويه كثير من تعدد سبب النزول، فاحفظه، فإنه من المضنون به على غير أهله. ولو وقف عليه ابن عطية لما ضعف رواية البخاري، ولما تمحل ابن حجر لتفكيك الآيات بجعل بعضها لسبب. وبعضها الآخر، في قصة واحدة. وبالله التوفيق. وقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا... }.