خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَٰبَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىٰ نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنتُمْ وَلاَ ءَابَآؤُكُمْ قُلِ ٱللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ
٩١
-الأنعام

محاسن التأويل

{ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } أي: ما عظموه حق تعظيمه و: { حق } نصب على المصدرية، وهو في الأصل صفة للمصدر. أي: قَدْرَهُ الحق، فلما أَضيف إلى موصوفه انتصب على ما كان ينتصب عليه موصوفه { إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ } أي: حين اجترؤوا على التفوه بهذه الجملة الشنعاء، وذلك منهم مبالغة في إنكار إنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألزموا بما لا سبيل لهم إلى إنكاره أصلاً، حيث قيل في جواب سلبهم العام، بإثبات قضية جزئية بديهية التسليم:
{ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً } حال من الضمير في: { به } أو من: { الكتاب } { وَهُدىً لِلنَّاسِ } أي: ضياء من ظلمة الجهالة، وبياناً يفرق بين الحق والباطل { تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا }: يجزئونه أوراقاً يبدونها للناس مما ينتخبونه. أي: فكيف ينكر إنزال شيء، وهذا المنزل المذكور ظاهر للعيان. والعدول عن التوراة إلى ذكر الكتاب وصفته، والحال بعده - لزيادة التقريع، وتشديد التبكيت، وإلقام الحجر { وَتُخْفُونَ كَثِيراً } معطوف على ( تُبْدُونَهَا )، والعائد محذوف. أي: كثيراً منها. أو كلام مبتدأ لا محل له من الإعراب. أي: وهم يخفون كثيراً. أي: ومع ذلك فالإلزام يكفي بما يبدونه، المعترف لديهم بحقيّته. وفيه نعي على أهل الكتاب بسوء صنيعهم المذكور، إذ ما يريدون بإخفاء كثير منها إلا تبديل الدين.
{ وَعُلِّمْتُمْ } أي: على لسان محمد صلى الله عليه وسلم: { مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ } من المعارف التي لا يرتاب في أنها تنزيل رباني { قُلِ اللَّهُ } أي: أنزله الله، أو الله أنزله. أَمَرَهُ بأنه يجيب عنهم، إشعاراً بأن الجواب متعين لا يمكن غيره، وتنبيهاً على أنهم بُهِتُوا، بحيث إنهم لا يقدرون على الجواب.
{ ثُمَّ } بعد التبليغ وإلزام الحجة: { ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ } أي: في باطلهم: { يَلْعَبُونَ } أي: يفعلون فعل اللاعب، وهو ما لا يجر لهم نفعاً، ولا يدفع عنهم ضرراً، مع تضييع الزمان.
تنبيه
في هذه الآية قولان:
الأول -أنها مكية النزول تبعاً للسورة، وأن القائل ذلك هم المشركون، وإلزامهم إنزال التوراة، لما أنه كان عندهم من المشاهير الذائعة، وهذا هو الظاهر.
قال ابن كثير: قال ابن عباس، ومجاهد وعبد بن كثير: هذه الآية نزلت في قريش، واختاره ابن جرير. قال ابن كثير: وهو الأصح، لأن اليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء، وأما كفار قريش فكانوا ينكرون رسالة النبيّ صلى الله عليه وسلم، لأنه من البشر كما قال تعالى: { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ } [يونس: 2]. وكقوله تعالى: { وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً } [الإسراء: 94]. وكذا قالوا هنا: { مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ }. فألزموا بإنزال الكتاب الذي جاء به موسى، وهو التوراة التي علموا هم وكل أحد أن الله أنزلها على موسى تكذيباً لقولهم، وإيقافاً على عنادهم. ومعلوم ما كان بين قريش ويهود المدينة من التعارف، وتسليم قريش أنهم أهل كتاب، وأنهم أعلم منهم لأجله، مما يوجب اعترافهم بحقية التوراة، وأنها منزلة من لدنه تعالى، وعلى هذا القول، فالقراءة بالياء التحتية ظاهرة. وعلى قراءة الخطاب، فهو التفات من خطاب قوم إلى خطاب قوم آخرين. وهو التفات عند الأدباء - حكاه الخفاجي - وإنما جعل من الانتقال عن خطابهم إلى خطاب اليهودية، تعريضاً لهم بأن إنكارهم إنزال الله تعالى من جنس فعل هؤلاء بالتوراة في البطلان، وعدم الإسناد إلى برهان. ثم القول بأن الخطاب في: { عُلِّمْتُم } لمؤمني قريش. لا يقتضيه السياق ولا السباق، وفيه تفكيك للنظم الجليل، كالقول بأنه اعتراض للامتنان على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأتباعه، لهدايتهم للمجادلة بالتي هي أحسن. بل الخطاب فيه كسابقه، والمراد بتعليمهم، وهم مشركون، ما يسمعونه ويتلقفونه من النبيّ صلى الله عليه وسلم وصحابته، من فرائد الوحي وفوائده، مما لا يرتاب في تنزيلها، كما أوضحناه قبل.
القول الثاني - إن هذه الآية مدنية النزول. ولا يرد أن هذه السورة مكية، ومناظرات اليهود كانت في المدينة، لأن كثيراً من السور المكية ألحقت بها آيات مدنية، وحينئذ فقولهم ( هذه السورة مكية ) أي: إلا ما استثني مما ألحق بها، كما أوضحه السيوطي في " الإتقان " وساق له شواهد. وقد أشرنا إلى ذلك أول هذه السورة، فتذكر !.
ثم القائلون بأنها مدنية، منهم من قال: نزلت في طائفة من اليهود، أو في فنحاص، أو في مالك بن الصيف. أخرج ابن جرير من طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: قالت اليهود: والله ما أنزل الله من السماء كتاباً، فأنزلت.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير - مرسلاً- قال: جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف، فخاصم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين - وكان حبراً سميناً -؟ فغضب وقال: ما أنزل الله على بشر من شيء ! فقال له أصحابه: ويحك ! ولا على موسى؟ فأنزل الله: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ }.. الآية. قال البغويّ: وفي القصة أن مالك بن الصيف، لما سمعت اليهود منه تلك المقالة، عتبوا عليه، وقالوا: أليس الله أنزل التوراة على موسى، فلم قلت: ما أنزل الله من شيء؟ فقال مالك بن الصيف: أغضبني محمد، فقلت ذلك ! فقالوا له: وأنت إذا غضبت تقول على الله غير الحق ! فنزعوه عن الحبرية. وبعد الوقوف على ذلك، فلا معنى لاعتراض بعضهم بأن مالك بن الصيف كان مفتخراً بكونه يهودياً متظاهراً بذلك، ومع هذا المذهب لا يمكنه البتة أن يقول: ما أنزل الله على بشر من شيء، لأنه تبين أنه قال ذلك متغيظاً، وقد أخذ الغضب منه مأخذه عناداً ومكابرة، توصلاً لدفع ما يريده. وقد يبلغ الحمق بصاحبه إلى حدٍّ يتبرأ فيه من مذهبه ومعتقده، إغاظة لخصمه على زعمه. وبوادر اللسان في حق المولى تعالى وتقدس، مما لا تغتفر، ولذا بين تعالى جهل ذاك القائل بقوله: { وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ }.
قال العلامّة البقاعيّ: لأن من نسب ملكاً تام الملك إلى أنه لم يبث أوامره في رعيته بما يرضيه ليفعلوه، وما يسخطه ليجتنبوه، فقد نسبه إلى نقص عظيم. فكيف إذا كانت تلك النسبة كذباً؟ وإنما أسند إلى الكل -والقائل بعضهم -لأنهم لم يردّوا على قائله، ولم يعالجوه بالأخذ على يده، تهويلاً للأمر، وبياناً لأنه يجب على كل من سمع بآيه من آيات الله أن يسعى إليها، ويتعرف أمورها، فمن طعن فيها أخذ على يده بما تصل إليه قدرته، فقال مشيراً إلى اليهود قائلوا ذلك. ملزماً لهم بالاعتراف بالكذب، أو المساواة للأميّين في التمسك بالهوى دون كتاب، موبخاً لهم، ناعياً عليهم سوء جهلهم، وعظيم بهتهم، وشدة وقاحتهم، وعدم حيائهم: { قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى }؟ أي: قل لهؤلاء السفهاء الذين تجرأوا على هذه المقالة، غير ناظرين في عاقبتها، وما يلزم منها، توبيخاً لهم، وتوقيفاً على شنيع جهلهم: { مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى } الذي أنتم تزعمون التمسك بشرعه: { تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ } أي: أوراقاً مفرقة، لتتمكنوا بها من إخفاء ما أردتم { تُبْدُونَهَا } للناس أي: تظهرونها للناس { وَتُخْفُونَ كَثِيراً } أي: منها مما تريدون به تبديل الدين. هذا على قراءة الفوقانية. وعلى قراءة التحتانية التفات مؤذن بشدة الغضب، مشير إلى أن ما قالوه حقيق بأن يستحي من ذكره، فكيف بفعله. وقوله: { وَعُلِّمْتُم } أي: أيها اليهود بالكتاب الذي أنزل على موسى: { مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ } أي: أيها اليهود من أهل هذا الزمان: { وَلاَ آبَاؤُكُمْ } أي: الأقدمون. انتهى كلام البقاعيّرحمه الله تعالى. وفي قوله: ( وإنما أسند إلى الكل.. ) إلى آخره، نظر. لأن إسناده ليس إليهم، لأنهم رضوا به، لأن القصة السالفة تدل على خلافه. وللبقاعيرحمه الله وجه آخر في الآية. قال: ويمكن أن تكون مكية، ويكون قولهم هذا حين أرسلت إليهم قريش تسألهم عنه صلى الله عليه وسلم في أمر رسالته، فاحتج عليهم بإرسال موسى عليه السلام، وإنزال التوراة عليه. انتهى. وهو قريب وجيه جدّاً.
وبالجملة، فالآية الكريمة من صادقة مع الأوجه المذكورة، وتتنزل في التأويل، على ما بينا في كلٍ تنزيلاً لا شائبة معه لإشكال مّا. وقد استصعب الرازي تأويلها، وأخذ يحاول أسئلة هي على طرف الثُّمام، بعد النظر فيما بينّا، فالحمد الله الذي هدانا لهذا.
لطائف
الأولى -قال أبو السعودرحمه الله : ليس المراد بالآية مجرد إلزامهم بالاعتراف بإنزال التوراة فقط، بل بإنزال القرآن أيضاً، فإن الاعتراف بإنزالها مستلزم للاعتراف بإنزاله قطعاً، لما فيها من الشواهد الناطقة به.
الثانية - قال أيضاً في قوله تعالى: { تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ } أي: تضعونه في قراطيس مقطعة، وورقات مفرقة، بحذف الجار، بناء على تشبيه القراطيس بالظرف المبهم، أو تجعلونه نفس القراطيس المقطعة. وفيه زيادة توبيخ لهم بسوء صنيعهم، كأنهم أخرجوه من جنس الكتاب، ونزلوه منزلة القراطيس الخالية عن الكتابة.
الثالثة - في قوله تعالى: { تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً } دلالة على أنه لا يجوز كتم العلم الدينيّ عمن يهتدي به. قاله بعض الزيدية.
ولما أبطل تعالى كلمتهم الشنعاء بتقرير إنزال التوراة، بين تنزيل ما يصدقها بقوله:
{ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ ... }.