خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ ٱلنَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّٰتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَٰبِهٍ ٱنْظُرُوۤاْ إِلِىٰ ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذٰلِكُمْ لأَيَٰتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
٩٩
-الأنعام

محاسن التأويل

{ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } أي: من السحاب، لقوله تعالى: { { أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ } [الواقعة: 68 - 69]. وسمي السحاب سماءً، لأن العرب تسمي كل ما علا سماء.
{ فَأَخْرَجْنَا بِهِ } التفت إلى التكلم إظهاراً لكمال العناية بشأن ما أنزل الماء لأجله أي: فأخرجنا بعظمتنا بذلك الماء، مع وحدته: { نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ } أي: صنف من أصناف النبات والثمار المختلفة الطعوم والألوان، كقوله تعالى:
{ { يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ } [الرعد: 4].
{ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ } أي: من النبات، يعني أصوله: { خَضِراً } أي: شيئاً غضّاً أخصر. يقال: أخضر وخضر، كأعور وعور، وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة { نُخْرِجُ مِنْهُ } صفة لـ ( خَضِراً ) وصيغة المضارع، لاستحضار الصورة، لما فيها من الغرابة، أي: نخرج من ذلك الخضر: { حَبّاً مُتَرَاكِباً } أي: متراكماً بعضه على بعض، مثل سنابل البر والشعير والأرز.
قال الرازي: ويحصل فوق السنبلة أجسام دقيقة حادة كأنها الإبر، والمقصود من تخليقها أن تمنع الطيور من التقاط تلك الحبات المتراكبة.
ثم بين تعالى ما ينشأ عن النوى من الشجر، إثر بيان ما ينشأ عن الحب من النبات بقوله سبحانه: { وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ } الطلع: أول ما يبدو من ثمر النخيل كالكيزان يكون نفيه العذق، فإذا شق عنه كيزانه سمي عذقاً ( بكسر العين وسكون الذال المعجمة بعدها ) - وهو القنو، أي: العرجون، بما فيه من الشماريخ، وجمعه قنوان - ( مثلث القاف ) وهو ومثناه سواء، لا يفرق بينهما إلا الإعراب.
قال الزمخشري: قنوان، رفع الابتداء، و ( من النخل ) خبره، و ( من طلعها ) بدل منه، كأنه قيل: وحاصلة من طلع النخل قنوان، انتهى. وجوّز أن يكون ( من النخل ) عطفاً على ( منه ) وما بعده مبتدأ وخبر. أي: وأخرجنا من النخل نخلاً من طلعها قنوان دانية، أي: ملتفة، يقرب بعضها من بعض، أو قريبة من المتناول، وإنما اقتصر على ذكرها لدلالتها على مقابلها، أعني البعيدة، كقوله تعالى: { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } ولزيادة النعمة فيها: { وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ } عطف على ( نبات كل شيء ) أي: وأخرجنا به جنات، أو على ( خضراً ). وقال الطيبيّ: الأظهر أن يكون عطفاً على ( حبّاً ) لأن قوله: ( نبات كل شيء ) مفصل لاشتماله على كل صنف من أصناف النامي، كأنه قال: فأخرجنا بالنامي نبات كل شيء ينبت كل صنف من أصناف النامي، والنامي: الحب والنوى وشبههما. وقوله: { فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً } الخ تفصيل لذلك النبات. أي: أخرجنا منه خضراً بسبب الماء، فيكون بدلاً من ( فأخرجنا ) الأول، بدل اشتمال. ومن ههنا يقع التفصيل، فبعض يخرج منه السنابل ذلت حبوب متكاثرة، وبعض يخرج منه ذات قنوان دانية، وبعض يخرج منه وبعض آخر جنات معروشات.. الخ.
{ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ } العطف فيه كما تقدم: { مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ } حال من ( الزيتون )، اكتفى به عن حال ما بعده. أو من ( الرمان ) لقربه. والمحذوف حال الأول.
قال الزمخشري: يقال اشتبه الشيئان وتشابها، كقولك: استويا وتساويا. والافتعال والتفاعل يشتركان كثيراً. وقُرئ: متشابهاً وغير متشابه. والمعنى: بعضه متشابهاً، وبعضه غير متشابه في الهيئة والمقدار واللون والطعم، وغير ذلك من الأوصاف الدالة على كمال قدرة صانعها، وحكمة منشئها ومبدعها.
{ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ } أي: ثمر كل واحد من ذلك إذا أخرج ثمره، كيف يكون ضئيلاً ضعيفاً، لا يكاد ينتفع به { وَيَنْعِهِ } أي: وإلى حال ينعه ونضجه، كيف يعود شيئاً جامعاً لمنافع وملاذ. أي: انظروا إلى ذلك نظر اعتبار واستبصار واستدلال، على قدرة مقدره ومدبره وناقله، على وفق الرحمة والحكمة، من حال إلى حال، فإن فيه آيات عظيمة دالة على ذلك، كما قال:
{ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي: يصدقون بأن الذي أخرج هذا النبات وهذه الثمار هو المستحق للعبادة دون ما سواه، أو هو القادر على أن يحيي الموتى ويبعثهم. قال بعضهم: القوم كانوا ينكرون البعث، فاحتج عليهم بتصريف ما خلق، ونقله من حال إلى حال، وهو ما يعلمونه قطعاً ويشاهدونه من إحياء الأرض بعد موتها، وإخراج أنواع النبات والثمار منها، وأنه لا يقدر على ذلك أحد إلا الله تعالى. فبين أنه تعالى كذلك قادر على إنشائهم من نفوسهم وأبدانهم، وعلى البعث بإنزال المطر من السماء، ثم إنبات الأجساد كالنبات، ثم جعلها خضرة بالحياة، ثم تصوير الأعمال بصورة كثيرة، وإفادة أمور زائدة، وتفريعها، وإعطاء أطعمة مشتبهة في الصورة، غير متشابهة في اللذة، جراء عليها، والله أعلم -.
لطيفة
قال الرازيّ: اعلم أنه تعالى ذكر ههنا أربعة أنواع من الأشجار: النخل والعنب والزيتون والرمان، وإنما قدم الزرع على الشجر، لأن الزرع غذاء، وثمار الأشجار فواكه، والغذاء مقدم على الفاكهة. وإنما قدم النخل على سائر الفواكه، لأن التمر يجري مجرى الغذاء بالنسبة إلى العرب، ولأن الحكماء بينوا أن بينه وبين الحيوان مشابه في خواص كثيرة، بحيث لا توجد تلك المشابهة في سائر أنواع النبات. ولهذا المعنى قال صلى الله عليه وسلم:
" فإنها خلقت من بقية طينة آدم " . وإنما ذكر العنب عقيب النخل، لأن العنب أشرف أنواع الفواكه، وذلك لأنه من أول ما يظهر يصير منتفعاً به إلى آخر الحال. فأول ما يظهر على الشجر، يظهر خيوط خضر دقيقة حامضة الطعم، لذيذة المطعم، وقد يمكن اتخاذ الطبائخ منه. ثم بعده يظهر الحصرم، وهو طعام شريف للأصحاء والمرضى، وقد يتخذ الحصرم أشربة لطيفة المذاق، نافعة لأصحاب الصفراء، وقد يتخذ الطبيخ منه، فكأنه ألذ الطبائخ الحامضة. ثم إذا تم العنب فهو ألذ الفواكه وأشهاها، ويمكن ادخار العنب المعلق سنة أو أقل أو أكثر، وهو في الحقيقة ألذ الفواكه المدخرة، ثم يبقى منه أنواع من المتناولات وهي الزبيب والدبس والخل، ومنافع هذه لا يمكن ذكرها إلا في المجلدات. وأحسن ما في العنب عَجَمُهُ، والأطباء يتخذون منه ( جوارشنات ) عظيمة النفع للمعدة الضعيفة الرطبة. فثبت أن العنب كأنه سلطان الفواكه.
وأما الزيتون فهو أيضاً كثير النفع، لأنه يمكن تناوله كما هو، وينفصل أيضاً عنه دهن كثير، عظيم النفع في الأكل، وفي سائر وجوه الاستعمال.
وأما الرمان فحاله عجيب جدّاً، وذلك لأنه جسم مركب من أربعة أقسام: قشرة وشحمه وعَجَمهُ وماؤه. أما الأقسام الثلاثة الأول وهي القشر والشحم والعجم فكلها باردة يابسة قابضة عفصة قوية في هذه الصفات. وأما ماء الرمان فبالضد من هذه الصفات، فإنه ألذ الأشربة وألطفها وأقربها إلى الاعتدال، وأشدها مناسبة للطباع المعتدلة، وفيه تقوية للمزاج الضعيف، وهو غذاء من وجه، ودواء من وجه، فكأنه سبحانه جمع فيه بين المتضادين المتغايرين. فكانت دلالة القدرة والرحمة فيه أكمل وأتم.
واعلم أن أنواع النبات أكثر من أن تفي بشرحها مجلدات، فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذه الأقسام الأربعة، التي هي أشرف أنواع النبات، واكتفى بذكرها تنبيهاً على البواقي. انتهى.
أقول: حديث " أكرموا عمتكم النخلة " المذكور، رواه أبو يعلى وابن أبي حاتم والعقيليّ وابن عدي وابن السني وأبو نعيم وابن مردويه عن علي رضي الله عنه، كما في الجامع الصغير، ورمز عليه بالضعف. ولما ذكر تعالى هذه البراهين، من دلائل العالم العلوي والسفلي، على عظيم قدرته، وباهر حكمته، ووافر نعمته، واستحقاقه للألوهية وحده - عقبها بتوبيخ من أشرك به والرد عليه بقوله سبحانه:
{ وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ ... }.