خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ
٨٢
-الأعراف

محاسن التأويل

{ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ } أي: المستكبرين في مقابلة نصحه، [في المطبوع: نصحة]. { إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم } أي: لوطاً والمؤمنين معه { مِّن قَرْيَتِكُمْ } أي: بلدكم. قال الزمخشري: يعني ما أجابوه بما يكون جواباً عما كلمهم به لوط عليه السلام من إنكار الفاحشة، وتعظيم أمرها، ووسمهم بسمة الإسراف الذي هو أصل الشر كله، ولكنهم جاءوا بشيء آخر لا يتعلق بكلامه ونصيحته، من الأمر بإخراجه ومن معه من المؤمنين من قريتهم، ضجراً بهم، وبما يسمعونه من وعظهم ونصحهم. وقولهم: { إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } سخرية بهم، وبتطهرهم من الفواحش، وافتخار بما كانوا فيه من القذارة، كما يقول الشطار من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم: أبعدوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتزهد.
قال ابن كثير: قال يتطهرون من أدبار الرجال وأدبار النساء. وروي مثله عن ابن عباس.
قال السيوطي في " الإكليل ": فيستدل به على تحريم أدبار النساء، أي: بناء على أن تفسير الصحابي له حكم المرفوع.
ورجح ابن القيم أنه حكم الموقوف.
والمسألة تقدمت مستوفاة في قوله تعالى:
{ { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُم } [البقرة: 223] فتذكر.
تنبيه
قال الإمام شمس الدين بن القيمرحمه الله في كتابه " إغاثة اللهفان ": قد وسم الله سبحانه الشرك والزنى واللواطة بالنجاسة والخبث في كتابه، دون سائر الذنوب، وإن كان مشتملاً على ذلك، لكن الذي وقع في القرآن قوله تعالى:
{ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } [التوبة: 28]، وقوله تعالى في حق اللوطية: { { وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ } [الأنبياء: 74]، وقالت اللوطية: { { أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } [النمل: 56]، فأقروا مع شركهم وكفرهم، أنهم هم الأخباث الأنجاس، وأن لوطاً وآله مطهرون من ذلك، باجتنابهم له. وقال تعالى في حق الزناة: { { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَات } [النور: 26]، وأما نجاسة الشرك فهي نوعان: نجاسة مغلظة، ونجاسة مخففة. فالمغلظة: الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله عز وجل، فإن الله عز وجل لا يغفر أن يُشرك به، والمخففة: الشرك الأصغر، كيسير الرياء، و التصنع للمخلوقات والحَلِف به، وخوفه ورجائه.
ثم قال: ونجاسة الزنى واللواطة أغلظ من غيرها من النجاسات، من جهة أنها تفسد القلب، وتضعف توحيده جداً. ولهذا أحظى الناس بهذه النجاسة أكثرهم شركاً، فكلما كان الشرك في العبد أغلب، كانت هذه النجاسة والخبائث فيه أكثر، وكلما كان أعظم إخلاصاً، كان منها أبعد، كما قال تعالى عن يوسف الصديق عليه السلام:
{ { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [يوسف: 24] فإن عشق الصور المحرمة نوع تعبُّد لها بل هو من أعلى أنواع التعبد، ولا سيما إذا استولى على القلب، تمكن منه، صار تتّيماً، والتَّتَيِّمُ: التعبد، فيصير العاشق عابداً لمعشوقه، وكثيراً ما يغلب حبه وذكره والشوق إليه والسعي في مرضاته، وإيثار محابّه على حب الله وذكره، والسعي في مرضاته. بل كثيراً ما كم قلت العاشق يذهب ذلك بالكلية، ويصير متعلقاً بمعشوقة من الصور - كما هو مشاهد - فيصير المعشوق هو إلهه من دون الله عز وجل، يقدم رضاه وحبه على رضا الله وحبه، ويتقرب إليه ما لا يتقرب إلى الله وينفق في مرضاته ما لا ينفقه في مرضاة الله، ويتجنب سخطه، ما لا يتجنب من سخط الله تعالى، فيصير آثر عنده من ربه، حباً وخضوعاً وذلاً وسمعاً وطاعة. ولهذا كان العشق والشرك متلازمين، وإنما حكى الله سبحانه العشق عن المشركين من قوم لوط وعن امرأة العزيز، وكانت إذ ذاك مشركة، فكلما قوي شرك العبد، بُلي بعشق الصور، وكلما قوي توحيده صرف ذلك عنه. الزاني واللواطة، كمال لذته إنما يكون مع العشق، ولا يخلو صاحبهما منه، وإنما لتنقله من محل إلى محل، لا يبقى عشقه مقصوراً على محل واحد، ينقسم على سهام كثيرة، لكل محبوب نصيب من تألهه وتعبده فليس في الذنوب أفسد للقلب والدين من هاتين الفاحشتين، ولهما خاصية في تبعيد القلب من الله، فإنهما من أعظم الخبائث، فإذا انصبغ القلب بهما بَعُدَ ممن هو طيب، لا يصعد إليه إلا طيب، وكلما ازداد خبثاً، ازداد من الله بعداً. ولهذا قال المسيح، فيما رواه الإمام أحمد، في كتاب " الزهد ": لا يكون البطالون من الحكماء، ولا يلج الزناة ملكوت السماء. ولما كانت هذه حال الزنى، كان قريناً للشرك في كتاب الله تعالى قال الله تعالى: { { الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } [النور: 3].
ثم قالرحمه الله : والمقصود أن الله سبحانه وتعالى سمى الزواني والزناة خبيثين وخبيثات، وجنس هذا الفعل قد شرعت فيه الطهارة، وإن كان حلالاً، وسمى فاعله جنباً، لبعده عن قراءة القرآن، وعن الصلاة، وعن المساجد، فمنع من ذلك كله حتى يتطهر بالماء. فكذلك إذا كان حراماً، يبعد القلب عن الله تعالى، وعن الدار الآخرة، بل يحول بينه وبين الإيمان، حتى يحدث طهراً كاملاً بالتوبة، وطهراً لبدنه بالماء. وقول اللوطية: { أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } من جنس قوله سبحانه في أصحاب الأخدود:
{ { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [البروج: 8]، وقوله تعالى: { { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْل } [المائدة: 59]، وهكذا المشرك، إنما ينقم على السنيّ تجريده متابعة الرسول، وأنه لم يَشُبْها بآراء الرجال، ولا بشيء مما خالفها. فصبر الموحد المتبع للرسول على ما ينقمه عليه أهل الشرك والبدعة، خير له وأنفع، وأسهل عليه من صبره على ما ينقمه الله ورسوله من موافقة أهل الشرك والبدعة:

إذا لم يكن بدّ من الصبر فاصطبر على الحق ذاك الصبرُ تُحْمَدُ عُقْبَاهُ

انتهى.
ولما همّ قوم لوط بإخراجه ونفيه ومن معه من بين أظهرهم، أخرجه الله تعالى سالماً، وأهلكهم في أرضهم صاغرين مهانين، كما أشار لذلك بقوله سبحانه:
{ فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ ... }.