خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ
٧٨
-التوبة

محاسن التأويل

{ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ } أي: ما أسروه من النفاق والعزم على إخلاف ما وعدوه وما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن في الدين { وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ } أي: ما غاب عن العباد.
تنبيهات
الأول: قال السيوطي في " لباب النقول ": أخرج الطبراني وابن مردويه وابن أبي حاتم والبيهقي في " الدلائل " بسند ضعيف عن أبي أمامة،
"أن ثعلبة بن حاطب قال: يا رسول الله! ادع الله أن يرزقني مالاً. قال: ويحك يا ثعلبة! قليل تؤدي شكره، خير من كثير لا تطيقه . قال: والله لئن آتاني الله مالاً لأوتين كل ذي حق حقه. فدعا له، فاتخذ غنماً، فنمت حتى ضاقت عليه أزقة المدينة، فتنحى بها، وكان يشهد الصلاة ثم يخرج إليها، ثم نمت حتى تعذرت عليه مراعي المدينة فتنحى بها، وكان يشهد الصلاة ثم يخرج إليها، ثم نمت حتى تعذرت عليه مراعي المدينة، فتنحى بها، فكان يشهد الجمعة ثم يخرج إليها، ثم نمت، فتنحى بها، فترك الجمعة والجماعات، ثم أنزل الله على رسوله: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } [التوبة: 103]، فاستعمل على الصدقات رجلين، وكتب لهما كتاباً، فأتيا ثعلبة، فأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: انطلقا إلى الناس، فإذا فرغتم فمروا بي ففعلا، فقال: ما هذه إلا أخت الجزية، فانطلقا، فأنزل الله: { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ } إلى قوله: { يَكْذِبُونَ }" الحديث.
وأخرج ابن جرير وابن مردويه، من طريق العوفي عن ابن عباس نحوه، وفيه أنه جاء بعدُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم بصدقته له:
" إن الله منعني أن أقبل منك " ، فجعل التراب على رأسه. فقال: " هذا عملك، قد أمرتك فلم تطعني " ، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء بها إلى أبي بكر رضي الله عنه فلم يقبلها، وكذا عمر وعثمان، ثم إنه هلك في أيام عثمان.
قال الشهاب: مجيء ثعلبة وحثوه التراب، ليس للتوبة من نفاقه، بل للعار من عدم قبول زكاته مع المسلمين، وقوله صلوات الله عليه: " هذا عملك "، أي: جزاء عملك، وهو عدم إعطائه المصدقين، مع مقالته الشنعاء.
قال الحاكم: إن قيل: كيف لم تقبل صدقته وهو مكلف بالتصدق؟ أجيب: بأنه يحتمل أن الله تعالى أمر بذلك، كيلا يجترئ الناس على نقض العهد، ومخالفة أمر الله تعالى، وردّ سعاة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويكون لطفاً في ترك البخل والنفاق.
الثاني: قال بعض المفسرين من الزيدية: ثمرة الآية وسبب نزولها أحكام:
منها: أن الوفاء بالوعد واجب، إذا تعلق العهد بواجب، والعهد إن حمل على اليمين بالله، فذلك ظاهر، وإن حمل النذر، ففي ذلك تأكيد لما أوجب الله.
ومنها: أن للإمام أن يفعل مثل ذلك لمصلحةٍ، أي: يمتنع من أخذ الواجب إذا حصل له وجه شابه الوجهَ الذي حصل في قصة ثعلبة. انتهى.
الثالث: قال السيوطي في " الإكليل ": فيها أن إخلاف الوعد والكذب من خصال النفاق، فيكون الوفاء والصدق من شعب الإيمان. وفيها المعاقبة على الذنب بما هو أشد منه لقوله: { فَاَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً } واستدل به قوم على أن من حلف إن فعل كذا فلله علي كذا، أنه يلزمه. وآخرون على أن مانع الزكاة يعاقب بترك أخذها منه، كما فعل بمن نزلت الآية فيه. انتهى.
الرابع: قال الرازي: ظاهر الآية يدل على أن نقض العهد، وخلف الوعد، يورث النفاق، فيجب على المسلم أن يبالغ في الإحتراز عنه، فإذا عاهد الله في أمر فليجتهد في الوفاء به. ومذهب الحسن البصريرحمه الله أنه يوجب النفاق لا محالة، وتمسك فيه بهذه الآية، وبقوله عليه السلام:
" ثلاث من كن فيه فهو منافق، وإن صلى وصام وزعم أنه مؤمن: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان " .
الخامس: دل قوله تعالى: { إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } على أن ذلك المعاهد مات منافقاً. قال الرازي: وهذا الخبر وقع مخبره مطابقاً له، فإنه روي أن ثعلبة أتى النبي صلى الله عليه وسلم بصدقته فقال: " إن الله تعالى منعني أن أقبل صدقتك " . وبقي على تلك الحالة، وما قَبِلَ أحدٌ من الخلفاء رضي الله عنهم صدقته حتى مات، فكان إخباراً عن غيب، فكان معجزاً.
السادس: الضمير في يلقونه للفظ الجلالة، والمراد باليوم يوم القيامة، وله نظائر كثيرة في التنزيل. وأعرب بعض المفسرين حيث قال: الضمير في يلقونه إما لله، والمراد باليوم وقت الموت، أو للبخل والمراد يوم القيامة والمضاف محذوف، وهو الجزاء. انتهى.
واللقاء إذا أضيف إلى الكفار كان لقاءً مناسباً لحالهم من وقوفهم للحساب مع حجبهم عنه تعالى، لأنهم ليسوا أهلاً لرؤيته، تقدس اسمه. وإذا أضيف إلى المؤمنين، كما في قوله تعالى:
{ { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ } [الأحزاب: 44]، كان لُقْياًَ مناسباً لمقامهم من رؤيته تعالى، وذلك لما أفصحت عنه آيات أخر من حال الفريقين، مما يتنزل مثل ذلك عليها. فمن وقف في بعض الآيات على لفظة، وأخذ يستنبط منها، ولم يراع من استعملت فيه، وأطلقت عليه، كان ذلك جموداً وتعصباً، لا أخذاً بيد الحق. نقول ذلك ردّاً لقول الجبائي: إن اللقاء في هذه الآية لا يفيد رؤيته تعالى، للإجماع على أن الكفار لا يرونه تعالى، فلا يفيدها أيضاً في قوله تعالى: { { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ } [الأحزاب: 44]. وللرازي معه مناقشة من طريق أخرى. وما ذكرناه أمتن. والله أعلم.
السابع: قال الرازي: السر ما ينطوي عليه صدورهم، والنجوى ما يفاوض فيه بعضهم بعضاً فيما بينهم، وهو مأخوذ من النجو، وهو الكلام الخفي، كأن المتناجييْن مَنَعَا إدخال غيرهما معهما، وتباعدا من غيرهما.
ثم بين تعالى من مساوئ المنافقين نوعاً آخر، وهو لمزهم المتصدقين بقوله سبحانه:
{ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ ... }.