خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ
١٢٤
-البقرة

تفسير المنار

أقول: بعد أن أقام الله الحجة على أهل الكتاب وبين شئونهم في الكفر بالنبي الذي كانوا ينتظرونه لبشارة رسلهم به، وشئونهم في التلاعب بدينهم وشئونهم مع المؤمنين، بين في هذه الآيات وما بعدها ما يستند إليه الإسلام ونبي الإسلام من أصل ونسب يجله أهل الكتاب والعرب جميعا، وهو ملة إبراهيم ونسبه، فهو في هذا السياق يبين لأهل الكتاب - ولا سيما اليهود - المحتكرين للوحي في قومهم والمفضلين لأنفسهم على العرب بنسبهم أن هذا لو كان حجة لما قامت هذه الحجة على محمد - صلى الله عليه وسلم - وقومه، إذ الملة في الأصل واحدة والنسب واحد، ولكنهم كفروا النعمتين بما تقدم ذكره من أعمالهم، فجاء النبي الموعود به لإصلاح حالهم وحال غيرهم، وسيأتي قوله - تعالى - في هذا السياق: { { يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } [البقرة: 146] وجرى شيخنا في الدرس على طيته في التناسب بين هذا السياق وما قبله فقال ما مثاله.
كان الكلام في أول السورة إلى هذه الآية بأسلوب واحد في سياق واحد، ذكر حقية الكتاب وكونه من نصوع البرهان بحيث يدفع ريب المرتابين أن يدنو منه أو يتسامى إليه، ثم ذكر أصناف الناس في أمر الإيمان به وعدم الإيمان به، وأطال الحجاج والمناظرة في خطاب أهل الكتاب خاصة لما تقدم من أنهم كانوا موضع الرجاء في المبادرة إلى الإيمان بالنبي وما جاء به؛ لأنه وافقهم في أهل الدين، وصدق أنبياءهم وكتبهم وذكرهم بما نسوا، وعلمهم ما جهلوا، وأصلح لهم ما حرفوا وزادهم معرفة بأسرار الدين وحكمته، كما أنهم في موضع الشبهة عند المشركين والمنافقين بما كفروا، وفي موضع الحجة عليهم بما آمنوا، قال - تعالى - في الاحتجاج على المشركين:
{ أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل } [الشعراء: 197] وقد جاءت محاجة أهل الكتاب على طريقة الإطناب لما كانوا عليه من جمود القرائح والبعد عن البلاغة، كما حكى عنهم أنهم قالوا: { قلوبنا غلف } ومن فساد الأذهان بالتعود على التأويل والتحريف، فكان يبدأ لهم المعنى ويعاد، ويساق إليهم القول بطرق بينة، ويؤكد بضروب من التأكيد تبعد به عن قبول التأويل والتحويل، وكان مما حجوا به التذكير بحال سلفهم الأنبياء وبحالهم معهم من عصيانهم وإيذائهم بل قتلهم في عهدهم، والغرور بانتظار شفاعتهم، والاستغناء بها من بعدهم.
ثم إن الكلام في هذه الآية { وإذ ابتلى إبراهيم ربه } وما بعدها موجه إلى مشركي العرب، ووجه الاتصال بينها وبين ما قبلها أن ذلك كان يتضمن الاحتجاج على أهل الكتاب بسلفهم الصالح، وهذا يتضمن الاحتجاج على مشركي قريش وأمثالهم بسلفهم الصالح، فإنهم ينتسبون إلى إسماعيل وإبراهيم ويفتخرون بأنهما بنيا لهم الكعبة معبدهم الأكبر، وكانوا في عهد التنزيل قد اختلطوا بالأمم المجاورة التي تعرف لهم هذا النسب.
وإنك لترى الكلام هنا جاريا على طريقة الإيجاز والإشارة لما كان عليه العرب من حدة الفكر وصفاء الأذهان ودقة الفهم ورقة الوجدان، على أن هذه الآيات تصلح حجة على الفريقين؛ لأن أهل الكتاب كافة يجلون إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ويعتقدون نبوته، والإسرائيليون منهم ينتسبون إليه، ولكن الخطاب في قصته موجه إلى العرب أولا بالذات، فتلك حجج القرآن على أهل الكتاب الذي جاء لإصلاح دينهم وترقيتهم فيه، ودين الله واحد في جوهره، وهذه حججه على أهل الشرك والوثنية الخاصة التي جاء لمحوها من الأرض وإثبات نقيضها، وهو التوحيد والتنزيه وإثبات البعث والنشور، وقد أقام الحجج على هذين الأصلين من الطرق العقلية والكونية في مواضع كثيرة ولا سيما في السور المكية.
قال تبارك اسمه: { وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن }، أقول: أشهر الأقوال وأظهرها في متعلق " إذ " هنا قولان:
1- أنه مقدر معلوم من السياق ومن أمثاله وهو " اذكر " إذا جعل الخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم - أي " واذكر " لأهل الكتاب ولقومك وغيرهم { إذ ابتلى إبراهيم ربه }... إلخ، وإذا جعل الخطاب للمكلفين { واذكروا } وتقدم نظيره في خطاب بني إسرائيل.
2- أنه متعلق بقوله: { قال إني جاعلك للناس إماما }، والكلمات جمع كلمة وتطلق على اللفظ المفرد وعلى الجمل المفيدة من الكلام.
والمراد منها هنا مضمونها من أمر ونهي، روى عكرمة عن ابن عباس قال: لم يبتل أحد بهذا الدين فأقامه كله إلا إبراهيم، ابتلاه الله بثلاثين خصلة من خصال الإسلام. واستنبطها ابن عباس بالعدد من أربع سور ليس فيها خطاب له - عليه الصلاة والسلام -، وقال شيخنا في الدرس: جعل التكليف بالكلمات؛ لأنها تدل عليها، وتعرف بها عادة، ولم يذكر الكلمات ما هي ولا الإتمام كيف كان؛ لأن العرب تفهم المراد بهذا الإبهام والإجمال، وأن المقام مقام إثبات أن الله - تعالى - عامل إبراهيم معاملة المبتلي أي المختبر له لتظهر حقيقة حاله ويترتب عليها ما هو أثر لها، فظهر بهذا الابتلاء و الاختبار فضله بإتمامه ما كلفه الله - تعالى - إياه وإتيانه به على وجه الكمال. هذا هو المبادر، ولكن المفسرين لم يألوا في تفسير الكلمات والخبط في تعيينها فقال بعضهم: إنها مناسك الحج، وقال آخرون: إنها خصال الإيمان واستخرجوها من آيات من القرآن، وذهب بعضهم إلى أن الإشارة بالكلمات إلى الكوكب والقمر والشمس التي رآها واستدل بأفولها على وحدانية الله - تعالى -، وكأن قائل هذا يعتقد أن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - كان يظن أن هذه الكواكب أرباب، وحاش لله، ما كان منه إلا قال: { هذا ربي } تمهيدا للحجة والبرهان؛ ولذلك قال - تعالى - بعد حكاية ذلك عنه:
{ وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه } [الأنعام: 83] وذهب قوم إلى أن المراد بها جعل الله إياه إماما وتكليفه بإقامة البيت وتطهيره وأن بقية الآية مفسر للإبهام فيها. وادعى بعضهم أن المراد أمره في المنام بذبح ولده، وإنما هذا الأمر كلمة واحدة، فكيف جعلوها عشرا؟ وزعم آخرون أن الكلمات هي الخصال العشر التي تسمى خصال الفطرة، وهي: قص الشارب والمضمضة والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس، وتقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، والاستحداد وقيل غير ذلك.
قال الأستاذ الإمام عند إيراد قول المفسر (الجلال) في تفسير الكلمات إنها الخصال العشر: إن هذا من الجراءة الغريبة على القرآن، ولا شك عندي في أن هذا مما أدخله اليهود على المسلمين ليتخذوا دينهم هزوا، وأي سخافة أشد من سخافة من يقول: إن الله - تعالى - ابتلى نبيا من أجل الأنبياء بمثل هذه الأمور، وأثنى عليه بإتمامها، وجعل ذلك كالتمهيد لجعله إماما للناس وأصلا لشجرة النبوة، وإن هذه الخصال لو كلف بها صبي مميز لسهل عليه إتمامها ولم يعد ذلك منه أمرا عظيما؟ والحق أن مثل هذا يؤخذ كما أخبر الله - تعالى - به ولا ينبغي تعيين المراد به إلا بنص عن المعصوم.
هذا ملخص ما قاله شيخنا في الدرس وهو صفوة الحقيقة، ولكن كتب إليه رجل من المشتغلين بالعلم في سوريا كتابا عقب قراءته ذلك في المنار يقول فيه: إن تفسير الكلمات بخصال الفطرة مروي عن ترجمان القرآن ابن عباس - رضي الله عنهما - فكيف يخالفه فيه؟ وشدد النكير في ذلك وأطنب في مدح ابن عباس. وقد أرسل إلي الأستاذ كتابه عند وصوله وكتب عليه: الشيخ رشيد يجيب هذا الحيوان... فكتبت إليه - وكان صديقا لي - كتابا لطيفا كان مما قلته فيه على ما أتذكر: إننا لم نر أحدا من المفسرين ولا من أئمة العلماء التزم موافقة ابن عباس في كل ما يروى عنه، وإن صح سنده عنده، فكيف إذا لم يصح؟ وقد قال الشيخ محمد عبده: إنه يجل ابن عباس عن هذه الرواية ولا يصدقها، ولما كانت مثل هذه الشبهة أو الطعن في أي عالم بأنه خالف فلانا الصحابي أو الإمام فلانا مما يروج في سوق العوام، نذكر هنا ما قاله شيخ المفسرين ابن جرير الطبري بعد ذكر رواياته المختلفة في تفسير (الكلمات) عن ابن عباس وغيره من مفسري السلف ونقله عنه ابن كثير مقرا له، قال هذا: قال أبو جعفر بن جرير ما حاصله: إنه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميع ما ذكر، وجائز أن يكون بعض ذلك، ولا يجوز الجزم بشيء منها أنه المراد على التعيين إلا بحديث أو إجماع، قال: ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له ا هـ. المراد منه وهو عين ما ذهب إليه شيخنا وهذه الحجة يدلي بها ابن جرير في مواضع كثيرة من تفسيره وهي الحق.
ذكر - تعالى - أن إبراهيم أتم الكلمات، وأنه - تعالى - { قال } له: { إني جاعلك للناس إماما } وقد فصلت الجملة عما قبلها؛ لأنها جواب عن سؤال مقدر تدل عليه القرينة، قال شيخنا: ولم يقل: فقال إني جاعلك، للإشعار بأن هذه الإمامة بمحض فضل الله - تعالى - واصطفائه لا بسبب إتمام الكلمات، فإن الإمامة هنا عبارة عن الرسالة وهي لا تنال بكسب الكاسب. وليس في الكلام دليل على أن الابتلاء كان قبل النبوة، وأما فائدة الابتلاء: فهي تعريف إبراهيم - عليه السلام - بنفسه، وأنه جدير بما اختصه الله به، وتقوية له على القيام بما يوجه إليه، وقد تحققت إمامته للناس بدعوته إياهم إلى التوحيد الخالص - وكانت الوثنية قد عمتهم وأحاطت بهم - فقام على عهده بالحنيفية وهي الإيمان بتوحيد الله والبراءة من الشرك وإثبات الرسالة، وتسلسل ذلك في ذريته خاصة، فلم ينقطع منها دين التوحيد؛ ولذلك وصف الله الإسلام بأنه ملة إبراهيم.
وماذا قال إبراهيم لما بشره الله - تعالى - بجعله إماما للناس؟ { قال ومن ذريتي } أي قال: واجعل من ذريتي أئمة للناس، وهو إيجاز في الحكاية عنه لا يعهد مثله إلا في القرآن. وقد جرى إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - على سنة الفطرة في دعائه هذا، فإن الإنسان لما يعلم من أن بقاء ولده بقاء له يحب أن تكون ذريته على أحسن حال يكون هو عليها، ليكون له حظ من البقاء جسدا وروحا. ومن دعاء إبراهيم الذي حكاه الله عنه في السورة المسماة باسمه
{ { رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي } [إبراهيم: 40] وقد راعى الأدب في طلبه، فلم يطلب الإمامة لجميع ذريته بل لبعضها؛ لأنه الممكن وفي هذا مراعاة لسنن الفطرة أيضا. وذلك من شروط الدعاء وآدابه، فمن خالف في دعائه سنن الله في خليقته أو في شريعته، فهو غير جدير بالإجابة، بل هو سيئ الأدب مع الله - تعالى -؛ لأنه يدعوه لأن يبطل لأجله سنته التي لا تتبدل ولا تتحول أو ينسخ شريعته بعد ختم النبوة وإتمام الدين.
وبماذا أجاب الله إبراهيم حين دعاه هذا الدعاء؟ { قال لا ينال عهدي الظالمين } أي إنني أعطيك ما طلبت، وسأجعل من ذريتك أئمة للناس، ولكن عهدي بالإمامة لا ينال الظالمين؛ لأنهم ليسوا بأهل لأن يقتدى بهم، ففي العبارة من الإيجاز ما يناسب ما قبلها. وإنما اكتفى في الجواب بذكر المانع من منصب الإمامة مطلقا، وهو الظلم لتنفير ذرية إبراهيم من الظلم وتبغيضه إليهم ليتحاموه وينشئوا أولادهم على كراهته، ويربوهم على التباعد عنه لكيلا يقعوا فيه فيحرموا من هذا المنصب العظيم الذي هو أعلى المناصب وأشرفها، ولتنفير سائر الناس من الظالمين وترغيبهم عن الاقتداء بهم، فإن الناس قد اعتادوا الاقتداء بالرؤساء والملوك الظالمين لأنفسهم ولغيرهم بالخروج عن الشريعة إلا ما يوافق أهواءهم، ويحرفون أو يؤولون الأحكام لتطابق شهواتهم، وقد درجوا على ذلك في كل عصر ما عدا عصر النبوة وما قاربه، كعصر خلافة النبوة كما يعلم من شهادة التاريخ التي لا ترد. أقول: وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بالظلم هنا أشد أنواعه قبحا وضررا وهو الشرك والكفر، ومنه
{ إن الشرك لظلم عظيم } [لقمان: 13] و { والكافرون هم الظالمون } [البقرة: 254] ولكن لا دليل هنا على الحصر أو القصر، ومن يظلم الناس من الموحدين المقرين بالرسالة غير أهل لإمامتهم؛ لأنه قدوة باطل وشر يفسد عليهم دينهم ودنياهم. وإذا كان فقهاؤنا يقولون: بأن الإمام لا ينبذ عهده إلا بالكفر الصريح دون الظلم والفسق، فإنما يقولون ذلك خوفا من وقوع الفتنة؛ لا لأن الظالم أهل للإمامة، ألم تر أنهم يشترطون في اختياره وبيعته العدالة، ومن قواعدهم أنه يغتفر في البقاء والاستمرار ما لا يغتفر في الابتداء، وليس هذا في كل شيء أيضا.
قال الأستاذ: الإمامة الصحيحة والأسوة الحسنة هي فيما تكون عليه الأرواح من الصفات الفاضلة والملكات العلمية التي تملك على صاحبها طرق العمل فتسوقه إلى خيرها وتزعه عن شرها، ولا حظ للظالمين في شيء منها، وإنما هم أصحاب الرسم وأهل الخداع والانخداع بالظاهر، ولذلك يصفون أعمالهم وأحكامهم بالرسمية. وقد جعل الله إبراهيم إماما للناس وذكر لنا في كتابه كثيرا من صفاته الجليلة كقوله - تعالى -:
{ { إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا } [النحل: 20] الآية، وقوله: { { إن إبراهيم لحليم أواه منيب } [هود: 75] ولم يذكر لنا شيئا من زيه وصفة ثيابه، ولا وصف أنواع طعامه وشرابه، بل أرشدنا إلى أن دعوته الصالحة لا يدخل فيها ولا ينتفع بها أحد من ذريته إلا من اجتنب الظلم لنفسه وللناس.
قال: وقد أخذوا من هذه الآية حكما أصوليا، وهو أن الظالم لا يجوز أن يولى منصب الإمامة العظمى، واشترطوا لصحة الخلافة فيما اشترطوا العلم والعدل، ونقل أن أبا حنيفة { رح } كان يفتي سرا بجواز الخروج على المنصور، ويساعد علي بن الحسن على ما كان ينزع إليه من الخروج عليه. اكتفى الأستاذ الإمام من الدرس بهذا القدر من الاستشهاد. ومن الناس من يعلل إباء أبي حنيفة من الأئمة منصب القضاء في زمن المنصور وأمثاله من الأمراء، باعتقاد عدم صحة إمامتهم، وعدم انعقاد ولايتهم، ويروى أن أبا حنيفة كان يرى يومئذ أن الإمامة يجب أن تكون للعلويين خاصة.
ثم ذكر الأستاذ الإمام هنا أئمة العلم وقال: إن الناس لم يرعووا عن الاقتداء بالظالمين حتى بعد هذا التحذير الذي أوحاه الله إلى إبراهيم، ثم أعلم به محمدا - عليهما الصلاة والسلام -؛ فإنهم ظلوا على دين ملوكهم وهم اليوم وقبل اليوم يدعون الاقتداء بالأئمة الأربعة - رضي الله عنهم، وهم كاذبون في هذه الدعوى، فإنهم ليسوا على شيء من سيرتهم في التخلق بأخلاق القرآن، وتحري اتباع الكتاب والسنة في جميع الأعمال.
اكتفى الأستاذ الإمام بهذه الإشارة في الدرس، ونزيدها إيضاحا فنقول: قد غلبت على الناس أهواء السلاطين والحكام الظالمين، حتى إن هؤلاء الأئمة الأربعة لم يسلموا من أولئك الظالمين، فقد سجن أبو حنيفة وحاولوا إكراهه على قبول القضاء، لما رأوا من إقبال الناس على الأخذ عنه فلم يقبل، فضربوه وحبسوه ولم يقبل كما هو مشهور. وضرب الإمام مالك سبعين سوطا لأجل فتوى لم توافق غرض السلطان، نقله ابن خلكان عن شذور العقود لابن الجوزي، ونقل عن الواقدي: أنه لم يكن في آخر عهده يشهد الصلوات في المسجد ولا الجمعة، وكان يقول: ليس كل الناس يقدر أن يتكلم بعذره. وسعي به إلى جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس - رضي الله عنهما - وهو عم أبي جعفر المنصور وقالوا له: إنه لا يرى أيمان بيعتكم هذه بشيء، فغضب جعفر ودعا به وجرده وضربه بالسياط، ومدت يده حتى انخلعت كتفه، وارتكب منه أمرا عظيما. وخبر طلب هارون الرشيد الشافعي للقضاء وإبائه واختفائه ثم هربه مشهور، وسببه الورع. وأشهر منه محنة الإمام أحمد وحبسه وضربه الضرب المبرح؛ ليقول بخلق القرآن. فهكذا عامل الملوك الظالمون هؤلاء الأئمة وبلغوا منهم ومن الناس بظلمهم ما أرادوا من إفساد الدين والدنيا.
وكلنا يعلم أن أولئك الذين ظلموا الأئمة الذين يدعي الأمراء والحكام اليوم اتباعهم كانوا أقل توغلا وإسرافا في الظلم من أكثر الملوك والأمراء المتأخرين، وإنك لترى أكثر الناس تبعا لأهواء هؤلاء الرؤساء إلا من وفقه الله وهداه - وقليل ما هم - بل هم الغرباء في الأرض.
والعبرة في مثل ما أشرنا إليه من الأحداث أن الظالمين من حكام هذه الأمة بدءوا بتحكيم أهوائهم السياسية في الدين وأهله من القرن الأول، وكانوا إذا رأوا الناس قد أقبلوا على رجل من رجال الدين استمالوه، فإن لم يمل إليهم آذوه وأهانوه، ولكن كان الدين وطلب الحق غالبا على أمر المسلمين، فقد نقل المؤرخون أن الإمام مالكا لم يزل بعد ذلك الضرب في علو ورفعة، وكأنما كانت تلك السياط حليا حلي به. ولو أمر أحد السلاطين المتأخرين بضرب عالم من أعلم أهل العصر؛ لأنه لا يرى عهد بيعته صحيحا أو لأنه أفتى بما لا يوافق غرضه { كما نقل عن مالك } لما رأيت له رفعة ولا احتراما عند الناس، ولأعرض الجميع عنه. فأما العقلاء العارفون بفضله، فيعرضون عنه بوجوههم، وأما الغوغاء من العامة ومن في حكمهم، فيعرضون عنه بقلوبهم ووجوههم، ويعتقدون كفره أو فسقه وابتداعه.
ذلك أن الظالمين من الأمراء قد استعانوا بالظالمين من الفقهاء على إقناع العامة بأنهم أئمة الدين الذين يجب اتباعهم حتى في الأمور الدينية، وحالوا بينهم وبين كتاب الله الذي ينطق بأن عهد الله بالإمامة لا ينال الظالمين. وغشوهم بأن أئمة الفقه الأربعة يحكمون بذلك، ولو عرف الناس سيرتهم مع خلفاء زمنهم لما تيسر غشهم. هذا وإن الحاكمين على عهدهم كانوا على علم بالكتاب والسنة، واتباع لهما في أكثر أعمالهم وأحكامهم، وأما المتأخرون فلا يعرفون من ذلك أكثر مما يعرفه السوقة، ويعملون بخلاف ما يعلمون، بل يشرعون للناس أحكاما جديدة يأخذونها من قوانين الأمم تخالف الشريعة ولا توافق مصلحة الأمة، ويلزمون عمالهم وقضاتهم الحكم بها باسمهم لا باسم الله - تعالى -
{ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } [المائدة: 45]