خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١٤٨
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
١٤٩
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
١٥٠
كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ
١٥١
فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ وَٱشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ
١٥٢
-البقرة

تفسير المنار

احتج تعالى على أهل الكتاب بقوله: { { وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق } [البقرة: 144] وقوله: { الذين أتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } أي: وإذا كان الأمر كذلك فكل ما يأتي به عن الله فهو حق، فما بالهم يشاغبون في مسألة القبلة من الأحكام الفرعية خاصةً؟ فالكلام من قبيل إقامة الدليل بعد إيراد الدعوى وليس اعتراضيا كما توهم بعضهم، ثم جاء بحجةٍ أخرى على أهل الكتاب وغيرهم ترغم أنوف المعارضين، وختم بعدها الأمر بتولية الوجوه نحو المسجد الحرام وتأكيده فقال: { ولكل وجهة هو موليها } وقرأ ابن عامرٍ { مولاها } أي: لكل أمةٍ من الأمم وجهة توليها في صلاتها، فلم تكن جهة من الجهات قبلةً في كل ملةٍ بحيث تعد ركنًا ثابتًا في الدين المطلق كتوحيد الله تعالى والإيمان بالبعث والجزاء، فإبراهيم وإسماعيل كانا يوليان الكعبة، وكان بنو إسرائيل يستقبلون صخرة بيت المقدس، وترك النصارى ذلك إلى استقبال المشرق، وكان الأنبياء المتقدمون يستقبلون جهاتٍ أخرى، فإذا كان الأمر كذلك ولم تكن جهة معينة ركنًا ثابتًا في الأديان فأية شبهةٍ من العقل أو من تقاليد الملل على فتنة المشاغبين في أمر القبلة، وأي وجهٍ لما أظهروه من الشبهة والحيرة، وزجوا أنفسهم فيه من الغمة، حتى جعلوه مسوغًا للطعن في النبوة والتشريع؟ وسيأتي إيضاح لهذه الحجة في تفسير قوله تعالى: { { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب } [البقرة: 177] إلخ.
وإذا لم تكن مسألة القبلة المعينة من أصول الدين ولا من مخه وجوهره الذي لا يتغير ; بل كانت ولا تزال من الفروع التي تختلف باختلاف حال الأمم، فالواجب فيها الاتباع المحض والتسليم لأمر الوحي، وإن لم تظهر حكمة التخصيص للناس كما هو الشأن في أمثالها من الفروع المأخوذة بالتسليم ; كعدد الركعات، وكون الركوع مرةً والسجود مرتين في كل ركعةٍ فكيف وقد ظهرت؟ { فاستبقوا الخيرات } أي: ابتدروا كل نوعٍ من أنواع الخير بالعمل، وليحرص كل منكم على سبق غيره إليه باتباع الإمام المرشد لا باتباع الهوى، وهذا الأمر عام موجه إلى أمة الدعوة لا خاص بالمؤمنين المستجيبين لله والرسول { أينما تكونوا يأت بكم الله جميعًا } ذكر الجزاء يوم البعث بعد الأمر باستباق الخيرات ليفيد أن الجزاء إنما يكون على فعل الخيرات أو تركها، لا على الكون في بلد كذا أو جهة كذا ; أي: ففي أية جهةٍ وأي مكانٍ تقيمون فالله تعالى يأتي بكم ويجمعكم ليوم الحساب ; إذ البلاد والجهات لا شأن لها في أمر الدين لذاتها وإنما الشأن لعمل البر واستباق الخيرات { إن الله على كل شيءٍ قدير } فلا يعجزه الإتيان بالناس مهما بعدت بينهم المسافات، وتناءت بهم الديار والجهات، فالتصريح بالقدرة تذكير بالدليل على الدعوى، والأمر بالخيرات هنا بعد بيان اختلاف الملل في القبلة إجمال يفصله ذكر أنواع البر في آية
{ { ليس البر أن تولوا وجوهكم } [البقرة: 177] المشار إليها آنفًا وستأتي، كأنه يقول للفاتنين والمفتونين في مسألة القبلة: إن مخ الدين وجوهره هو في المسارعة إلى الخيرات، فهل رأيتم محمدًا وأتباعه قصروا عن غيرهم في ذلك أم هم السابقون إلى كل مكرمةٍ، والمسارعون إلى كل مبرةٍ، المتصفون بكل فضيلةٍ؟ ففي الكلام مع بيان روح الدين ومقصده تعريض بأهل الكتاب الذين تركوا فضائل الدين وقصروا في عمل الخير والبر، واكتفوا من علم الدين بالجدل والمراء، واستنباط الشبه للطعن في العاملين، إذ لم يكونوا من المجادلين المشاغبين، ثم ترك المسلمون فضائل سلفهم، واتبعوا سننهم في بدعهم، وجدلهم حتى صاروا حجةً على دينهم.
{ ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام } أي: ومن أي مكانٍ خرجت وفي أي بقعةٍ حللت فول وجهك في صلاتك شطر المسجد الحرام، فهو حكم عام، قال الأستاذ الإمام: أعاد الأمر في صورةٍ أخرى ليبين أنه شريعة عامة في كل زمانٍ ومكانٍ لا يختص ببلادٍ دون أخرى ولا بحضرٍ دون سفرٍ. وقد كان الأمر بالتحويل نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة فأعلمه بصيغة الأمر أنه ليس خاصا بتلك الصلاة ولا بذلك المكان ; بل عليه أن يفعل ذلك من حيث خرج وأين توجه، ومن مزايا هذه القبلة أن أصحابها يصلون إلى جميع الجهات بتوليهم إياها من أقطار الأرض المختلفة، وقد وثق الأمر وأكده بقوله: { وإنه للحق من ربك } أي: وإن توليك إياه لهو الحق المحكم بوحي ربك فلا ينسخ { وما الله بغافلٍ عما تعملون } أي: إنكم أيها المخاطبون باتباع النبي في كل ما يجيء به من أمر الدين تحت نظر الحق دائمًا فهو لا يغفل عن أعمالكم
{ { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } [النور: 63] وفي الكلام التفات عن خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى خطاب جميع المكلفين، بما فيه من التعريض والتهديد للمنافقين، وقرأ أبو عمرٍو { يعملون } بالياء، وهو يعود إلى أولئك المجادلين في القبلة. يقول لنبيه: لا يحزنك أمرهم ; فإن الله تعالى هو الذي يتولى جزاءهم، وما هو بغافلٍ عن فسادهم وفتنتهم.
{ ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } ابتدأ هذه الآية بصيغة الأمر الواردة في الآية قبلها، وقرن بها صيغة الأمر السابقة وجمع فيها بين خطاب النبي وخطاب الأمة ; ليرتب على ذلك التعليل وبيان الحكم له وهي ثلاث: الأولى قوله: { لئلا يكون للناس عليكم حجة } ليس هذا الجمع والإعادة لمجرد التأكيد كما قال مفسرنا { الجلال } وغيره، وإنما هو تمهيد للعلة وتوطئة ; لبيان الحكم الموصولة به، وهو أسلوب معهود عند البلغاء، والمتأخرون الذين لا يذوقون طعم الأساليب البليغة يكتفون في مثل هذا المقام بقولهم: كل ذلك لئلا يكون للناس عليكم حجة، وهو نظم غير معهودٍ في الكلام البليغ ولا سيما مقام الإطناب والتأكيد والاحتجاج وإزالة الشبه، والمراد بالناس: المحاجون في القبلة المعروفون ; وهم أهل الكتاب والمشركون وتبعهما المنافقون.
ووجه انتفاء حجتهم على الطعن في النبوة بتحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة: هو أن أهل الكتاب كانوا يعرفون من كتبهم أن النبي الذي يبعث من ولد إسماعيل يكون على قبلته وهي الكعبة، فجعل بيت المقدس قبلةً دائمةً له حجة على أنه ليس هو النبي المبشر به، فلما كان التحويل عرفوا أنه الحق من ربهم، وأن المشركين كانوا يرون أن نبيا من ولد إبراهيم جاء لإحياء ملته لا ينبغي له أن يستقبل غير بيت ربه الذي بناه وكان يصلي هو وإسماعيل إليه، فدحضت حجة الفريقين وكبت المنافقون من ورائهم { إلا الذين ظلموا منهم } أي: لكن الذين ظلموا منهم يظلون يلغطون بالاحتجاج جهلًا أو عنادًا للإضلال، كقول اليهود: رجع إلى قبلة قومه لإرضائهم وسيرجع إلى دينهم، وقول المشركين: رجع إلى قبلتنا وسيرجع إلى ديننا، وقول المنافقين: إنه مضطرب متردد لا يثبت على قبلةٍ. وأمثال هذه الآراء التي يزينها الهوى للأعداء، فهم لا يهتدون بكتابٍ ولا يعتبرون ببرهانٍ، ولا ينظرون إلى حكم الأمور وأسرارها بل يجادلون في الله وشرعه بلا هدًى ولا كتابٍ منيرٍ، وهم الذين أثاروا الفتنة، وحركوا رياح الشبه في مسألة القبلة، ولا قيمة لما يقول هؤلاء الظالمون ; فإنهم هم السفهاء كما وصفوا في الآية الأولى { فلا تخشوهم } إذ لا مرجع لكلامهم من الحق، ولا تمكن له في النفس ; لأنه لا يستند إلى برهانٍ عقلي ولا إلى هديً سماوي { واخشوني } أنا، فلا تعصوني بمخالفة ما جاءكم به رسولي عني، فإنني القدير على جزائكم بما وعدتكم وأوعدتكم، وقد وعدت الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات بأن أمكن لهم دينهم الذي ارتضيت لهم وأبدلهم من بعد خوفهم أمنًا، وإنني لا أخلف الميعاد.
والآية ترشدنا إلى أن صاحب الحق هو الذي يخشى جانبه وأن المبطل لا ينبغي أن يخشى ; فإن الحق يعلو ولا يعلى، وما آفة الحق إلا ترك أهله له، وخوفهم من أهل الباطل فيه. وذكر الأستاذ الإمام هنا من له شبهة حق كصاحب النية السليمة يشتبه عليه الأمر فيترك الحق لأنه عمي عليه، ولو ظهر له لأخذ به، وهو أيضًا لا يخشى جانبه، خلافًا لما فهم بعض الطلاب من كلام الأستاذ، وإنما استثناه من مشاركة الظالمين في عدم المبالاة به، فأولئك لا يخشون ولا يبالى بهم، وهذا لا يخشى على الحق ولكنه يبالى به، ويعتنى بأمره بتوضيح السبيل، وتفصيل الدليل، لما يرجى من قرب رجوعه إليه إذا عرفه، وقوله: { إلا الذين ظلموا } يعم اليهود ومشركي العرب والمنافقين خلافًا لمن قالوا: إنهم المشركون خاصةً، مع أنهم فسروا السفهاء بما يعم الفريقين أو الثلاثة، وما هؤلاء الذين ظلموا إلا أولئك السفهاء الذين اعترضوا.
ثم ذكر العلة أو الحكمة الثانية فقال: { ولأتم نعمتي عليكم } باستقلال قبلتكم في بيت ربكم الذي بناه جدكم، وجعل الأمم فيها تبعًا لكم، وبيانه أن هذا النبي عربي من ولد إبراهيم، وبلسان العرب نزل عليه الكتاب، وهم قومه الذين بعث فيهم أولًا وظهرت دعوته فيهم وامتدت منهم وبهم إلى سائر الأمم، وكانوا إذا آمنوا يحبون أن تكون وجهتهم في عبادتهم بيتهم الحرام، وأن يحيوا سنة إبراهيم بتطهيره من عبادة الأصنام ; لأنه معبدهم وأشرف أثرٍ عندهم، ينسب إلى أبيهم إبراهيم الذي بناه ورفع قواعده لعبادة الله تعالى، وهو شرفهم ومجدهم، وموطن عزهم وفخرهم، فأتم الله عليهم النعمة بإعطائهم ما يحبون، وتوجيه جميع شعوب الإسلام إلى بلادهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وفي ذلك من الفوائد المادية والمعنوية ما لا يحصى من النعم. نعم ; إن كل أمرٍ من الله تعالى فامتثاله نعمة، ولكنه إذا كان فيه حكمة ظاهرة وشرف للأمة يتعلق بتاريخها الماضي وبمجدها الآتي، وكان أثره حميدًا نافعًا فيها، تكون النعمة به أتم والمنة أكمل ; ولذلك عبر بالإتمام.
وذكر الأستاذ الإمام من الحكمة في جعل القبلة في أول الأمر بيت المقدس: أن الكعبة كانت في أول الإسلام مشغولةً بالأصنام والأوثان، وكان سلطان أهل الشرك متمكنًا فيها، والأمل في انكشافه عنها بعيدًا فصرفه الله أولًا عن استقبال بيتٍ مدنسٍ بعبادة الشرك - وقد كان الله أمر إبراهيم بتطهيره للطائفين والعاكفين والركع السجود - إلى بيت المقدس قبلة اليهود الذين هم أقرب من المشركين إلى ما جاء به من التوحيد والتنزيه، ولما قرب زمن تطهير البيت الحرام من الأصنام والأوثان وعبادتها وإزالة سلطة الوثنيين عنه، جعله الله تعالى قبلةً للموحدين ; ليوجه النفوس إليه فيكون ذلك مقدمةً لتطهيره وإتمام النعمة بالاستيلاء عليه، والسير فيه على ملة إبراهيم من التوحيد والعبادة الصحيحة لله تعالى وحده.
أقول: ويؤيده ما قرره الأستاذ الإمام في تفسير الإتمام وكون تحويل القبلة مقدمةً له قوله تعالى بعد ذكر فتح مكة في سورة الفتح:
{ { ويتم نعمته عليك ويهديك صراطًا مستقيمًا } [الفتح: 2] فكان في الآية بشارة بفتح مكة، ونصر الله التوحيد على الشرك وما يتلو ذلك من نشر الإسلام، وانتشار نوره في الأنام ; ولذلك قال في سورة الفتح بعدما ذكر: { { وينصرك الله نصرًا عزيزًا } [الفتح: 3 }.
ثم ذكر سبحانه وتعالى الحكمة الثالثة لتحويل القبلة فقال: { ولعلكم تهتدون } أي: وليعدكم بذلك إلى الاهتداء بالثبات على الحق والرسوخ فيه، فإن المعارضات والمحاجات تظهر ضعف الباطل وزهوقه، وتبين قوة الحق وثبوته، فالحجة تتبختر اتضاحًا، والشبهة تتضاءل افتضاحًا، وقد خلت سنة الكون بأن الفتن تنير الطريق لأهل الحق، وترخي سدول ظلمته على أهل الباطل، وتمحص المؤمنين، وتمحق الكافرين.
كل إنسانٍ يرى نفسه على الحق في الجملة، ولكن التمكن في المعرفة والثبات على الحق لا يعرف في الغالب إلا إذا وجد للمحق خصم ينازعه ويعارضه في الحق، هنالك تتوجه قواه إلى تأييد حقه وتمكينه، ويحس بحاجته إلى المناضلة دونه والثبات عليه، وكثيرًا ما يظهر الباطل الحق بعد خفائه ; فإن المعارضة في الحق تحمل صاحبه على تنقيحه وتحريره وتنقيته مما عساه يلتصق به أو يجاوره من غواشي الباطل، وتجعل علمه به مفصلًا بعد أن كان مجملًا، ومبرهنًا عليه بعد أن كان مسلمًا، فهي مدرجة الكمال لأهل اليقين، ومزلة الريب للمقلدين. قال بعض الصوفية: جزى الله أعداءنا عنا خيرًا إذ لولاهم ما وصلنا إلى شيءٍ من مقامات القرب. وقال الشاعر:

عداتي لهم فضل علي ومنة فلا أذهب الرحمن عني الأعاديا
هم بحثوا عن زلتي فاجتنبتها وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا

ذلك بأن العدو ينقب عن الزلات، ويبحث في الهفوات، وطالب الحق يتوجه دائمًا إلى الاستفادة من كل شيءٍ، والنظر من كل أمرٍ إلى موضع العبرة وطريق الحقيقة، فإذا وجد في كلام العدو مغمزًا صحيحًا توقاه، أو عثارًا في طريقه نحاه، وإن ظهر له أنه باطل ثبت على حقه، وعرف منافذ الطعن فيه فسدها، فكان بذلك من الكملة الراسخين ; لهذا كله كانت الفتنة التي أثارها السفهاء على المؤمنين في مسألة القبلة معدة للاهتداء ووسيلة إلى الثبات على الحق بعد نزول هذه الآيات البينات والحجج الناهضات في بيانه وحكمة الله تعالى فيه.
ثم قال تعالى: { كما أرسلنا فيكم رسولًا منكم } أي: يتم نعمته عليكم باستيلائكم على بيته الذي جعله قبلةً لكم، وتطهيركم إياه من عبادة الأصنام والأوثان، وهو البيت الذي في قلب بلادكم، وموضع شرفكم وفخركم، كما أتمها عليكم بإرساله رسولًا منكم، فالقبلة في بلادكم، والرسول من أمتكم، والخطاب للعرب كما هو ظاهر. ثم وصف هذا الرسول بالأوصاف التي كان بها نعمةً تامةً، ورحمةً شاملةً فقال: { يتلو عليكم آياتنا } الدالة على أن ما جاء به من التوحيد والهداية هو الحق من عند الله، وهذه الآيات أعم من أن تكون آيات القرآن أو غيرها من الدلائل والبراهين على أصول الدين، وقد تقدم في تفسير الآيات في دعوة إبراهيم بأن الآيات يصح أن يراد بها الآيات الكونية والعقلية وأن يراد بها آيات الوحي، والتعميم أولى، وإنما خصها بعض المفسرين بآيات القرآن بقرينةٍ { يتلو } على أن التلاوة أعم، فكل برهانٍ يقيمه فقد تلا عليهم عبارته، وذكر لهم فيه آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم، ووجه المنة أنه يقودهم إلى الحق بالدليل والبرهان دون التقليد والتسليم بغير فهمٍ ولا إذعانٍ، والطريقة الأولى يكون بها العقل مستقلا، والدين مؤيدًا له وهاديًا، لا مرغمًا ولا معطلًا، هذا ملخص ما قرره شيخنا. والمختار عندنا أن المراد بالآيات آيات القرآن باعتبار ما اشتملت عليه من الآيات العقلية والعلمية على أصول العقائد والقواعد، فهي في نفسها آية على النبوة والرسالة بأنواع إعجازها التي تقدم بيانها [ص 159 - 191 ج1] وتشتمل على آياتٍ كثيرةٍ ; على التوحيد والبعث وأصول الإسلام كلها.
الآيات تتعلق بإثبات العقائد وأصول الدين وهي المقصد الأول، ويليها تهذيب الأخلاق ; ولذلك قال: { ويزكيكم } أي: يطهر نفوسكم من الأخلاق السافلة، والرذائل الممقوتة، ويخلقها بالأخلاق الحميدة بما لكم فيه من حسن الأسوة لا بالقهر والسطوة، وخص المفسر { الجلال } التزكية بالتطهير من الشرك. قال الأستاذ الإمام: وهذا لا يصح فإن الإسلام كما جاء بالتوحيد الماحي للشرك، جاء بالتهذيب المطهر من سفساف الأخلاق وقبائح العادات والمعاصي التي كانت فاشيةً في العرب، فقد كانوا يئدون بناتهم - يدفنونهن حياتٍ - ويقتلون أولادهم للتخلص من النفقة عليهم وذلك نهاية القسوة والشح، وكانوا يسفكون الدماء فيما بينهم لأهون سببٍ يثير حميتهم الجاهلية ; لما اعتادوه من البغي في الثارات ومن شن الغارات ونهب بعضهم بعضًا، وكان عندهم من التسفل أن أحدهم يتزوج زوج أبيه أو يعضلها حتى تفتدي منه، إلى غير ذلك. وقد زكاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك كله باقتدائهم بأخلاقه العظيمة في عباداته الكاملة وآدابه العالية، وجمعهم بعد تلك الفرقة، وألف الله بينهم على يديه حتى صاروا كرجلٍ واحدٍ، وجعلت شريعته ذمتهم واحدةً يسعى بها أدناهم، فإذا أعطى مولًى أو رقيق لهم أمانًا لأي إنسانٍ محاربٍ كان ذلك كتأمين أمير المؤمنين له، فأي تزكيةٍ أعلى من هذه التزكية؟.
وأقول: إنهم بزكاة أنفسهم هذه فتحوا العالم وكانوا أئمة أمم المدنية التي كانت تحتقر جنسهم كله، فإن الأعاجم إنما عرفوا فضل الإسلام بعدلهم وفضلهم في فتوحهم، وما فهموا القرآن إلا بعد إسلامهم وتعلمهم العربية. والرسول الذي زكى هذه الأمة التي زكت أممًا كثيرةً حقيق بأن تكون نفسه أزكى الأنفس وأكملها، ولكننا علمنا أن بعض دعاة النصرانية يستدل بآية
{ { لأهب لك غلامًا زكيا } [مريم: 19] على تفضيل عيسى على محمدٍ - عليهما السلام - ووصف الغلام بالزكي لا يدل على أنه أفضل من سائر الغلمان، فضلًا عمن زكى الأنام. وقد قال تعالى في قصة موسى عليه السلام مع العبد الذي علمه من لدنه علمًا { { أقتلت نفسًا زكيةً بغير نفسٍ } [الكهف: 74] الآية، فهل يزعمون أن هذا الغلام أفضل من موسى وإبراهيم عليهما السلام ; لأنهما لم يوصفا بوصفه؟
وبعد ذكر التربية العملية بالأسوة الحسنة ذكر أمر التعليم فقال: { ويعلمكم الكتاب والحكمة } أي: الكتاب الإلهي، أو الكتابة التي تخرجون بها من ظلمة الأمية والجهل إلى نور العلم والحضارة، ويجوز الجمع بين المعنيين على القول الصحيح باستعمال المشترك في معنييه أو فيما يقتضيه المقام من معانيه، وأما الحكمة: فهي العلم المقترن بأسرار الأحكام ومنافعها، الباعث على العمل، وفسرها بعضهم بالسنة.
{ أقول }: وهو غلط فإنها أطلقت على بعض نصوص الكتاب كالعقائد والفضائل والأحكام الإيجابية والسلبية بدليل قوله تعالى بعد الوصايا المقرونة بعلل الأمر والنهي من سورة الإسراء:
{ { ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة } [الإسراء: 39] وفي سورة لقمان أن الله آتاه الحكمة وذكر منها وصاياه لابنه المعللة بأسباب النهي راجع (لقمان: 12 - 19 الآيات) فحكمة القرآن أعلى الحكم، وتليها حكمة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها" رواه الشيخان من حديث ابن مسعودٍ، وفي بعض رواياته: "فهو يعمل بها ويعلمها الناس" وفي لفظٍ من حديث ابن عمر "القرآن" بدل الحكمة.
وقد تقدم ما قاله الأستاذ الإمام في هذه الكلمات في دعاء إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - وجاء هنا بتفصيلٍ في معنى الحكمة لم يذكر هناك، فقال ما مثاله: دعا القرآن إلى التوحيد وأمهات الفضائل وبين أصول الأحكام، ولكنه لم يفصل سيرة الملوك والرؤساء مع السوقة والمرءوسين، ولم يفصل سيرة الرجل مع أهل بيته في الجزئيات وهو ما يسمونه نظام البيوت - العائلات - ولم يفصل طرق الأحكام القضائية والمدنية والحربية، وذلك أن هذه الأمور ينبغي أن تؤخذ بالأسوة والعمل بعد معرفة القواعد العامة التي جاءت في الكتاب، ولذلك كانت السنة هي المبينة لذلك بالتفصيل بسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيوته ومع أصحابه في السلم والحرب والسفر والإقامة، وفي حال الضعف والقوة والقلة والكثرة ; فالسنة العملية المتواترة هي المبينة للقرآن بتفصيل مجمله وبيان مبهمه، وإظهار ما في أحكامه من الأسرار والمنافع ; ولهذا أطلق عليها لفظ الحكمة فإنها كانت كالحكمة - بالتحريك - لتأديب الفرس، ولولا هذه التربية بالعمل لما كان الإرشاد القولي كافيًا في انتقال الأمة العربية من طور الشتات والفرقة والعداء والجهل والأمية إلى الائتلاف والاتحاد والتآخي والعلم وسياسة الأمم، فالسنة هي التي علمتهم كيف يهتدون بالقرآن، ومرنتهم على العدل والاعتدال في جميع الأحوال.
كلنا يعرف الحلال والحرام والفضيلة والرذيلة، وقلما ترى أحدًا عاملًا بعلمه، وإنما السبب في ذلك أن الأكثرين يعرفون الحكم يرون حكمته، ودون الأسوة الحسنة في العمل به، فهم لا يفقهون لم كان هذا حرامًا؟ ولا تنفذ أفهامهم في أعماق الحكم فتصل إلى فقهه وسره، فتعلم علمًا تفصيليا ما وراء المحرم من الضرر لمرتكبه وللناس، وما وراء الواجبات والمندوبات من المنافع العامة والخاصة. ولو علموا ذلك وفقهوه بالتربية عليه وملاحظة آثاره والاقتداء بالمعلمين والمربين في العمل به - كما أخذ الصحابة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لخرجوا من ظلمة الإجمال والإبهام في المعرفة إلى نور التجلي والتفصيل، حتى تكون الجزئيات مشرقةً واضحةً، ولكان هذا العلم معينًا لهم على إحلال الحلال بالعمل، وتحريم الحرام بالترك، فقد وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه { رضي الله عنهم } على فقه الدين ونفذ بهم إلى سره، فكانوا حكماء علماء، عدولًا نجباء، حتى أن كان أحدهم ليحكم المملكة العظيمة فيقيم فيها العدل ويحسن السياسة وهو لم يحفظ من القرآن إلا بعضه، ولكنه فقهه حق فقهه. وهذا المعنى - فقه الدين ومعرفة أسرار الأحكام - غير التزكية، بيد أنه يتصل بها ويعين عليها، حتى يطابق العلم العمل، فهذه الآية نبأ عن استجابة دعوة إبراهيم عليه السلام
{ { ربنا وابعث فيهم رسولًا منهم } [البقرة: 129] الآية.
وقد تقدم هناك ذكر تعليم الكتاب والحكمة على التزكية، وقدم هنا ذكر التزكية على تعليم الكتاب والحكمة، والنكتة في ذلك أن إبراهيم عليه السلام لاحظ في دعوته الطريق الطبيعي وهو أن التعليم يكون أولًا ثم تكون التزكية ثمرةً له ونتيجةً، وهاهنا ذكر الترتيب بحسب الوجود والوقوع، وذلك أن أول شيءٍ فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - هو أن دعا الناس إلى الإيمان بما تلا عليهم من آيات الله تعالى ودلائل توحيده، وإلى الاعتقاد بإعادة الناس ليومٍ لا ريب فيه يحاسب الله فيه كل نفسٍ ويجزيها بعملها وصفاتها، فأجاب الناس دعوته بالتدريج، وكل من آمن له كان يقتدي به في أخلاقه وأعماله، ولم تكن هنالك أحكام ولا شرائع، ثم شرعت الأحكام بالتدريج، فالتزكية بالتأسي به - عليه الصلاة والسلام - كانت متأخرةً عن إقامة الآيات والدلائل على أصول الإيمان، ومقدمةً على تلقي الشرائع والتفقه في الأحكام.
ثم قال تعالى: { ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون } أي: ويعلمكم مع الكتاب والحكمة ما لم يسبق لكم به علم من شئون العالم ونظام البيوت والمعاشرة الزوجية وسياسة الحروب والأمم. وقال البيضاوي وغيره: ما لم تكونوا تعلمونه بالنظر والفكر، إذ لا سبيل لمعرفته سوى الوحي، وكرر الفعل ليدل على أنه جنس آخر اهـ. يعني: كأخبار عالم الغيب وسيرة الأنبياء، وأحوال الأمم التي كانت مجهولةً عندكم، وكثير منها كان مجهولًا عند أهل الكتاب أيضًا ; فإنه - صلى الله عليه وسلم - صحح أغلاطهم، وبين سقاطهم، وخص هذا بالذكر - وإن كان مما اشتمل عليه الكتاب - اهتمامًا به وتنويهًا بشأنه، ولكن تكرار الفعل وعطفه يقتضي أن يكون هذا غير ما قبله.
قال الأستاذ الإمام: ويصح أن يراد ما لم تكونوا تعلمون من شئون أنفسكم، والسنن الإلهية الحاكمة فيكم، وقد بلغوا بتعليمه وإرشاده - صلى الله عليه وسلم - مبلغًا فاقوا فيه سائر الأمم ; أي: فالتعليم ليس محصورًا في الكتاب بل هناك زيادة أعد الله تعالى نبيه لتبيينها، والمقابلة بين هذا التعليم وتعليم الكتاب مبنية على أن المراد بالكتاب: القرآن، وبالآيات: الدلائل، وقد تقدم فيه وجه آخر وهو أنه مصدر كتب أي: ويعلمكم الكتابة بعد أن كنتم أميين.
{ فاذكروني } في قلوبكم بما شرعت من أمر القبلة للفوائد الثلاث التي تقدم شرحها، وبما أتممت عليكم من النعمة بإرسال رسولٍ منكم يعلمكم ويزكيكم، وبكل ما أنعمت عليكم من ثمرات ذلك، ولا تنسوا أنني أنا المتفضل بإفاضة هذه النعم عليكم { أذكركم } بإدامتها وتمكينها والزيادة عليها من النصر والسلطان وغير ذلك من أسباب السعادة، واذكروني بألسنتكم بأسمائي الحسنى، والتحدث بنعمي التي لا تحصى، والثناء علي بها سرا وجهرًا، أذكركم في الملأ الأعلى برضائي عنكم وقربي منكم.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه، إذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خيرٍ منه، وإن تقرب إلي شبرًا تقربت إليه ذراعاً" إلى آخر الحديث. وقال الأستاذ الإمام: هذه الكلمة من الله تعالى كبيرة جدا كأنه يقول: إنني أعاملكم بما تعاملونني به، وهو الرب ونحن العبيد، وهو الغني عنا ونحن الفقراء إليه ; أي: وهذه أفضل تربيةٍ من الله تعالى لعباده: إذا ذكروه ذكرهم بإدامة النعمة والفضل، وإذا نسوه نسيهم وعاقبهم بمقتضى العدل.
ثم بعد أن علمهم ما يحفظ النعم أرشدهم إلى ما يوجب المزيد بمقتضى الجود والكرم فقال: { واشكروا لي } هذه النعم بالعمل بها وتوجيهها إلى ما وجدت لأجله { ولا تكفرون } أي: لا تكفروا نعمي بإهمالها أو صرفها إلى غير ما وجدت لأجله بحسب الشرع والسنن الإلهية، وهذا تحذير لهذه الأمة مما وقعت فيه الأمم السالفة إذ كفرت بنعم الله تعالى فحولت الدين عن قطبه الذي يدور عليه وهو الإخلاص وإسلام الوجه لله وحده والعمل الصالح المصلح للأفراد والاجتماع، وعطلت ما أعطاها الله من مواهب المشاعر والعقل والملك فلم تستعملها فيما خلقت له، وهكذا انحرفوا بكل شيءٍ عن أصله، فسلبهم الله ما كان وهبهم تأديبًا لهم ولغيرهم، ثم رحمهم بأن أرسل إليهم خاتم النبيين بهدايةٍ عامةٍ تعرفهم وجه تلك العقوبات الإلهية وتحذرهم العود إلى أسبابها، وقد امتثل المسلمون هذه الأوامر زمنًا قصيرًا فسعدوا، ثم تركوها بالتدريج فحل بهم ما نرى كما قال:
{ { وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد } [إبراهيم: 7] فإذا عادوا عاد الله عليهم بما كان أعطى سلفهم وإلا كانوا من الهالكين.