خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ وٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكَٰفِرِينَ
١٩
يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَٰرَهُمْ كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَٰرِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٠
-البقرة

تفسير المنار

هذا هو مثل الفريق الثاني من هذا الصنف من الناس، الذي كان أفراده ولا يزالون فتنة للبشر، ومرضا في الأمم وحجة على الدين، لأنهم بغرورهم بتقاليدهم التي اكتفوا بها من دينهم الموروث، يعبثون بعقولهم، ويلهون بخيالاتهم، ويجنون على مشاعرهم ومداركهم فيضعفونها، ويصارعون الفطرة الإلهية فيصرعونها، حتى يكون بعضهم كالجمادات { صم بكم عمي } كما تقدم في المثل الأول، ويألف البعض الآخر الظلمة بطول التقليد، ويكون أفراده في نور البرهان كالخفافيش في نور الشمس ولكنهم أمثل من الفريق الذي ضرب له المثل الأول؛ لأن فيهم بقية من الرجاء ورمقا من الحياة، يوجههم إلى الاقتباس من نور الهداية كلما أضاءت لهم بروقها، والمشي في الجادة كلما استبانوا طريقها، ولكن تحول دون ذلك ظلمات التقاليد العارضة، وتقف في السبيل عقبات البدع المعارضة، وقد يعدهم لاستماع قوارع الآيات التي تنذرهم بما حرفوا، وصوادع الحجج التي تبين لهم كيف انحرفوا، ولا يصدهم عنها إلا أنها تزعجهم إلى ترك ما صنفوا وألفوا، وهجر ما أحبوا وألفوا، وعدم المبالاة بسنة الآباء، وقلة الاحتفال بعظمة الرؤساء.
فهم يتراوحون بين الخوف والرجاء، مذبذبين بين أهل الجحود وأهل اليقين
{ { لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء } [النساء: 143]، ولا ينقطع منهم الأمل، حتى ينقطع بهم الأجل.
ألا تراهم عندما يقرع أسماعهم من كتاب ربهم ما يبين فساد سيرتهم، والتواء طريقتهم، كقوله تعالى في النعي على أمثالهم، وحكاية ما لم يرضه من أقوالهم:
{ بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون } [الزخرف: 22] إلخ: وقوله في بيان ندمهم على التقليد، عندما يحل بهم الوعيد: { ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل } [الأحزاب: 67] يأخذهم الزلزال، ويتولاهم الاضطراب والقلق، وتنشق لهم الظلمة عن فلق، ويلمع في نفوسهم نور الهداية الفطرية فيمشون فيه خطوات، ثم تحيط بهم الظلمات وينقطع بهم الطريق كما ألمعنا آنفا، وأسباب غلبة الظلمات على النور: هي موافقة ما عليه الجمهور، والإخلاد إلى الهوى، وتفضيل عرض هذا الأدنى، وانتظار المغفرة ولو بما تأولوه في معنى الشفاعة، وتمني الربح من غير بضاعة { { يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه } [الأعراف: 169] بل هو عندهم مدروس بجدليات النحو والكلام، ولكنه دارس الصوى والأعلام المنصوبة لهداية القلوب والأحلام، ومقروء بالتجويد والأنغام، ولكنه متروك الحكم والأحكام، يقرءونه لكسب الحطام لا لمعرفة الحلال والحرام، ولا يتلونه لإصلاح القلب واللسان بتزكية النفس وتغذية الإيمان، ويكتبونه لشفاء الأبدان من الأسقام لا لشفاء ما في الصدور من الأوهام والآثام، ولو كان له أنصار يدعون إليه، وهداة يعتصمون به ويعولون عليه، لتبددت الظلمات أمام الأنوار، ومحت آية الليل آية النهار.
تلك الإرشادات الإلهية بمنزلة المطر الذي ينزل من السماء، والزلزال والاضطراب الذي أشرنا إليه بمنزلة الرعد، واستبانة الصراط المستقيم الذي يلمع في أنفسهم من ذلك كالبرق، والعادات والتقاليد والشهوات والخوف من ذم الجماهير عند العمل بما يخالفهم كالظلمات التي تصد عن سلوك الطريق بل تعميه على طالبه وتحجبه عنه، ولذلك قال تعالى في تمثيل حال هذا الفريق: { أو كصيب من السماء } أي قوم نزل بهم صيب، ووصفه بأنه من السماء مع العلم بأن الصيب لا يكون إلا من السماء للإشعار بأنه أمر لا يملكون دفعه وليس ملاكه في أيديهم، ومن المعهود عند بلغاء العرب التعبير عما يلم بالناس مما لا دافع له بأنه نزل من السماء. ولا جرم أن تلك السوانح التي تسنح في الأفكار، والإلهامات الإلهية لأصحاب الفطرة الذكية التي يكون من أثرها ما أشار إليه المثل وتقدم التنبيه عليه، هي أمر وهبي واقع ماله من دافع.
قال تعالى في وصف الصيب: { فيه ظلمات ورعد وبرق } الظلمات: هي ظلمة الليل وظلمة السحب وظلمة الصيب نفسه، والرعد: هو الصوت المعروف الذي يسمع في السحاب عند اجتماعه أحيانا، والبرق: هو الضوء الذي يلمع في السحاب في الغالب، وقد يلمع من الأفق حيث لا سحاب، وقال مفسرنا الجلال السيوطي: إن الرعد ملك أو صوته، والبرق سوطه يسوق به السحاب، كأن الملك جسم مادي؛ لأن الصوت المسموع بالآذان من خصائص الأجسام، وكأن السحاب حمار بليد لا يسير إلا إذا زجر بالصراخ الشديد والضرب المتتابع، وما ذكرناه هو الذي كان يفهمه العرب من اللفظين، وهو الذي يفهمه الناس اليوم، ولا يجوز صرف الألفاظ عن معانيها الحقيقية إلا بدليل صحيح، ولا سيما إذا صرفت عن معان من عالم الشهادة الذي يعرفه الواضعون والمتكلمون إلى معان من عالم الغيب لا يعلمها إلا الله تعالى ومن أعلمهم الله تعالى إياها بالوحي، ولكن أكثر المفسرين ولعوا بحشو تفاسيرهم بالموضوعات التي نص المحدثون على كذبها، كما ولعوا بحشوها بالقصص والإسرائيليات التي تلقفوها من أفواه اليهود وألصقوها بالقرآن لتكون بيانا له وتفسيرا، وجعلوا ذلك ملحقا بالوحي، والحق الذي لا مرية فيه: أنه لا يجوز إلحاق شيء بالوحي غير ما تدل عليه ألفاظه وأساليبه، إلا ما ثبت بالوحي عن المعصوم الذي جاء به ثبوتا لا يخالطه الريب.
أقول: هذا ما قاله الأستاذ في الرعد والبرق ردا على الجلال فيما تبع فيه ما روي في التفسير المأثور عن بعض الصحابة والتابعين ولا يصح منه شيء، وأمثلة ما رواه الترمذي بسند ضعيف من سؤال اليهود النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد رأينا السيوطي لم يذكر من هذه الروايات شيئا في تفسير الآية من كتابه (الدر المنثور) المخصص لنقل المأثور، وكذلك ابن كثير، وكأن هذا عده من الإسرائيليات مع عدم صحة الرواية فيه، وفسرهما البغوي بمفهومهما اللغوي، فقال في الرعد: هو الصوت الذي يسمع من السحاب وفي البرق: هو النار التي تخرج منه، ثم قال: قال علي وابن عباس وأكثر المفسرين: الرعد اسم ملك يسوق السحاب. والبرق: لمعان سوط من نور يزجر به الملك السحاب. وقيل: الصوت زجر السحاب، وقيل: تسبيح الملك، وقيل: الرعد نطق الملك والبرق ضحكه، وقال مجاهد: الرعد اسم الملك ويقال لصوته أيضا رعد، والبرق اسم ملك يسوق السحاب، وقال شهر بن حوشب: الرعد ملك يزجي السحب فإذا تبددت ضمها، فإذا اشتد غضبه طارت من فيه النار فهي الصواعق، وقيل: الرعد انخراق الريح بين السحاب، والأول أصح. ا هـ. ولم يذكر الحديث المرفوع؛ لأنه أضعف عنده مما ذكره فيما يظهر.
أقول: ولا شك عندي في أن هذه الأقوال كلها مما كان يذيعه مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه بين المسلمين من الصحابة والتابعين، ولو صح في حديث مرفوع بسماع صحيح لا يحتمل أن يكون من الإسرائيليات لما وقع فيه مثل هذا الخلاف، ولأمكن حمله على أن المراد به والإشارة إلى أن هذه المظاهر الكونية تقع بفعل ملك موكل بالسحاب، ولكن لا حاجة إلى ذلك مع عدم صحة شيء في المسألة، والملائكة من عالم الغيب، وهم لا يراهم الناس إلا إذا تمثلوا لنبي أو ولي على سبيل المعجزة أو الإرهاص، كتمثل الروح للسيدة مريم - عليها السلام -، ورؤية الصحابة لجبريل في حضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - بصورة رجل يسأل عن الإيمان والإسلام والإحسان، والبرق من عالم الشهادة لا من عالم الغيب.
وقول البغوي: وقيل: الرعد انخراق الريح بين السحاب، يريد به قول فلاسفة اليونان الذي اغتر به بعض المسلمين، قال البيضاوي: والرعد صوت يسمع من السحاب. والمشهور أن سببه اضطراب أجرام السحاب واصطكاكها إذا حدتها الريح من الارتعاد. ا هـ. وهو قول باطل. والسحاب: بخار لا يحدث اضطرابه صوتا.
وقال تعالى في أصحاب الصيب: { يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت } الصاعقة هي ما كان يعرفه العرب ويعرفه كل واحد، وهي ما ينزل في أثناء المطر والبرق والرعد فيصعق ما ينزل به، بأن يهلك أو يلحقه ضرر، وما تفسيرنا للبرق والرعد والصاعقة مع كونها معروفة لكل الناس إلا لأن المفسرين صرفوا أفهامهم عن المعروف إلى غيره، كما حكي عن (أرسطو) حكيم قدماء اليونان أن تلاميذه سألوه عن تعريف الحركة، فقام ومشى، وما أنطقهم بالسؤال عنها على بداهتها إلا أنهم اعتادوا أن يسمعوا من الفلاسفة أقوالا في الأمور الجلية تجعلها غامضة خفية.
أما حقيقة البرق والرعد والصاعقة وأسباب حدوثها فليس من مباحث القرآن؛ لأنه من علم الطبيعة - أي الخليقة - وحوادث الجو التي في استطاعة الناس معرفتها باجتهادهم ولا تتوقف على الوحي، وإنما تذكر الظواهر الطبيعية في القرآن لأجل الاعتبار والاستدلال، وصرف العقل إلى البحث الذي يقوى به الفهم والدين، والعلم بالكون ينمى ويضعف في الناس ويختلف باختلاف الزمان. فقد كان الناس يعتقدون في بعض الأزمنة أن الصواعق تحدث من أجسام مادية، لما كان يشمونه في محل نزولها من رائحة الكبريت وغيره، ورجعوا عن هذا الاعتقاد في زمن آخر ملاحظين أن تلك الرائحة لا تكون دائما في محل الصاعقة، وقد ظهر في هذا الزمان أن في الكون سيالا يسمونه الكهرباء، من آثاره ما ترون من التلغراف والتليفون والترامواي، وهذه الأضواء الساطعة في البيوت والأسواق، من غير شموع ولا زيت ولا ذبال، وإنما تكون باتصال سلكين دقيقين كالخيوط التي تخاط بها الثياب، أحدهما: يحمل أو يوصل السيال الكهربائي الذي يسمونه الموجب، والآخر: يوصل السيال المسمى بالسالب، وباتصال السلكين يتولد النور من تلاقي السيالين، وبانقطاعهما أو الفصل بينهما ينفصل السيالان، فينقطع الضوء من المصابيح والحركة من الآلات، والكهربائية موجودة في كل شيء، والبرق في السحاب يتولد من اتصال نوعيها: الموجب، والسالب بقدرة الله تعالى، كما يتولد في الأرض بعمل الإنسان، وقد استنزل بعض علماء الكهربائية قبس الصاعقة من السحاب إلى الأرض، والصاعقة من أثر الكهربائية، وهي تفريغ السحاب طائفة منها في مكان لجاذب في الأرض يجذبه، وكثيرا ما حصل الصعق لعمال التلغراف، لما بين السحاب والأسلاك من الجاذبية، ومعرفة الناس بالسبب الحقيقي للصواعق هداهم إلى حفظ الأبنية الشاهقة منها باتخاذ القضيب المعروف الذي يسمى قضيب الصاعقة، فلا تنزل الصواعق على بناء رفع فوقه هذا القضيب، ولا مجال في تفسير القرآن للتطويل في أمثال هذه المسائل الطبيعية؛ لأنها تطلب من فنونها الخاصة بها، فلنعد إلى بيان المثل.
استحضر حال قوم مشاة في فلاة من الأرض نزل عليهم بعد ما أقبل ظلام الليل صيب من السماء قصفت رعوده، ولمعت بروقه، وتصور كيف يهوون بأصابعهم إلى آذانهم كلما حدث قاصف من الرعد ليدفعوا شدة وقعه بسد منافذ السمع برءوس الأنامل، وعبر عن الأنامل بالأصابع هذا التعبير المجازي اللطيف للإشعار بشدة عنايتهم بسد آذانهم، ومبالغتهم في إدخال أناملهم في صماليخها، كأن كل واحد منهم يحاول بما دهمه من الخوف أن يغرس إصبعه كلها في أذنه حتى لا يكون للصوت منفذ إلى سمعه، لما يحذره على نفسه من الموت الزؤام، ومعاجلة الحمام، وهذا هو الجبن الخالع، ومنتهى حدود الحماقة؛ لأن سد الآذان ليس من أسباب الوقاية من أخذ الصاعقة ونزول الموت، والموت: فقد الحياة بمفارقة الروح للبدن، وخلق الله له عبارة عن تقديره، أو عن قبضه للروح وتوفيه للنفس.
وقوله تعالى: { والله محيط بالكافرين } يرشدنا في أثناء شرح المثل وتقريره إلى حال من ضرب فيهم المثل لئلا يذهلنا ما نتصوره من حال المشبه به عن حال المشبه المقصود بالذات، وهو أن التصامم والهروب من سماع آيات الحق، والحذر من صواعق براهينه الساطعة أن تذهب بتقاليدهم التي يرون حياتهم الملية مرتبطة بها لا يفيدهم شيئا؛ لأن الله تعالى محيط بهم، ومطلع على سرائرهم وعالم بما في ضمائرهم، وقادر على أخذهم أينما كانوا، وفي أي طريق سلكوا، فلا يهربون من برهان إلا ويفاجئهم برهان آخر، كالغريق يدفعه موج ويتلقاه موج حتى يقذف به إلى ساحل النجاة، أو يدفعه إلى هاوية العدم، ولهذا قال: { محيط بالكافرين } ولم يقل: محيط بهم، أقول: فوضع الاسم المظهر موضع المضمر للإيذان بأنهم إنما كانوا كذلك بكفرهم وأن ذلك يرد في أمثالهم. والمراد بالإحاطة هنا إحاطة القدرة. فمن لم يمته بأخذ الصاعقة أماته بغيرها، تنوعت الأسباب والموت واحد. والمحيط بالشيء لا يمكن أن يفوته وينفلت من قبضته.
{ يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا } إذا لمع البرق بشدة مفاجئا من هو في ظلمة فإنه يؤثر في بصره تأثيرا يكاد يخطفه، والخطف: هو الأخذ بسرعة، ولكنه يتبين به جزءا من الطريق فيمشي فيه خطوات ثم يعتكر عليه الظلام وتستحوذ عليه المخاوف والأوهام فيقف في مكانه، أو يعود البرق إلى لمعانه، ويحاكي هذا من حال الممثل بهم أنه عند ما يدعوهم الداعي إلى أصل الدين، ويوضح لهم سبب ما هم فيه من البلاء المبين، ويتلو عليهم الآيات البينة، ويقيم لهم الحجج القيمة على أنهم تنكبوا الصراط السوي وأصيبوا بالداء الدوي، يظهر لهم الحق فيعزمون على اتباعه، وتسير أفكارهم في نوره بعض خطوات، ولكن لا يعتمون أن تعود إليهم عتمة التقليد وظلمة الشهوات، وغبسة الأهواء والشبهات. فتقيد الفكر وإن لم تقف سيره وإنما تعود به إلى الحيرة - كما تقدم في أول الكلام ثم يتكرر النظر في تضاعيفها بطريق الالتفات والإلمام. وفيه: أنهم على سوء الحال وخطر المآل لم تنقطع منهم الآمال، كما انقطعت من أصحاب المثل الأول الذين وصفوا بالصم البكم العمي ولذلك قال فيهم: { ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم } حتى لا ينجع فيهم وعظ واعظ، ولا تفيدهم هداية هاد، ولم يقل: إنه ذهب بنورهم كما ذهب بنور أولئك وسلبهم كل أنواع الهدى والرشاد فوقع اليأس من رجوعهم إلى الحق. وقوله تعالى: { ولو شاء الله } إلخ رجوع إلى بيان حال من ضرب فيهم المثل لا من تتمة المثل، وقد كنى عنهم بالضمير هنا؛ لأن المثل قد تم بعد ما ذكرهم في قوله: { والله محيط بالكافرين } بالوصف الذي اقتضى التمثيل، هذا ما قاله شيخنا، وهو أحد قولين للمفسرين، ومنهم من جعله تتمة للمثل نفسه، والمقصود من ضرب فيهم المثل، على أن كلا من المعنيين صحيح لا ينافي الآخر، وكلام بعضهم يمنع الجمع، فقد قال البغوي: ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم الظاهرة، كما ذهب بأسماعهم وأبصارهم الباطنة ا هـ. وهو خطأ بياني فإن الباطنة هي المقصود من الظاهرة بأسلوب التشبيه البليغ وهو الاستعارة. ومع هذا فقد جعله شيخنا في صنف منهم غير الموصوفين بقوله: { صم بكم عمي } وكلامه أظهر.
{ إن الله على كل شيء قدير } ليس عندي عن أستاذنا شيء في هذه الجملة، ومعناها واضح لا يحتاج إلى تفسير، ولكن قال بعض المفسرين: إن " قدير " بمعنى قادر، ومثله كل صيغة مبالغة في أسمائه تعالى؛ لأنه لا تفاوت فيها، وفيه أن المبالغة في الكلام، لأجل التأثير في الإفهام، فقوله: " علام الغيوب " أبلغ من قوله: " عالم الغيب " ولكل منهما موقع، وهاهنا لما هدد المنافقين بأنه لو شاء أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بها، علله بأنه على كل شيء قدير، للإعلام بأن تعلق مشيئته يتصل به تعلق قدرته، فما شاء كان قطعا؛ لأنه لا يعجزه شيء، وتأثير الأسباب في مسبباتها منوط بمشيئته تعالى.
تنبيه صادع في تطبيق القرآن على ما هو واقع
وظهور معاني الأمثال المضروبة للمنافقين، في كثير من العلماء والعامة من المسلمين:
عقب الأستاذ تفسير هذه الآيات بتنبيه ارتاع له الخامل والنبيه، ذلك أنه بين أن القرآن هاد ومرشد إلى يوم القيامة، وأن معانيه عامة شاملة، فلا يعد ويوعد ويعظ ويرشد أشخاصا مخصوصين، وإنما نيط وعده ووعيده وتبشيره وإنذاره بالعقائد والأخلاق والعادات والأعمال التي توجد في الأمم والشعوب، فلا يغترن أحد بقول بعض المفسرين: إن هذه الآيات نزلت في المنافقين الذين كانوا في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيتوهم أنها لا تتناوله وإن كانت منطبقة عليه؛ لأنه لم يتخذ القرآن إماما وهاديا، ولم يستعمل عقله ومشاعره فيما خلقت له بل اكتفى عن ذلك بتقليد آبائه ومعاصريه في كل ما هم فيه، ذكر ذلك عند بيان وجه الاتصال بين الآيات السابقة وما بعدها، فقال بعد تلاوة الآية التالية ما معناه: