خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى ٱلْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيۤ أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٢٤٠
وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ
٢٤١
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
٢٤٢
-البقرة

تفسير المنار

هذه الآيات تتمة ما في السورة من أحكام الأزواج، وقد جاء الأمر بالمحافظة على الصلوات في أثناء هذه الأحكام - والصلاة عماد الدين - للعناية بها، فمن حافظ على الصلوات كان جديرا بالوقوف عند حدود الله تعالى والعمل بشريعته; ولذلك قال: { { واستعينوا بالصبر والصلاة } [البقرة: 45] وقد بينا وجه ذلك، وقد خطر لي وجه آخر هو الذي يطرد في أسلوب القرآن الخاص في مزج مقاصد القرآن بعضها ببعض، ومن عقائد، وحكم، ومواعظ، وأحكام تعبدية، ومدنية، وغيرها، وهو نفي السآمة عن القارئ، والسامع من طول النوع الواحد منها، وتجديد نشاطهما وفهمهما، واعتبارهما في الصلاة وغيرها.
قوله: { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا } إلخ. فيه قولان: أحدهما: أن عدة الوفاة كانت في أول الإسلام سنة كاملة مجاراة لعادات العرب، ولكن مع تخيير المرأة في الاعتداد في بيت الميت، فإن اعتدت فيه وجبت نفقتها من تركته وحرم على الورثة إخراجها، وإن خرجت هي سقط حقها في النفقة، وقالوا: إنه لم يكن للمرأة من ميراث زوجها إلا هذا المتاع والنفقة، فقوله تعالى: { وصية لأزواجهم } معناه فليوصوا وصية لأزواجهم، أو فعليهم وصية لأزواجهم ؛ إذ قرأ أبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، وحفص، عن عاصم { وصية } بالنصب، وقرأها ابن كثير، ونافع، والكسائي، وأبو بكر، عن عاصم بالرفع، وقوله: { متاعا إلى الحول } معناه: أن يمتعوا متاعا، أو متعوهن متاعا، كأنه قال: فليوصوا لهن وصية وليمتعوهن متاعا إلى آخر الحول، وقيل: إن التقدير جعل الله ذلك لهن متاعا. وقوله: { غير إخراج } معناه غير مخرجات; أي: يجب ذلك لهن مقيمات في دار الميت غير مخرجات، فلا يمنعن السكنى. قال الأستاذ الإمام: الأحسن ما قاله بعضهم من أن متاعا مصدر بمعنى تمتيعا، أو معمول للمصدر الذي هو وصية، ومعنى { غير إخراج } غير مخرجات، وهو حال من الأزواج، والنكتة في العدول عنه هي أن المراد أن يوصي الرجل بعدم إخراج زوجه، وأن ينفذ أولياؤه وصيته فلا يخرجونهن من بيوتهن، ولو قال: "غير مخرجات" لكان تحتيما عليهن بالبقاء في البيوت ولأفاد عدم جواز إخراجهن لأحد، ولو كان وليا كأبيها، وليس هذا بمراد، فعبارة الآية تفيد المعنى المراد، ولا توهم سواه. هذا ما ذهب إليه الجمهور في معنى الآية، فهي عندهم توجب أن تكون عدة الوفاة سنة كاملة وأن ينفق على المعتدة من تركة زوجها مقيمة في داره لا يجوز إخراجها منه إلا أن تخرج باختيارها فتسقط نفقتها. قالوا: ثم نسخت بجعل العدة أربعة أشهر وعشرا كما في تلك الآية التي تقدمت عليها في الذكر، وهي متأخرة عنها في النزول، وبجعلها وارثة للزوج بنص القرآن مع تحريم الوصية للوارث في الحديث. أقول: وعليه يكون الإصلاح لتلك العادات الجاهلية في الاعتداد لوفاة الزوج وما يتبعه من الحداد عليه قد حصل بالتدريج، فأقرت مدة العدة أولا، ولكن منع أن تكون بتلك الحالة الرديئة التي تقدم ذكرها، ثم نسخت بما تقدم.
قال الأستاذ الإمام: وهناك وجه آخر يتصل بقول الجمهور، وهو أن الآية كانت في فرض الوصية، وطلب مع هذا الفرض من ورثة الميت ألا يخرجوا النساء في مدة الحول، وأن الخروج الذي يبرأ به أولياء الميت من الوصية المفروضة التي هي النفقة هو الخروج الذي بعد العدة التي هي أربعة أشهر، وعشر، قال: وهو قول ضعيف.
والقول الثاني: أن هذه الآية لم يذكر فيها التربص الذي هو الاعتداد كما ذكر في غيرها من آيات العدة السابقة، وإنما ذكر الوصية، والمراد بها أن يستوصي الرجال بالنساء اللواتي يتوفى أزواجهن خيرا بألا يخرجوهن من بيوت أزواجهن بعد ما كان من قوة علاقتهن بها إلى مدة سنة كاملة تمر فيها عليهن الفصول الأربعة التي يتذكرن أزواجهن فيها، وأن يجعل لهن في مدة السنة شيء من المال ينفقنه على أنفسهن، إلا إذا خرجن وتعرضن للزواج، أو تزوجن بعد العدة المفروضة في الآية السابقة، ولكن لم يعمل أحد من الصحابة ولا من بعدهم بهذا; ولذلك قال الجمهور: إنه منسوخ، وذهب بعض الصحابة والتابعين إلى أن الأمر بالوصية كان للندب وتهاون الناس به كما تهاونوا في كثير من المندوبات - أي كاستئذان الأولاد الذين لم يبلغوا الحلم عند دخول بيوتهم في الأوقات الثلاثة التي هي مظنة التهاون بالستر، قبل صلاة الفجر وحين وضع الثياب من الظهيرة في أيام الحر ومن بعد صلاة العشاء - قال: وعلى هذا فلا نسخ لأنهم مجمعون على أنه لا يصار إلى النسخ إذا أمكن الجمع بين النصين.
هذا ما جرى عليه الأستاذ الإمامرحمه الله تعالى في تفسير الآية، وفي كتب التفسير عزيت مخالفة الجمهور إلى كبيرين من قدماء المفسرين وهما مجاهد، وأبو مسلم، أما مجاهد فقد روى عنه ابن جرير أنه يقول: نزل في عدة المتوفى عنها زوجها آيتان: قوله تعالى:
{ { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } [البقرة: 234] الآية، وقد تقدمت، وهذه الآية. فيجب حمل الآيتين على حالتين، فإن اختارت الإقامة في دار زوجها المتوفى والنفقة من ماله فعدتها سنة، وإلا فعدتها أربعة أشهر وعشر، فيكون للعدة على قوله أجل محتم، وهو الأقل، وأجل مخير فيه، وهو الأكثر. وأما أبو مسلم فيقول: إن معنى الآية: من يتوفون منكم ويذرون أزواجا وقد وصوا وصية لأزواجهم بنفقة الحول وسكنى الحول، فإن خرجن قبل ذلك وخالفن وصية الأزواج بعد أن يقمن المدة التي ضربها الله تعالى لهن، فلا حرج فيما فعلن في أنفسهن من معروف أي نكاح صحيح; لأن إقامتهن بهذه الوصية غير لازمة، قال: والسبب أنهم كانوا في زمان الجاهلية يوصون بالنفقة والسكنى حولا كاملا، وكان يجب على المرأة الاعتداد بالحول; فبين الله تعالى في هذه الآية أن ذلك غير واجب على هذا التقدير فالنسخ زائل.
أورد الإمام الرازي هذا في تفسيره، ثم قال: واحتج على قوله بوجوه:
أحدها: أن النسخ خلاف الأصل فوجب المصير إلى عدمه بقدر الإمكان.
والثاني: أن يكون الناسخ متأخرا عن المنسوخ في النزول (أي الأصل أن يكون إلخ ولعل لفظ الأصل سقط من الناسخ أو الطابع } وإذا كان متأخرا عنه في النزول كان الأحسن أن يكون متأخرا عنه في التلاوة أيضا; لأن هذا الترتيب أحسن، فأما تقدم الناسخ على المنسوخ في التلاوة فهو وإن كان جائزا في الجملة إلا أنه يعد من سوء الترتيب، وتنزيه كلام الله تعالى عنه واجب بقدر الإمكان، ولما كانت هذه الآية متأخرة عن تلك في التلاوة كان الأولى ألا يحكم بكونها منسوخة بتلك.
الوجه الثالث: هو أنه ثبت في علم أصول الفقه أنه متى وقع التعارض بين النسخ وبين التخصيص كان التخصيص أولى، وها هنا إن خصصنا هاتين الآيتين بالحالتين - على ما هو قول مجاهد - اندفع النسخ فكان المصير إلى قول مجاهد أولى من التزام النسخ من غير دليل، وأما على قول أبي مسلم فالكلام أظهر; لأنكم تقولون: تقدير الآية: فعليهم وصية لأزواجهم، أو تقديرها: فليوصوا وصية، فأنتم تضيفون هذا الحكم إلى الله تعالى، وأبو مسلم يقول بل تقدير الآية: والذين يتوفون منكم ولهم وصية لأزواجهم، أو تقديرها: وقد أوصوا وصية لأزواجهم، فهو يضيف هذا الكلام إلى الزوج، وإذا كان لا بد من الإضمار فليس إضماركم أولى من إضماره، ثم على تقدير أن يكون الإضمار ما ذكرتم يلزم تطرق النسخ إلى الآية، وعند هذا يشهد كل عقل سليم بأن إضمار أبي مسلم أولى من إضماركم، وأن التزام هذا النسخ التزام له من غير دليل، مع ما في هذا القول بهذا النسخ من سوء الترتيب الذي يجب تنزيه كلام الله تعالى عنه، وهذا كلام واضح، وإذا عرفت هذا فنقول: هذه الآية من أولها إلى آخرها تكون جملة واحدة شرطية فالشرط هو قوله: { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج } والجزاء هو قوله: { فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف } فهذا تقدير قول أبي مسلم وهو في غاية الصحة اهـ.
أوردنا كلام الرازي بنصه على إسهابه وإطنابه لما فيه من تفنيد قول الجمهور بالحجج البينة التي يقتنع بها أولو الألباب، وليعلم المقلدون أن في أشهر مفسري القرون الوسطى من ضعف ذلك القول ورجح عليه كلا من القولين المخالفين له، واعلم أن ما ذكره من جواز كون الناسخ متأخرا عن المنسوخ في التلاوة هو ما قاله الأصوليون، وإطلاق القول فيه غريب ما حملهم عليه إلا تصحيح فهمهم لمثل هاتين الآيتين أو اغترارهم بتفسير الجمهور لهما، وإذا سهل تسليم قولهم بجواز وجود آيتين في سورتين تنسخ إحداهما الأخرى مع وجود الناسخة في السورة المتأخرة في ترتيب القرآن فلا يسهل القول بأن آيات متناسقة في سورة واحدة يجعل السابق منها ناسخا لما بعده، ويفهم من قوله بوجوب تنزيه كلام الله تعالى عن مثل ذلك أنه لا يجيزه; لأن الواجب في التنزيه يدخل في باب العقائد، فهو أبلغ من الواجب في الأحكام العملية، فكيف يسمى تركه جائزا؟ وإذا كان غير جائز فهو البرهان القاطع على بطلان قول الجمهور بالنسخ.
بعد هذا كله أقول: إن قول مجاهد في الآية بعيد جدا وإن فضله الرازي على قول الجمهور، ويرجح قول أبي مسلم أمران ؛ أحدهما في العبارة وهو جعل { الذين يتوفون } فيه على ظاهره، والجمهور يجعلونه بمعنى الذين تحضرهم الوفاة; كأن هذه الوصية لا تجب عند القائل بوجوبها إلا على من يشعر بدنو أجله. وثانيهما ما علم من عادة العرب في إلزام المرأة ببيت زوجها المتوفى سنة كاملة، فلما جعل الإسلام عدتها أربعة أشهر وعشرا كان من مقتضاه أن يخرجها الورثة من البيت بعد مضي العدة، فإذا كانت غير راغبة في الزواج يشق عليها ذلك، فكان من اللائق المتوقع من الزوج الوفي أن يوصي بعدم إخراجها قبل الحول المعتاد جبرا لقلبها، وألا تكلف النفقة على نفسها ما دامت في البيت، وقد بين الله تعالى للناس أنه لا حرج على أولياء الميت وورثته فيما تفعله المرأة إذا هي خرجت من بينهم; لأن كفالتهم إياها تسقط حينئذ من غير تقصير منهم في إكرامها، وإنما قيد الفعل بالمعروف; لأن منعها عن المنكر واجب عليهم، فإذا قصروا فيه كان عليهم جناح عظيم.
وهذا الوجه الثاني يتفق مع التفسير المختار عن الأستاذ الإمام. وهو أن الوصية للندب لا للوجوب. والوجه الأول يمكن التقصي منه بجعل الوصية من الله تعالى لا من المتوفى، والتقدير على الوجه المختار: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا، وصية من الله لأزواجهم، أو فالله يوصي وصية لأزواجهم أن يمتعن متاعا ولا يخرجن من بيوت أزواجهن إلى تمام الحول، فإن خرجن من تلقاء أنفسهن فلا جناح عليكم أيها المخاطبون بالوصية فيهن فيما فعلن من المعروف شرعا وعادة كالتعرض للخطاب بعد العدة والتزوج; إذ لا ولاية لكم عليهن فهن حرائر لا يمنعن إلا من المنكر الذي يمنع منه كل مكلف، وجعل الوصية من الله تعالى معهود في القرآن كقوله:
{ { يوصيكم الله في أولادكم } [النساء: 11] وقوله: { { غير مضار وصية من الله } [النساء: 12] وهذا هو المتبادر من النظم الكريم فهو أظهر من قول أبي مسلم، ولا يعارض آية تحديد العدة ولا آية المواريث ولا حديث "لا وصيّة لوارث" فيتأتى فيه النسخ، سواء كانت هذه الوصية لندب أو للوجوب، وما قلنا إنها للندب إلا لعدم شيوع العمل بها كآية استئذان الولدان في سورة النور، ولا يمكن الجزم بأنه لم يعمل بها أحد ألبتة إذ لم يطلع أحد من الخلق على جميع معاملات الناس في بيوتهم، فتأمل هذا وما قبله أيها المستقل الفهم المعافى من جهالة التقليد، وتذكر قول المثل السائر: كم ترك الأول للآخر.
وقد ختم الآية بقوله: { والله عزيز حكيم } للتذكير بأن لله العزة والغلبة فيما يريد من تحويل الأمم عن عادات ضارة إلى سنن نافعة تقتضيها الحكمة، كتحويل العرب عن عاداتهم في العدة والحداد بجعل المرأة أسيرة ذليلة مقهورة مدة سنة كاملة إلى ما هو خير من ذلك، وهو إكرامها ما دامت في بيت زوجها بين أهله، وعدم الحجر على حريتها إذا أرادت الخروج منه ما دامت في حظيرة الشرع وآداب الأمة المعروفة، فهذه الحكمة البالغة توافق مصلحة الأفراد والجماعات في كل زمان ومكان.
ثم قال تعالى: { وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين } قال الجلال: كرره ليعم الممسوسة أيضا إذ الآية السابقة في غيرها. وقد أنكر عليه الأستاذ الإمام - كعادته - القول بالتكرار، قال: كأن ما تقدم خاص وما هنا عام، والصواب أن كل آية من الآيات التي وردت في المطلقات وردت في نوع منهن، فتقدم حكم من لم تمس وقد فرض لها، وحكم المدخول بها المفروض لها، وبقي حكم غيرهما (وفي المذكرة المأخوذة في درسه: وبقي حكم الممسوسة سواء فرض لها أم لا) فذكره هنا، ولم يذكر ذلك بالترتيب; لأن القرآن ليس كتابا فنيا فيكون لكل مقصد من مقاصده باب خاص به، وإنما هو كتاب هداية ووعظ ينتقل بالإنسان من شأن من شئونه إلى آخر، ويعود إلى مباحث المقصد الواحد المرة بعد المرة، مع التفنن في العبارة، والتنويع في البيان، حتى لا يمل تاليه وسامعه من المواظبة على الاهتداء، يوجز أحيانا بما يعجز كل أحد عن الإتيان بمثله إذا كان المقام يقتضي الإيجاز، ويطنب في مقام آخر حيث ينبغي الإطناب، وهو معجز في إطنابه كإيجازه، لا لغو فيه ولا حشو، ولكل مقام فيه مقال ينطبق على الحكمة، ويعين على التدبر والتذكر.
أقول: إن المطلقات أربع: مطلقة مدخول بها قد فرض لها مهر فلها كل المفروض، وعدتها ثلاثة قروء، وفيها قوله تعالى:
{ { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا } [البقرة: 229] الآية، وتقدم تفسيرها وفي معناها قوله تعالى في سورة النساء: { { وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا } [النساء: 20] ومطلقة غير مدخول بها ولا مفروض لها، فيجب لها المتعة بحسب إيسار المطلق ولا مهر لها، وفيها قوله تعالى: { { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن } [البقرة: 236] الآية، وقد سبق تفسيرها، ولا عدة عليها لآية الأحزاب التي ذكرناها في تفسيرها استشهادا. ومطلقة مفروض لها غير مدخول بها فلها نصف المهر المفروض، وفيها قوله: { { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } [البقرة: 237] وتقدم تفسيرها ولا عدة عليها أيضا. ومطلقة مدخول بها غير مفروض لها، قالوا: ولها مهر مثلها بلا خلاف، وذكر بعضهم أن قوله تعالى في سورة النساء: { { فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة } [النساء: 24] معناه: فأعطوهن مهورهن بالفرض والتقدير إذا كان غير مسمى; أي: والعمدة في التقدير مساواتها بأمثالها على الأقل. ولم يأمرنا تعالى بالتمتيع عند ذكر نوع من المطلقات إلا غير الممسوسات مطلقا كما في آية الأحزاب، أو مقيدا بقوله: { { أو تفرضوا لهن فريضة } [البقرة: 236] كما تقدم في الآية المشار إليها آنفاً.
ثم ختم الله تعالى هذه الأحكام المسرودة هنا بقوله: { وللمطلقات متاع } إلخ، فزعم بعضهم أن المراد المطلقات المعهودات اللواتي سبق الأمر بتمتيعهن، واستدلوا بما رواه ابن جرير، عن ابن زيد قال: لما نزلت
{ { ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين } [البقرة: 236] قال رجل: إن أحسنت فعلت، وإن لم أرد ذلك لم أفعل; فأنزل الله هذه الآية. وفسروا المتقين بمتقي الكفر، وليست هذه الرواية مما يحتج به، وقد قدمنا أن ذكر المحسنين هناك لا يدل على التخيير. وقال بعضهم: إن هذا حكم عام فتجب المتعة لكل مطلقة، ولا تكرار على هذا مع الآية الآمرة بتمتيع من لم تمس ولم يفرض لها; لأن هذه الآية مسوقة لحكم هذه المتعة من غير تخصيص ولا تقييد بكونها تختلف باختلاف حال الرجل في الإيسار، وتلك سيقت لبيان نفي الجناح عمن طلق من لم يمسها ولم يفرض لها، وجاء في السياق أنه يجب لها تمتيع حسن بحسب وسع المطلق لما تقدم بيانه في تفسيرها، فعلى هذا تكون المتعة مشروعة لكل مطلقة، وروي هذا عن ابن عباس، وابن عمر، وعطاء، وجابر بن زيد، وسعيد بن جبير، وأبي العالية، والحسن البصري، والشافعي في أحد قوليه وأحمد، وإسحاق، واستدلوا بعموم هذه الآية وبقوله تعالى في سورة الأحزاب: { { يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا } [الأحزاب: 28] وقد كن مدخولا بهن مفروضا لهن المهر. والقائلون بهذا منهم من يقول: إنها واجبة لكل مطلقة، ومنهم من يقول: واجبة لمن لم تمس ولم يفرض لها مندوبة لغيرها، وحجة من قال: إن التمتيع خاص بمن لم تمس ولم يفرض لها هي أنه بدل مما يجب لغيرها من نصف المهر إن فرض لها ولم تمس، أو المهر المسمى، أو مهر المثل إذا كانت ممسوسة، وحسبنا أن الله تعالى جعل تمتيع المطلقات حقا على المتقين، وقد فسروه بالذين يتقون الشرك، أو هو حق على كل مؤمن مطلقا، إلا أن يثبت أن ما تستحقه من المهر يسمى متاعا في عرف القرآن، فحينئذ تكون هذه الآية فذلكة لسائر الآيات، كأنه قال: لكل مطلقة متاع تمتع به، فمنهن من متاعها المهر المسمى أو المقدر، ومنهن من متاعها نصفه، ومنهن من لها متاع غير محدود; لأنه على حسب الاستطاعة. وأحوط الأقوال وأوسطها قول من جعل المتعة غير المهر وأوجبها لمن لا تستحق مهرا وندبها لغيرها.
ثم ختم الله تعالى هذه الأحكام بقوله: { كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون } أي: مضت سنته تعالى بأن يبين لكم آياته في أحكام دينه مثل هذا النحو من البيان، وهو أن يذكر الحكم وفائدته ويقرنه بذكر الله والموعظة الحسنة التي تعين على العمل به، ليعدكم بذلك لكمال العقل فتتحروا الاستفادة من كل عمل، فعليكم أن تعقلوا ما تخاطبون به لتكونوا على بصيرة من دينكم، عارفين بانطباق أحكامه على مصالحكم بما فيها من تزكية نفوسكم والتأليف بين قلوبكم، فتكونوا حقيقين بإقامتها والمحافظة عليها. قال الأستاذ الإمام: ليس معنى العقل أن يجعل المعنى في حاشية من حواشي الدماغ، غير مستقر في الذهن، ولا مؤثر في النفس، بل معناه أن يتدبر الشيء ويتأمله حتى تذعن نفسه لما أودعت فيه إذعانا يكون له أثر في العمل، فمن لم يعقل الكلام بهذا المعنى فهو ميت وإن كان يزعم أنه حي - ميت من عالم العقلاء حي بالحياة الحيوانية - وقد فهمنا هذه الأحكام ولكن ما عقلناها، ولو عقلناها لما أهملناها.
وأقول: أين هذه الطريقة المثلى في بيان الأحكام من طريقة الكتب المعروفة عندنا بكتب الفقه، وهي غفل في الغالب من بيان فائدة الأحكام وانطباقها على مصالح البشر في كل زمان ومزجها بالوعظ والتذكير؟ وأين أهل التقليد من هدي القرآن؟ هو يذكر لنا الأحكام بأسلوب يعدنا للعقل، ويجعلنا من أهل البصيرة وينهانا عن التقليد الأعمى، وهم يأمروننا بأن نخر على كلامهم وكلام أمثالهم صما وعميانا، ومن حاول منا الاهتداء بالكتاب العزيز وما بينه من السنة المتبعة أقاموا عليه النكير، ولعله لا يسلم من التبديع والتكفير، يزعمون أنهم بهذا يحافظون على الدين وما أضاع الدين إلا هذا، فإن بقينا على هذه التقاليد لا يبقى على هذا الدين أحد، فإننا نرى الناس يتسللون منه لواذا، وإذا رجعنا إلى العقل الذي هدانا الله تعالى إليه في هذه الآية وأمثالها، رجي لنا أن نحيي ديننا فيكون دين العقل هو مرجع الأمم أجمعين، وهذا ما وعدنا الله تعالى به
{ { ولتعلمن نبأه بعد حين } [ص: 88].