خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

بَلِ ٱللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ ٱلنَّاصِرِينَ
١٥٠
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ بِمَآ أَشْرَكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ ٱلنَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَىٰ ٱلظَّالِمِينَ
١٥١
-آل عمران

تفسير المنار

قال بعض المفسرين: إن هذه الآيات التفات عن خطاب المنافقين - الذين وبخهم في الآيات السابقة أن انهزموا وقالوا ما قالوا - إلى خطاب المؤمنين الصادقين. وقال الأستاذ الإمام: الخطاب لمن سمع قول أولئك القائلين من المنافقين: ارجعوا إلى إخوانكم ودينكم وهو أخص مما قبله، والمختار على الطريقة التي جرينا عليها في تفسير الآيات السابقة أن الخطاب فيها عام وجه إلى كل من شهد أحدا لتكافلهم، وكل يعتبر بها بحسب حاله، ويدل عليه الآيات الآتية بعدها، فإنها من تتمة الخطاب وفيها تفصيل لأعمالهم ونياتهم وعناية الله بهم، مع تقسيمهم إلى مريد للدنيا ومريد للآخرة كما يأتي قريبا.
قوله - تعالى -: { ياأيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا } معناه إن تطيعوا الذين جحدوا نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم يقبلوا دعوته إلى التوحيد والخير كأبي سفيان ومن معه من مشركي مكة الذين دعاكم مرضى القلوب إلى الرجوع إليهم، وتوسيط رئيس المنافقين عبد الله بن أبي بينكم وبين رئيسهم (أبي سفيان) ليطلب لكم منه الأمان، أو الذين كفروا بقلوبهم وآمنوا بأفواههم كعبد الله بن أبي وأصحابه الذين خذلوكم قبل الشروع في الحرب، ثم دعوكم بعدها إلى الرجوع إلى دينكم، وقالوا: لو كان محمد نبيا لما أصابه ما أصابه.
{ يردوكم على أعقابكم } إلى ما كنتم عليه من الكفر ابتداء أو استدراجا. قال الأستاذ الإمام: أي إن طلبتم الأمان منهم وكانت حالكم معهم حال المغلوب مع الغالب يتولوا عليكم وتكونوا معهم أذلاء مقهورين حتى يردوكم عن دينكم { فتنقلبوا خاسرين } للدنيا والآخرة، أما الأول فيخضعوكم لسلطانهم وامتهانكم بينهم وحرمانكم مما وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات من استخلافهم في الأرض بالسيادة والملك، ومن تمكين دينهم وتبديلهم من بعد خوفهم أمنا، أما الآخر فيما يمسكم في الآخرة من عذاب المرتدين مع الحرمان مما وعد الله المتقين.
وذكر بعضهم لليهود والنصارى في تفسير هذه الآية لا مناسبة له، وقد تبعوا فيه ما روي عن الحسن وابن جريج. والمروي عن السدي أن المراد بالذين كفروا أبو سفيان ومن معه من المشركين، وعن علي أنهم عبد الله بن أبي وحزبه، وهم الذين دعوا إلى الارتداد كما تقدم وأشرنا إليه آنفا.
{ بل الله مولاكم } فلا ينبغي أن تفكروا في ولاية أبي سفيان وحزبه، ولا عبد الله بن أبي وشيعته، ولا أن تصغوا لإغواء من يدعوكم إلى موالاتهم فإنهم لا يستطيعون لكم نصرا ولا أنفسهم ينصرون، وإنما الله هو المولى القادر على نصركم إذا هو تولى شئونكم بعنايته الخاصة التي وعدكم بها في قوله:
{ فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير } [الأنفال: 40] وبين لكم أن سنته قد مضت بأنه يتولى الصالحين ويخذل من يناوئهم من الكافرين { أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها * ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم } [محمد: 10 - 11] ومن هنا أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - جوابه لأبي سفيان حين قال بعد وقعة أحد التي نزلت هذه الآيات فيها: " لنا العزى ولا عزى لكم " إذ أمر - صلى الله عليه وسلم - بأن يجاب الله مولانا ولا مولى لكم كأنه - تعالى - يذكر المؤمنين بقوله هذا المنبئ عن سنته، وبتذكير الرسول لهم به، وإذا كان هو مولاكم وناصركم إذا قمتم بما شرطه عليكم في ذلك من الإيمان والصلاح ونصر الحق فهل تحتاجون إلى أحد من بعده.
وهو خير الناصرين؟ فإن من يطلق عليهم لفظ الناصر من الناس إنما ينصر بعضهم بعضا بما أوتوا من القوى وما تيسر لهم من الأسباب. وإنما الله هو الذي آتاهم القوى وسخر لهم الأسباب، وهو القادر بذاته على نصر من شاء من عباده بإيتائهم أفضل ما يؤتي غيرهم من الصبر والثبات والعزيمة وإحكام الرأي وإقامة السنن والتوفيق للأسباب، هذا ما ظهر لنا. ويقول المفسرون: في مثل هذه العبارة اسم التفضيل (خير) فيها على غير بابه؛ لأنه لا خير في أولئك الناصرين الذين يعرض بهم، قال الأستاذ الإمام: لا وجه للاعتراض بأن الكافرين لا خير فيهم، فإن التفضيل إنما هو بالنسبة إلى النصر، يعني أن نصر الله لعباده المؤمنين خير من نصر الكافرين لمن ينصرونه من أوليائهم.
{ سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا } المتبادر لنا أن الآية تعليل أو تصوير لكونه - تعالى - خير الناصرين للمؤمنين الموحدين، مبينة لبعض وجوهه تبيينا يقبح لهم الشرك ويزيدهم حبا في الإيمان، وبيانه أنه سيحكم في أعدائهم المشركين سنته العادلة، وهي أنه يلقي في قلوبهم الرعب - بضم العين - وبه قرأ ابن عامر والكسائي ويعقوب وبسكونها وبه قرأ الباقون، وهو شدة الخوف التي تملأ القلب بسبب إشراكهم بالله أصناما ومعبودات لم ينزل بها سلطانا، أي لم يقم برهانا من العقل ولا من الوحي على ما زعموا من ألوهيتها وكونها واسطة بين الله وبين خلقه، وإنما قلدوا في اتخاذها واعتقادها آباءهم الذين اتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل، ومن كان كذلك غير مطمئن في دينه، ولا متبع للدليل في اعتقاده فهو دائما عرضة لاضطراب القلب واتباع خطرات الوهم، يعد الوسواس أسبابا ويرى الهواجس مؤثرات وعللا قياسا على اتخاذه بعض المخلوقات أولياء وجعلهم وسائط عند الله وشفعاء، واعتياده بذلك أن يرجو ما لا يرجى منه خير، ويخاف ما لا يخاف منه ضير، فالإشراك قد يكون سببا طبيعيا لوقوع الرعب في القلب، وما كان كذلك فإن الله يسنده إلى نفسه وإن لم يذكر السبب؛ لأنه هو واضع الأسباب والسنن، ولكنه قد صرح به هنا ليكون برهانا على بطلان الشرك وسوء أثره، وهذا الوجه المختار في تفسير الآية يوافق قول من جعل الوعيد فيها عاما وليس كل الكفر يثير الرعب بطبيعته، وإنما تلك طبيعة الشرك، وهو اعتقاد أن لبعض المخلوقات تأثيرا غيبيا وراء السنن الإلهية والأسباب.
وصرح كثير من المفسرين بأن قوله - تعالى -: { سنلقي } وعد للمؤمنين أنجزه الله يوم أحد في أول الحرب، ولا يظهر هذا بغير تأويل ولا تقدير إلا إذا كانت الآية قد نزلت قبل القتال، والظاهر أنها نزلت مع ما قبلها وما بعدها عقب القتال وانصراف المشركين. وقال بعضهم: إن الوعد أنجز في غزوة حمراء الأسد، إذ أراد أبو سفيان ومن معه بعد الانصراف من أحد أن يرجعوا لاستئصال المسلمين فأوقع الله الرعب في قلوبهم لما قال لهم معبد ما قال (راجع ص88 من الجزء الرابع ط الهيئة).
قال الأستاذ الإمام: في الآية وجهان: (الوجه الأول) أن إلقاء الرعب خاص بتلك الواقعة، ولو كان عاما لشمل غزوة حنين - ولم يكن الكفار فيها مرعوبين، بل كانوا مستميتين وكذلك نرى أن كثيرا من الكافرين قد حاربوا ولم يصبهم الرعب، وهذا الوجه هو الذي عليه مفسرنا (الجلال) وكثير من المفسرين.
(والوجه الثاني) أن الآية بيان لسنة إلهية عامة وهو الحق، وبيانه يتوقف على فهم المعنى المراد من لفظ " المؤمنين " ولفظ " الكافرين " وهو ما كان عليه المؤمنون والكافرون في الوقت الذي نزلت فيه هذه الآيات، فأما أولئك المؤمنون فهم الذين كانوا في مرتبة من اليقين والإذعان قد صدقها العمل الذي كان منه بذل الأنفس والأموال في سبيل الإيمان، الذين عاتبهم الله ووبخهم على تلك الهفوة التي وقعت من بعضهم بما تقدم وما يأتي في هذا السياق من الآيات، وأما أولئك الكافرون فهم الذين دعوا إلى الإيمان، وأقيم لهم على الدعوة الدليل والبرهان، فجحدوا وعاندوا وكابروا الحق، وآثروا مقارعة الداعي ومن استجاب له بالسيف، وقعدوا له ولهم كل مرصد، فإذا نظرنا في شرك هؤلاء الكافرين، وفي حالهم مع أولئك المؤمنين نجد أن شأنهم معهم كشأن من يرى نور الحق مع خصمه فيحمله البغي والعدوان على مجاحدته من غير حجة ولا دليل، يرتاب فيما هو فيه ويتزلزل، فإذا شاهد الذين دعوه ثابتين مطمئنين يعظم ارتيابه ويهاب خصمه حتى يمتلئ قلبه رعبا منهم. هذا هو شأن الكافرين المعاندين مع المؤمنين الصادقين، كأنه - تعالى - يقول: هذه هي الطبيعة في المشركين، إذا قاوموا المؤمنين فلا تخافوهم ولا تبالوا بقول من يدعوكم إلى موالاتهم والالتجاء إليهم.
قال: بهذا يندفع قول من يقول: ما بالنا نجد الرعب كثيرا ما يقع في قلوب المسلمين ولا يقع في قلوب الكافرين؟ فإن الذين يسمون أنفسهم مسلمين قد يكونون على غير ما كان عليه أولئك الذين خوطبوا بهذا الوعد من قوة اليقين والإذعان والثبات والصبر، وبذل النفس والمال في سبيل الله وتمني الموت في الدفاع عن الحق، فمعنى المؤمنين غير متحقق فيهم، وإنما رعب المشركين مرتبط بإيمان المؤمنين وما يكون له من الآثار، فحال المسلمين اليوم لا يقوم حجة على القرآن؛ لأن أكثرهم قد انصرفوا عن الاجتماع على ما جاء به الإسلام من الحق، وما كان عليه سلفهم من الإيمان والصفات والأعمال، فالقرآن باق على وعده؟، ولكن هات لنا المؤمنين الذين ينطق إيمانهم على آياته ولك من إنجاز وعده في هذه الآية وغيرها ما تشاء. وتلا قوله - تعالى -:
{ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم } [النور: 55] الآية.
قال: وعلى هذا يكون الإشراك سببا للرعب كسائر الأسباب العادية التي ربط الله بها المسببات كالشرب للري والأكل للشبع، فمن وصل إليه الحق تزلزل الباطل في نفسه لا محالة. أقول: ومن تمام التشبيه أن تكون بعض الوقائع التي لا يقع فيها الرعب في قلوب المشركين، كالوقائع التي يشرب فيها المرء ولا يروى لعارض مرضي، فسنن الاجتماع كسنن الأجسام الطبيعية لها عوارض وشروط وموانع. { ومأواهم النار } أي هي مكانهم الذي يأوون إليه في الآخرة بعد ما يصيبهم من الخذلان في الدنيا { وبئس مثوى الظالمين } أي والنار التي يأوون إليها بئس المثوى والمقام لهم بسبب ظلمهم لأنفسهم بالكفر والجحود ومعاندة الحق ومقاومة أهله، وظلم الناس بسوء المعاملة.