خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي ٱلأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٥٢
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَىٰ أحَدٍ وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِيۤ أُخْرَٰكُمْ فَأَثَـٰبَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَـٰبَكُمْ وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
١٥٣
ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ ٱلْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَىٰ طَآئِفَةً مِّنْكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيْرَ ٱلْحَقِّ ظَنَّ ٱلْجَٰهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ ٱلأَمْرَ كُلَّهُ للَّهِ يُخْفُونَ فِيۤ أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَٰهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ ٱللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ
١٥٤
إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ إِنَّمَا ٱسْتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ
١٥٥
-آل عمران

تفسير المنار

روى الواحدي عن محمد بن كعب قال: لما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة - وقد أصيبوا بما أصيبوا يوم أحد - قال ناس من أصحابه: من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر؟ فأنزل الله هذه الآية: { ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه } الآية. ونقول: نعم إن الناس قالوا ذلك كما يعلم من قوله - تعالى -: { { أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا } [آل عمران: 165] وسيأتي. ولكن هذا القول ليس سببا لنزول هذه الآية وحدها، وإنما نزلت مع هذه الآيات الكثيرة بعد تلك الواقعة وما قيل فيها.
الوعد المشار إليه في الآية يحتمل أن يكون المراد به ما تكرر كثيرا في القرآن من نصر الله المؤمنين ونصر من ينصره وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد به ما دل عليه قوله - تعالى -: { بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم } وقال بعضهم: إن المراد به وعد النبي لهم عند تعبئتهم، واختاره ابن جرير، وروي فيه عن السدي أنه قال:
" لما برز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين بأحد أمر الرماة فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين، وقال: لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم، وأمر عليهم عبد الله بن جبير أخا خوات بن جبير، ثم إن طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين قام فقال: يا معشر أصحاب محمد إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة، فهل منكم أحد يعجله الله بسيفي إلى الجنة أو يعجلني بسيفه إلى النار؟ فقام إليه علي بن أبي طالب فقال: والذي نفسي بيده لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النار أو يعجلني بسيفك إلى الجنة، فضربه علي فقطع رجله فسقط فانكشفت عورته فقال: أنشدك الله والرحم يا ابن عم. فتركه. فكبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال لعلي أصحابه: ما منعك أن تجهز عليه؟ قال: إن ابن عمي ناشدني حين انكشفت عورته فاستحييت منه.
ثم شد الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود على المشركين فهزماهم، وحمل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فهزموا أبا سفيان، فلما رأى ذلك خالد بن الوليد - وهو على خيل المشركين - حمل فرمته الرماة فانقمع، فلما نظر الرماة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في جوف عسكر المشركين ينتهبونه بادروا الغنيمة، فقال بعضهم: لا نترك أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر، فلما رأى خالد قلة الرماة صاح في خيله ثم حمل على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل تنادوا فشدوا على المسلمين فهزموهم وقتلوهم"
"
اهـ. أي قتلوا منهم سبعين كما هو معلوم من الروايات المفصلة.
وإنما ذكرنا هنا رواية السدي بطولها لما فيها من التصريح بأن النبي - صلى الله عليه وسلم -
"قال للرماة: فإنا لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم" والتفصيل الذي يعين على فهم الآية وغيرها، ومنها أن الرماة لم يعصوا كلهم وإنما أولئك بعض عامتهم، وأما الخاصة الراسخون في الإيمان العارفون بالواجب فقد ثبتوا، والمختار عندنا أن المراد بوعد الله هنا ما تكرر في القرآن، وإنما قال النبي ما قال للرماة عملا بالقرآن وتأويلا له؛ فإنه - تعالى - قرن الوعد فيه بشروط لا تتم إلا بالطاعة والثبات.
فملخص تفسير الآية هكذا { ولقد صدقكم الله وعده } إياكم بالنصر حتى في هذه الوقعة { إذ تحسونهم } أي المشركين أي تقتلوهم قتلا ذريعا { بإذنه } - تعالى - أي بعنايته وتأييده لكم { حتى إذا فشلتم } ضعفتم في الرأي والعمل، فلم تقووا على حبس أنفسكم عن الغنيمة { وتنازعتم في الأمر } فقال بعضكم ما بقاؤنا هنا وقد انهزم المشركون؟، وقال الآخرون: لا نخالف أمر الرسول { وعصيتم } رسولكم وقائدكم بترك أكثر الرماة للمكان الذي أقامهم فيه يحمون ظهوركم بنضح المشركين بالنبل { من بعد ما أراكم ما تحبون } من النصر والظفر فصبرتم على الضراء ولم تصبروا في السراء { منكم من يريد الدنيا } كالذين تركوا مكانهم وذهبوا وراء الغنيمة ليصيبوا منها { ومنكم من يريد الآخرة } كالذين ثبتوا من الرماة مع أميرهم عبد الله بن جبير، وهم نحو عشرة وكان الرماة خمسين رجلا، والذين ثبتوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم ثلاثون رجلا، أي صدقكم وعده ونصركم على قلتكم وكثرة المشركين، واستمر هذا النصر إلى أن فشلتم وتنازعتم وعصيتم، فعندما وصلتم إلى هذه الغاية لم تعودوا مستحقين لهذه العناية لمخالفتكم لسنته في استحقاق النصر الذي وعد به أهل الثبات والصبر؛ فعلى هذا تكون حتى للغاية و إذا في قوله: { حتى إذا فشلتم } ليست للشرط وإنما هي بمعنى الحين والوقت. هذا هو المختار. والوجه الثاني: أنها للشرط وجوابها محذوف تقديره عند البصريين " منعكم نصره " أو نحوه.
وقال الأستاذ الإمام: إن الحكمة في حذف الجواب هنا على القول به هي أن تذهب النفس في تقديره كل مذهب، ومثل هذا الحذف لا يأتي في الكلام البليغ إلا حيث ينتظر الجواب بكل شغف ولهف، ولك أن تجعل تقديره: امتحنكم بالإدالة منكم ليمحصكم ويميز المخلصين والصادقين منكم. أقول: وهذا هو صريح قوله: { ثم صرفكم عنهم ليبتليكم } وأبو مسلم قد قال: إن هذه الجملة هي جواب " إذا " ولكن اقتران جواب الشرط بثم غير معروف لنا في كلام العرب.
وحاصل المعنى أنه بعد أن صدقكم وعده فكنتم تقتلونهم بإذنه ومعونته قتل حس واستئصال صرفكم عنهم بفشلكم وتنازعكم وعصيانكم، وحال بينكم وبين تمام النصر ليمتحنكم بذلك، أي ليعاملكم معاملة من يمتحن ويختبر، أو لأجل أن يكون ذلك ابتلاء واختبارا لكم يمحصكم به ويميز بين الصادقين والمنافقين ويزيل بين الأقوياء والضعفاء، كما علم من الآيات السابقة، وقد أسند الله - تعالى - صرف المؤمنين عن المشركين إلى نفسه هنا باعتبار غايته الحميدة في تربيتهم وتمحيصهم الذي يعدهم للنصر الكامل والظفر الشامل في المستقبل، وأضاف ما أصابهم إليهم في قوله الذي سيأتي في السياق:
{ { قل هو من عند أنفسكم } [آل عمران: 165]، باعتبار سببه وهو ما كان منهم من الفشل والتنازع والعصيان، وقد عد بعضهم إسناد الصرف إليه هنا مشكلا لا سيما على مذهب المعتزلة الذين تكلف علماؤهم في تخريجه تكلفا لا حاجة إليه، إذ لا إشكال فيه ولكن المذاهب والاصطلاحات هي التي تولد لأصحابها المشكلات.
قال - تعالى -: { ولقد عفا عنكم } بذلك التمحيص الذي محا أثر الذنب من نفوسكم فصرتم كأنكم لم تفشلوا ولم تتنازعوا ولم تعصوا وقد ظهر أثر هذا العفو في حمراء الأسد كما علم مما مر وما يأتي { والله ذو فضل على المؤمنين } فلا يذرهم على ما هم عليه من ضعف يلم ببعضهم، أو تقصير يهبط بنفوس غير الراسخين منهم، حتى يبتلي ما في قلوبهم، ويمحص ما في صدورهم، فيكونوا من المخلصين.
{ إذ تصعدون ولا تلوون على أحد } أي صرفكم عنهم في ذلك الوقت الذي أصعدتم فيه، أي ذهبتم وأبعدتم في الأرض منهزمين، وهو غير الصعود الذي هو الذهاب في المرتفعات كالجبال ولا تلوون أي لا تعطفون على أحد بنجدة ولا مدافعة، ولا تلتفتون إلى من وراءكم لشدة الدهشة التي عرتكم والذعر الذي فاجأكم { والرسول يدعوكم في أخراكم } أي تفعلون ذلك والرسول من ورائكم يدعوكم إليه فيمن تأخر معه منكم فكانوا ساقة الجيش - روي أنه كان يقول في دعوته: إلي عباد الله إلي عباد الله، أنا رسول الله من يكر فله الجنة وأنتم لا تسمعون ولا تنظرون، وكان يجب أن يكون لكم أسوة حسنة في الرسول فتقتدوا به في صبره وثباته ولكن أكثركم لم يفعل { فأثابكم غما بغم } أي فجازاكم الله غما بسبب الغم الذي أصاب الرسول من فشلكم وهزيمتكم أو غما متصلا بغم، فنال العدو منكم ونلتم من أنفسكم إذ صرتم من الدهشة يضرب بعضكم بعضا وفاتتكم الغنيمة التي طمعتم فيها.
قال الأستاذ الإمام: الغم هو الألم الذي يفاجئ الإنسان عند نزول المصيبة، وأما الحزن فهو الألم الذي يكون بعد ذلك ويستمر زمنا، أقول: والمتبادر أن الغم ألم أو ضيق في الصدر يكون من الأمر الذي يسوؤك وإن لم تتبين حقيقته أو سببه، أو لا تدري كيف يكون المخرج منه، فإن المادة تدل على معنى الخفاء، يقولون: غم الشيء إذا أخفاه، وغم عليهم الهلال لم يظهر ولم ير، ورجل أغم الوجه: كثير شعره.. ومنه قوله - تعالى -:
{ { ثم لا يكن أمركم عليكم غمة } [يونس: 71] وفي الأساس " وإنه لفي غمة من أمره، إذا لم يهتد للخروج منه " لكيلا تحزنوا على ما فاتكم أي لأجل ألا تحزنوا بعد هذا التأديب والتمرين على ما فاتكم من غنيمة ومنفعة ولا ما أصابكم من قرح ومصيبة فإن التربية إنما تكون بالعمل والتمرن الذي به يكمل الإيمان وترسخ الأخلاق، قال في الكشاف: ويجوز أن يكون الضمير في فأثابكم للرسول أي فآساكم في الاغتمام وكما غمكم ما نزل به من كسر الرباعية والشجة وغيرهما غمه ما نزل بكم فأثابكم غما اغتمه لأجلكم بسبب غم اغتممتموه لأجله ولم يثربكم على عصيانكم ومخالفتكم لأمره، وإنما فعل ذلك ليسليكم وينفس عنكم لئلا تحزنوا على ما فاتكم من نصر الله ولا على ما أصابكم من غلبة العدو. اهـ.
والله خبير بما تعملون لا يخفى عليه شيء من دقائقه وأسبابه ولا من نيتكم فيه وعاقبته فيكم، ومن بلاغة هذه الجملة في هذا الموضع أن كل واحد من المخاطبين يتذكر عند سماعها أو تلاوتها أن الله - تعالى - مطلع على عمله، عالم بنبيه وخواطره فيحاسب نفسه، فإن كان مقصرا تاب من ذنبه وإن كان مشمرا ازداد نشاطا خوف الوقوع في التقصير وأن يراه الله حيث لا يرضى. قال الأستاذ الإمام: يقول فلا تعتذروا عن أنفسكم ولا تخادعوها، فإن الخبير بأعمالكم المحيط بنفوسكم لا يخفى عليه من أمركم خافية، وإنما المعول على علمه وخبره لا على أعذاركم وتأويلكم لأنفسكم.
{ ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم } الأمنة: الأمن وهو ضد الخوف، والنعاس معروف، وهو فتور يتقدم النوم ويظهر أثره في العينين، قرأ حمزة والكسائي " تغشى " بالفوقية أي الأمنة والباقون " يغشى " بالتحتية أي النعاس. يقال غشيه النعاس أو النوم كما يقال ران عليه أي عرض له فاستولى عليه وغطاه، كما يلقى الستر على الشيء. وقد تقدم في ملخص القصة ذكر هذا النعاس، وأنه كان أثناء القتال، وإنما كان مانعا من الخوف فهو ضرب من الذهول والغفلة عن الخطر، ولكن روي أن السيوف كانت تسقط من أيديهم. واختار الأستاذ الإمام أنه كان بعد القتال. قال ما مثاله: اختلف المفسرون في وقت هذا النعاس فقال بعضهم: إن ذلك كان في أثناء الوقعة وأن الرجل كان ينام تحت ترسه كأنه آمن من كل خوف وفزع إلا المنافقين فإنهم أهمتهم أنفسهم فاشتد جزعهم. وحمل بعضهم هذه الآية على آية الأنفال
{ إذ يغشيكم النعاس أمنة منه } [الأنفال: 11] وإنما هذه في غزوة بدر، وقد مضت السنة في الخلق بأن من يتوقع في صبيحة ليلته هولا كبيرا ومصابا عظيما فإنه يتجافى جنبه عن مضجعه، ويبيت بليلة الملسوع فيصبح خاملا ضعيفا، وقد كان المؤمنون يوم بدر يتوقعون مثل ذلك، إذ بلغهم أن جيشا يزيد على عددهم ثلاثة أضعاف سيحاربهم غدا وهو أشد منهم قوة وأعظم عدة فكان من مقتضى العادة أن يناموا على بساط الأرق والسهاد يضربون أخماسا لأسداس، ويفكرون بما سيلاقون في غدهم من الشدة والبأس، ولكن الله رحمهم بما أنزل عليهم من النعاس، غشيهم فناموا واثقين بالله - تعالى - مطمئنين لوعده، وأصبحوا على همة ونشاط في لقاء عدوهم وعدوه، فالنعاس لم يكن يوم بدر في وقت الحرب بل قبلها، ومثله المطر الذي أنزل عليهم عند شدة حاجتهم إليه وقد قرن ذكره به في الآية التي ذكرتهم بعناية الله بهم في ذلك.
وأما النعاس يوم أحد فقد قيل: إنه كان في أثناء الحرب، وقيل: إنه كان بعدها، وقد اتفق المفسرون وأهل السير على أن المؤمنين قد أصابهم يوم أحد شيء من الضعف والوهن لما أصابهم من الفشل والعصيان وقتل طائفة من كبارهم وشجعانهم، فكانوا بعد انتهاء الوقعة قسمين: فقسم منهم ذكروا ما أصابهم فعرفوا أنه كان بتقصير من بعضهم، وذكروا الله ووعده بنصرهم فاستغفروا لذنوبهم ووثقوا بوعد ربهم - راجع آية
{ والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله } [آل عمران: 135] وعلموا أنه إن كانوا قد غلبوا في هذه المرة، فإن الله سينصرهم في غيرها حيث لا يعودون إلى مثل ما وقع منهم فيها من الفشل والتنازع وعصيان قائدهم ورسولهم، فأنزل الله عليهم النعاس أمنة أو الأمنة نعاسا، حتى يستردوا ما فقدوا من القوة بما أصابهم من القرح وما عرض لهم من الضعف، والنوم للمصاب بمثل تلك المصائب نعمة كبيرة وعناية من الله عظيمة، وقد كان من أثر هذا الاطمئنان في القلوب والراحة للأجسام والتسليم للقضاء، أن سهل على هؤلاء المؤمنين اقتفاء أثر المشركين بعد انصرافهم، وعزموا على قتالهم في حمراء الأسد عندما دعاهم الرسول إلى ذلك، فاستجابوا له مذعنين.
قال: واتفق الرواة أيضا على أن كثيرا منهم كانوا مثقلين بالجراح فلم يقدروا على اقتفاء أثر المشركين فذلك قوله - تعالى -: { وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية } فهذه الطائفة من المؤمنين الضعفاء ولا حاجة إلى جعلها من المنافقين كما قيل: فإن هؤلاء سيأتي الكلام فيهم، وما من أمة إلا وفيها الضعفاء والأقوياء في الإيمان وغيره. وقد بين ظنهم بقوله: { يقولون هل لنا من الأمر من شيء } فنلام أن ولينا وغلبنا؟ يعنون أنه ليس لهم من أمر النصر وعدمه شيء، فإنهم فهموا مما وقع يوم بدر أن النصر وحقية الدين متلازمان وعجبوا مما وقع في أحد كأنه مناف لحقيقة الدين، وهذا خطأ عظيم، أي فإن نصر الله لرسله لا يمنع أن تكون الحرب سجالا والعاقبة للمتقين. أقول وسيأتي بيان ما جرى عليه جمهور المفسرين مخالفا لهذا.
{ قل إن الأمر كله لله } لا أمر النصر وحده، أي إن كل أمر يجري بحسب سنته - تعالى - في خلقه ونظامه الذي ربط فيه الأسباب بالمسببات ومنه نصر من ينصره من المؤمنين: { يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا } أي لو كان أمر النصر والظفر بأيدينا لما وقع فينا القتل هاهنا، يقررون رأيهم، ويستدلون عليه بما وقع لهم، غافلين عن تحديد الآجال؛ ولذلك أمر الله نبيه أن يجيبهم بقوله: { قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } أي لو كنتم وادعين في بيوتكم في سلم وأمان لخرج من بينكم من انتهت آجالهم، وثبت في علم الله أنهم يقتلون كما يثبت المكتوب في الألواح والأوراق إلى حيث يقتلون ويسقطون من البراز - الأرض المستوية - فتكون مصارعهم ومضاجع الموت لهم، فقتل من قتل لم يكن لأن الأمر ليس كله بيد الله بل لأن آجالهم قد جاءت كما سبق في علم الله.
{ وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم } أي يقع ذلك لأجل أن يكون القتل عاقبة من جاء أجلهم منكم، ولأجل أن يمتحن الله نفوسكم فيظهر لكم ما انطوت عليه من ضعف وقوة في الإيمان، ويطهرها حتى تصل إلى الدرجات العلى من الإيقان، وقد تقدم تفسير الابتلاء والتمحيص في هذا السياق { والله عليم بذات الصدور } أي بالسرائر والوجدانات الملازمة للصدور حيث القلوب المنفعلة بها، والمنبسطة أو المنقبضة بتأثيرها، وقد يخفى ذلك على أصحابها فينخدعون للشعور العارض لها الذي يرسخ بالتجارب والابتلاء كما انخدع الذين تمنوا الموت من قبل أن يلقوه.
هذا وإن جمهور المفسرين قد جروا على خلاف ما اختاره الأستاذ الإمام في هذه الطائفة فقالوا: إن المراد بها المنافقون، فهم الذين كانت تهمهم أنفسهم إذ كان هم المؤمنين محصورا فيما أصاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما وقع لبعضهم من التقصير، وكان في غشيان النعاس ونزول الأمنة على المؤمنين من دونهم معجزة ظاهرة؛ لأنه جاء على غير العادة، وهم الذين يظنون في الله ظن مشركي الجاهلية كظنهم أن ظهور المشركين دليل على بطلان دعوة النبي والمؤمنين. وهم الذين يخفون في أنفسهم ما لا يبدونه للنبي - صلى الله عليه وسلم - من الكفر به ويحتجون عليه بألسنتهم بما يعتذرون به عن أنفسهم، ولكن يعارض فهمهم هذا كون الخطاب قبله وبعده للمؤمنين والكلام عن المنافقين سيأتي بعده، وكذا قوله - تعالى -: { وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم } فإن المصائب إنما تكون بعد الابتلاء والاختبار تمحيصا للمؤمنين كما قال: { وليمحص الله الذين آمنوا } ويأسا وضعفا للكافرين كما قال: { ويمحق الكافرين } وتقدم بيانه، إلا أن يجعلوا الخطاب بقوله { وليبتلي } لمن خوطبوا بقوله: { ولقد صدقكم الله وعده } دون من خوطبوا بقوله: { قل لو كنتم في بيوتكم } وإن هذا هو الأقرب في الذكر، ولكن هذا تفكيك وتشويش لا ترضاه بلاغة القرآن.
ثم إنه قد يقال: إن ظاهر الآية فيما تحكيه عن الذين قد أهمتهم أنفسهم يوهم المحال على الوجه المختار عند الأستاذ الإمام، من أنهم ضعفاء الإيمان من المؤمنين، إذ يكون مغزى قولهم: إنه ليس لهم من الأمر من شيء عين مغزى قوله - تعالى - في جوابهم: { إن الأمر كله لله } اعتذروا عن تقصيرهم بأنه ليس لهم من الأمر شيء، وأنه لو كان لهم منه شيء لما قتلوا هناك، يعني أن الأمر كله بيد الله وتصرف مشيئته وحده، وهذا عين الإيمان الذي يثبته القرآن، فكيف جعله من ظن الجاهلية؟ ونقول: إنه - تعالى - قد بين لنا ظن الجاهلية في قوله:
{ { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون } [الأنعام: 148] وقد قال قبل هذه الآية: { ولو شاء الله ما أشركوا } [الأنعام: 107] وهو يشبه قوله لهذه الطائفة التي ظنت مثل ظنهم: إن الأمر كله لله فالظاهر أن الذي أثبته في الموضعين هو مثل الذي أنكره عليهم وسماه ظنا لا يوثق به في هذا المقام الذي لا يقبل فيه إلا العلم اليقين. وقال في سورة يس: { وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين } [يس: 47] فقد جعل تبرؤ الناس من الكسب والعمل واعتذارهم بمشيئة الله وتفويض الأمر إليه من شأن المشركين والكفار الذين يتخبطون في دياجي الظن، ويهيمون في أودية الضلال مع إثباته لكون الأمر كله لله وحصول كل شيء بمشيئته. وقد نظر في كل طرف من الطرفين من رآه يوافق مذهبه حتى جعل الفخر الرازي الآية التي نحن بصدد تفسيرها هي عين ما عليه الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة في مسألة أفعال العباد وجعل الحجة فيها للأشاعرة.
وتحرير الكلام في هذه المسألة أنه - تعالى - بين لنا في كتابه ثلاث حقائق، وبين لنا ضلال الذين ضلوا فيها واحتجوا بواحدة على بطلان الأخرى:
(الحقيقة الأولى) أنه - تعالى - هو خالق كل شيء الذي بيده ملكوت كل شيء وبمشيئته يجري كل شيء، فلا قاهر له على شيء وهو القاهر فوق كل شيء.
(الحقيقة الثانية) أن خلقه وتدبيره إنما يجري بحسب مشيئته وحكمته على سنن مطردة ومقادير معلومة، كما أشرنا إلى ذلك في تفسير
{ { قد خلت من قبلكم سنن } [آل عمران: 137] وفي تفسير كثير من الآيات التي تذكر فيها المشيئة أو السنن الإلهية.
(الحقيقة الثالثة) أن من جملة سننه في خلقه وقدره في تدبير عباده أن الإنسان خلق ذا علم ومشيئة وإرادة وقدرة، فيعمل بقدرته وإرادته ما يرى بحسب ما وصل إليه علمه وشعوره أنه خير له. والآيات الناطقة بأن الإنسان يعمل وبعمله تناط سعادته وشقاوته في الدنيا والآخرة كثيرة جدا. وهو ليس في ذلك معارضا لمشيئة الله ولا مزيلا لها، بل مشيئته تابعة لمشيئة الله ومظهر من مظاهرها كما قال:
{ وما تشاءون إلا أن يشاء الله } [التكوير: 29] وقد جرت سنته بأن يشاء لنا أن نعمل عندما يترجح في علمنا أن العمل خير من تركه، وأن نترك عندما يترجح في علمنا أن الترك خير من الفعل، كما هو معلوم لكل من يعرف ما هو الإنسان.
وإننا نرى الكتاب العزيز يذكر بعض هذه الحقائق الثلاث في بعض الآيات ويسكت عن الأخرى؛ لأن المقام يقتضي ذلك - ولكل مقام مقال - ولكنه ينكر على من يجحد شيئا منها جحوده ويبين لنا خطأه وضلاله كما بين خطأ الذين قالوا: { لو شاء الله ما أشركنا } في موضع وبين خطأ من ينكر مشيئته - تعالى - في موضع آخر، فهو ينكر على من ينكر ما آتاه الله من المواهب والقوى، ويكفر له نعمة العلم والإرادة والقدرة لا سيما في مقام الاعتذار عن تقصيره في شكر هذه القوى باستعمالها في الخير والحق، كما ينكر من يغفل عن كونه - تعالى - هو المنعم بهذه القوى التي يجلب بها الخير عندما تبطره النعمة فينسبها لنفسه وحده وينسى ذكر ربه وشكره. وقد جمع - تعالى - بين الأمرين في بعض المواضع كقوله في سورة النساء:
{ { أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا * ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا } [النساء: 78 - 79].
وقد صرحوا بأن هذه الآيات نزلت في قوم من المسلمين آمنوا، ثم لما علموا بأنه كتب عليهم القتال ضعفوا وأنكروا وقالوا ما قالوا احتجاجا لأنفسهم واعتذارا عنها، فأجابهم - تعالى - مبينا لهم الحقيقة الأولى، وهي أن كل شيء من الله من حيث إنه الخالق للقوى والواضع للسنن والمقادير، ثم بين لهم الفرع الذي اقتضى المقام بيانه من فروع الحقيقة الثانية وهو أن الحسنة التي تصيب الإنسان هي من عند الله، بمعنى أنه خالقها وواضع السنن الطبيعية والاجتماعية التي يوصل بها إليها والخالق للقوى الكاسبة لأسبابها، فينبغي أن يذكر عندها ليشكر عليها وأن السيئة التي تصيبه من عند نفسه، بمعنى أنه الكاسب لها والمنحرف عن سنن الله وشريعته في طريق تحصيلها، فيجب أن يرجع على نفسه باللائمة ويردها إلى التوبة، كذلك الآية التي نحن بصدد تفسيرها قد جمعت بين الحقيقتين. الأولى قوله - تعالى -: { إن الأمر كله لله } والثانية قوله: { لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } أي لما حصل القتل الثابت في علم الله - تعالى - إلا ببروزهم من بيوتهم إلى مواضع القتال التي يصرعون فيها. وبروزهم هذا من أعمالهم الاختيارية: فليس في الآية محال ولا نصر لمذهب على مذهب، وإنما هي جامعة للحقائق مستعلية على جميع المذاهب، مبطلة لكل من دعوى الجبر المحض والتعطيل المحض ودعوى الذبذبة بينهما. ويؤيد إثباتها لحقيقة عمل الإنسان واختياره الآية الكريمة التالية وهي:
{ إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا } أي إن الذين تولوا وفروا من أماكنهم يوم التقى جمعكم بجمع المشركين في أحد لم يكن ذلك التولي منهم إلا بإيقاع الشيطان لهم في الزلل، أي زلوا وانحرفوا عما يجب أن يكونوا ثابتين عليه باستجرار الشيطان بالوسوسة. قال الراغب: استجرهم حتى زلوا فإن الخطيئة الصغيرة إذا ترخص الإنسان فيها تصير مسهلة لسبيل الشيطان على نفسه اهـ. ولعله يشير بذلك أن المراد بالذين تولوا الرماة الذين أمرهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يثبتوا في أماكنهم ليدفعوا المشركين عن ظهور المؤمنين، فإنهم ما زلوا وانحرفوا عن مكانهم إلا مترخصين في ذلك، إذ ظنوا أنه ليس للمشركين رجعة من هزيمتهم، فلا يترتب على ذهابهم وراء الغنيمة ضرر، فكان هذا الترخص والتأويل للنهي الصريح عن التحول وترك المكان سببا لكل ما جرى من المصائب، وأعظمها ما أصاب الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وهناك وجه آخر وهو أن الذين تولوا هم جميع الذين تخلوا عن القتال من الرماة وغيرهم، كالذين انهزموا عندما جاءهم العدو من خلفهم واستدل القائلون بهذا الوجه بما روي من أن عثمان بن عفان عوتب في هزيمته يوم أحد فقال: إن ذلك خطأ عفا الله عنه.
أما كون الاستزلال قد كان ببعض ما كسبوا فقد قيل: إن الباء في قوله: (ببعض) على أصلها وأن الزلل الذي وقع هو عين ما كسبوا من التولي عن القتال، وقيل: إنها للسببية أي إن بعض ما كسبوا قد كان سببا لزلتهم، ولما كان السبب متقدما دائما على المسبب وجب أن يكون ذلك البعض من كسبهم متقدما على زللهم هذا ومفضيا إليه. فإن كان المراد بالذين تولوا الرماة جاز أن يكون المراد بالزلل الذي أوقعهم الشيطان فيه ما كان من الهزيمة والفشل بعد توليهم عن مكانهم طمعا في الغنيمة، ويكون هذا التولي هو المراد ببعض ما كسبوا، ولا يصح هذا التأويل على الوجه الآخر القائل بأن الذين تولوا هم جميع الذين أدبروا عن القتال إلا إذا أريد ببعض ما كسبوا: ما كسب الرماة منهم وهم بعضهم، فيكون المعنى: إن الذين تولوا منكم مدبرين عن القتال إنما استزلهم الشيطان بسبب بعض ما كسبت طائفة منهم وهم بعض الرماة، فإنه لولا ذلك لما كر المشركون بعد هزيمتهم وجاءوا المؤمنين من ورائهم حتى أدهشوهم وهزموهم.
وللسببية وجه آخر ينطبق على كل من القولين في الذين تولوا، وهو أن توليهم عن القتال لم يكن إلا ناشئا عن بعض ما كسبوا من السيئات من قبل، فإنها هي التي أحدثت الضعف في نفوسهم حتى أعدتها إلى ما وقع منها، ويؤيد هذا الوجه قوله - تعالى -:
{ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } [الشورى: 30] فهو بمعنى ما هنا إلا أنه هنالك عام وهنا خاص بالذين تولوا يوم أحد، فالآيتان واردتان في بيان سنة من سنن الله - تعالى - في أخلاق البشر وأعمالهم، وهي أن المصائب التي تعرض لهم في أبدانهم وشئونهم الاجتماعية إنما هي آثار طبيعية لبعض أعمالهم، وأن من أعمالهم ما لا يترتب عليه عقوبة تعد مصيبة وهو المعفو عنه، أي الذي مضت سنة الله - تعالى - بأن يعفى ويمحى أثره من النفس، فلا يترتب عليه الأعمال وهو بعض اللمم والهفو الذي لا يتكرر ولا يصير ملكة وعادة. وقد عبر عنه في الآية التي هي الأصل والقاعدة في بيان هذه السنة بقوله: { ويعفو عن كثير } [الشورى: 30] ويؤيد ذلك قوله - تعالى -: { { ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة } [فاطر: 45] أي بجميع ما كسبوا، فإن " ما " من الكلمات التي تفيد العموم. وقد بينا هذه السنة الإلهية في مواضع كثيرة من التفسير، وجرينا على أنها عامة في عقوبات الدنيا والآخرة فجميعها آثار طبيعية للأعمال السيئة، وقد اهتدى إلى هذه السنة بعض حكماء الغرب في هذا العصر.
أما قوله - تعالى -: { ولقد عفا عنكم والله } فالعفو فيه غير العفو في آية الشورى، ذلك عفو عام وهذا عفو خاص، ذلك عفو يراد به أن من سنة الله في فطرة البشر أن تكون بعض هفواتهم وذنوبهم غير مفضية إلى العقوبة بالمصائب في الدنيا والعذاب في الآخرة، وهذا العفو خاص بالمؤمنين يراد به أن ذنبهم يوم أحد الذي كان من شأنه أن يعاقب عليه في الدنيا والآخرة قد كانت عقوبته الدنيوية تربية وتمحيصا وعفا الله عن العقوبة عليه في الآخرة، ولذلك قال: { إن الله غفور حليم } لا يعجل بتحتيم العقاب. ومن آيات مغفرته لهم وحلمه بهم توفيقهم للاستفادة مما وقع منهم وإثابتهم الغم الذي دفعهم إلى التوبة حتى تمحص ما في قلوبهم واستحقوا العفو عن ذنوبهم.