خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ
١٩٠
ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
١٩١
رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ ٱلنَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ
١٩٢
رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلأَبْرَارِ
١٩٣
رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ
١٩٤
فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَـٰرِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَـٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ ثَوَاباً مِّن عِندِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ ٱلثَّوَابِ
١٩٥
-آل عمران

تفسير المنار

قال الأستاذ الإمام في بيان وجه اتصال الآية الأولى بما قبلها: إنها جاءت بعد أفاعيل أهل الكتاب، وغيرهم مع المؤمنين، فهي تدل على أن أولئك المجاهدين لو كانوا يتفكرون في خلق السماوات والأرض لكفوا من غرورهم، ولعلموا أنه يليق بحكمته - تعالى - أن يرسل إلى الناس رسولا من أنفسهم، ولكنه جعل الآية مطلقة موجهة إلى أولي الألباب ليطلق النظر لكل عاقل.
وقال الرازي: اعلم أن المقصود من هذا الكتاب الكريم جذب القلوب، والأرواح من الاشتغال بالخلق إلى الاستغراق في معرفة الحق، فلما طال الكلام في تقرير الأحكام، والجواب عن شبهات المبطلين عاد إلى إنارة القلوب بذكر ما يدل على التوحيد، والإلهية، والكبرياء، والجلال، فذكر هذه الآية. اهـ.
أقول: وقد بينا في وجه اتصال هذه السورة بما قبلها عند الابتداء بتفسيرها أن كلا منهما مفتتحة بذكر الكتاب وشئون الناس فيه، ومختتمة بالثناء على الله - عز وجل - ودعائه.
وقد ذكروا سببا لنزول هذه الآيات على عدم تعلقها بالحوادث، فقد أخرج الطبراني، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: " أتت قريش اليهود، فقالوا: بم جاءكم موسى من الآيات؟ فقالوا: عصاه، ويده بيضاء للناظرين، وأتوا النصارى، فقالوا: كيف كان عيسى؟ قالوا: كان يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى، فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا، فدعا ربه، فنزلت هذه الآية إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب فليتفكروا فيها. انتهى من لباب النقول. وأنت لا ترى المناسبة قوية بين الاقتراح وبين الآية إلا من حيث إن مراد القرآن الاستدلال بآيات الله في الكائنات على حقيقة ما يدعو إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من عبادة الله وحده دون الخوارق، والآيات الكونية، وقد ورد الرد على هؤلاء المقترحين في كثير من السور المكية، وسيأتي تفسيرها في مواضعه إن شاء الله - تعالى -.
وقد تقدم تفسير ما في خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار من الآيات على وحدانية الله - تعالى - بوحدة النظام في ذلك، وعلى رحمته بما فيها من المنافع والمرافق للعباد، فليراجع في تفسير آية
{ { إن في خلق السماوات } [البقرة: 164] إلخ [ص4 ج 2 ط الهيئة العامة للكتاب].
وقال الأستاذ الإمام هنا: السماوات: ماعلاك مما تراه فوقك، والأرض: ما تعيش عليه، والخلق: التقدير والترتيب لا الإيجاد من العدم، كما اصطلح عليه في علم الكلام، فذلك لا يتضمن معنى النظام والإتقان وهو ما هي عليه في الواقع، ونفس الأمر، وبعد ما ذكر خلق السماوات والأرض لفت العقول إلى أمر مما يكون في الأرض وهو اختلاف الليل والنهار; فإن هذا الاختلاف قائم بنظام في طول الليل والنهار، وقصرهما، وتعاقبهما، وهذا أمر عظيم سواء كان سببه ما كانوا يعتقدون من أنه حادث من حركة الشمس، أو ما يعتقدون الآن من أن سببه حركة الأرض تحت الشمس.
ومن الحكم في ذلك ما نراه في أجسامنا وعقولنا من تأثير حرارة الشمس، ورطوبة الليل، وكذا في تربية الحيوان والنبات، وغير ذلك، ولو كان الليل سرمدا والنهار سرمدا لفاتت.
وهذه الآيات تظهر لكل أحد على قدر علمه وفهمه وجودة فكره، فأما علماء الهيئة فإنهم يعرفون من نظامها ما يدهش العقل، وأما سائر الناس فحسبهم هذه المناظر البديعة، والأجرام الرفيعة، وما فيها من الحسن، والروعة، وخص أولي الألباب بالذكر مع أن كل الناس أولو ألباب؛ لأن من اللب ما لا فائدة فيه، كلب الجوز ونحوه إذا كان عفنا، وكذا تفسد ألباب بعض الناس وتعفن، فهي لا تهتدي إلى الاستفادة من آيات الله في خلق السماوات والأرض وغيرهما. وإنما سمي العقل لبا؛ لأن اللب هو محل الحياة من الشيء، وخاصته وفائدته، وإنما حياة الإنسان الخاصة به هي حياته العقلية، وكل عقل متمكن من الاستفادة من النظر في هذه الآيات والاستدلال بها على قدرة الله، وحكمته، ولكن بعضهم لا ينظر، ولا يتفكر، وإنما العقل الذي ينظر، ويستفيد، ويهتدي هو الذي وصف أصحابه بقوله - تعالى -: الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم والذكر في الآية على عمومه لا يخص بالصلاة، والمراد به ذكر القلوب، وهو إحضار الله - تعالى - في النفس وتذكر حكمه، وفضله، ونعمه في حال القيام، والقعود، والاضطجاع، وهذه الحالات الثلاث التي لا يخلو العبد عنها تكون فيها السماوات، والأرض معه لا يتفارقان، والآيات الإلهية لا تظهر من السماوات والأرض إلا لأهل الذكر، فكأين من عالم يقضي ليله في رصد الكواكب فيعرف منها ما لا يعرف الناس، ويعرف من نظامها، وسننها، وشرائعها ما لا يعرف الناس، وهو يتلذذ بذلك العلم ولكنه مع هذا لا تظهر له هذه الآيات؛ لأنه منصرف عنها بالكلية.
ثم إن ذكر الله - تعالى - لا يكفي في الاهتداء إلى الآيات، ولكن يشترط مع الذكر التفكر فيها، فلا بد من الجمع بين الذكر، والفكر، فقد يذكر المؤمن بالله ربه، ولا يتفكر في بديع صنعه، وأسرار خليقته؛ ولذلك قال: { ويتفكرون في خلق السماوات والأرض }.
أقول: قد يتفكر المرء في عجائب السماوات والأرض، وأسرار ما فيهما من الإتقان، والإبداع، والمنافع الدالة على العلم المحيط، والحكمة البالغة، والنعم السابغة، والقدرة التامة، وهو غافل عن العليم الحكيم القادر الرحيم الذي خلق ذلك في أبدع نظام، وكم من ناظر إلى صنعة بديعة لا يخطر في باله صانعها اشتغالا بها عنه، فالذين يشتغلون بعلم ما في السماوات والأرض هم غافلون عن خالقهما، ذاهلون عن ذكره، يمتعون عقولهم بلذة العلم، ولكن أرواحهم تبقى محرومة من لذة الذكر ومعرفة الله - عز وجل -، فمثلهم كما قال الأستاذ الإمام: كمثل من يطبخ طعاما شهيا يغذي به جسده، ولكنه لا يرقى به عقله، يعني أن الفكر وحده وإن كان مفيدا لا تكون فائدته نافعة في الآخرة إلا بالذكر، والذكر وإن أفاد في الدنيا والآخرة لا تكمل فائدته إلا بالفكر، فيا طوبى لمن جمع بين الأمرين واستمتع بهاتين اللذتين، فكان من الذين أوتوا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، ونجوا من عذاب النار في الآخرة، فتلك النعمة التي لا تفضلها نعمة، واللذة التي لا تعلوها لذة؛ لأنها هي التي يهون معها كل كرب، ويسلس كل صعب، وتعظم كل نعمة، وتتضاءل كل نقمة، تلك اللذة التي تتجلى مع الذكر في كل شيء فيكون في عين ناظره جميلا، وفي كل صوت فيكون في سمع سامعه مطربا، فلسان حال الذاكر ينشد في هذا التجلي قول الشاعر الذاكر:

من كل معنى لطيف أجتلي قدحا وكل حادثة في الكون تطربني

فإذا تحول التجلي عن جمال الأكوان، وتفكر الذاكر في تقصيره من حيث هو إنسان عن شكر المنعم عليه بكل شيء يتمتع به، وعن القيام بما يصل إليه استعداده من معرفته استولى عليه سلطان الجلال فتعلو همته في طلب الكمال فينطلق لسانه بالدعاء، والثناء، وقلبه بين الخوف والرجاء.
{ ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك } أي يقول الذين يجمعون بين التذكر والتفكر، معبرين عن نتيجة جمع الأمرين، والتأليف بين المقدمتين: ربنا ما خلقت هذا الذي نراه من العوالم السماوية، والأرضية باطلا، ولا أبدعته، وأتقنته عبثا، سبحانك وتنزيها لك عن الباطل، والعبث بل كل خلقك حق مؤيد بالحكم، فهو لا يبطل ولا يزول، وإن عرض له التحول والتحليل والأفول، ونحن بعض خلقك لم نخلق عبثا، ولا يكون وجودنا من كل وجه باطلا، فإن فنيت أجسادنا، وتفرقت أجزاؤنا بعد مفارقة أرواحنا لأبداننا، فإنما يهلك منا كوننا الفاسد، ووجهنا الممكن الحادث، ويبقى وجهك الكريم، ومتعلق علمك القديم. يعود بقدرتك في نشأة أخرى، كما بدأته في النشأة الأولى، فريق ثبتت لهم الهداية، وفريق حقت عليهم كلمة الضلالة، فأولئك في الجنة بعلمهم، وفضلك، وهؤلاء في النار بعلمهم وعدلك فقنا عذاب النار بعنايتك وتوفيقك لنا واجعلنا مع الأبرار بهدايتك إيانا ورحمتك بنا.
قال الأستاذ الإمام في تفسير: { ربنا ما خلقت هذا باطلا } إلخ: هذه حكاية لقول هؤلاء الذين يجمعون بين تفكرهم وذكر الله - عز وجل - ويستنبطون من اقترانهما الدلائل على حكمة الله، وإحاطة علمه - سبحانه - بدقائق الأكوان التي تربط الإنسان بربه حق الربط. وقد اكتفى بحكاية مناجاتهم لربهم عن بيان نتائج ذكرهم، وفكرهم، فطي هذه، وذكر تلك من إيجاز القرآن البديع، وفيه تعليم المؤمنين كيف يخاطبون الله - تعالى - عندما يهتدون إلى شيء من معاني إحسانه وكرمه، وبدائع خلقه، كأنه يقول: هذا هو شأن المؤمن الذاكر المتفكر، يتوجه إلى الله في هذه الأحوال بمثل هذا الثناء والدعاء والابتهال، وكون هذا ضربا من ضروب التعليم، والإرشاد لا يمنع أن بعض المؤمنين قد نظروا، وذكروا، وفكروا، ثم قالوا هذا أو ما يؤدي معناه، فذكر الله حالهم، وابتهالهم، ولم يذكر قصتهم، وأسماءهم لأجل أن يكونوا قدوة لنا في علمهم، وأسوة في سيرتهم، أي لا في ذواتهم، وأشخاصهم، إذ لا فرق في هذا بيننا وبينهم.
قال: أما معنى كون هذا الخلق لا يكون باطلا، فهو أن هذا الإبداع في الخلق، والإتقان للصنع لا يمكن أن يكون من العبث والباطل، ولا يمكن أن يفعله الحكيم العليم لهذه الحياة الفانية فقط، كما أن الإنسان الذي أوتي العقل الذي يفهم هذه الحكم، ودقائق هذا الصنع، وكلما ازداد علما حتى إنه لا حد يعرف لفهمه وعلمه، لا يمكن أن يكون وجد ليعيش قليلا، ثم يذهب سدى، ويتلاشى فيكون باطلا، بل لا بد أن يكون باستعداده الذي لا نهاية له قد خلق ليحيا حياة لا نهاية لها، وهي الحياة الآخرة التي يرى كل عامل فيها جزاء عمله؛ ولهذا وصل الثناء بهذا الدعاء، ومعناه: جنبنا السيئات، ووفقنا للأعمال الصالحات، حتى يكون ذلك وقاية لنا من عذاب النار، وهذه هي نتيجة فكر المؤمن.
قال: ثم إنهم بعد أن يصلوا بالفكر مع الذكر إلى بقاء العالم، واستمراره؛ لأن نظامه البديع لا يمكن أن يجعله الحكيم باطلا (أي لا في الحال ولا في الاستقبال) وبعد أن يدعوا ربهم أن يقيهم دخول النار في الحياة الثانية يتوجهون إليه قائلين: ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته أي إنهم ينظرون إلى هيبة ذلك الرب العلي العظيم الذي خلق تلك الأكوان المملوءة بالأسرار، والحكم، والدلائل على قدرته، وعزته، فيعلمون أنه لا يمكن لأحد أن ينتصر عليه، وأن من عاداه فلا ملجأ ولا منجى له منه إلا إليه، فيقرون بأن من أدخله ناره فقد أخزاه، أي أذله وأهانه. وما للظالمين من أنصار وصف من يدخلون النار بالظالمين تشنيعا لأعمالهم، وبيانا لعلة دخولهم فيها، وهو جورهم، وميلهم عن طريق الحق. فالظالم هنا هو الذي يتنكب الطريق المستقيم لا الكافر خاصة كما قال بعض المفسرين، فإن هذا التخصيص لا حاجة إليه، ولا دليل عليه، وإنما سببه ولوع الناس بإخراج أنفسهم من كل وعيد يذكر في كتابهم، وحمله بالتأويل والتحريف على غيرهم، كذلك فعل السابقون، واتبع سننهم اللاحقون، فكل ظالم يؤخذ بظلمه، ويعاقب على قدره، ولا يجد له نصيرا يحميه من أثر ذنبه.
قال: ثم إنهم بعد التعبير عما أثمره الفكر والذكر من معرفة الله - تعالى - وخشيته ودعائه عبروا عما أفادهم السمع من وصول دعوة الرسول إليهم، واستجابتهم له، وما يترتب على ذلك فقالوا: { ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا } المنادي للإيمان هو الرسول، وذكره بوصف المنادي تفخيما لشأن هذا النداء، وذكر استجابتهم بالعطف بالفاء لبيان أنهم بعد الذكر والفكر والوصول منهما إلى تلك النتيجة الحميدة لم يتلبثوا بالإيمان الذي يدعوهم إليه الأنبياء، كما تلبث قوم، واستكبر آخرون بل بادروا، وسارعوا إليه؛ لأنهم إنما يدعونهم إلى ما اهتدوا إليه مع زيادة صالحة تزيدهم معرفة بالله - تعالى - وبصيرة في عالم الغيب، والحياة الآخرة اللتين دلهم الدليل على ثبوتهما دلالة مجملة مبهمة، والأنبياء يزيدونها بما يوحيه الله إليهم بيانا وتفصيلا، وعلى هذا التفسير يكون المراد بالآيات بيان أنه كان في كل أمة أولو ألباب هذا شأنهم مع أنبيائهم. ويصح أن يكون المراد بالمنادى نبينا - صلى الله عليه وسلم - خاصة.
أقول: والمراد بأولي الألباب الموصوفين بما ذكره على هذا هم السابقون من أصحابه، ومن تبعهم في ذلك لحكمهم. وسيأتي عند ذكر الهجرة ما يرجح هذا.
وقال الأستاذ: وسماع النداء يشمل من سمع منه مباشرة في عصره، ومن وصلت إليه دعوته من بعده، ويحتمل أن يكون قولهم: فآمنا مرادا به إيمان جديد غير الإيمان الذي استفادوه من التفكر، والذكر، وهو الإيمان التفصيلي الذي أشرنا إليه آنفا، ويحتمل أن يكونوا سمعوا دعوة الرسول أولا، وآمنوا به ثم نظروا، وذكروا، وتفكروا، فاهتدوا إلى ما اهتدوا إليه من الدلائل التي تدعم إيمانهم، فذكروا النتيجة، ثم اعترفوا بالوسيلة، ولا ينافي ذلك تأخير هذه عن تلك في العبارة كما هو ظاهر.
{ ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا } تفيد الفاء في قوله: فاغفر اتصال هذا الدعاء بما قبله، وكون الإيمان سببا له، والمراد بالإيمان: الإذعان للرسل في النفس والعمل، لا دعوى الإيمان باللسان مع خلو القلب من الإذعان الباعث على العمل؛ ولأجل هذا استشعروا الخوف من الهفوات، والسيئات فطلبوا المغفرة، والتكفير، وقال بعض المفسرين: إن المراد بالذنوب هنا الكبائر، وبالسيئات الصغائر.
قال الأستاذ الإمام: وعندي أن الذنوب هي: التقصير في عبادة الله - تعالى - وكل معاملة بين العبد وربه، والسيئات: هي التقصير في حقوق العباد، ومعاملة الناس بعضهم بعضا. فالذنب معناه الخطيئة، وأما السيئة فهي ما يسوء، فاشتقاقها من الإساءة يشعر بما قلناه، وغفر الذنوب عبارة عن سترها، وعدم العقوبة عليها ألبتة؛ وتكفير السيئات عبارة عن حطها، وإسقاطها، فكل من الطلبين مناسب لما ذكرنا من المعنيين وتوفنا مع الأبرار أي أمتنا على حالتهم، وطريقتهم، يقال أنا مع فلان أي على رأيه، وسيرته، ومذهبه في عمله. والأبرار: هم المحسنون في أعمالهم.
أقول: راجع في الأبرار تفسير قوله:
{ ليس البر } [البقرة: 177] في ص89 وما بعدها ج 2 [ط الهيئة المصرية العامة للكتاب] وقوله: { { ولكن البر من اتقى } [البقرة: 189] وتفسير الغفران والمغفرة (في 115، 170، 188، 255 ج 2، 158، 99 ج 4). أما الذنب فقد قال الراغب: إنه في الأصل الأخذ بذنب الشيء (بالتحريك)، يقال ذنبته أي أصبت ذنبه، ويستعمل في كل فعل يستوخم عقباه اعتبارا بذنب الشيء؛ ولهذا يسمى الذنب تبعة اعتبارا لما يحصل من عاقبته، وجمع الذنب ذنوب اهـ.
أقول: وهو بهذا المعنى يشمل كل عمل تسوء عاقبته في الدنيا والآخرة من المعاصي كلها سواء منها ما يتعلق بحقوق الله - عز وجل -، وما يتعلق بحقوق العباد، ومنه ترك الطاعات الواجبة، وأما السيئة فهي الفعلة القبيحة التي تسوء صاحبها، أو تسوء غيره سواء كان ذلك عاجلا، أو آجلا، فهي عامة أيضا، وضدها الحسنة. قال الراغب: الحسنة والسيئة ضربان أحدهما بحسب اعتبار العقل، والشرع نحو المذكور في قوله - تعالى -:
{ { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها } [الأنعام: 160] وحسنة وسيئة بحسب اعتبار الطبع، وذلك ما يستخفه الطبع، وما يستثقله، نحو قوله: { فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه } [الأعراف: 131] وقوله: { { ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة } [الأعراف: 95] اهـ. وكأن الأستاذ الإمام حمل السيئات على ما يسوء من معاملة الناس أخذا من مثل قوله - تعالى -: { وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين * ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل * إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور } [الشورى: 40 - 43] فالآيات صريحة في معاملات الناس بعضهم مع بعض، ويمكن ادعاء أن ما ورد من ذكر الحسنات والسيئات في مقام الجزاء في الدارين، وكذا في الآخرة فقط يحمل على هذا. ومثله ما ورد من السيئات في مقابلة العمل الصالح على الإطلاق، ولكن ذلك خلاف الظاهر المتبادر.
{ ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك } أي أعطنا ما وعدتنا من الجزاء الحسن كالنصر في الدنيا والنعيم في الآخرة - وخصه بعضهم بالدنيا، وبعضهم بالآخرة - جزاء على تصديق رسلك، واتباعهم، إذ استجبنا لهم وآمنا بما جاءوا به، أو ما وعدتنا به منزلا على رسلك، أو ما وعدتنا به على ألسنة رسلك. والمعنى: أعطنا ذلك بتوفيقنا للثبات على ما نستحقه به إلى أن تتوفانا مع الأبرار، وهذه الغاية بالنسبة إلى جزاء الآخرة، وفيه هضم لنفوسهم، واستشعار تقصيرها، وعدم الثقة بثباتها إلا بتوفيقه وعنايته - عز وجل -، وقيل إن الدعاء لإظهار العبودية فقط. وقال الأستاذ الإمام: على رسلك معناه لأجل رسلك، أي لأجل رسلك، أي لأجل اتباعهم، والإيمان بهم. فجعل " على " للتعليل، ولا أذكر هذا لغيره هنا، ثم ذكر ما قيل من استشكال هذا السؤال منهم مع إيمانهم بأن الله لا يخلف الميعاد، واختار في الجواب عنه: أن هؤلاء قوم هداهم النظر والفكر إلى معرفة الله - تعالى - واستشعار عظمته وسلطانه، وإلى ضعف أنفسهم عن القيام بما يجب من شكره، والقيام بحقوقه، وحقوق خلقه، فطلبوا المغفرة، والتكفير، والعناية الإلهية التي تبلغهم ما وعد الله من استجابوا للرسل، ونصروهم، وأحسنوا اتباعهم؛ وهو ما أشرنا إليه آنفا؛ ولذلك قالوا: ولا تخزنا يوم القيامة أي لا تفضحنا وتهتك سترنا يوم القيامة بإدخالنا النار التي يخزى من دخلها - كما تقدم في الآية التي قبل هذه - ونقل الرازي عن حكماء الإسلام أن المراد بالخزي هنا العذاب الروحاني؛ لأنهم طلبوا الوقاية من النار من قبل، وهو العذاب الجسماني، واستنبط من الابتداء بطلب النجاة من العذاب الجسماني، وجعل طلب النجاة من العذاب الروحاني آخرا، وختاما، إذ العذاب الروحاني أشد، ويعنون بالعذاب الروحاني الحرمان من الرضوان الأكبر بكمال العرفان الإلهي الذي ذكره الله - تعالى - في قوله:
{ { وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم } [التوبة: 72] ولكن طلب النجاة من الخزي لا يدل على ما ذهبوا إليه، وأما كلمة: { إنك لا تخلف الميعاد } فهي ثناء ختم به الدعاء ولا شك أن الوعد يصيبهم إذا قاموا بما ترتب هو عليه من الإيمان والعمل الصالح، فإن الوعد كما قال الرازي: " لا يتناول آحاد الأمة بأعيانهم بل إنما يتناولهم بحسب أوصافهم "، وقد قال - تعالى - في الوعد بسيادة الدنيا: { { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض } [النور: 55] الآية، وقال فيه: { إن تنصروا الله ينصركم } [محمد: 7] وقال في الوعد بسعادة الآخرة: { وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات } [التوبة: 72] الآية، وقد ذكرت كلها آنفا. وفي معناها آيات كثيرة، فكل من الوعدين مترتب على الإيمان، وعمل الصالحات، ولكن المحرفين لدين الله يجعلون كل جزاء حسن للأفراد بحسب ذواتهم، أو ذوات غيرهم من الصالحين الذين يدعونهم ويتوسلون بهم.
فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى عطف استجابته لهم بفاء السببية فدل على أن ما ذكر من شأنهم هو الذي أهلهم لقبول دعائهم، قال الأستاذ الإمام ما مثاله مع زيادة في مسألة الرجل والمرأة: استجاب دعاءهم لصدقهم في الإيمان، والذكر، والفكر، والتقديس، والتنزيه، والوصول إلى معرفة الحياة الآخرة، وصدق الرسل، وإيمانهم بهم، وشعورهم بعد ذلك كله بأنهم ضعفاء مقصرون في الشكر لله، محتاجون مغفرته لهم، وفضله عليهم وإحسانه بهم بإيتائهم ما وعدهم، ولكن هذه الاستجابة لم تكن بعين ما طلبوا كما طلبوا؛ ولذلك صورها وبين كيفيتها، وهذا التصوير لحكمة عالية، وهي أن الاستجابة ليست إلا توفية كل عامل جزاء عمله لينبههم بذكر العمل، والعامل إلى أن العبرة في النجاة من العذاب، والفوز بحسن الثواب إنما هي بإحسان العمل، والإخلاص فيه، فإن الإنسان قد تغشه نفسه، فيظن أنه محسن، وهو ليس بمحسن، وأنه مخلص، وما هو بمخلص، وأن حوله وقوته قد فنيا في حول الله وقوته، وأنه لا يريد إلا وجهه - تعالى - في كل حركة وسكون، ويكون في الواقع ونفس الأمر مغرورا مرائيا. وذكر أن الذكر والأنثى متساويان عند الله - تعالى - في الجزاء متى تساويا في العمل حتى لا يغتر الرجل بقوته، ورياسته على المرأة، فيظن أنه أقرب إلى الله منها، ولا تسيء المرأة الظن بنفسها فتتوهم أن جعل الرجل رئيسا عليها يقتضي أن يكون أرفع منزلة عند الله - تعالى - منها. وقد بين الله - تعالى - علة هذه المساواة بقوله: { بعضكم من بعض } فالرجل مولود من المرأة، والمرأة مولودة من الرجل، فلا فرق في البشرية، ولا تفاضل بينهما إلا بالأعمال، أي وما تترتب عليه الأعمال، ويترتب هو عليها من العلوم والأخلاق.
أقول: وفيه وجه آخر، وهو أن كلا منهما صنو وزوج وشقيق للآخر، وفي معنى ذلك حديث النساء شقائق الرجال قالوا: أي مثلهم في الطباع، والأخلاق كأنهن مشتقات منهم، أو لأنهن معهم من أصل واحد. ووجه ثالث: أنه بمعنى حديث سلمان منا وحديث ليس منا من دعا إلى عصبية فمعنى " منا " على طريقتنا، وما نحن عليه لا فرق بيننا وبينه. وهذه الآية ترفع قدر النساء المسلمات في أنفسهن، وعند الرجال المسلمين. ومن علم أن جميع الأمم كانت تهضم حق المرأة قبل الإسلام، وتعدها كالبهيمة المسخرة لمصلحة الرجل وشهوته، وعلم أن بعض الأديان فضلت الرجل على المرأة بمجرد كونه ذكرا وكونها أنثى، وبعض الناس عد المرأة غير أهل للتكاليف الدينية، وزعموا أنها ليس لها روح خالدة - من علم هذا قدر هذا الإصلاح الإسلامي لعقائد الأمم، ومعاملاتها حق قدره، وتبين له أن ما تدعيه الإفرنج من السبق إلى الاعترافات بكرامة المرأة، ومساواتها للرجل باطل، بل الإسلام السابق. وأن شرائعهم وتقاليدهم الدينية والمدنية لا تزال تميز الرجل على المرأة. نعم، إن لهم أن يحتجوا على المسلمين بالتقصير في تعليم النساء، وتربيتهن، وجعلهن عارفات بما لهن، وما عليهن، ونحن نعترف بأننا مقصرون تاركون لهداية ديننا، صرنا حجة عليه عند الأجانب، وفتنة لهم، وأما ما يفضل به الرجال النساء في الجملة من العلم، والعقل، وما يقومون به من الأعمال الدنيوية الذي ربما كان سببه ما جرى عليه الناس من أحوال الاجتماع، وكذا جعل حظ الرجل في الإرث مثل حظ الأنثيين، لأنه يتحمل نفقتها، ويكلف ما لا تكلفه، فلا دخل لشيء من ذلك في التفاضل عند الله - تعالى - في الثواب والعقاب، والكرامة وضدها، بل سوى الله - تعالى - بين الزوجين حتى في الحقوق الاجتماعية إلا مسألة القيام والرياسة، فجعل للرجال عليهن درجة كما تقدم في سورة البقرة [ص299 وما بعدها ج 2 ط الهيئة العامة للكتاب].
الأستاذ الإمام: لم يكتف بربط الجزاء بالعمل حتى بين أن العمل هو الذي يستحقون به ما طلبوا من تكفير السيئات ودخول الجنة، فقال: { فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم } ذكر الإخراج من الديار بعد الهجرة من باب التفصيل بعد الإجمال، فالهجرة إنما كانت وتكون بالإخراج من الديار، وتستتبع ما ذكر في قوله: { وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا } من الإيذاء والقتال، وقرئ (وقتلوا) بتشديد التاء للمبالغة، فمن لم يحتمل القتل بل والتقتيل في سبيل الله - تعالى - ويبذل مهجته لله - عز وجل - فلا يطمعن بهذه المثوبة المؤكدة في قوله: { لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار } ومثل هذه الآيات الكبيرة الوادرة في صفات المؤمنين كقوله - تعالى -:
{ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا } [الحجرات: 15] إلخ. وقوله: { { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } [الأنفال: 2] إلخ، وقوله: { { قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون } [المؤمنون: 1 - 2] الآيات، وقوله: { وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا } [الفرقان: 63] الآيات، وقوله: { { إن الإنسان خلق هلوعا } [المعارج: 19] الآيات، وقوله: { والعصر } [العصر: 1] إلى آخر السورة، وغير ذلك.
قال: هكذا يذكر الله - تعالى - صفات المؤمنين لينبهنا إلى أن نرجع إلى أنفسنا ونمتحنها بهذه الأعمال والصفات، فإن رأيناها تحتمل الإيذاء في سبيل الله حتى القتل فلنبشرها بالصدق منها، والرضوان منه - تعالى -، وإلا فعلينا أن نسعى لتحصيل هذه المرتبة التي لا ينجي عنده غيرها. وإنما كلف الله المؤمنين الصادقين الموقنين المخلصين هذا التكليف الشاق لأن قيام الحق مرتبط به، وإنما سعادتهم - من حيث هم مؤمنون - بقيام الحق وتأييده، والحق في كل زمان، ومكان محتاج إلى أهله لينصروه على أهل الباطل الذين يقاومونه. والحق والباطل يتصارعان دائما، ولكل منهما حزب ينصره، فيجب على أنصار الحق ألا يفشلوا ولا ينهزموا، بل عليهم أن يثبتوا، ويصبروا، حتى تكون كلمته العليا، وكلمة الباطل هي السفلى. (قال): وانظر إلى حال المؤمنين اليوم تجدهم يتعللون بأن هذه الآيات نزلت في أناس مخصوصين، كأنهم يترقبون أن يستجيب الله لهم، ويعطيهم ما وعد المؤمنين من غير أن يقوموا بعمل مما أمر به المؤمنين، ولا أن يتصفوا بوصف مما وصفهم به من حيث هم مؤمنون، وما علق عليه وعده بمثوبتهم، بل وإن اتصفوا بضده وهو ما توعد عليه بالعذاب الشديد، وهذا منتهى الغرور.
وأقول: إن هذه الصفات تجتمع وتفترق، فمن المهاجرين من ترك وطنه مختارا، ولم يخرج منه إخراجا، بل من الصحابة من هاجر مستخفيا لئلا يمنعه المشركون. ولكن قد يقال: إنهم إذا لم يكونوا أمروهم بالهجرة أمرا، وأخرجوهم من ديارهم قسرا، فإنهم قد ضيقوا عليهم المسالك حتى ألجئوهم إلى ذلك. ومنهم من أوذي ولم يخرجه المشركون، ولا مكنوه من الخروج. وراجع بعض الكلام في إيذاء مشركي مكة للمسلمين في ص254 وما بعدها ح2 [ط الهيئة المصرية العامة للكتاب] وفي الحديث أن الهجرة دائمة لا تنقطع حتى تمنع التوبة أي إلى قبيل قيام الساعة.
وأما قوله: وقاتلوا وقتلوا فقد قرأه حمزة بعكس الترتيب في اللفظ " وقتلوا وقاتلوا "، وقالوا فيه: إن الواو لا تفيد ترتيبا، ولأن المراد أن الكفار كانوا هم البادئين، فلما قتل من المؤمنين أناس قاتلوا الكفار. وشدد ابن كثير، وابن عامر تاء " قتلوا " للمبالغة كما جاء في كلام الأستاذ الإمام، وقد كان المشركون يقتلون كل من قدروا على قتله من المسلمين إلا أن يكون له من يمنعه من قريب وولي. وقد راجعت بعد كتابة ما تقدم تفسير الفخر الرازي فإذا هو يقول: والمراد من قوله: { فالذين هاجروا } الذين اختاروا المهاجرة من أوطانهم في خدمة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. والمراد من الذين أخرجوا من ديارهم الذين ألجأهم الكفار إلى الخروج. ولا شك أن رتبة الأولين أفضل؛ لأنهم اختاروا خدمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وملازمته على الاختيار، فكانوا أفضل. وقوله: { وأوذوا في سبيلي } أي من أجله وسببه، وقاتلوا وقتلوا لأن المقاتلة تكون قبل القتال. قرأ نافع وعاصم وأبو عمرو: " وقاتلوا " بالألف أولا " وقتلوا " مخففة، والمعنى: أنهم قاتلوا معه حتى قتلوا. وقرأ ابن كثير، وابن عامر (وقاتلوا) أولا (وقتلوا) مشددة، قيل: التشديد للمبالغة وتكرر القتل فيهم كقوله:
{ { مفتحة لهم الأبواب } [ص: 50] وقيل: قطعوا، عن الحسن. وقرأ حمزة، والكسائي (وقتلوا) بغير ألف أولا، (وقاتلوا) بالألف بعده، وفيه وجوه: الأول أن الواو لا توجب الترتيب كما في قوله: { { واسجدي واركعي } [آل عمران: 43] والثاني على قولهم: قلنا ورب الكعبة. إذا ظهرت أمارات القتل أو إذا قتل قومه وعشائره، والثالث بإضمار قد، أي قتلوا وقد قاتلوا اهـ.
وأقول: إن كلمة "وقاتلوا" رسمت في المصحف الإمام بغير ألف ككلمة وقتلوا والرازي لا يعني بقوله قرأ نافع... " قاتلوا " بالألف: إن الكلمة رسمت أو ترسم بالألف في المصحف، وإنما ذلك للتوضيح، يعني قرءوا بالفعل المشتق من المقاتلة؛ والحكمة في اختلاف القراءات هنا إفادة المعاني المختلفة باختلافها، ومثل هذا كثير.
أما قوله - تعالى -: { ثوابا من عند الله } فمعناه لأكفرن عنهم سيئاتهم وأدخلنهم الجنات، أثيبهم بذلك ثوابا من النوع العالي الكريم الذي عند الله لا يقدر عليه غيره. والثواب: اسم من مادة ثاب يثوب ثوبا أي رجع، يقال: تفرق عنه أصحابه، ثم ثابوا إليه، وفي المجاز ثاب إليه عقله وحلمه إذا كان خرج عن مقتضى العقل، والحلم بنحو غضب شديد ثم سكت عنه غضبه، ومنه جعل البيت الحرام مثابة للناس، فإنهم يعودون إليه بعد مفارقته؛ ولذلك قال الراغب: الثواب ما يرجع إلى الإنسان من جزاء أعماله، فيسمى الجزاء ثوابا تصورا أنه هو هو، ألا ترى كيف جعل الله - تعالى - الجزاء نفس الفعل في قوله:
{ { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } [الزلزلة: 7] ولم يقل جزاءه. والثواب يقال في الخير والشر، لكن الأكثر المتعارف في الخير، وعلى هذا قوله - عز وجل -: ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب انتهى المراد.
وأقول: إن لفظ الثواب والمثوبة حيث وقع، وما في معناه من ذكر الجزاء بالعبارات التي تدل على أنه عين العمل، كل ذلك يؤيد المسألة التي أخذنا على أنفسنا إيضاحها، وإثباتها، وكررنا القول فيها بعبارات، وأساليب كثيرة، وهي أن الجزاء أثر طبيعي للعمل، أي إن للأعمال تأثيرا في نفس العامل تزكيها فتكون بها منعمة في الآخرة، أو تدسيها فتكون معذبة فيها بحسب سنة الله - تعالى -، فكأن الأعمال نفسها تثوب وتعود، وليس - أي الجزاء - أمرا وضيعا كجزاء الحكام بحسب قوانينهم، وشرائعهم. وقد أشار إلى هذا المعنى بعض المدققين من العلماء - لاسيما الصوفية - كالغزالي ومحيي الدين بن عربي، وإذا فقه الناس هذا المعنى زال غرورهم، ولم يعتمدوا في أمر ما يرجون من نعيم الآخرة.
ويخشون من عذابها إلا على ما أرشدهم إليه كتاب الله - تعالى - من العمل الصالح دون أشخاص الصالحين، وتسمية أنفسهم " محاسيب عليهم "، ودعائهم، والاستغاثة بهم.
وقال الإمام الرازي في المسألة الأولى من المسائل المتعلقة بالآية: " في الآية تنبيه على أن استجابة الدعاء مشروطة بهذه الأمور (أي العمل الصالح مع المهاجرة، واحتمال الإخراج من الوطن، والإيذاء في سبيل الحق، والخير، والقتل والقتال فيه) فلما كان حصول هذا الشرط عزيزا كان الشخص المجاب الدعاء عزيزا ".
وقال في المسألة الخامسة: اعلم أنه ليس المراد أنه لا يضيع نفس العمل؛ لأن العمل كلما وجد تلاشى وفني، بل المراد أنه لا يضيع ثواب العمل، والإضاعة عبارة عن ترك الإثابة، فقوله: { لا أضيع } نفي للنفي فيكون إثباتا، فيصير المعنى: إني أوصل ثواب جميع أعمالكم إليكم، إذا ثبت ما قلنا فالآية دالة على أن أحدا من المؤمنين لا يبقى في النار مخلدا، والدليل عليه أنه بإيمانه استحق ثوابا، وبمعصيته استحق عقابا، فلا بد من وصولهما إليه بحكم هذه الآية، والجمع بينهما محال. فإما أن يقدم الثواب ثم ينقله إلى العقاب، وهو باطل بالإجماع، أو يقدم العقاب، ثم ينقله إلى الثواب وهو المطلوب اهـ. وفي قوله: إن العمل تلاشى وفني ما علمت من قاعدتنا التي نبهنا عليها آنفا، فنقول: إن حركة الأعضاء به فنيت، ولكن صورته في النفس بقيت، فكانت منشأ الجزاء، وأورد الرازي نفسه وجها آخر في عدم إضاعة العمل، وهو عدم إضاعة الدعاء، وقال بعد مباحث: ثم إنه - تعالى - وعد من فعل هذا بأمور ثلاثة: أولها: محو السيئات، وغفران الذنوب، وهو قوله: { لأكفرن عنهم سيئاتهم } وذلك هو الذي طلبوه بقولهم: { فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا }. وثانيهما: إعطاء الثواب العظيم وهو قوله: { ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار } وهو الذي طلبوه بقولهم: { وآتنا ما وعدتنا على رسلك }. وثالثها: أن يكون هذا الثواب ثوابا عظيما مقرونا بالتعظيم، والإجلال، وهو قوله: من عند الله وهو الذي قالوه: { ولا تخزنا يوم القيامة }؛ لأنه - سبحانه - هو العظيم الذي لا نهاية لعظمته، وإذا قال السلطان العظيم لعبده: إني أخلع عليك خلعة من عندي دل ذلك على كون تلك الخلعة في نهاية الشرف اهـ. وقد علمت أن عدم الخزي لا يدل على ما قاله في النعيم الروحاني، وكذلك لا يدل على ما قاله هنا، وما قرره في الاستجابة من أنها بعين ما طلبوا مخالف لما قاله الأستاذ الإمام وقد رأيته.
ثم قال - تعالى -: { والله عنده حسن الثواب }.
قال الأستاذ الإمام كغيره: إن هذا تأكيد لما قبله من كون الثواب من عند الله، ليبين أن هذا الجزاء بمحض الفضل، والكرم الإلهي، وأنه يقع بإرادته، واختياره - تعالى -، وإن كان جزاء على عمل.
وأقول: إن كون الجزاء بفضل الله ورحمته لا ينافي ما قلناه في معنى الجزاء والثواب؛ لأن كل ما يصيب العباد من خير في الدنيا فهو من فضله - تعالى - ورحمته، وإن كان قد جعل له أسبابا هو أثر طبيعي لها كالمطر، والنبات، والصحة، وغير ذلك، والله أكرم، وأرحم، وأعلم، وأحكم.