خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لاَّ يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَـٰةً وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ
٢٨
قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٩
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوۤءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ وَٱللَّهُ رَؤُوفٌ بِٱلْعِبَادِ
٣٠
-آل عمران

تفسير المنار

قال الأستاذ الإمام ما مثاله: جاء قوله -تعالى-: لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين بعد تلك الآية التي نبه الله فيها النبي والمؤمنين إلى الالتجاء إليه معترفين أن بيده الملك والعز ومجامع الخير والسلطان المطلق في تصريف الكون يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، فإذا كانت العزة والقوة له - عز شأنه - فمن الجهل والغرور أن يعتز بغيره من دونه، وأن يلتجأ إلى غير جنابه، أو يذل المؤمن في غير بابه، وقد نطقت السير بأن بعض الذين كانوا يدخلون في الإسلام كان يقع منهم قبل الاطمئنان بالإيمان اغترار بعزة الكافرين وقوتهم وشوكتهم، فيوالونهم ويركنون إليهم، وهذا أمر طبيعي في البشر.
قال: وذكروا في سبب نزول الآية أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة. وقصته معروفة وقيل: إنها نزلت في ابن أبي ابن سلول (زعيم المنافقين) وقيل في جماعة من الصحابة كانوا يوالون بعض اليهود، ومهما كان السبب في نزولها فإنا نعلم أن من طبيعة الاجتماع في كل دعوة أن يوجد في المستجيبين لها القوي والضعيف، على أن مظاهر القوة والعزة تغر بعض الصادقين، وتؤثر في نفوس بعض المخلصين فما بالك بغيرهم! ولذلك نهى الله -تعالى- المؤمنين عن اتخاذ الأولياء من الكافرين، وقد ورد بمعنى هذه الآية آيات أخرى فلا بد من تفسيرها تفسيرا تتفق به معانيها.
أقول: قصة حاطب التي أشار إليها مسندة في الصحيحين وغيرهما، وملخصها:
"أن حاطبا كتب كتابا لقريش يخبرهم فيه باستعداد النبي -صلى الله عليه وسلم- للزحف على مكة إذ كان يتجهز لفتحها وكان يكتم ذلك ليبغت قريشا على غير استعداد منها فتضطر إلى قبول الصلح - وما كان يريد حربا - وأرسل حاطب كتابه مع جارية وضعته في عقاص شعرها فأعلم الله نبيه بذلك، فأرسل في أثرها عليا والزبير والمقداد وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها فلما أتي به قال: يا حاطب ما هذا؟ فقال: يا رسول الله لا تعجل علي! إني كنت حليفا لقريش ولم أكن من أنفسها وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي، ولم أفعله ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام فقال -عليه الصلاة والسلام-: أما إنه قد صدقكم واستأذن عمر النبي -صلى الله عليه وسلم- في قتله فلم يأذن له" ، قالوا: وفي ذلك نزل قوله -تعالى-: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم } [الممتحنة: 1] إلخ. ولم أر أحدا قال إن الآية التي نفسرها نزلت في قصة حاطب، فلعل ما قاله الأستاذ الإمام سهو؛ سببه أن هذه الآية وما نزل في قصة حاطب يشتركان في النهي عن موالاة الكافرين، وما نزل في قصة حاطب - وهو معظم سورة الممتحنة - يفسر لنا أو يفصل جميع الآيات التي وردت في النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء؛ لأن ما في سورة الممتحنة مفصل، وهو من آخرها أو آخرها نزولا، وما عداه مجمل يبينه المفصل.
يزعم الذين يقولون في الدين بغير علم، ويفسرون القرآن بالهوى في الرأي أن آية آل عمران وما في معناها من النهي العام أو الخاص كقوله -تعالى-:
{ { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } [المائدة: 51] يدل على أنه لا يجوز للمسلمين أن يخالفوا أو يتفقوا مع غيرهم، وإن كان الخلاف أو الاتفاق لمصلحتهم، وفاتهم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان محالفا لخزاعة وهم على شركهم، بل يزعم بعض المتحمسين في الدين - على جهل - أنه لا يجوز للمسلم أن يحسن معاملة غير المسلم أو معاشرته أو يثق به في أمر من الأمور، وقد جاءتنا ونحن نكتب في هذه المسألة إحدى الصحف فرأينا في أخبارها البرقية أن الأفغانيين المتعصبين ساخطون على أميرهم أن عاشر الإنكليز في الهند وواكلهم ولبس زي الإفرنج، وأنهم عقدوا اجتماعا حكموا فيه بكفره ووجوب خلعه من الإمارة، فأرسلت الجنود لتفريق شملهم، فأمثال هؤلاء المتحمسين الجاهلين أضر الخلق بالإسلام والمسلمين، بل أبعد عن حقيقته من سائر العالمين، وماذا فهم أمثال أولئك الأفغانيين من القرآن، على عجمتهم وجهلهم بأساليبه وبعمل الصدر الأول به!
قال الأستاذ الإمام في تفسير الآية ما مثاله مبسوطا: الأولياء: الأنصار، والاتخاذ يفيد معنى الاصطناع. وهو عبارة عن مكاشفتهم بالأسرار الخاصة بمصلحة الدين، وقوله: من دون المؤمنين قيد في الاتخاذ، أي لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء وأنصارا في شيء تقدم فيه مصلحتهم على مصلحة المؤمنين، أي كما فعل حاطب بن أبي بلتعة (رضي الله عنه) لأن في هذا اختيارا لهم وتفضيلا على المؤمنين، بل فيه إعانة للكفر على الإيمان ولو بطريق اللزوم، من شأن هذا ألا يصدر من مؤمن ولو كان فيه مصلحة خاصة له؛ لذلك هم عمر -رضي الله عنه- بقتل حاطب وسماه منافقا لولا أن نهاه -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك وذكره بأنه من أهل بدر. أقول: وإذا كان الشارع لم يحكم بكفر حاطب في موالاة المشركين التي هي موضع النهي فكيف نكفر باسم الإسلام مثل أمير الأفغان الذي لم يفعل إلا ما أباحه الله له. من أكل ولباس ومجاملة لحكومة من أهل الكتاب - وهم أقرب إلينا من المشركين - ومجاملته لها ليست موالاة لها من دون المؤمنين (أي: ضدهم كما يقول أهل العصر) وإنما هي موالاة لمصلحتهم التي تتفق مع مصلحتها، وهم أحوج إليها منها إليهم.
عود إلى كلام الأستاذ الإمام: وقال -تعالى- في آية أخرى:
{ { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم } [المجادلة: 22] الآية، فالموادة مشاركة في الأعمال، فإن كانت في شأن من شئون المؤمنين من حيث هم مؤمنون، والكافرين من حيث هم كافرون فالممنوع منها ما يكون فيه خذلان لدينك وإيذاء لأهله أو إضاعة لمصالحهم، وأما ما عدا ذلك كالتجارة وغيرها من ضروب المعاملات الدنيوية فلا تدخل في ذلك النفي؛ لأنها ليست معاملة في محادة الله ورسوله، أي في معاداتهما ومقاومة دينهما.
أقول: وإذا رجع المؤمن إلى سورة الممتحنة (60) التي فصلت فيها هذه المسألة ما لم تفصل في غيرها يجد الآية الأولى - وقد تقدم صدرها في قصة حاطب - تقيد النهي عن موالاة أعداء الله ورسوله وإلقاء المودة إليهم بكونهم كفروا كفرا حملهم على إخراج الرسول والمؤمنين من وطنهم؛ لأنهم مؤمنون بالله، فكل شعب حربي يعامل المؤمنين مثل هذه المعاملة تحرم موالاته قطعا، ثم وصف هؤلاء الذين نهى عن موالاتهم بأنهم إن يثقفوا المؤمنين يعادوهم ويؤذوهم بأيديهم وألسنتهم ثم قال:
{ { عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون } [الممتحنة: 7 - 9] فالبصير يرى أن القرآن يجعل المودة بين المؤمنين وأولئك المشركين الذين آذوا الرسول ومن آمن به أشد الإيذاء وأخرجوهم من ديارهم وبين هؤلاء المؤمنين مرجوة. وقال: إنه لا ينهاهم عن البر والقسط إلى من ليسوا كذلك من المشركين وهم أشد الناس عداوة للمؤمنين أيضا، وأبعد عنهم من أهل الكتاب. ثم أكد ذلك بحصر النهي في الذين قاتلوهم في الدين؛ أي لأنهم مسلمون وأخرجوهم من ديارهم وساعدوا على إخراجهم منها، ولكنه خص هذا النهي بتوليهم ونصرهم لا بمجاملتهم وحسن معاملتهم بالبر والإحسان والعدل، وهذا منتهى الحلم والسماح بل الفضل والكمال. ولا تنس أن هذه الآيات نزلت قبل فتح مكة، وكان المشركون في عنفوان طغيانهم واعتدائهم، وقد عمل -عليه الصلاة والسلام- يوم الفتح بهذه الوصايا فعفا عن قدرة، وحلم عن عزة وسلطة. وقال: أنتم الطلقاء وأحسن إلى المؤمن والكافر والبر والفاجر، ومثله أهل للفضل والإحسان، ولقد كان للمؤمنين فيه أسوة حسنة ولكن بعد متحمسو المسلمين اليوم عن سنته وعن كتاب الله الذي تأدب هو به. اللهم اهد هؤلاء المسلمين بهداية كتابك ليكونوا بحسن عملهم حجة له بعد ما صار أكثرهم بسوء العمل حجة عليه.
{ ومن يفعل ذلك } فيتخذ الكافرين أولياء وأنصارا من دون المؤمنين فيما يخالف مصلحتهم من حيث هم مؤمنون فليس من الله في شيء أي فليس من ولاية الله في شيء قاله البيضاوي وغيره. وولاية الله من العبد طاعته ونصر دينه، ومن الله مثوبته ورضوانه. وقال الأستاذ الإمام: معنى العبارة أنه يكون بينه وبين الله غاية البعد؛ أي تنقطع صلة الإيمان بينه وبين الله -تعالى-؛ أي فيكون من الكافرين كما قال في آية أخرى:
{ { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } [المائدة: 51] أو معناه فيكون عدوا لله، وقد صرح بذلك الأستاذ. وقوله: إلا أن تتقوا منهم تقاة استثناء من أعم الأحوال؛ أي إن ترك موالاة الكافرين على المؤمنين حتم في كل حال إلا في حال الخوف من شيء تتقونه منه، فلكم حينئذ أن توالوهم بقدر ما يتقى به ذلك الشيء؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وهذه الموالاة تكون صورية؛ لأنها للمؤمنين لا عليهم، والظاهر أن الاستثناء منقطع، والمعنى ليس لكم أن توالوهم على المؤمنين، ولكن لكم أن تتقوا ضررهم بموالاتهم، وإذا جازت موالاتهم لاتقاء الضرر فجوازها لأجل منفعة المسلمين يكون أولى؛ وعلى هذا يجوز لحكام المسلمين أن يحالفوا الدول غير المسلمة لأجل فائدة المؤمنين بدفع الضر أو جلب المنفعة، وليس لهم أن يوالوهم في شيء يضر بالمسلمين وإن لم يكونوا من رعيتهم، وهذه الموالاة لا تختص بوقت الضعف، بل هي جائزة في كل وقت
أقول: وقد استدل بعضهم بالآية على جواز التقية وهي ما يقال أو يفعل مخالفا للحق لأجل توقي الضرر، ولهم فيها تعريفات وشروط وأحكام، فقيل: إنها مشروعة للمحافظة على النفس والعرض والمال. وقيل: لا تجوز التقية لأجل المحافظة على المال. وقيل: إنها خاصة بحال الضعف. وقيل: بل عامة، وينقل عن الخوارج أنهم منعوا التقية في الدين مطلقا - وإن أكره المؤمن وخاف القتل - لأن الدين لا يقدم عليه شيء، ويرد عليهم قوله -تعالى-:
{ { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين } [النحل: 106، 107] فمن نطق بكلمة الكفر مكرها وقاية لنفسه من الهلاك لا شارحا بالكفر صدرا ولا مستحسنا للحياة الدنيا على الآخرة لا يكون كافرا، بل يعذر كما عذر عمار بن ياسر وفيه نزلت هذه الآية (16: 106) وكما عذر الصحابي الذي سأله هذا السؤال فقال: " إني أصم " ثلاثا. وينقل عن الشيعة أن التقية عندهم أصل من أصول الدين جرى عليه الأنبياء والأئمة، وينقل عنهم في ذلك أمور متناقضة مضطربة وخرافات مستغربة، وقلما يسلم نقل المخالف من الظنة لا سيما إذا كان نقله بالمعنى، وليس في تفسيرنا هذا موضع للمناقشات والجدل في مسائل الخلاف. وقصارى ما تدل عليه هذه الآية أن للمسلم أن يتقي من مضرة الكافرين، وقصارى ما تدل عليه آية سورة النحل (16: 106) ما تقدم آنفا. وكل ذلك من باب الرخص لأجل الضرورات العارضة لا من أصول الدين المتبعة داالبئما؛ ولذلك كان من مسائل الإجماع وجوب الهجرة على المسلم من المكان الذي يخاف فيه من إظهار دينه ويضطر فيه إلى التقية، ومن علامة المؤمن الكامل ألا يخاف في الله لومة لائم. قال -تعالى-: { { فلا تخشوا الناس واخشون } [المائدة: 44] وقال: { { فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } [آل عمران: 175] وكان النبي وأصحابه يتحملون الأذى في ذات الله ويصبرون.
وأما المدارة فيما لا يهدم حقا ولا يبني باطلا فهي كياسة مستحبة، يقتضيها أدب المجالسة ما لم تنته إلى حد النفاق ويستجز فيها الدهان والاختلاق، وتكون مؤكدة في خطاب السفهاء تصونا من سفههم، واتقاء لفحشهم، وفي الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: استأذن رجل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا عنده - فقال: بئس ابن العشيرة أو أخو العشيرة. ثم أذن له فألان له القول، فلما خرج قلت: يا رسول الله قلت ما قلت، ثم ألنت له القول، فقال: يا عائشة إن من أشر الناس من يتركه الناس أو يدعه الناس اتقاء فحشه رواه البخاري في صحيحه. وفيه من حديث أبي الدرداء: " إنا لنكشر في وجوه قوم وإن قلوبنا لتلعنهم " وفي رواية الكشميهني: " وإن قلوبنا لتقليهم " أي تبغضهم. ولا يجهل أحد أن إلانة القول أو الكشر في الوجوه، أي التبسم هما من أدب المجلس ينبغي بذلهما لكل جليس، ولا يعدان من النفاق ولا من الدهان، ولا ينافيان أمر الله لنبيه بالإغلاظ على الكافرين؛ لأنه ورد في مقام الأمر بالجهاد لدفع إيذائهم وحماية الدعوة وبيان حقيقتها، وقد كان -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس أدبا في مجلسه وحديثه.
ويحذركم الله نفسه روي عن ابن عباس أن معناه عقاب نفسه، وذكر النفس ليعلم أن الوعيد صادر منه، وهو القادر على إنفاذه إذ لا يعجزه شيء، وسيأتي في تفسير الجملة كلام آخر في الآية التي تلي ما بعد هذه وإلى الله المصير فلا مهرب منه. قالوا: وفيه تهديد عظيم يشعر بتناهي المنهي عنه من الموالاة في القبح. ثم قال: قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض المراد بما في الصدور: ما في القلوب من الانشراح والميل للكفر أو الكره له والنفور منه، فهو كقوله -تعالى- في الآية التي ذكرت آنفا:
{ { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا } [النحل: 106] إلخ، أي أنه -سبحانه- يعلم ما تنطوي عليه نفوسكم وما تختلج به قلوبكم إذ توالون الكافرين أو توادونهم وإذ تتقون منهم ما تتقون، فإن كان ذلك بميل إلى الكفر جازاكم عليه، وإن كانت قلوبكم مطمئنة بالإيمان غفر لكم ولم يؤاخذكم على عمل لا جناية فيه على دينكم ولا إيذاء لأهله، فهو يجازيكم على حسب علمه المحيط بما في السماوات والأرض؛ لأنه الخالق لما في السماوات والأرض { { ألا يعلم من خلق } [الملك: 14] وهذا كالدليل على علمه بما في صدورهم؛ لأنه عام ودليله ظاهر في النظام العام والله على كل شيء قدير فلا يمكن أن يتفلت من قدرته أحد ولا يعجزه شيء، وهذا كالشرح لقوله: { ويحذركم الله نفسه }.
{ يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا } قال الأستاذ الإمام ما معناه: الكلام تتمة لوعيد من يوالي الكافرين ناصرا إياهم على المؤمنين، والمعنى: اتقوا واحذروا أو لتحذروا يوم تجد كل نفس عملها من الخير مهما قل محضرا، ولا يجوز تقدير " اذكر " متعلقا لقوله: يوم تجد كما فعل (الجلال). ومعنى كونه محضرا أن فائدته ومنفعته تكون حاضرة لديه، وأما عمل السوء فتود كل نفس اقترفته لو بعد عنها ولم تره وتؤخذ بجزائه، وهذا يدل على أن عمل الشر يكون محضرا أيضا، ولكنه عبر عنه بما ذكر ليدل على أن إحضاره مؤذ لصاحبه يود لو لم يكن؛ أي ومنه يعلم أن إحضار عمل الخير يكون غبطة لصاحبه وسرورا. وقال الأستاذ: إن هذا التعبير ضرب من التمثيل كالآيات التي فيها ذكر كتب الأعمال وأخذها بالأيمان والشمائل، فإن الغرض من التعبير بأخذها باليمين أخذها بالقبول الحسن، ومن أخذها بالشمال أو من وراء الظهر أخذها مع الكراهة والامتعاض.
أقول: وكيف لا تجد كل نفس ما عملت محضرا فتسر المحسنة وتنعم بما أحسنت، وتبتئس المسيئة وتغم بما أساءت، وتود لو كان بينها وبينه بعد المشرقين، وهذه الأعمال مرسومة في صحائف هذه الأنفس وهي صفات لها، وعن هذه الصفات صدرت تلك الحركات فزادت الصفات رسوخا والنقوش في النفس تمكنا، حتى ارتقت بالمحسن إلى عليين، حيث كتاب الأبرار، وهبطت بالمسيء إلى سجين، حيث كتاب الفجار. { ويحذركم الله نفسه } فإنه من ورائكم محيط، وسنته في تأثير الأعمال في النفوس وجعل آثار أعمالها مصدرا لجزائها حاكمة عليكم، أفلا يجب عليكم - والأمر كذلك - أن تحذروه بما أوتيتم من القدرة على الخير والميل إليه بترجيحه على ما يعرض على الفطرة من تزيين عمل السوء والتوبة إليه -سبحانه- مما غلبتم عليه في الماضي { والله رءوف بالعباد } ومن رأفته أن جعل الفطرة سليمة ميالة بطبعها إلى الخير، وتتألم مما يعرض لها من الشر، وأن جعل للإنسان أنواعا من الهدايات يرجح بها الخير على الشر كالعقل والدين، وأن جعل جزاء الخير مضاعفا، وأن جعل أثر الشر في النفس قابلا للمحو بالتوبة والعمل الصالح، وأن أكثر التحذير من عاقبة السوء ليذكر الإنسان ولا ينسى، لعله يتذكر أو يخشى.
ومن مباحث اللفظ في الآية: دخول الحرف المصدري على مثله في قوله -تعالى-: (لو أن) قال الأستاذ الإمام: وهو معروف في الكلام العربي الفصيح، فلا حاجة إلى جعل الأصل فيه المنع وتأويل ما سمع منه. وقد اختلف في تفسير الأمد فقيل: الغاية، وقيل: الأجل، وقيل: المكان. وقال الراغب: الأمد والأبد يتقاربان، لكن الأبد عبارة عن مدة من الزمان ليس لها حد محدود ولا يتقيد، لا يقال: أبد كذا، والأمد مدة لها حد مجهول إذا أطلق وقد ينحصر نحو أن يقال: أمد كذا كما يقال: زمان كذا. والفرق بين الزمان والأمد أن الأمد يقال باعتبار الغاية، والزمان عام في المبدأ والغاية؛ ولذلك قال بعضهم: المدى والأمد يتقاربان.