خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَٰطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً
٢٩
وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً
٣٠
-النساء

تفسير المنار

قال البقاعي في تفسيره "نظم الدرر" مبينا وجه اتصال الآية الأولى بما قبلها من أول السورة إلى هنا: ولما كان غالب ما مضى مبنيا على الأموال، تارة بالإرث، وتارة (5/32) بالجعل في النكاح حلالا أو حراما، قال تعالى بعد أن بين الحق من الباطل، وبين ضعف هذا النوع كله، فبطل تعليلهم لمنع النساء والصغار من الإرث بالضعف، وبعد أن بين كيفية التصرف في النكاح بالأموال وغيرها حفظا للأنساب، ذاكرا كيفية التصرف في الأموال تطهيرا مخاطبا لأدنى الأسنان في الإيمان ترفيعا لغيرهم عن مثل هذا الشأن، وذكر الآية.
وقال الأستاذ الإمام: كان الكلام من أول السورة إلى هنا في معاملة اليتامى والأقارب والنساء، ثم في معاملة سائر الناس، ومدار الكلام في تلك المعاملات على المال، حتى إنه لما ذكر ما يحل وما يحرم من النساء لم يخرج الكلام عن أحكام المال، فقد ذكر ما يفرض لهن وما يجب من إيتائهن أجورهن، وبعد ذكر تلك الأنواع من الحقوق المالية ذكر قاعدة عامة للتعامل المالي فقال: { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل }، أضاف الأموال إلى الجميع فلم يقل: لا يأكل بعضكم مال بعض للتنبيه على ما قررناه مرارا من تكافل الأمة في حقوقها ومصالحها، كأنه يقول: إن مال كل واحد منكم هو مال أمتكم، فإذا استباح أحدكم أن يأكل مال الآخر بالباطل كان كأنه أباح لغيره أكل ماله وهضم حقوقه ; لأن المرء يدان كما يدين.
هذا ما عندي، ونقل بعض من حضر الدرس على الأستاذ أنه قال أيضا: إن في هذه الإضافة تنبيها إلى مسألة أخرى، وهي أن صاحب المال الحائز له يجب عليه بذله - أو البذل منه - للمحتاج، فكما لا يجوز للمحتاج أن يأخذ شيئا من مال غيره بالباطل كالسرقة والغصب لا يجوز لصاحب المال أن يبخل عليه بما يحتاج إليه.
وأقول زيادة في البيان: إن مثل هذه الإضافة قد قررت في الإسلام قاعدة الاشتراك التي يرمي إليها الاشتراكيون في هذا الزمان، ولكنهم لم يهتدوا إلى سنة عادلة فيها، ولو التمسوها في الإسلام لوجدوها، ذلك بأن الإسلام يجعل مال كل فرد من أفراد المتبعين له مالا لأمته كلها، مع احترام الحيازة والملكية وحفظ حقوقها، فهو يوجب على كل ذي مال كثير حقوقا معينة للمصالح العامة، كما يوجب عليه وعلى صاحب المال القليل حقوقا أخرى لذوي الاضطرار من الأمة، ومن جميع البشر، ويحث فوق ذلك على البر والإحسان والصدقة الدائمة والصدقة المؤقتة والهدية.
فالبلاد التي يعمل فيها بالإسلام لا يوجد فيها مضطر إلى القوت والستر قط، سواء كان مسلما أو غير مسلم ; لأن الإسلام يفرض على المسلمين فرضا قطعيا أن يزيلوا ضرورة كل مضطر، كما يفرض في أموالهم حقا آخر للفقراء والمساكين ومساعدة الغارمين الذين يبذلون أموالهم للإصلاح بين الناس، ولغير ذلك من أنواع البر.
ويرى كل من يقيم في تلك البلاد أن مال الأمة هو ماله ; لأنه إذا اضطر إليه يجده مذخورا له، وقد يصيبه منه حظ في غير حال الاضطرار، وقد جعل المال المعين المفروض في أموال الأغنياء تحت سيطرة الجماعة الحاكمة من الأمة ; لئلا يمنعه بعض من يمرض الإيمان في قلوبهم، وترك إلى أريحية الأفراد سائر ما أوجبه الشرع عليهم أو ندبهم إليه، وحثهم بإطلاق النصوص عليه، ورغبهم فيه، وذمهم على منعه ; ليكون الدافع لهم إلى البذل من أنفسهم، فتقوى ملكات السخاء والنجدة والمروءة والرحمة فيها، ولم يبح للمحتاج أن يأخذ ما يحتاج إليه من أيديهم بدون إذنهم ومرضاتهم ; لأن في ذلك مفسدتين: مفسدة قطع أسباب تلك الفضائل، وما في معناها، ومفسدة اتكال الكسالى على كسب غيرهم.
ومن وراء هاتين المفسدتين انحطاط البشر وفساد نظام الاجتماع، فإن الناس خلقوا متفاوتين في الاستعداد، فمنهم المغمول المخلد إلى الكسل والخمول، ومنهم محب الشهرة والظهور وتذليل صعاب الأمور، فإذا أبيح للكسالى البطالين، أن يفتاتوا على الكاسبين المجدين، فيأخذوا ما شاءوا أو احتاجوا من ثمرات كسبهم بغير رضاهم ولا إذنهم، أفضت هذه الإباحة إلى الفوضى في الأموال، والضعف والتواني في الأعمال، والفساد في الأخلاق والآداب، كما لا يخفى على أولي الألباب، فوجب ألا يأخذ أحد مال أحد إلا بحق، أو يبذل صاحب المال ما شاء عن كرم وفضل. فمتى يعود المسلمون إلى حقيقة دينهم ويكونون حجة له على جميع الملل كما كان سلفهم، فيقيموا المدنية الصحيحة في هذا العصر كما أقامها أولئك في عصورهم؟ وقد تقدم تفسير مثل هذه الجملة في سورة البقرة، وذكرنا هنالك ما في هذه الإضافة من إعجاز الإيجاز.
أما الباطل، فقد قلنا هنالك: إنه ما لم يكن في مقابلة شيء حقيقي، وهو من البطل والبطلان أي الضياع والخسار، فقد حرمت الشريعة أخذ المال بدون مقابلة حقيقية يعتد بها، ورضا من يؤخذ منه، وكذا إنفاقه في غير وجه حقيقي نافع.
وقال الأستاذ الإمام هنا: فسر الجلال وغيره الباطل بالمحرم وهو إحالة للشيء على نفسه، فإن الله حرم الباطل بهذه الآية، فقولهم: إن الباطل هو المحرم يجعل حاصل معنى الآية: إنني جعلت المال المحرم محرما، والصواب: أن الباطل هو ما يقابل الحق ويضاده، والكتاب يطلق الألفاظ كالحق والمعروف والحسنات، أو الصالحات، وما يقابلها وهو الباطل والمنكر والسيئات، ويكل فهمها إلى أهل الفطرة السليمة من العارفين باللغة، ومن ذلك قوله في اليهود:
{ { ويقتلون النبيين بغير الحق } [البقرة: 61]، فحق فلان في المال هو الثابت له في العرف، وهو ما إذا عرض على العقلاء المنصفين أصحاب الفطرة السليمة يقولون: إنه له، فيدخل في الباطل الغصب والغش والخداع والربا والغبن والتغرير.
وقوله: { بينكم } للإشعار بأن المال المحرم ـ لأنه باطل ـ هو ما كان موضع التنازع في التعامل بين المتعاملين، كأنه واقع بين الآكل والمأكول منه، كل منهما يريد جذبه لنفسه، فيجب أن يكون المرجح للمال بين اثنين يتنازعان فيه هو الحق، فلا يجوز لأحد أن يأخذه بالباطل، وعبر بالأكل عن مطلق الأخذ؛ لأنه أقوى أسبابه وأعمها وأكثرها.
قال تعالى: { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } قرأ الكوفيون (تجارة) بالنصب، أي: إلا أن تكون تلك الأموال تجارة إلخ، وقرأها الباقون بالرفع على أن كان تامة، والمعنى: إلا أن توجد تجارة عن تراض منكم، والاستثناء منقطع، قالوا: والمعنى: لا تقصدوا إلى أكل أموال الناس بالباطل، ولكن اقصدوا أن تربحوا بالتجارة التي تكون صادرة عن التراضي منكم، وتخصيصها بالذكر دون سائر أسباب الملك لكونها أكثر وقوعا وأوفق لذوي المروءات.
وروى ابن جرير عن الحسن وعكرمة أنهما قالا: كان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس بهذه الآية، فنسخ ذلك بالآية التي في سورة النور:
{ ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم } [النور: 61]، الآية، وروى ابن أبي حاتم والطبراني بسند صحيح عن ابن مسعود أنه قال في هذه الآية: إنها محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة.
الأستاذ الإمام: قالوا: إن الآية دليل على تحريم ما عدا ربح التجارة من أموال الناس ـ أي كالهدية والهبة ـ ثم نسخ ذلك بآية النور المبيحة للإنسان أن يأكل من بيوت أقاربه وأصدقائه، وهو افتراء على الدين لا أصل له ـ أي: لم تصح روايته عمن عزى إليه ـ إذ لا يعقل أن تكون الهبة محرمة في وقت من الأوقات، ولا ما في معناها كإقراء الضيف، وإنما يكون التحريم فيما يمانع فيه صاحب المال فيؤخذ بدون رضاه، أو بدون علمه مع العلم أو الظن بأنه لا يسمح به، وإنما استثنى الله التجارة من عموم الأموال التي يجري فيها الأكل بالباطل، أي: بدون مقابل ; لأن معظم أنواعها يدخل فيها الأكل بالباطل، فإن تحديد قيمة الشيء وجعل عوضه أو ثمنه على قدره بقسطاس الحق المستقيم عزيز وعسير إن لم يكن محالا.
فالمراد من الاستثناء التسامح بما يكون فيه أحد العوضين أكبر من الآخر، وما يكون سبب التعاوض فيه براعة التاجر في تزيين سلعته وترويجها بزخرف القول من غير غش ولا خداع، ولا تغرير كما يقع ذلك كثيرا، فإن الإنسان كثيرا ما يشتري الشيء من غير حاجة شديدة إليه، وكثيرا ما يشتريه بثمن يعلم أنه يمكن ابتياعه بأقل منه من مكان آخر، ولا يكون سبب ذلك إلا خلابة التاجر وزخرفه، وقد يكون ذلك من المحافظة على الصدق، واتقاء التغرير والغش، فيكون من باطل التجارة الحاصلة بالتراضي، وهو المستثنى.
والحكمة في إباحة ذلك الترغيب في التجارة لشدة حاجة الناس إليها وتنبيه الناس إلى استعمال ما أوتوا من الذكاء والفطنة في اختبار الأشياء، والتدقيق في المعاملة حفظا لأموالهم التي جعلها الله لهم قياما أن يذهب شيء منها بالباطل، أي: بدون منفعة تقابلها.
فعلى هذا يكون الاستثناء متصلا خرج به الربح الكثير الذي يكون بغير غش ولا تغرير، بل بتراض لم تنخدع فيه إرادة المغبون، ولو لم يبح مثل هذا لما رغب في التجارة، ولا اشتغل بها أحد من أهل الدين على شدة حاجة العمران إليها وعدم الاستغناء عنها، إذ لا يمكن أن تتبارى الهمم فيها مع التضييق في مثل هذا، وقد شعر الناس منذ العصور الخالية بما يلابس التجارة من الباطل حتى إن اليونانيين جعلوا للتجارة والسرقة إلها أو ربا واحدا فيما كان عندهم من الآلهة والأرباب لأنواع المخلوقات وكليات الأخلاق والأعمال، انتهى ما قاله في الدرس مع زيادة وإيضاح.
وقد علمت أن الجمهور على أن الاستثناء منقطع، أي أن المقام مقام الاستدراك لا الاستثناء، والمعنى: لا تكونوا من ذوي الطمع الذين يأكلون أموال الناس بغير مقابل لها من عين أو منفعة، ولكن كلوها بالتجارة التي قوام الحل فيها التراضي، فذلك هو اللائق بأهل الدين والمروءة إذا أرادوا أن يكونوا من أهل الدثور والثروة.
وقال البقاعي: إن الاستدراك لا يجيء في النظم البليغ بصورة الاستثناء، أي: الذي يسمونه الاستثناء المنقطع إلا لنكتة. وقال: إن النكتة هنا هي الإشارة إلى أن جميع ما في الدنيا من التجارة، وما في معناها من قبيل الباطل؛ لأنه لا ثبات له ولا بقاء، فينبغي ألا يشتغل به العاقل عن الاستعداد للدار الآخرة التي هي خير وأبقى.
وفي الآية من الفوائد أن مدار حل التجارة عن تراضي المتبايعين، والغش والكذب من المحرمات المعلومة من الدين بالضرورة، وكل ما يشترط في البيع عند الفقهاء فهو لأجل تحقيق التراضي من غير غش، وما عدا ذلك فلا علاقة له بالدين.
قال البقاعي: ولما كان المال عديل الروح، ونهى عن إتلافه بالباطل، نهى عن إتلاف النفس لكون أكثر إتلافهم لهما بالغارات لنهب الأموال، وما كان بسببها أو تسببها، على أن من أكل ماله ثارت نفسه فأدى ذلك إلى الفتن التي ربما كان آخرها القتل، فكان النهي عن ذلك أنسب شيء لما بنيت عليه السورة من التعاطف والتواصل، فقال تعالى: { ولا تقتلوا أنفسكم } إلخ، أقول: ظاهر هذه الجملة وحدها أن النهي إنما هو عن قتل الإنسان لنفسه وهو الانتحار، والمتبادر منها في هذا الأسلوب أن المراد: لا يقتل بعضكم بعضا، وهو الأقوى.
واختير هذا التعبير للإشعار بتعاون الأمة وتكافلها ووحدتها كما تقدم في نكتة التعبير عن أكل بعضهم مال بعض بقوله: { لا تأكلوا أموالكم } وجمع بعضهم في النهي عن القتل بين الأمرين فقال: أي لا تقتلوها حقيقة بالانتحار ولا مجازا بقتل بعضكم لبعض، ولم يقولوا مثل هذا في النهي عن أكل أموال أنفسهم بالباطل، على أن المعنى يكون في نفسه صحيحا فإن النفقات بالباطل محرمة شرعا ; لأنها من إضاعة المال في غير منفعة حقيقية، وقد تقدم ما يؤيد ذلك في تفسير قوله تعالى:
{ { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما } [النساء: 5]، وكل المحرمات في الإسلام ترجع إلى الإخلال بحفظ الأصول الكلية الواجب حفظها بالإجماع، وهي: الدين، والنفس، والعرض، والعقل، والمال، والنسب.
وعللوا التعبير عن قتل الإنسان لغيره بقتله لنفسه بأنه لما كان يفضي إلى قتله قصاصا أو ثأرا كان كأنه قتل لنفسه، وقالوا مثل هذا القول في تفسير قوله تعالى في خطاب بني إسرائيل:
{ { وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم } [البقرة: 84، 85]، الآية.
حتى إنهم قالوا في قوله تعالى لبني إسرائيل:
{ { فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم } [البقرة: 54]، إن المعنى ليقتل كل منكم نفسه بالبخع والانتحار أو أمروا أن يقتل بعضهم بعضا، وقال بعضهم: إن المراد بالقتل هنالك قطع الشهوات، كما قيل: من لم يعذب نفسه لم ينعمها، ومن لم يقتلها لم يحيها، وقيل: إن المعنى هنا: لا تخاطروا بنفوسكم في القتال فتقاتلوا من يغلب على ظنكم أنهم يقتلونكم، ومن نظر في مجموع الآيات الواردة في هذا المعنى وراعى دلالة النظم والأسلوب يجزم بأن المراد بقتل الناس أنفسهم هو قتل بعضهم لبعض، وأن النكتة في التعبير هي ما تقدم بيانه من وحدة الأمة حتى كأن كل فرد من أفرادها هو عين الآخر، وجنايته عليه جناية على نفسه من جهة، وجناية على جميع الأفراد من جهة أخرى، بل علمنا القرآن أن جناية الإنسان على غيره تعد جناية على البشر كلهم لا على المتصلين معه برابطة الأمة الدينية أو الجنسية أو السياسية بقوله عز وجل: { { من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا } [المائدة: 32].
وإذا كان يرشدنا بأنه يجب علينا أن نحترم نفوس الناس بعدها كنفوسنا فاحترامنا لنفوسنا يجب أن يكون أولى، فلا يباح بحال من الأحوال أن يقتل أحد نفسه كأن يبخعها ليستريح من الغم وشقاء الحياة، فمهما اشتدت المصائب على المؤمن فإنه يصبر ويحتسب، ولا ينقطع رجاؤه من الفرج الإلهي ; ولذلك نرى بخع النفس (الانتحار) يكثر حيث يقل الإيمان، ويفشو الكفر والإلحاد، ومن فوائد الإيمان مدافعة المصائب والأكدار، فالمؤمن لا يتألم من بؤس الحياة كما يتألم الكافر، فليس من شأنه أن يبخع نفسه حتى ينهى عن ذلك نهيا صريحا.
{ إن الله كان بكم رحيما } أي: إنه كان بنهيه إياكم عن أكل أموالكم بالباطل، وعن قتل أنفسكم رحيما بكم ; لأن في ذلك حفظ دمائكم وأموالكم التي هي قوام مصالحكم ومنافعكم فيجب أن تتراحموا فيما بينكم ويكون كل منكم عونا للآخرين على حفظ النفس ومدافعة رزايا الدهر.
{ ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا }، قال الأستاذ الإمام: ذهب بعض المفسرين إلى أن المشار إليه في قوله: { ذلك } كل ما تقدم النهي عنه من أول السورة إلى الآية السابقة، وقال ابن جرير: إن المشار إليه هو ما نهى عنه من قوله تعالى:
{ { يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها } [النساء: 19]، إلى هنا، وذلك أن المنهيات التي قبل تلك الآية قد اقترنت بالوعيد عليها على حسب سنة القرآن ولكن هذه المنهيات الأخيرة لم يوعد عليها بشيء وإن وصفت بالقبح الذي يترتب عليه الوعيد ـ وهي النهي عن إرث النساء كرها، وعن عضلهن لأخذ شيء من مالهن، وعن نكاح ما نكح الآباء في الجاهلية، وعن أكل أموال الناس بالباطل، وعن القتل ـ.
وقال بعضهم: إن المشار إليه في هذه الآية هو القتل فقط، وقد قصر كل التقصير، وأكثر المفسرين على أن المراد بذلك ما في الآية الأخيرة من النهي عن أكل أموال الناس بالباطل وعن القتل، وهذا هو المعقول المقبول فإن ما قبلها من المنهيات التي لم تقترن بالوعيد قد اقترنت بالوصف الدال عليه.
(قال) والعدوان: هو التعدي على الحق فكأنه قال بغير حق، وهو يتعلق بالقصد، فمعناه أن يتعمد الفاعل إتيان الفعل وهو يعلم أنه قد تعدى الحق، وجاوزه إلى الباطل، والظلم يتعلق بالفعل نفسه بأن كان المتعدي لم يتحر ويجتهد في استبانة ما يحل له منه فيفعل ما لا يحل، والوعيد مقرون بالأمرين معا، وهما أن يقصد الفاعل العدوان، وأن يكون فعله ظلما في الواقع، ونفس الأمر، فإذا وجد أحدهما دون الآخر لا يستحق هذا الوعيد الشديد، مثال تحقق العدوان دون الظلم أن يقتل الإنسان رجلا يقصد الاعتداء عليه، ثم يظهر له أنه كان راصدا له يريد قتله، ولو لم يسبقه لقتله، أو أنه كان قتل من له ولاية دمه كأصله أو فرعه، فهاهنا لم يتحقق الظلم، وأما العدوان فواقع لا محالة، ومثال تحقق الظلم فقط أن يسلم امرؤ مال آخر ظانا أنه ماله الذي كان سرقه أو اغتصبه منه، ثم يتبين له أن المال ليس ماله، وأنه لم يكن هو الذي أخذ ماله، وأن يقتل رجلا رآه هاجما عليه فظن أنه صائل يريد قتله ثم يتبين له خطأ ظنه، فهاهنا تحقق الظلم ولكن لم يتحقق العدوان، أقول: وقد يعاقب الإنسان على بعض الصور التي لا تجمع بين العدوان والظلم معا لتقصيره في استبانة الحق، ولكن عقاب من يجمع بينهما، وإصلاءه النار إدخاله فيها وإحراقه بها، وأصله من الصلي وهو القرب من النار للاستدفاء، قال الراجز:

يقعي جلوس البدوي المصطلي

أي: المستدفئ، وتتمة هذا البحث اللغوي في تفسير الآية التاسعة من هذه السورة.
{ وكان ذلك على الله يسيرا } أي: أن ذلك الوعيد البعيد شأوه، الشديد وقعه، يسير على الله غير عسير، وقريب من العادين الظالمين غير بعيد؛ لأن سنته قد مضت بأن يكون العدوان والظلم مدنسا للنفوس مدسيا لها بحيث يهبط بها في الآخرة، ويرديها في الهاوية، وقال الأستاذ الإمام: إن معنى كونه يسيرا على الله تعالى هو أن حلمه في الدنيا على المعتدين الظالمين وعدم معاجلتهم بالعقوبة لا يقتضي أن ينجو من عقابه في الآخرة، وهذا الذي قاله لا ينافي ما قلناه، بل هو تنبيه إلى موضع العبرة، أي: فلا يغترن الظالمون بعزتهم وقوتهم على من يظلمونهم ولا يقيسن الآخرة على الدنيا فيكونوا كأولئك المشركين الذين قالوا فيما حكى الله عنهم: نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين [34: 35]، بل يجب ألا يأمنوا تقلب الدنيا وغيرها ولا ينخدعوا بقول الشاعر:

لقد أحسن الله فيما مضى كذلك يحسن فيما بقي