خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَـٰتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً
٣١
-النساء

تفسير المنار

نهى سبحانه عن أكل الأموال بالباطل، وعن قتل الأنفس، وهما أكبر الذنوب المتعلقة بحقوق العباد، وتوعد فاعل ذلك عدوانا وظلما بالنار، ثم نهى عن جميع الكبائر التي يعظم ضررها وتؤذن بضعف إيمان مرتكبها، ووعد على تركها بالجنة ومدخل الكرامة، وقيل: المراد بالكبائر هنا جميع ما تقدم النهي عنه في هذه السورة.
قال البقاعي بعد الآيتين السابقتين: ولما بين تعالى ما لفاعل ذلك تحذيرا أتبعه ما للمنتهي تبشيرا، وكان قد تقدم جملة من الكبائر فقال، وذكر الآية.
الاجتناب: ترك الشيء جانبا، والكبائر: جمع كبيرة، أي الفعائل أو المعاصي الكبائر، والسيئات: جمع سيئة، وهي الفعلة التي تسوء صاحبها عاجلا أو آجلا، أو تسوء غيره كما تقدم في تفسير:
{ { وكفر عنا سيئاتنا } [آل عمران: 193]، وفسروها بالصغائر بدليل مقابلتها بالكبائر، واللفظ أهم والتخصيص غير متعين.
الأستاذ الإمام: اختلف العلماء هل في المعاصي صغيرة وكبيرة أم المعاصي كلها كبائر؟ نقلوا عن ابن عباس أن كل ما عصي الله به فهو كبيرة، صرح بذلك الباقلاني والإسفراييني وإمام الحرمين، وقالت المعتزلة وبعض الأشاعرة: إن من الذنوب كبائر وصغائر، وقال الغزالي: إن هذا من البديهيات، وقد اختلف في الصغائر والكبائر، فقيل: هي سبع، لحديث صحيح في ذلك، ولكن الأحاديث الصحيحة في عدها مختلفة ومجموعها يزيد على سبع، وقد ذكرت على سبيل التمثيل.
أقول: أشهر هذه الأحاديث ما ورد في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
"اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والسحر، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" .
ومنها أيضا من حديث أبي بكرة أنه قال، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس وقال: ألا وقول الزور، وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت" . وفي لفظ عند البخاري من حديث ابن عمر، وزيادة واليمين الغموس وفي الصحيحين أيضا من حديث ابن عمرو قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه قالوا: وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه" ، وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يذكر في كل مقام ما تمس إليه الحاجة، فلم يرد شيء من ذلك في مقام الحصر والتحديد، ولكن الأحاديث صريحة في إثبات الكبائر ويقابلها الصغائر، والظاهر منها أن كبرها في ذواتها وأنفسها؛ لما فيها من المفسدة والضرر، والموبقات أكبر الكبائر من أوبقه إذا أهلكه، أو ذلله، ويقابل الموبق ما يضر ضررا قليلا، وما حرم الإسلام شيئا إلا لضرره في الدين أو النفس أو العقل أو المال أو العرض.
وكيف ينكر أحد انقسام الذنوب إلى كبائر وغير كبائر، وقد صرح بذلك القرآن في غير هذا الموضع، وهو من ذاته بديهي ـ كما قال الغزالي ـ فإن المنهيات أنواع لها أفراد تتفاوت في أنفسها وفي الداعية النفسية التي تسوق إليها.
قال تعالى بعد ذكر جزاء المسيئين والمحسنين في سورة النجم:
{ { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم } [النجم: 32]، والفواحش معطوفة على الكبائر، وهي ما فحش من الفعائل القبيحة، وهذه الآية تناسب الآية التي نفسها في معناها بذاتها وموقعها مما قبلها، فقد عبر في كل منهما باجتناب الكبائر، وجعل جزاء هذا الاجتناب تكفير ما دون الكبائر والفواحش وغفرانه، ولكنه عبر عن مقابل الكبائر هنا بالسيئات وهو لفظ يشمل الصغائر والكبائر كما علم من استعماله في عدة مواضع من القرآن، وعبر في سورة النجم باللمم، وفسروا اللمم بما قل وصغر من الذنوب، كما فسروا السيئات هنا بالصغائر وما أخذوا ذلك إلا من المقابلة كما تقدم، وقد يكون اللمم بمعنى مقاربة الكبيرة أو الفاحشة بإتيان بعض مقدماتها مع اجتناب اقترافها، من ألمت النخلة إذ قاربت الإرطاب وألم الغلام إذا قارب البلوغ، وسيأتي من كلام الغزالي في تكفير الذنوب ما يوضحه بالأمثلة، ومن التناسب المتعلق بالسياق أنه علل في سورة النجم مغفرة اللمم بعلم الله تعالى بحال الإنسان في خروجه من مواد الأرض الميتة تكون غذاء فدما فمنيا يلقح البويضات في رحم الأم، وعلمه بحاله بعد هذا التلقيح إذ يكون جنينا في بطن أمه لا يقدر على شيء، فقصاراه أن الإنسان ضعيف كما قال في أخرى: { { خلقكم من ضعف } [الروم: 54]، وقد تقدم الآية التي نفسرها تعليل التخفيف عن المكلفين بقوله تعالى: { { وخلق الإنسان ضعيفا } [النساء: 28].
ومما ورد صريحا في تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر قوله تعالى:
{ { ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها } [الكهف: 49]، وقوله تعالى: { { وكل شيء فعلوه في الزبر وكل صغير وكبير مستطر } [القمر: 52، 53].
وإذا كان هذا صريحا في القرآن فهل يعقل أن يصح عن ابن عباس إنكاره؟ لا، بل روى عبد الرزاق عنه أنه قيل له: هل الكبائر سبع؟ فقال: هي إلى السبعين أقرب، وروى ابن جبير أنه قال: هي إلى السبعمائة أقرب، وإنما عزي القول بإنكار تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر إلى الأشعرية، وكأن القائلين بذلك منهم أرادوا أن يخالفوا به المعتزلة ولو بالتأويل كما يعلم من كلام ابن فورك، فإنه صحح كلام الأشعرية، وقال: " معاصي الله كلها كبائر، وإنما يقال لبعضها صغيرة وكبيرة بالإضافة، وقالت المعتزلة: الذنوب على ضربين صغائر وكبائر وهذا ليس بصحيح " اهـ، وأول الآية تأويلا بعيدا، وهل يؤول سائر الآيات والأحاديث لأجل أن يخالف المعتزلة ولو فيما أصابوا فيه؟ لا يبعد ذلك، فإن التعصب للمذاهب هو الذي صرف كثيرا من العلماء الأذكياء عن إفادة أنفسهم وأمتهم بفطنتهم، وجعل كتبهم فتنة للمسلمين اشتغلوا بالجدل فيها عن حقيقة الدين، وسترى ما ينقله الرازي عن الغزالي ويرده لأجل ذلك، وأين الرازي من الغزالي، وأين معاوية من علي؟
والموافقون للمعتزلة من محققي الإشارة وغيرهم اختلفوا في تعريف الكبيرة فقيل: هي كل معصية أوجبت الحد، وقيل: ما نص الكتاب على تحريمه ووجب في جنسه حد، وقيل: كل محرم لعينه أي لا لعارض، أو لا لسد ذريعة، وضعفوا هذه الأقوال وأقوالا أخرى كثيرة.
وقال بعض العلماء: إن الكبائر كل ما توعد الله عليه، قيل: في القرآن فقط، وقيل: في الحديث أيضا، وقال بعضهم كإمام الحرمين، والغزالي واستحسنه الرازي: إنها كل ما يشعر بالاستهانة بالدين وعدم الاكتراث به، وهو قول مقبول قريب من المعقول، والمختلفون في تعريفها متفقون على القول بأن هناك صغيرة وكبيرة، وأن ترك الكبائر يكفر الصغائر.
وقال بعضهم: إن الله تعالى أبهم الكبائر لتجتنب كل المعاصي، فإن من عرضت له كل معصية لم يعلم أنها من الكبائر التي يعاقب عليها أو من الصغائر التي يكفرها الله عنه بترك الكبائر، فالاحتياط يقضي عليه بأن يجتنبها، ولا يظهر فرق بين القول بأن جميع المعاصي كبائر والقول بأن منها صغائر مبهمة غير معينة فهي لا تعلم، وقد أطال ابن حجر البحث في ذلك، فليراجع كتابه الزواجر من شاء.
الأستاذ الإمام: إن الذين قسموا المعصية إلى صغيرة وكبيرة، وأرادوا بالسيئات الصغائر لم يفهموا الآية، وقد قال الله تعالى:
{ { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون } [الجاثية: 21]، فجعل أهل السيئات في مقابلة المؤمنين، فهم المشركون والكافرون المفسدون، وقال: { { وليست التوبة للذين يعملون السيئات } [النساء: 18]، الآية، وما العهد بتفسيرها ببعيد، ولا يمكن حمل السيئات فيها على الصغائر.
والصواب أن في كل سيئة، وفي كل نهي خاطبنا الله تعالى به كبيرة أو كبائر، وصغيرة أو صغائر، وأكبر الكبائر في كل ذنب عدم المبالاة بالنهي والأمر، واحترام التكليف ومنه الإصرار، فإن المصر على الذنب لا يكون محترما ولا مباليا بالأمر والنهي.
فالله تعالى يقول: { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } أي الكبائر التي يتضمنها كل شيء تنهون عنه، نكفر عنكم سيئاتكم أي: نكفر عنكم صغيره فلا نؤاخذكم عليه، فإضافة السيئات إلى ضمير المخاطبين يدل على ما قاله جمهور الأشاعرة من أنه لا كبيرة ; بمعنى أن بعض السيئات يكون كبيرة مطلقا على الدوام، وإن فعل بجهالة عارضة وعدم استهانة، ولا صغيرة مطلقا، وإن فعلت لعدم الاكتراث بالنهي وأصر الفاعل عليها.
ويدل على هذا ما قاله ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ حين قيل له: الكبائر سبع؟، قال: هي إلى السبعمائة أقرب، ولا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار، أي: مع توبة، فكل ذنب يرتكب لعارض يعرض على النفس من استشاطة غضب، أو غلبة جبن، أو ثورة شهوة وصاحبه متمكن من الدين يخاف الله ولا يستحل محارمه فهو من السيئات التي يكفرها الله تعالى، إذا كان لولا ذلك العارض القاهر للنفس لم يكن ليجترحه تهاونا بالدين، وكان بعد اجتراحه إياه حال كونه مغلوبا على أمره يندم ويتألم ويتوب ويرجع إلى الله عز وجل ويعزم على عدم العودة إلى اقتراف مثله، فهو بعدم إصراره وباستقرار هيبة الله وخوفه في نفسه يكون أهلا لأن يتوب الله عليه ويكفر عنه، وكل ذنب يرتكبه الإنسان ـ مع التهاون بالأمر وعدم المبالاة بنظر الله إليه ورؤيته إياه حيث نهاه ـ فهو مهما كان صغيرا أي: في صورته أو ضرره، يعد كبيرة (أي: من حيث هو استهانة بالدين وداع إلى الإصرار والانهماك والاستهتار)، ومثال ذلك: تطفيف الكيل والميزان وإخسارهما، فقد قال تعالى:
{ { ويل للمطففين } [المطففين: 1]، وهو يصدق بالقليل والكثير ولو حبة، والهمز واللمز، فقد قال تعالى: { ويل لكل همزة لمزة } [الهمزة: 1]، أي: الذين اعتادوا الهمز واللمز، وهما عيب الناس والطعن في أعراضهم، والويل: الهلاك فهو وعيد شديد.
أقول: إن هذا الذي ذهب إليه هو ترجيح للقول بأن الكبائر بحسب قصد فاعلها وشعوره عند اقترافها وعقبه، لا في ذاتها وحسب ضررها، وهذا لا يقتضي إنكار تمايز المعاصي في أنفسها، وكون منها الصغيرة كالنظر إلى ما لا يحل النظر إليه من المرأة الأجنبية، ومنها ما هو كبيرة كالزنا، وكذلك ضرب الرجل خادمه ضربا خفيفا بدون ذنب يقتضي ذلك يعد صغيرة، وأما قتله إياه فلا يمكن أن يعد صغيرة في نفسه مهما كان الباعث النفسي عليه، ولكن مسألة تكفير السيئات وعدم المؤاخذة عليها في الآخرة تتعلق بمقاصد النفس وقوة الإيمان وسلطانه في القلب، وهو ما جرى عليه الغزالي وتبعه الأستاذ الإمام، وإننا ننقل عن الغزالي نبذا تدل على رأيه في هذه المسألة.
قال الرازي: وذكر الشيخ الغزاليرحمه الله في منتخبات كتاب إحياء علوم الدين فصلا طويلا في الفرق بين الكبائر والصغائر، فقال: فهذا كله قول من قال: إن الكبائر تمتاز عن الصغائر بحسب ذواتها وأنفسها.
وأما القول الثاني: وهو قول من يقول: إن لكل طاعة قدرا من الثواب، ولكل معصية قدرا من العقاب، فإذا أتى الإنسان بطاعة واستحق بها ثوابا، ثم أتى بمعصية واستحق بها عقابا فهاهنا الحال بين ثواب الطاعة، وعقاب المعصية بحسب القسمة العقلية يقع على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يتعادلا ويتساويا، وهذا وإن كان محتملا بحسب التقسيم العقلي إلا أنه دل الدليل السمعي على أنه لا يوجد؛ لأنه تعالى قال:
{ { فريق في الجنة وفريق في السعير } [الشورى: 7]. (والقسم الثاني): أن يكون ثواب طاعة أزيد من عقاب معصية، وحينئذ ينحبط ذلك بما يساويه من الثواب ويفضل من الثواب شيء، ومثل هذه المعصية هي الصغيرة، وهذا الانحباط هو المسمى بالتكفير. (والقسم الثالث): أن يكون عقاب معصيته أزيد من ثواب طاعته، وحينئذ ينحبط ذلك الثواب بما يساويه من العقاب، ويفضل من العقاب شيء، ومثل هذه المعصية هي الكبيرة وهذا الانحباط هو المسمى بالإحباط ; وبهذا الكلام ظهر الفرق بين الكبيرة وبين الصغيرة، وهذا قول جمهور المعتزلة.
ثم رد الرازي هذا الكلام قال: لا لأنه مبني على أصول باطلة عندنا، أي: عند الأشعرية، وذكر منها كون الطاعة توجب الثواب، والمعصية توجب العقاب، ومنها القول بالإحباط، وبأن الإنسان يستحق بعمله الصالح جزاء، وكل ذلك مردود عنده، لا أدري أنقل الرازي هذه العبارة بنصها أم بمعناها، ولكن أقول على الحالين: إن توجيه الرجل ذكاءه لمناقشة المعتزلة وتفنيد أقوالهم، ونصر الأشاعرة وتأييد مذهبهم قد شغله في كثير من المواضع عن استبانة الحقيقة في نفسها، فعبارة الغزالي التي ذكرها ليس فيها ذكر لإيجاب الطاعة الثواب والمعصية العقاب، وإنما حرك هذه المسألة في خياله ذكر المعتزلة، وإنما ذكر الغزالي استحقاق العامل الثواب على الطاعة، والعقاب على المعصية، وهذا الاستحقاق ليس بإيجاب من ذي سلطة على الله عز وجل، وإنما هو بحسب وعده ووعيده تعالى، وآيات القرآن الدالة عليه تعلو تأويل المؤولين وجدل المجادلين.
وكذلك حبوط الأعمال بالكفر، وإحاطة المعاصي ثابتة في القرآن لا يمكن لأحد أن يماري فيها مراء ظاهرا
{ { أولئك حبطت أعمالهم } [التوبة: 17]، { { بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار } [البقرة: 81]، { { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } [المطففين: 14]، على أن كلام الغزالي هنا لا يوضح معنى الكبيرة والصغيرة، وإن كان صحيحا في نفسه، وفيه معنى تكفير السيئات.
وهذه الموازنة بين الحسنات والسيئات التي أشار إليها إنما تتحقق بحسب تأثيرها في النفس، فإذا زكت النفس بغلبة تأثير الطاعات فيها على تأثير المعاصي أفلحت وارتفعت إلى عليين، وإذا كان العكس خسرت وحبط ما عملت
{ { قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها } [الشمس: 9، 10]، وقد أوضحنا هذا المعنى في التفسير غير مرة، وأن تكفير الحسنات وإذهابها للسيئات الذي صرح به القرآن ظاهر معقول، ولكن تكفير ترك الكبائر السيئات يحتاج إلى إيضاح، لكن هذا أمر عدمي، فكيف يكون له أثر يضاد أثر السيئات حتى يغلب عليها ويكفرها؟
قال الغزالي في بيان الركن الثاني من مباحث التوبة، وهو ما عنه التوبة، أي الذنوب ما نصه: " اجتناب الكبيرة إنما يكفر الصغيرة إذا اجتنبها مع القدرة والإرادة كمن يتمكن من امرأة، ومن مواقعتها فيكف نفسه عن الوقاع فيقتصر على نظر أو لمس، فإن مجاهدة نفسه بالكف عن الوقاع أشد تأثيرا في تنوير قلبه من إقدامه على النظر في إظلامه، فهذا معنى تكفيره، فإن كان عنينا، أو لم يكن امتناعه إلا بالضرورة للعجز، أو كان قادرا ولكن امتنع لخوف أمر آخر، فهذا لا يصلح للتكفير أصلا، وكل من لا يشتهي الخمر بطبعه ولو أبيح له لما شربه فاجتنابه لا يكفر عنه الصغائر التي هي من مقدماته كسماع الملاهي والأوتار. نعم من يشتهي الخمر وسماع الأوتار فيمسك نفسه بالمجاهدة عن الخمر ويطلقها في السماع فمجاهدته النفس بالكف ربما تمحو عن قلبه الظلمة التي ارتفعت إليه من معصية السماع. فكل هذه أحكام أخروية، ويجوز أن يبقى بعضها محل الشك، وتكون من المتشابهات فلا يعرف تفصيلها إلا بالنص، ولم يرد النص بعد ولا حد جامع، بل ورد بألفاظ مختلفات، فقد روى أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
"الصلاة إلى الصلاة كفارة، ورمضان إلى رمضان كفارة إلا من ثلاث: إشراك بالله، وترك السنة، ونكث الصفقة" قيل: ما ترك السنة؟ قال: الخروج عن الجماعة، ونكث الصفقة أن يبايع رجلا ثم يخرج عليه بالسيف يقاتله.
فهذا وأمثاله من الألفاظ لا يحيط بالعدد كله ولا يدل على حد جامع فيبقى لا محالة مبهما اهـ.
وقال في بيان الركن الثاني، وهو تمام التوبة، وشروطها، ودوامها.
وأما المعاصي فيجب أن يفتش في أول بلوغه عن سمعه وبصره ولسانه وبطنه ويده وفرجه وسائر جوارحه، ثم ينظر في جميع أيامه وساعاته، ويفصل عند نفسه ديوان معاصيه حتى يطلع على جميعها صغائرها وكبائرها، ثم ينظر فيها فما كان من ذلك بينه وبين الله تعالى من حيث لا يتعلق بمظلمة العباد كنظر إلى غير محرم وقعود في مسجد مع الجنابة، ومس مصحف بغير وضوء، واعتقاد بدعة، وشرب خمر، وسماع ملاه وغير ذلك مما لا يتعلق بمظالم العباد فالتوبة عنها بالندم والتحسر عليها، وبأن يحسب مقدارها من حيث الكبر، ومن حيث المدة، ويطلب لكل معصية منها حسنة تناسبها، فيأتي من الحسنات بمقدار تلك السيئات أخذا من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
"اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها" بل من قوله تعالى: { { إن الحسنات يذهبن السيئات } [هود: 114]، فيكفر سماع الملاهي بسماع القرآن وبمجالس الذكر، ويكفر القعود في المسجد جنبا بالاعتكاف فيه مع الاشتغال بالعبادة، ويكفر مس المصحف محدثا بإكرام المصحف وكثرة قراءة القرآن منه، وكثرة تقبيله وبأن يكتب مصحفا ويجعله وقفا.
ويكفر شرب الخمر بالتصدق بشراب حلال هو أطيب منه وأحب إليه، وعد جميع المعاصي غير ممكن، وإنما المقصود سلوك الطريق المضادة، فإن المرض يعالج بضده فكل ظلمة ارتفعت إلى القلب لا يمحوها إلا نور يرتفع إليها بحسنة تضادها، والمتضادات هي المتناسبات ; فلذلك ينبغي أن تمحى كل سيئة بحسنة من جنسها لكن تضادها، فإن السواد يزال بالبياض لا بالحرارة والبرودة، وهذا التدريج والتحقيق من التلطف في طريقة المحو، فالرجاء فيه أصدق، والثقة به أكثر من أن يواظب على نوع واحد من العبادات وإن كان ذلك أيضا مؤثرا في المحو.
فهذا حكم ما بينه وبين الله تعالى، ويدل على أن الشيء يكفر بضده، وأن حب الدنيا رأس كل خطيئة، وأثر اتباع الدنيا في القلب السرور بها والحنين إليها، فلا جرم كان كل أذى يصيب المسلم ينبو بسببه قلبه عن الدنيا يكون كفارة له ; إذ القلب يتجافى بالهموم والغموم عن دار الهموم، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
"من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا الهموم" وفي لفظ آخر: "إلا الهم بطلب المعيشة" انتهى المراد هنا.
وله في هذا المنحى كلام كثير في مواضع متفرقة، فعلم من ذلك أن تكفير الحسنات للسيئات إنما يكون بإذهاب أثرها السيئ من النفس وهو الأنس بالباطل والشر، والرغبة فيه والاستلذاذ به، وأما تكفير اجتناب الكبائر للسيئات فقد بين الغزالي أنه يتحقق بالقصد والإرادة، فإن الاجتناب الذي هو ترك يتحقق عند داعية العمل بعمل النفس، وهو الإرادة التي تكف النفس عن الفعل الذي حصلت داعيته.
ومما أتذكر من أمثلته في ذلك أن من دخل دار رجل أو بستانه بقصد السرقة، ثم ذكر الله وخافه فكف نفسه عن السرقة وخرج، فإن هذا الكف عن الكبيرة يكفر من نفسه دخول ملك غيره بدون إذنه ; لأن شعور الإيمان الذي تنبه فيه يكون قد غلب شعور الفسق الذي حركه أولا لقصد السرقة ومحاه وأزاله، وأما من دخل ملك غيره بدون إذنه ولا العلم برضاه وهو لا يقصد إلا الاستهانة بحقه، فإن هذه السيئة تقوي في نفسه أثر الشر وداعية التعدي ولا يكفر ذلك ويمحوه كونه مجتنبا لشرب الخمر مثلا وإن اجتنبه بقصد مع حصول داعيته، فإن كثيرا من الفساق يضرون ببعض المعاصي ويجتنبون غيرها أشد الاجتناب، فهل يكون لهذا الاجتناب أثر في تزكية النفس وتطهيرها مما ضريت به وأصرت عليه.
بل ولا مما فعلته مرة واحدة، ولم تتبعه بالندم والتوبة، ولكن قد تكفر مثل هذه الحسنات التي تصلح النفس في مجموعها، ومن فهم هذا لا يرى إشكالا في الجمع بين الآية وحديث مسلم: الصلوات الخمس مكفرة لما بينها ما اجتنب الكبائر وإن تخبط فيه الكثيرون.
لكل مرض من الأمراض البدنية دواء خاص يزيله، ولا يزيل غيره من الأمراض، وأما تقوية البدن كله بالغذاء الموافق والرياضة واستنشاق الهواء النقي، والبروز للشمس فإنه يساعد على شفاء كل مرض إذا لم يكثر التعرض لأسبابه، وإن أدواء النفس وأدويتها تشبه أمراض البدن وأدويتها، ولله در أبي حامد حيث ذهب إلى أن الطاعات التي تكفر المعاصي ينبغي أن تكون من جنسها وإن لم تكن أمثلته كلها مطابقة لقاعدته، وحيث لم ينس أن إصلاح النفس بأنواع الطاعات قد يذهب بعض السيئات التي ليست من جنس هذه الطاعات، لله دره ما أدق فهمه لحكمة القرآن وتطبيقه على فطرة الإنسان، ومن وقف على ما ثبت عند علماء الإنسان بعد الغزالي من تعدد مراكز الإدراك في الدماغ الذي هو آلة النفس، وكون كل نوع منها له مركز خاص، وجعل ذلك مطردا في أنواع الشعور والوجدان، وما تكون الأعمال من ملكات الأخلاق والعادات، فإنه يعجب بما أوتي هذا الرجل من قوة الذهن ونفوذ أشعة الفهم، وإذا علم أنه قد قال: إن الماء ليس عنصرا بسيطا كما تقول فلاسفة اليونان بل هو مركب، فإنه يحكم له بالنبوغ في إدراك الحقائق الحسية، كما حكم له بإدراك الحقائق المعنوية.
أما قوله تعالى: { وندخلكم مدخلا كريما } فقد قرأ الجمهور قوله: { مدخلا } بضم الميم، وهو اسم مكان من الإدخال، أي: وندخلكم مكانا كريما وهو الجنة، وقرأه أبو جعفر ونافع بفتح الميم، وهو اسم مكان من الدخول، أي: ندخلكم فتدخلون مكانا كريما، ووصف المكان بالكريم ظن من لا يرجع في المعاني إلى أصول اللغة أنه بمعنى الحسن تجوزا ولكن العرب قالت: أرض كريمة وأرض مكرمة: أي طيبة جيدة النبات، وفي التنزيل:
{ { فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم } [الشعراء: 57، 58]، وقد يكون المدخل الكريم والمقام الكريم هو المكان الذي يكرم به من يدخله ويقيم فيه.