خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَٰتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً
٥٦
وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً
٥٧
-النساء

تفسير المنار

الأستاذ الإمام: قال تعالى في الآية السابقة: { فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه } وتوعد من صد عنه بسعير جهنم، ثم فصل هذا الوعيد بقوله: { إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا } ونقلوا عن سيبويه أن "سوف" تأتي للتهديد وتنوب عنها "السين" ويستشهدون بهذه الآية ـ أي على سوف وبما بعدها على السين ـ ولكن ورد دخول السين على الفعل في مقام الوعد في الآية الآتية: سندخلهم جنات والصواب أن السين وسوف على معناهما المشهور في إفادة التنفيس والتأخير، واشتق لفظ التسويف بمعنى التأخير من سوف، ولكن بعضهم استشكل التسويف هنا، ولو نظروا في مثل هذا الوعيد لرأوا أن حصوله يكون متأخرا جدا وقت نزول الآية به، على أن للتراخي والبعد معنى آخر بحسب اعتبار المقام في الخطاب، فإذا نظر إلى حال المغرورين ـ بما هم فيه من قوة وعزة ـ الذين صرفهم غرورهم وطغيانهم بعزتهم عن النظر فيما جاء به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من البينات والهدى فصدوا عنه استغناء بما هم فيه، يراهم بهذا الغرور بعداء جدا عن تصور الوعيد والتفكير فيه، فيكون هذا التسويف مرعيا فيه حالهم ليتفكروا في مستقبل أمرهم.
أقول: قد تركت هنا في مذكرتي التي كتبتها في درسه بياضا بقدر ثلاثة أسطر بعد قوله: "تصور الوعيد والتفكير فيه"، ولا أذكر ماذا كنت أريد أن أكتب فيها ولا يظهر لي الآن وجه استشكال التأخير، والوعيد إنما هو بعذاب الآخرة، والعرب تستعمل التسويف فيما هو أقرب منه.
وقد ابتدأ الآية بذكر الذين كفروا ليعلم أن هذا الوعيد ليس خاصا بأولئك الكفار من اليهود، والمراد بآيات الله هنا ما يدل على حقية دينه مطلقا، ويدخل فيها القرآن دخولا أوليا؛ لأنه أدل الدلائل وأظهر الآيات وأوضحها، و نصليهم نارا معناه نجعلهم يصلونها، أي: يدخلونها ويعذبون بها [راجع بحث الصلي والإصلاء في ص 323 ج 4 ط الهيئة المصرية العامة للكتاب].
{ كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها } قال الأستاذ الإمام: نضج الجلود هو نحو نضج الثمار والطعام وهو عبارة عن فقد التماسك الحيوي، والبعد عن الحياة، وإنما تتبدل لأن النضج يذهب القوة الحيوية التي بها الإحساس، فإذا بقيت ناضجة يقل الإحساس بما يمسها أو يزول ; لذلك تتبدل بها جلودا حية غيرها { ليذوقوا العذاب } لأن الذوق والإحساس يصل إلى النفس بواسطة الحياة في الجلد، ومن هنا قال بعض المفسرين: إن المراد بتبديل الجلود دوام العذاب، فالكلام تمثيل أو كناية عن دوام الإحساس بالعذاب، فإنه أراد أن يزيل وهما ربما يعرض للناس بالقياس على ما يعهدون في أنفسهم من أن الذي يتعود الألم يقل شعوره به ويصير عاديا عنده، كما نرى من حال الرجل تعمل له عملية جراحية وتتكرر، فإنه في المرة الأولى يتألم ألما شديدا، ثم لا يزال التألم يخف بالتدريج حتى نراه لا يبالي، وهكذا نشاهد في كثير من الآلام والأمراض التي يطول أمرها.
أقول: والظاهر أن نضج الجلود من العذاب ـ إن كان حقيقة لا مجازا ـ يكون هو أثر لفح النار بسمومها لأهل تلك الدار كما قال تعالى:
{ { تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون } [المؤمنون: 104]، ومتى لفح الجلد مرارا يبطل إحساسه وينفصل عن البشرة ويتربى تحت جلد آخر كما هو مشاهد في الدنيا.
ثم تكلم الأستاذ عن استشكال بعض المتكلمين لتعذيب الجلود الجديدة مع أن العصيان لم يكن بها، ولم أكتب ما قاله ولا أتذكره، والمشهور في الجواب عندهم أن البدل يكون عين الأصل المبدل منه في مادته، وغيره في صورته، وهذه سفسطة ظاهرة.
وذكر الرازي بعد هذا الجواب جوابا ثانيا: وهو أن المعذب هو الإنسان وذلك الجلد ما كان جزءا من ماهيته بل هو كالشيء الزائد الملتصق به، وثالثا: وهو أن المراد بالجلود السرابيل، قال: وطعن فيه القاضي بمخالفته للظاهر، ورابعا: هو أن هذا استعارة عن الدوام وعدم الانقطاع، قال: كما يقال لمن يراد وصفه بالدوام: كلما انتهى فقد ابتدأ، وكلما انتهى إلى آخره فقد ابتدأ من أوله، فكذلك قوله: { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها } يعني كلما ظنوا أنهم نضجوا واحترقوا وانتهوا إلى الهلاك أعطيناهم قوة جديدة من الحياة بحيث ظنوا أنهم الآن حدثوا ووجدوا، فيكون المقصود دوام العذاب وعدم انقطاعه، انتهى تصويره لهذا الوجه، وقد علمت أنه يوافق ما اختاره الأستاذ الإمام في العبارة ورأيت أنه صورها بما هو أقرب من هذا التصوير إلى العقل واللفظ، وذكر الرازي عن السدي وجها خامسا ورده لظهور بطلانه.
وقد رد الألوسي الإشكال من أصله قال: وعندي أن هذا السؤال مما لا يكاد يسأله عاقل فضلا عن فاضل، وذلك لأن عصيان الجلد وطاعته وتألمه وتلذذه غير معقول ; لأنه من حيث ذاته لا فرق بينه وبين سائر الجمادات من جهة عدم الإدراك والشعور، وهو أشبه الأشياء بالآلة ; فيد قاتل النفس ظلما مثلا آلة له كالسيف الذي قتل به، ولا فرق بينهما إلا بأن اليد حاملة للروح والسيف ليس كذلك، وهذا لا يصلح وحده سببا لإعادة اليد بذاتها وإحراقها دون إعادة السيف وإحراقه ; لأن ذلك الحمل غير اختياري، فالحق أن العذاب على النفس الحساسة بأي بدن حلت وفي أي جسد كانت، وكذا يقال في النعيم اهـ.
وقد أيد هذا الرأي بما ورد من الأحاديث في كبر أجساد أهل الآخرة، ثم قال: " ولولا ما علم من الدين بالضرورة من المعاد الجسماني بحيث صار إنكاره كفرا لم يبعد عقلا القول بالنعيم والعذاب الروحانيين فقط، ولما توقف الأمر عقلا على إثبات الأجسام فعلا، ولا يتوهم من هذا أني أقول باستحالة إعادة المعدوم معاذ الله تعالى، ولكني أقول بعدم الحاجة إلى إعادته وإن أمكنت، والنصوص في هذا الباب متعارضة، فمنها ما يدل على إعادة الأجسام بعينها بعد إعدامها، ومنها ما يدل على خلق مثلها وفناء الأولى، ولا أرى بأسا ـ بعد القول بالمعاد الجسماني ـ في اعتقاد أي الأمرين اهـ، وله الحق في رد الإيراد، ولكنه استقل في بعض القول وقلد المتكلمين في بعض آخر كإعادة المعدوم، ولهذا البحث موضع آخر نحرره فيه إن شاء الله تعالى، ويؤيد ما ذكره من أن النفس هي التي تذوق العذاب كلمة (ليذوقوا) ولم يقل " لتذوق " أي الجلود.
وذكر بعضهم في الآية إشكالا آخر، وهو أن أصل الذوق تناول شيء قليل بالفم ليعرف طعمه فلا يتجوز به عن العذاب القوي الشديد أو أشد العذاب، وأجاب الرازي بقوله: المقصود من ذكر الذوق الإخبار بأن إحساسهم بذلك العذاب في كل حال يكون كإحساس الذائق المذوق من حيث إنه لا يدخل فيه نقصان ولا زوال بسبب ذلك الاحتراق اهـ.
ولست أدري ما هو المانع من كون هذا العذاب يسمى أشد العذاب، وإن كان هو في نفسه قليلا كما يدل عليه ظاهر لفظ " يذوقوا " وقد استعمل القرآن لفظ الذوق في العذاب كثيرا! فاختياره مقصود، وإنما يعرف الأشد بالقياس على غيره، فمهما كان عذاب الآخرة فهو أشد من عذاب الدنيا، وأكثر الذين يظنون أنهم ناجون من العذاب في الآخرة يودون أن يكون عذاب المعذبين شديدا بالغا منتهى ما يمكن من الشدة كأنهم حرموا من ذوق طعم الرحمة ; على أنه ليس بيدهم موثق من الله بنجاتهم وأمنهم من العذاب.
{ إن الله كان عزيزا حكيما }، أي إنه تعالى غالب على أمره، حكيم في فعله، فكان من حكمته أن جعل الكفر والمعاصي سببا للعذاب، وجعل سنته في ربط الأسباب بمسبباتها مطردة لا يستطيع أحد أن يغلبه فيبطل اطرادها؛ لأنه عزيز لا يغلب على أمره، كما جعل الإيمان والعمل الصالح سببا للنعيم المقيم وبين ذلك بقوله:
{ والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا } جعل دخول الجنة جزاء من آمن وعمل صالحا ; إذ الإيمان بغير عمل صالح لا يكفي لتزكية النفس وإعدادها لهذا الجزاء، ولا يكاد يوجد الإيمان بغير العمل الصالح إلا أن يموت المرء عقب إيمانه فلا يتسع الوقت لظهور آثار الإيمان وثمراته منه، ويقول البصريون: إن " سوف " أبلغ من " السين " في التنفيس وسعة الاستقبال في المضارع الذي تدخل عليه، ويرى ابن هشام أنه لا فرق بينهما، وكأنهم أخذوا ذلك من قاعدة دلالة زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، فلما كانت سوف أكثر حروفا كان معناها في الاستقبال أوسع، ولا يد على هذا من نكتة للتعبير عن جزاء أهل النار بقوله: { سوف نصليهم } وعن جزاء أهل الجنة بقوله:{ سندخلهم } وكأنه من رحمته تعالى بالفريقين يعجل لأهل النعيم نعيمهم ولا يعجل لأهل العذاب عذابهم، وفيه إشارة إلى امتداد وقت التوبة في الدنيا، والخلود: طول المكث، وأكده هنا بقوله: { أبدا } أي: دائما.
{ لهم فيها أزواج مطهرة } قالوا: أي من الحيض والنفاس والعيوب والأدناس، أي: سواء كانت حسية أو معنوية، وتقدم مثل هذه الجملة في سورة البقرة [2: 25]، وهناك كلام في نساء أهل الجنة ومعنى مصاحبتهن والاستمتاع بهن مع العلم بأن الجنة عالم غيبي ليس كعالم الدنيا.
{ وندخلهم ظلا ظليلا } قال الراغب: الظل أعم من الفيء فإنه يقال: ظل الليل وظل الجنة، ويقال لكل موضع لم تصل إليه الشمس: ظل، ولا يقال: الفيء، إلا لما زالت عنه الشمس، ويعبر بالظل عن العزة والمنعة وعن الرفاهة، وأورد الشواهد على ذلك من الآيات ومن كلام الناس، كقولهم: أظلني فلان أي: حرسني وجعلني في ظله أي: عزه ومنعته.
ثم قال: وظل ظليل أي: فائض، وندخلهم ظلا ظليلا كناية عن غضارة العيش، وقال غيره: إن شدة الحر في بلاد العرب هي السبب في استعمالهم لفظ الظل بمعنى النعيم، والظل صفة اشتقت من لفظ الظل يؤكد بها معناه كما يقال: ليل أليل، أي: ظل وارف فينان، لا يصيب صاحبه حر، ولا سموم، ودائم لا تنسخه الشمس، وأقول: لعل ذلك إشارة إلى النعيم الروحاني بعد ذكر النعيم الجسماني كما عهد في القرآن، ويؤكد ذلك إسناده إليه سبحانه وتعالى جده وثناؤه.