خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَانَاتِ إِلَىۤ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً
٥٨
يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً
٥٩
-النساء

تفسير المنار

هاتان الآيتان هما أساس الحكومة الإسلامية، ولو لم ينزل في القرآن غيرهما لكفتا المسلمين في ذلك إذا هم بنوا جميع الأحكام عليهما، وقد ذكر لنزولهما أسبابا، وصرحوا بأن السبب الخاص لا يخصص عموم الخطاب.
قال في لباب النقول: أخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال:
"لما فتح رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مكة دعا عثمان بن طلحة فلما أتاه قال: أرني المفتاح ـ أي مفتاح الكعبة ـ فلما بسط يده إليه قام العباس فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي اجمعه لي مع السقاية فكف عثمان يده، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: هات المفتاح يا عثمان، فقال: هاك أمانة الله، فقام ففتح الكعبة، ثم خرج فطاف بالبيت، ثم نزل عليه جبريل برد المفتاح، فدعا عثمان بن طلحة فأعطاه المفتاح، ثم قال: { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها }" حتى فرغ من الآية.
وأخرج شعبة في تفسيره عن حجاج، عن ابن جريج، قال: " نزلت هذه الآية في عثمان بن طلحة، أخذ منه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مفتاح الكعبة، فدخل به البيت يوم الفتح فخرج وهو يتلو هذه الآية، فدعا عثمان فناوله المفتاح "، قال: وقال عمر بن الخطاب: " ما سمعته يتلوها قبل ذلك "، قلت: ظاهر هذا أنها نزلت في جوف الكعبة اهـ.
أقول: بل الظاهر أنها نزلت قبل فتح مكة، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلاها يومئذ استشهادا، وإن لم يتذكر عمر أنه سمعها قبل ذلك، إن صحت الرواية وصح أن عمر قال ذلك، فقد صح عنه أنه ذهل عند وفاة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عما ورد في ذكر موته حتى قرأ أبو بكر:
{ { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } [آل عمران: 144]، الآية فتذكر، وذهل عن آية: { وآتيتم إحداهن قنطارا } [النساء: 20]، حتى ذكرته بها المرأة التي راجعته في مسألة تحديد المهور ـ كما تقدم في أوائل هذه السورة ـ وكل أحد عرضة للنسيان والذهول.
والرواية عن ابن عباس لا تصح وإن اعتمدها الجلال، فقد ذكرنا من قبل أن المحدثين قالوا: إن أوهى طرق التفسير عن ابن عباس هي طريق الكلبي، عن أبي صالح، قالوا: فإن انضم إليها مروان الصغير فهي سلسلة الكذب، وأما رواية شعبة، عن حجاج فإن كان حجاج هذا هو المصيصي الأعور فقد كان ثقة ولكنه تغير في آخر عمره، وهو ممن روى عن شعبة، وابن جريج ولم يذكروا أن شعبة روى عنه ولكن شعبة روى عن حجاج الأسلمي وهو مجهول كما قال أبو حاتم.
وفي الروايتين بحث من جهة المعنى أيضا، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أولى بمفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة، ومن كل أحد، فلو أعطاه للعباس أو غيره لم يكن فاعلا إلا ما له الحق فيه، ومن أعطاه إياه يكون هو أهله وأحق به، وليس هذا من باب:
{ { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } [الأحزاب: 6]، بل لأن الكعبة من المصالح العامة، وإنما كان يكون من هذا الباب لو كان المفتاح مفتاح بيت عثمان بن طلحة نفسه ونزع ملكه منه وأعطاه آخر، بل الحكام الآن في جميع الممالك ينزعون ملك من يرون المصلحة العامة في نزع ملكه منه، ولكنهم يعطونه ثمنه شاء أم أبى.
الأستاذ الإمام: بعد ما بين الله تعالى لنا من شأن أهل الكتاب ما بينه ـ حتى تفضيلهم المشركين في الهداية على المؤمنين بالله وحده، وبجميع كتبه ورسله ـ أدبنا بهذا الأدب العالي، وأمرنا بالأمانة العامة، وهي الاعتراف بالحق سواء كان الحق حسيا أو معنويا فقال: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها فالكلام متصل بما قبله بمناسبة قوية تجعل السياق كعقد من الجوهر متناسب اللآلئ، فسواء صح ما ذكر من حكاية مفتاح الكعبة أو لم يصح، فإن صحته لا تضر بالتئام السياق ولا بعموم الحكم، إذ السبب الخاص لا ينافي عموم الحكم.
والأمانة حق عند المكلف يتعلق به حق غيره، ويودعه لأجل أن يوصله إلى ذلك الغير كالمال والعلم، سواء كان المودع عنده ذلك الحق قد تعاقد مع المودع على ذلك بعقد قولي خاص صرح فيه بأنه يجب على المودع عنده أن يؤدي كذا إلى فلان مثلا، أم لم يكن كذلك، فإن ما جرى عليه التعامل بين الناس في الأمور العامة هو بمثابة ما يتعاقد عليه الأفراد في الأمور الخاصة، فالذي يتعلم العلم قد أودع أمانة وأخذ عليه العهد بالتعامل والعرف بأن يؤدي هذه الأمانة ويفيد الناس ويرشدهم بهذا العلم، وقد أخذ الله العهد العام على الناس بهذا التعامل المتعارف بينهم شرعا وعرفا بنص قوله:
{ { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه } [آل عمران: 187]، ولذلك عد علماء أهل الكتاب خائنين بكتمان صفات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيجب على العالم أن يؤدي أمانة العلم إلى الناس، كما يجب على من أودع المال أن يرده إلى صاحبه، ويتوقف أداء أمانة العلم على تعرف الطرق التي توصل إلى ذلك، فيجب أن تعرف هذه الطرق لأجل السير فيها.
وإعراض العلماء عن معرفة الطرق التي تتأدى بها هذه الأمانة بالفعل هو ابتعاد عن الواجب الذي أمروا به، وإخفاء الحق بإخفاء وسائله هو عين الإضاعة للحق، فإذا رأينا الجهل بالحق والخير فاشيا بين الناس واستبدلت به الشروع والبدع، ورأينا أن العلماء لم يعلموهم ما يجب في ذلك فيمكننا أن نجزم بأن هؤلاء العلماء لا يؤدون الأمانة، وهي ما استحفظوا عليه من كتاب الله، ولا عذر لهم في ترك استبانة الطريق الموصل إلى ذلك بسهولة وقرب، فهم خونة الناس وليسوا بالأمناء.
أقول: يعنيرحمه الله تعالى أنه يجب على العلماء أن يعرفوا الطرق التي تؤدي إلى إيصال العلم إلى الناس وقبوله، وهذه الطرق تختلف باختلاف الزمان والمكان كما تختلف الطرق التي تؤدى بها أمانة المال، ففي هذا العصر تؤدى الأموال إلى أصحابها بطرق لم تكن معروفة في العصور السابقة، منها التحويل على مصلحة البريد، ومنها المصارف ومنها غير ذلك.
وكذلك توجد طرق لنشر العلم بين الناس أسهل من الطرق السابقة، فمن أبى سلوكها لا يعذر بعدم تأديته لأمانة العلم النافع، وأكثر العلماء المتأخرين يقولون: إنه لا يجب على العالم أن يتصدى لتعليم الناس، وإنما يجب عليه أن يجيب إذا سئل، وربما قيدوا هذا بما إذا فقد من يقوم مقامه في الإفتاء.
وإنما قال مثل هذا من قاله من المتقدمين في المسائل الخاصة التي يحتاج إليها عند وقوع الوقائع، فأما ما لا بد منه ولا يسع الناس جهله من العقائد والواجبات وأحكام الحلال والحرام، فلم يشترط أحد فيه هذا الشرط ; ولذلك اتفقوا على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولم يقيدوه بالاستفتاء، والمجهول لا تتوجه النفوس إلى السؤال عنه، أفيترك الجاهلون بالسنن العاملون بالبدع حتى يطرقوا أبواب العلماء في بيوتهم أو مدارسهم، مع العلم بأنهم لا يفعلون؟!
ولا يخرج علماء الدين من تبعة الكتمان والخيانة في أمانة الله بتصديهم لتدريس كتب الفقه والعقائد، فإن هذه الكتب لا تفهمها العامة ولا تجب عليها معرفتها ; لأنها وضعت للمنقطعين للعلم يستعينون بها على القضاء والإفتاء في المسائل التي لا يحتاج إليها كل الناس دائما، ومنها ما تمر الأعصار ولا يقع، بل منها ما يستحيل وقوعه، فيجب على العلماء أن يتصدوا لتعليم الجمهور ما لا يسع أحدا منهم جهله وأن يأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر من أقرب الطرق وأسهلها، وإنما يعرف ذلك بالتجربة والاختبار، ولله در الشاعر الذي قال:

لو صح منك الهوى أرشدت للحيل

{ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } قال الأستاذ الإمام بعد ما تقدم آنفا: وكذلك أمر الله من يحكم بين الناس أن يحكم بالعدل، والحكم بين الناس له طرق: منها الولاية العامة والقضاء، ومنها تحكيم المتخاصمين لشخص في قضية خاصة، فكل من يحكم يجب عليه أن يعدل، وقد أمر الله بالعدل في آيات أخرى كقوله: { { إن الله يأمر بالعدل } [النحل: 90]، الآية، وقوله: { { اعدلوا هو أقرب للتقوى } [المائدة: 8]، وقوله: { { كونوا قوامين بالقسط } [النساء: 135]، ونهى عن الظلم وأوعد عليه في آيات كثيرة، ولم يذكر لنا حد العدل ولا تفسيره ولم يرد في السنة تفسير له أيضا.
والعدل وقف على أمرين: أحدهما: أن يعلم الحاكم الحكم الذي شرعه الله ليكون الفصل بين الناس به، مثال ذلك قوله تعالى:
{ { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } [المائدة: 1]، فهو يوجب علينا أن نوفي بما نتعاقد عليه، وقوله: { { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } [البقرة: 188]، الآية، وهو قد حرم أكل أموال الناس ورشوة الحكام، وكذلك ما ورد في السنة المتواترة من أحكامه وقضائه صلى الله عليه وآله وسلم، فيجب على الحاكم تطبيق أحكامه على ما علم من حكم الله ورسوله، وقد يكون التطبيق ظاهرا، وقد يحتاج فيه إلى قياس واستنباط وإجهاد للفكر، فهذا النوع من العدل معروف عند الناس وإنما يذكر لتنبيه الناس وتذكيرهم.
والركن الثاني للعدل - هكذا عبر تارة بالنوع وتارة بالركن - يتألف من أمرين: (أحدهما): فهم الدعوى من المدعي والجواب من المدعى عليه ليعرف موضع ما به التنازع والتخاصم بأدلته من الخصمين. (ثانيهما): استقامة الحاكم وخلوه من الميل إلى أحد الخصمين، ومن الهوى بأن يكره أحد الخصمين، وإن كان لا يميل إلى الآخر، وهذا المعنى معروف للناس أيضا، فكل من ركني العدل معروف، ولذلك ذكر الله العدل ولم يفسره ; لأنه معروف بنفسه كالنور.
ولك ـ وقد فهمت ما قلناه ـ أن نقول: العدل عبارة عن إيصال الحق إلى صاحبه من أقرب الطرق إليه، ولا يتحقق ذلك إلا بإقامة الركنين اللذين بيناهما فكل ما خرج عنهما فهو ظلم.
فإذا أخر القاضي النظر في القضية اتباعا لرسوم وعادات لا يتوقف عليها إقامة العدل، أو لم يقبل الشهادة؛ لأنها لم تؤد بألفاظ مخصوصة، وإن تبين بها الحق المراد، أو أخر الحكم بعد انتهاء المحاكمة، واستيفاء أسبابها هل يكون مقيما للعدل؟
(قال الأستاذ: هذا في الدرس فضج الحاضرون بقول: لا لا) إذا علمنا هذا وتأملنا في الأحكام التي تجري عندنا اليوم فهل نراها جارية على أصول العدل (قالوا: لا لا). نجد محاكمنا الشرعية تشترط في توجيه الدعوى، وفي شهادة الشهود شروطا وألفاظا معينة كلفظ: أشهد، ولفظ هذا أو المذكور وتبيين النقد وذكر البلد الذي ضرب فيه وإن كان ذلك مفهوما من الكلام لا يختلف في فهمه القاضي ولا الخصم، فهذه الاصطلاحات كثيرا ما تحول دون العدل إذ ترد الدعوى من أصلها أو الشهادة لعدم موافقتها للألفاظ المصطلح عليها وإن أدت معناها.
وكذلك كل ما يحول بين الناس وفهم الشريعة يكون من أسباب إضاعة العدل، ولا عذر للناس بالجهل إذ يجب عليهم فهم الشريعة وإزالة كل ما يحول دون فهمها من الاصطلاحات، ولو كنا نقيم العدل لما كنا في هذه الحالة من الضعف وسوء الحال.
ثم قال الأستاذ في درس آخر: إنه اطلع بعد الدرس الأول ـ الذي لخصناه بما رأيت ـ على كتاب السياسة الشرعية لابن تيمية، فإذا هو كله مبني على هذه الآية، فإنه توسع في ذكر أنواع الأمانة التي أودعها الله في أيدي الحكام، ومنها ألا يولوا الأمور إلا خيار الناس الصالحين لها، وأورد في ذلك أحاديث كثيرة منها الحديث المشهور ـ أي برواية البخاري له ـ " إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة "، أي: ساعة قيامة الأمة وهلاكها ; لأن لكل أمة ساعة، أي: وقتا تهلك فيه أو يذهب استقلالها. أقول: إن معنى الآية لم يتجل تمام التجلي فيما ذكرناه، فلا بد من زيادة البيان ونفصله في مسائل.
المسألة الأولى: في معنى الأمانة: الأمانة ما يؤمن عليه الإنسان من الأمن وهو طمأنينة النفس، وعدم الخوف يقال: أمنته ـ كسمعته ـ على الشيء:
{ { هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه } [يوسف: 64]، ويقال: أمنها بكذا { { ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك } [آل عمران: 75]، ويقال: ائتمن فلانا، أي: عده أو اتخذه أمينا، وائتمنه على الشيء كأمنه عليه { { فليؤد الذي اؤتمن أمانته } [البقرة: 283]، وكل أمانة يجب حفظها، ومنها ما يحفظ فقط كالسر، وفي الحديث المرفوع: إذا حدث الرجل بحديث ثم التفت فهو أمانة، رواه أحمد وأبو داود والترمذي والضياء عن جابر، وأبو يعلى في مسنده عن أنس، وأشار السيوطي في الجامع الصغير إلى صحته، ومنه يعلم أن كل ما يدل على الائتمان من قول وعمل، وعرف وقرينة يجب اعتباره والعمل به، وتقدم تصريح الأستاذ الإمام بذلك، ومنها، أي ـ الأمانة ـ ما يحفظ ليؤدى إلى صاحبه سواء كان هو الذي ائتمنك عليه أو غيره لأجله، ويسمى ما يحفظ الأمانة ويؤديها حفيظا وأمينا ووفيا، ويسمى من لا يحفظها أو لا يؤديها خائنا { { يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون } [الأنفال: 27]، فمن خان عالما كان من العصاة، ووجب عليه الضمان.
المسألة الثانية: في معنى العدل: العدل ـ بالفتح والكسر ـ المثل، والعديل: المثيل قاله ابن الأثير وغيره، قال في لسان العرب: وفلان يعدل فلانا أي يساويه، ويقال ما يعدلك عندنا شيء، أي: ما يقع عندنا شيء موقعك، وعدل المكاييل والموازين سواها، وعدل الشيء يعدله عدلا وعادله وازنه، وعادلت بين الشيئين وعدلت فلانا بفلان إذا سويت بينهما، وتعديل الشيء تقويمه، وقيل: العدل تقويمك الشيء بالشيء من غير جنسه تجعله له مثلا، والعدل والعدل والعديل سواء، أي: النظير والمثيل، وقيل: هو المثل وليس بالنظير عينه، وفي التنزيل:
{ { أو عدل ذلك صياما } [المائدة: 95]، قال مهلهل:

على أن ليس عدلا من كليب إذا ظهرت مخبأة الخدور

والعدل ـ بالفتح ـ أصله مصدر قولك: عدلت بهذا عدلا حسنا، نجعله اسما للمثل؛ لتفرق بينه وبين عدل المتاع كما قالوا: امرأة رزان، وعجز رزين للفرق (ثم قال): والعدل بالكسر: نصف الحمل يكون على أحد جنبي البعير.
وقال الأزهري: العدل اسم حمل معدول يحمل آخر مسوى به، والجمع أعدال وعدول عن سيبويه، ثم قال: العديلتان الغرارتان ; لأن كل واحدة منهما تعادل صاحبتها، الأصمعي: يقال عدلت الجوالق على البعير أعدله عدلا، يحمل على جنب البعير ويسوى بآخر.
ابن الأعرابي: العدل ـ محرك ـ تسوية الأونين وهما العدلان، ويقال: عدلت أمتعة البيت إذا جعلتها أعدالا مستوية للاعتكام يوم الظعن، والعديل الذي يعادلك في المحمل اهـ.
وهذا الذي ذكره عن أهل اللغة الأولين هو المستعمل في كلام المعاصرين في الجزيرة وسورية، وغيرهما، ومنه يعلم أن العدل في الحكم بين الناس هو تحري المساواة والمماثلة بين الخصمين بألا يرجح أحدهما على الآخر بشيء قط، بل يجعلهما سواء كالعدلين على ظهر البعير أو غيره، فالعدل المأمور به معروف عند أهل اللغة وليس معناه الحكم بما ثبت في الشرع ; فإن هذا ثابت بدليل آخر، وكل ما ثبت في الشرع من ذلك موافق للعدل، وليس هو عين العدل، بل العدل يكون بالعمل به وتطبيقه على الدعوى بحيث يصل إلى كل ذي حق حقه.
وقد أمر الله تعالى بالعدل مطلقا في بعض السور المكية قبل بيان الأحكام الشرعية، وما كل المسائل التي يتعامل بها الناس ويتخاصمون فيها قد بينت أحكامها في الكتاب والسنة، فما بين فيهما كان خير عون على العدل المقصود منهما، وما لم يبين يجب على الحكام أن يتحروا فيه المساواة بقدر طاقتهم التي يصل إليها اجتهادهم.
وسيأتي في الآية التالية بيان ما يجب من اتباع أحكام الله ورسوله فيما حكما به، وبيان ما يجب فيما لم يحكما به.
قال الرازي: قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: ينبغي للقاضي أن يسوي بين الخصمين في خمسة أشياء: في الدخول عليه، والجلوس بين يديه، والإقبال عليهما، والاستماع منهما، والحكم عليهما، قال: والمأخوذ عليه التسوية بينهما في الأفعال دون القلب، فإن كان يميل قلبه إلى أحدهما ويحب أن يغلب بحجته على الآخر فلا شيء عليه ; لأنه لا يمكنه التحرز عنه.
قال: ولا ينبغي أن يلقن واحدا منهما حجته ولا شاهدا شهادته ; لأن ذلك يضر بأحد الخصمين، ولا يلقن المدعي الدعوى والاستحلاف، ولا يلقن المدعى عليه الإنكار والإقرار، ولا يلقن الشهود أن يشهدوا أو لا يشهدوا، ولا ينبغي أن يضيف أحد الخصمين دون الآخر ; لأن ذلك يكسر قلب الآخر، ولا يجيب هو إلى ضيافة أحدهما ولا إلى ضيافتهما ما داما متخاصمين.
وروي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: كان لا يضيف الخصم إلا وخصمه معه، وتمام الكلام فيه مذكور في كتب الفقه، وحاصل الأمر فيه: أن يكون مقصود الحاكم بحكمه إيصال الحق إلى مستحقه وألا يمتزج ذلك بغرض آخر، وذلك هو المراد بقوله تعالى:
{ { وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } [النساء: 58]، اهـ.
المسألة الثالثة: أنواع الأمانة: الأمانة على أنواع ; ولذلك جمعت في الآية وفي سورة الأنفال بقوله تعالى:
{ { يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله وتخونوا أماناتكم } [الأنفال: 27]، وسورة المؤمنون والمعارج بقوله تعالى: { والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون } [المؤمنون: 8]، وقد ذكرنا عن الأستاذ الإمام أمانة العلم، وأمانة المال، وجعلها بعضهم ثلاثا:
(إحداها أمانة العبد مع الرب): وهي ما عهد إليه حفظه من الائتمار بما أمره به والانتهاء عما نهاه عنه، واستعمال مشاعره وجوارحه فيما ينفعه ويقربه من ربه، فالمعاصي كلها خيانة لله عز وجل، وقد ورد في المأثور ما يدل على ذلك.
ثانيها: (أمانة العبد مع الناس) ويدخل فيها رد الودائع وعدم الغش في شيء من الأشياء، وحفظ السر وغير ذلك مما يجب لآحاد الناس، وللحكام، وللأهل والأقربين، قال الرازي: ويدخل في هذا القسم " عدل الأمراء مع رعيتهم، وعدل العلماء مع العوام بألا يحملوهم على التعصبات الباطلة، بل يرشدوهم إلى اعتقادات وأعمال تنفعهم في دنياهم وأخراهم "، فعلى هذا يكون العلماء الذين يعلمون العامة مسائل الخلاف التي تثير التعصب بينهم، والذين لا يعلمونهم ما ينفعهم في دنياهم من أمور التربية الحسنة وكسب الحلال، وما ينفعهم في آخرتهم من المواعظ والأحكام التي تقوي إيمانهم وتنفرهم من الشرور وترغبهم في الخيرات، كل أولئك العلماء من الخائنين للأمة، وهذا القسم يمكن أن يقسم إلى أقسام، فيجعل رعاية أمانة الحكام قسما، ورعاية أمانة الأقربين من الأصول والفروع والحواشي قسما، ورعاية أمانة الزوجية والصهر قسما، ومنها ألا يفشي أحد الزوجين سر الآخر، ولا سيما السر الذي يختص بهما، ولا يطلع عليه عادة منهما سواهما، ورعاية أمانات سائر الناس قسما.
ثالثها: (أمانة الإنسان مع نفسه) وعرفها الرازي بألا يختار لنفسه إلا ما هو الأنفع والأصلح له في الدين والدنيا، وألا يقدم بسبب الشهوة والغضب على ما يضره في الآخرة.
أقول: ومن ذلك الذي أجمله توقي الإنسان لأسباب الأمراض والأوبئة بحسب معرفته، وما يستفيده من الأطباء، وذلك يدل على أن رعاية هذا النوع من الأمانة يتوقف على تعلم ما يحتاج إليه من علم حفظ الصحة ولا سيما في أيام الأمراض الوبائية المنتشرة.
مثال ذلك: أنه قد عرف بالتجارب نفع بعض ما يعمل للوقاية من المرض كتلقيح الجدري، ومن ذلك التداوي عند وقوع المرض، وتفصيل رعاية هذه الأمانات يطول، وسنعيد البحث فيها عند تفسير تلك الآيات إن أنسأ الله في العمر.
المسألة الرابعة: قدم الأمر بأداء الأمانات على الأمر بالعدل ; لأن العدل في الأحكام يحتاج إليه عند الخيانة في الأمانات التي تتعلق بحقوق الناس والتخاصم إلى الحاكم، والأصل أن يكون الناس أمناء يقومون بأداء الأمانات بوازع الفطرة والدين، والخيانة خلاف الأصل، ومن شأنها أنها لا تقع في الأمة المتدينة إلا شذوذا، وقلما يحتاج إلى العدل في الحكم إذا راعى الناس أماناتهم وأدوها إلى أهلها.
المسألة الخامسة: ورد في الأمانة عدة آيات ذكرنا بعضها آنفا، وورد فيها أحاديث كثيرة مشددة في وجوب رعايتها وأدائها وتشنيع الخيانة والوعيد عليها، منها حديث: آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان رواه الشيخان والترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة، وفي معناه حديث: ثلاث من كن فيه فهو منافق، وإن صام وصلى وحج واعتمر وقال إني مسلم، من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان رواه رسته (عبد الرحمن بن عمر أبي الحسن الزهري الأصفهاني) في الإيمان وأبو الشيخ في التوبيخ من حديث أنس، وهو مروي عن غيره عند غيرهما بألفاظ أخرى.
ومنها حديث: لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له رواه أحمد وابن حبان من حديث أنس ورمز له السيوطي في جامعه بالصحة، ومنها حديث: لن تزال أمتي على الفطرة ما لم يتخذوا الأمانة مغنما والزكاة مغرما رواه سعيد بن منصور في سننه.
المسألة السادسة: في حكمة تأكيد الأمر بالأمانة وبيان فائدتها ومضرة الخيانة: ذكر حكيم الإسلام السيد جمال الدين الأفغاني في رسالته (الرد على الدهريين) التي ألفها بالفارسية، وترجمها بالعربية تلميذه الأستاذ الإمام: إن الدين قد أفاد الناس ثلاث عقائد وثلاث خصال أقاموا بها بناء مدنيتهم، ومن هذه الخصال أو الصفات: الأمانة: وهاك ما قاله فيها فهو يغني عن غيره:
" من المعلوم الجلي أن بقاء النوع الإنساني قائم بالمعاملات والمعاوضات في منافع الأعمال، وروح المعاملة والمعاوضة إنما هي الأمانة، فإن فسدت الأمانة بين المتعاملين بطلت صلات المعاملة وانبترت حبال المعاوضة، فاختل نظام المعيشة، وأفضى ذلك بنوع الإنسان إلى الفناء العاجل.
" ثم من البين أن الأمم في رفاهتها، والشعوب في راحتها وانتظام أمر معيشتها محتاجة إلى الحكومة بأي أنواعها، إما جمهورية، أو ملكية مشروطة، أو ملكية مقيدة، والحكومة في أي صورها لا تقوم إلا برجال يلون ضروبا من الأعمال فمنهم حراس على حدود المملكة يحمونها من عدوان الأجانب عليها، ويدافعون في الوالج في ثغورها، وحفظة في داخل البلاد يأخذون على أيدي السفهاء ممن يهتك ستر الحياء، ويميل إلى الاعتداء من فتك أو سلب أو نحوهما.
ومنهم حملة الشرع، وعرفاء القانون يجلسون على منصات الأحكام لفصل الخصومات، والحكم في المنازعات.
ومنهم أهل جباية الأموال يحصلون من الرعايا ما فرضت عليهم الحكومة من خراج مع مراعاة قانونها في ذلك، ثم يستحفظون ما يحصلون في خزائن المملكة، وهي خزائن الرعايا في الحقيقة وإن كانت مفاتيحها بأيدي خزنتها.
ومنهم من يتولى صرف هذه الأموال في المنافع العامة للرعية مع مراعاة الاقتصاد والحكمة، كإنشاء المدارس، والمكاتب، وتمهيد الطرق، وبناء القناطر، وإقامة الجسور، وإعداد المستشفيات، ويؤدي أرزاق سائر العاملين في شئون الحكومة من الحراس والحفظة وقضاة العدل وغيرهم حسبما عين لهم.
وهذه الطبقات من رجال الحكومة الوالين على أعمالها إنما تؤدي كل طبقة منها عملها المنوط بها بحكم الأمانة، فإن خزيت أمانة أولئك الرجال وهم أركان الدولة سقط بناء السلطة وسلب الأمن، وراحت الراحة من بين الرعايا كافة وضاعت حقوق المحكومين، وفشا فيهم القتل والتناهب ووعرت طرق التجارة، وتفتحت عليهم أبواب الفقر والفاقة، وخوت خزائن الحكومة، وعميت على الدولة سبل النجاح ; فإن حزبها أمر سدت عليها نوافذ النجاة، ولا ريب أن قوما يساسون بحكومة خائنة، إما أن ينقرضوا بالفساد، وإما أن يأخذهم جبروت أمة أجنبية عنهم يسومونهم خسفا، ويستبدون فيهم عسفا فيذوقون من مرارة العبودية ما هو أشد من مرارة الانقراض والزوال.
ومن الظاهر أن استعلاء قوم على آخرين إنما يكون باتحاد آحاد العاملين والتئام بعضهم ببعض حتى يكون كل منهم لبنية قومه كالعضو للبدن، ولن يكون هذا الاتحاد حتى تكون الأمانة قد ملكت قيادهم، وعمت بالحكم أفرادهم.
فقد كشف الحق أن الأمانة دعامة بقاء الإنسان، ومستقر أساس الحكومات، وباسط ظلال الأمن والراحة، ورافع أبنية العز والسلطان، وروح العدالة وجسدها، ولا يكون شيء من ذلك بدونها.
"وإليك الاختيار في فرض أمة عطلت نفوسها من حلية هذه الخلة الجليلة، فلا تجد فيها إلا آفات جائحة ورزايا قاتلة، وبلايا مهلكة، وفقرا معوزا، وذلا معجزا، ثم لا تلبث بعد هذا كله أن تبتلعها بلاليع العدم، وتلتهمها أمهات اللهيم" اهـ.
المسألة السابعة: ورد الأمر بالعدل والتعظيم لشأنه في كثير من الآيات والأحاديث كقوله تعالى:
{ إن الله يأمر بالعدل والإحسان } [النحل: 90]، وقوله: { { فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين } [الحجرات: 9]، والإقساط هو: العدل، وقوله آمرا للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يبلغه للناس: { وأمرت لأعدل بينكم } [الشورى: 15]، وقوله: { { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا } [النساء: 135]، الآية، وفي معناها قوله تعالى: { { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون } [المائدة: 8]، وسيأتي تفسيرها في مواضعها ولا حاجة إلى إيراد الأحاديث هنا ولا الآيات المحرمة للظلم المتوعدة عليه.
المسألة الثامنة: المسلمون مأمورون بالعدل في الأحكام والأقوال والأفعال والأخلاق، وقد قال تعالى:
{ { وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى } [الأنعام: 152]، وهذا الأمر موجه إلى الحكام وغيرهم.
قال تعالى: { إن الله نعما يعظكم به } أي نعم الشيء الذي يعظكم به وهو هنا: أداء الأمانات والحكم بالعدل ; لأنه لا يعظكم إلا بما فيه صلاحكم وفلاحكم ما عملتم به مهتدين متعظين إن الله كان سميعا بصيرا فلا يخفى عليه شيء من أقوالكم ولا من أفعالكم، ولا من نياتكم، فلا تدعوا ما ليس فيكم من الأمانة والعدل ولا تقولوا ما لا تفعلون ; فإنه سيجزي كل عامل بما عمل.
أمر الله تعالى برد الأمانات إلى أهلها وبالحكم بين الناس بالعدل مخاطبا بذلك جمهور الأمة، ولما كان يدخل في رد الأمانات توسيد الأمة أمر الأحكام إلى أهلها القادرين على القيام بأعبائها، وكان يجب في الحكم بالعدل مراعاة ما جاء عن الله تعالى وعن رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وما يتجدد للأمة من الأحكام، وكانت المصلحة في ذلك لا تحصل إلا بالطاعة، قال عز وجل: { ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم }.
وقال الأستاذ الإمام في مناسبة الاتصال: إن هذه الآية وما قبلها وردتا في مقابلة قول الذين أوتوا نصيبا من الكتاب: إن الكافرين أهدى من المؤمنين، بعدما بين تعالى أنهم يؤمنون بالجبت والطاغوت، ومن الطاغوت عند المشركين الأصنام والكهان، فكانوا يحكمون الكاهن، ويجعلونه شارعا ويقتسمون عند الصنم ويعدون ذلك فصلا في الخصومة. وقد اتخذ اليهود الجبت والطاغوت مثلهم، وطواغيتهم رؤساؤهم الذين يحكمون فيهم بأهوائهم فيتبعونهم ككعب بن الأشرف، مع أن عندهم التوراة فيها حكم الله، ولكنهم كانوا يقولون: إن هؤلاء الرؤساء أعلم منا بالتوراة وبمصلحتنا، فالله تعالى قد بين لنا حالهم وقرنه ببيان ما يجب أن نسير عليه في الشريعة والأحكام، حتى لا نضل كما ضل المشركون وأهل الكتاب الذين اتخذوا أفرادا منهم أربابا إذ جعلوهم شارعين فكانوا سبب طغيانهم؛ ولذلك سموا طواغيت.
ثم قال: أمر بطاعة الله وهي العمل بكتابه العزيز وبطاعة الرسول ; لأنه هو الذي يبين للناس ما نزل إليهم، وقد أعاد لفظ الطاعة لتأكيد طاعة الرسول ; لأن دين الإسلام دين توحيد محض لا يجعل لغير الله أمرا، ولا نهيا، ولا تشريعا، ولا تأثيرا، فكان ربما يستغرب في كتابه الأمر بطاعة غير وحي الله، ولكن قضت سنة الله بأن يبلغ عنه شرعه للناس رسل منهم وتكلف بعصمتهم في التبليغ، ولذلك وجب أن يطاعوا فيما يبينون به الدين والشرع.
مثال ذلك: أن الله تعالى هو الذي شرع لنا عبادة الصلاة، وأمرنا بها، ولكنه لم يبين لنا في الكتاب كيفيتها وعدد ركعاتها، ولا ركوعها وسجودها ولا تحديد أوقاتها فبينها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأمره تعالى إياه بذلك في مثل قوله:
{ { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } [النحل: 44]، فهذا البيان بإرشاد من الله تعالى، فاتباعه لا ينافي التوحيد ولا كون الشارع هو الله تعالى وحده.
قال: وأما أولو الأمر فقد اختلف فيهم فقال بعضهم: هم الأمراء واشترطوا فيهم ألا يأمروا بمحرم كما قال مفسرنا (الجلال) وغيره، والآية مطلقة، أي: وإنما أخذوا هذا القيد من نصوص أخرى كحديث:
"لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" وحديث "إنما الطاعة في المعروف" وبعضهم أطلق في الحكام فأوجبوا طاعة كل حاكم، وغفلوا عن قوله تعالى: { منكم } وقال بعضهم: إنهم العلماء، ولكن العلماء يختلفون، فمن يطاع في المسائل الخلافية ومن يعصى؟ وحجة هؤلاء أن العلماء هم الذين يمكنهم أن يستنبطوا الأحكام غير المنصوصة من الأحكام المنصوصة.
وقالت الشيعة: إنهم الأئمة المعصومون، وهذا مردود إذ لا دليل على هذه العصمة، ولو أريد ذلك لصرحت به الآية، ومعنى وأولي الأمر الذين يناط بهم النظر في أمر إصلاح الناس، أو مصالح الناس، وهؤلاء يختلفون أيضا، فكيف يؤمر بطاعتهم بدون شرط ولا قيد؟
قالرحمه الله تعالى: إنه فكر في هذه المسألة من زمن بعيد فانتهى به الفكر إلى أن المراد بأولي الأمر جماعة أهل الحل والعقد من المسلمين، وهم الأمراء والحكام، والعلماء ورؤساء الجند وسائر الرؤساء والزعماء الذين يرجع إليهم الناس في الحاجات والمصالح العامة، فهؤلاء إذا اتفقوا على أمر، أو حكم وجب أن يطاعوا فيه بشرط أن يكونوا منا، وألا يخالفوا أمر الله ولا سنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي عرفت بالتواتر، وأن يكونوا مختارين في بحثهم في الأمر، واتفاقهم عليه، وأن يكون ما يتفقون عليه من المصالح العامة، وهو ما لأولي الأمر سلطة فيه ووقوف عليه، وأما العبادات وما كان من قبيل الاعتقاد الديني فلا يتعلق به أمر أهل الحل والعقد، بل هو مما يؤخذ عن الله ورسوله فقط ليس لأحد رأي فيه إلا ما يكون في فهمه.
فأهل الحل والعقد من المؤمنين إذا أجمعوا على أمل من مصالح الأمة ليس فيه نص عن الشارع ـ مختارين في ذلك غير مكرهين عليه بقوة أحد ولا نفوذه ـ فطاعتهم واجبة، ويصح أن يقال: هم معصومون في هذا الإجماع ; ولذلك أطلق الأمر بطاعتهم بلا شرط مع اعتبار الوصف والاتباع المفهوم من الآية، وذلك كالديوان الذي أنشأه عمر باستشارة أهل الرأي من الصحابة رضي الله عنهم، وغيره من المصالح التي أخذ بها برأي أولي الأمر من الصحابة ولم تكن في زمن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يعترض أحد من علمائهم على ذلك.
قال: فأمر الله في كتابه وسنة رسوله الثابتة القطعية التي جرى عليها ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالعمل هما الأصل الذي لا يرد، وما لا يوجد فيه نص عنهما ينظر فيه أولو الأمر إذا كان من المصالح ; لأنهم هم الذين يثق بهم الناس فيها ويتبعونهم، فيجب أن يتشاوروا في تقرير ما ينبغي العمل به، فإذا اتفقوا وأجمعوا وجب العمل بما أجمعوا عليه، وإن اختلفوا وتنازعوا فقد بين الواجب فيما تنازعوا بقوله: { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } وذلك بأن يعرض على كتاب الله، وسنة رسوله وما فيهما من القواعد العامة، والسيرة المطردة، فما كان موافقا لهما علم أنه صالح لنا، ووجب الأخذ به، وما كان منافرا علم أنه غير صالح ووجب تركه وبذلك يزول التنازع وتجتمع الكلمة، وهذا الرد واستنباط الفصل في الخلاف من القواعد هو الذي يعبر عنه بالقياس، والأول هو الإجماع الذي يعتد به.
وقد اشترطوا في القياس شروطا بالنظر إلى العلة، والغرض من هذا الرد ألا يقع خلاف في الدين والشرع ; لأنه لا خلاف ولا اختلاف في أحكامهما، كذا قال الأستاذ، والمراد ألا يفضي التنازع إلى اختلاف التفرق الذي يلبس المسلمين شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض، وسيأتي بيان ذلك مفصلا، ولكنهم لم يعلموا بالآية فتفرقوا واختلفوا.
ذكر الأستاذ الإمام في الدرس أن ما اهتدى إليه في تفسير أولي الأمر من كونهم جماعة أهل الحل والعقد لم يكن يظن أن أحدا من المفسرين سبقه إليه حتى رآه في تفسير النيسابوري.
وأقول: إن النيسابوري قد لخص في المسألة ما قاله الفخر الرازي، بل جميع تفسيره تلخيص لتفسير الرازي مع زيادات قليلة، وإنما خصه الأستاذ بالذكر لأن ظاهر عبارة الرازي تشعر بأن أولي الأمر هم أهل الإجماع المصطلح عليه في أصول الفقه، وهم المجتهدون في الأحكام الظنية الفقهية، وإن عبر عنه تارة بإجماع الأمة، وتارة بإجماع أهل الحل والعقد، كأنه رأى أنه يسمي أهل الإجماع أهل الحل والعقد لقوله: إن العلماء هم أمراء الأمراء، أي يجب أن يكونوا كذلك، ولكنهم ليسوا كذلك بالفعل.
وأما النيسابوري فعبارته هي التي تؤدي المعنى الذي قاله الأستاذ، فإنه قال بعد إبطال الأقوال المشهورة في تفسير أولي الأمر: " وإذا ثبت أن حمل الآية على هذه الوجوه غير مناسب تعين أن يكون المعصوم كل الأمة، أي: أهل الحل والعقد، وأصحاب الاعتبار والآراء فالمراد بقوله: وأولي الأمر ما اجتمعت الأمة عليه اهـ.
فقوله: أهل الحل والعقد، وأصحاب الاعتبار والآراء وهو بمعنى قول الأستاذ الذي أدخل فيه أمراء الجند ورؤساء المصالح، وهذا هو المعقول ; لأن مجموع هؤلاء هم الذين تثق بهم الأمة وتحفظ مصالحها، وباتفاقهم يؤمن عليها من التفرق والشقاق ولهذا أمر الله بطاعتهم، لا لأنهم معصومون من الخطأ فيما يقررونه.
وقد رأينا أن ننقل بعض ما قاله الرازي لتصريحه فيه بما يسمونه اليوم في عرف أهل السياسة بسلطة الأمة، وتفنيده قول من قال: إن المراد بأولي الأمر الأمراء والسلاطين، وهو ما يتزلف به المتزلفون إليهم حتى إنهم كانوا يتلون هذه الآية على مسامع السلطان عبد الحميد في كل صلاة جمعة، على أننا قد صرحنا بهذه الحقائق في المنار وفي التفسير من قبل.
قال الرازي بعد تقرير كون الجزم بطاعة أولي الأمر يقتضي عصمتهم فيما يطاعون فيه ما نصه: " ثم نقول: ذلك المعصوم إما مجموع الأمة أو بعض الأمة، لا جائز أن يكون بعض الأمة؛ لأنا بينا أن الله تعالى أوجب طاعة أولي الأمر في هذه الآية قطعا، وإيجاب طاعتهم مشروط بكوننا عارفين بهم قادرين على الوصول إليهم، والاستفادة منهم، ونحن نعلم بالضرورة أننا في زماننا هذا عاجزون عن معرفة الإمام المعصوم.
(أقول: ومثله المجتهدون في الفقه)، عاجزون عن الوصول إليهم (كذا) عاجزون عن استفادة الدين والعلم منهم، وإذا كان الأمر كذلك علمنا أن المعصوم الذي أمر الله المسلمين بطاعته ليس بعضا من أبعاض الأمة، ولا طائفة من طوائفهم، ولما بطل هذا وجب أن يكون ذلك المعصوم هو المراد بقوله: { وأولي الأمر } أهل الحل والعقد من الأمة، وذلك يوجب القطع بأن إجماع الأمة حجة.
ثم ذكر أن الأقوال المأثورة عن علماء التفسير في أولي الأمر أربعة: 1 - الخلفاء الراشدون. 2 - أمراء السرايا (أقول: وهم قواد العسكر) عند عدم خروج الإمام فيه أي: في العسكر. 3 - علماء الدين الذين يفتون ويعلمون الناس دينهم. 4 - الأئمة المعصومون وعزاه إلى الرافضة.
ثم أورد على التفسير الذي اختاره إيرادين أو سؤالين:
أحدهما: لما كانت أقوال الأمة في تفسير الآية محصورة في هذه الوجوه وكان القول الذي نصرتموه خارجا عنها كان ذلك بإجماع الأمة باطلا. السؤال الثاني: أن نقول حمل أولي الأمر على الأمراء والسلاطين أولى. مما ذكرتم ويدل عليه وجوه: الأول: أن الأمراء والسلاطين أوامرهم نافذة على الخلق فهم في الحقيقة أولو الأمر، أما أهل الإجماع فليس لهم أمر نافذ على الخلق فكان حمل اللفظ على الأمراء والسلاطين أولى.
والثاني: أن أول الآية وآخرها يناسب ما ذكرناه، أما أول الآية فهو أنه تعالى أمر الحكام بأداء الأمانات وبرعاية العدل، وأما آخر الآية فهو أنه أمر بالرد إلى الكتاب والسنة فيما أشكل، وهذا إنما يليق بالأمراء لا بأهل الإجماع. الثالث: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالغ بالترغيب في طاعة الأمراء، فقال:
"من أطاعني فقط أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن عصى أميري فقد عصاني" ، فهذا ما يمكن ذكره من السؤال على الاستدلال.
قال: والجواب أنه لا نزاع أن جماعة من الصحابة والتابعين حملوا قوله: وأولي الأمر منكم على العلماء، فإذا قلنا: المراد منه جميع العلماء من أهل الحل والعقد لم يكن هذا قولا خارجا عن أقوال الأمة، بل كان هذا اختيارا لأحد أقوالهم وتصحيحا له بالحجة القاطعة فاندفع السؤال الأول.
وأما سؤالهم الثاني فهو مدفوع؛ لأن الوجوه التي ذكروها وجوه ضعيفة، والذي ذكرناه برهان قاطع، فكان قولنا أولى، على أنا نعارض تلك الوجوه بوجوه أخرى أقوى منها:
فأحدها: أن الأمة مجمعة على أن الأمراء والسلاطين إنما تجب طاعتهم فيما علم بالدليل أنه حق وصواب، وذلك الدليل ليس إلا الكتاب والسنة، فحينئذ لا يكون هذا قسما منفصلا عن طاعة الكتاب والسنة، وعن طاعة الله وطاعة رسوله بل يكون داخلا فيه، كما أن وجوب طاعة الزوجة للزوج والولد للوالدين والتلميذ للأستاذ داخل في طاعة الله وطاعة الرسول، أما إذا حملناه على الإجماع لم يكن هذا القسم داخلا تحتها؛ لأنه ربما دل الإجماع على حكم بحيث لا يكون في الكتاب والسنة دلالة عليه، فحينئذ أمكن جعل هذا القسم منفصلا عن القسمين الأولين فهذا أولى.
وثانيها: أن حمل الآية على طاعة الأمراء يقتضي إدخال الشرط في الآية؛ لأن طاعة الأمراء إنما تجب إذا كانوا مع الحق، فإذا حملناه على الإجماع لا يدخل الشرط في الآية، فكان هذا أولى.
وثالثها: أن قوله من بعد { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } مشعر بإجماع مقدم يخالف حكمه حكم هذا التنازع.
ورابعها: أن طاعة الله وطاعة رسوله واجبة قطعا وعندنا أن طاعة الإجماع واجبة قطعا، وأما طاعة الأمراء والسلاطين فغير واجبة قطعا، بل الأكثر أنها تكون محرمة، لأنهم لا يأمرون إلا بالظلم، وفي الأقل تكون واجبة بحسب الظن الضعيف، فكان حمل الآية على الإجماع أولى ; لأنه أدخل الرسول وأولي الأمر في لفظ واحد وهو قوله: { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر } فكان حمل أولي الأمر الذي هو مقرون بالرسول على المعصوم أولى من حمله على الفاجر الفاسق.
وخامسها: أن أعمال الأمراء والسلاطين موقوفة على فتاوى العلماء، والعلماء في الحقيقة أمراء الأمراء، فكان حمل لفظ " أولي الأمر " عليهم أولى.
قال: وأما حمل الآية على الأئمة المعصومين كما تقوله الروافض ففي غاية البعد لوجوه:
أحدها: ما ذكرناه أن طاعتهم مشروطة بمعرفتهم وقدرة الوصول إليهم، فلو أوجب علينا طاعتهم قبل معرفتهم كان هذا تكليف ما لا يطاق، ولو أوجب علينا طاعتهم إذا صرنا عارفين بهم وبمذاهبهم صار هذا الإيجاب مشروطا، وظاهر قوله: { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } يقتضي الإطلاق.
وأيضا ففي الآية ما يدفع هذا الاحتمال، وذلك أنه أمر بطاعة الرسول وطاعة أولي الأمر في لفظة واحدة وهي قوله: { وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } واللفظة الواحدة لا يجوز أن تكون مطلقة ومشروطة معا، فلما كانت هذه اللفظة مطلقة في حق الرسول وجب أن تكون مطلقة في حق أولي الأمر.
ثانيها: أنه تعالى أمر بطاعة أولي الأمر، وأولو الأمر جمع، وعندهم لا يكون في الزمان إلا إمام واحد، وحمل الجمع على الفرد خلاف الظاهر. وثالثها: أنه قال: { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول }، ولو كان المراد بأولي الأمر الإمام المعصوم لوجب أن يقال: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الإمام، فثبت أن الحق تفسير الآية بما ذكرنا، انتهى كلام الإمام الرازي.
أقول: إن القائلين بالإمام المعصوم يقولون: إن فائدة اتباعه إنقاذ الأمة من ظلمة الخلاف وضرر التنازع والتفرق، وظاهر الآية بيان حكم المتنازع فيه مع وجود أولي الأمر وطاعة الأمة لهم كأن يختلف أولو الأمر في حكم بعض النوازل والوقائع، والخلاف والتنازع مع وجود الإمام المعصوم غير جائز عند القائلين به ; لأنه عندهم مثل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلا يكون لهذه الزيادة فائدة على رأيهم.
وحصر الرازي الأقوال المنقولة في الأربعة التي ذكرها غير مسلم، فقد روي عن مجاهد أن أولي الأمر هم الصحابة، وفي رواية عنه وعن مالك والضحاك وهي مأثورة عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ أنهم أهل القرآن والعلم، فإن كان الرازي يعني بأهل الإجماع المجتهدين على اصطلاح أهل الأصول فهم أهل العلم والقرآن، وإن كان يعني بهم أهل الحل والعقد الذين ينصبون الإمام الأعظم كما يفهم من تعبيره الآخر فقد يوافق قوله قول ابن كيسان: إن أولي الأمر هم أهل العقل والرأي.
وقلما تجد أحدا من المتأخرين قال قولا إلا وتجد لمن قبله قولا بمعناه، ولكن القول إذا لم يكن واضحا مفصلا حيث يحتاج إلى التفصيل فإنه يضيع ولا يفهم الجمهور المراد منه، وهذا الرازي على إسهابه وإطنابه في المسائل لم يحل المسألة كما يجب، إذ عبر تارة بأهل الإجماع، والمتبادر إلى الذهن أن المراد بهم المجتهدون في المسائل الفقهية، وتارة بأهل الحل والعقد والمتبادر إلى الذهن أنهم هم الذين يختارون الإمام الأعظم، وهذا ما فهمه أو اختاره النيسابوري وهو الصواب، وبه يكون الرازي قد حقق مسألة الإجماع أفضل التحقيق كما سنبينه.
قال السعد في شرح المقاصد: "وتنعقد الإمامة بطرق: أحدها بيعة أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء ووجوه الناس" إلخ، فأهل الحل والعقد الذين هم خواص الأمة من العلماء ورؤساء الجند والمصالح العامة هم أولو الأمر الذين تجب طاعتهم فيما يتفقون عليه ; لأن عامة الناس ودهماءهم يتبعونهم بارتياح واطمئنان، ولأنهم هم العارفون بالمصلحة التي يحتاج إلى تقرير الحكم فيها، ولأن اجتماعهم واتفاقهم ميسور، ولأجل ذلك كان إجماعهم بمعنى إجماع الأمة برمتها.
وهذه المعاني لا تتحقق بإجماع المجتهدين في الفقه إن أمكن أن يعرفوا، وأن يجتمعوا وأن تعلم الأمة بإجماعهم وتثق بهم. إذا تمهد هذا فالآية مبينة أصول الدين وشريعته والحكومة الإسلامية وهي:
الأصل الأول: القرآن الحكيم والعمل به هو طاعة الله تعالى.
الأصل الثاني: سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والعمل بها هو طاعة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
الأصل الثالث: إجماع أولي الأمر، وهم أهل الحل والعقد الذين تثق بهم الأمة من العلماء، والرؤساء في الجيش، والمصالح العامة كالتجارة والصناعة والزراعة، وكذا رؤساء العمال، والأحزاب، ومديرو الجرائد المحترمة ورؤساء تحريرها، وطاعتهم حينئذ هي طاعة أولي الأمر.
الأصل الرابع: عرض المسائل المتنازع فيها على القواعد والأحكام العامة المعلومة في الكتاب والسنة، وذلك قوله تعالى: { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول }.
فهذه الأصول الأربعة هي مصادر الشريعة، ولا بد من وجود جماعة يقومون بعرض المسائل التي يتنازع فيها على الكتاب والسنة، وهل يكونون من أولي الأمر أو ممن يختارهم أولو الأمر من علماء هذا الشأن؟ سيأتي بيان ذلك قريبا.
ويجب على الحكام الحكم بما يقرره أولو الأمر وتنفيذه، وبذلك تكون الدولة الإسلامية مؤلفة من جماعتين أو ثلاث:
الأولى: جماعة المبينين للأحكام الذين يعبر عنهم أهل هذا العصر بالهيئة التشريعية.
والثانية: جماعة الحاكمين والمنفذين وهم الذين يطلق عليهم اسم الهيئة التنفيذية.
والثالثة: جماعة المحكمين في التنازع ويجوز أن تكون طائفة من الجماعة الأولى.
ويجب على الأمة قبول هذه الأحكام والخضوع لها سرا وجهرا، وهي لا تكون بذلك خاضعة خانعة لأحد من البشر، ولا خارجة من دائرة توحيد الربوبية الذي شعاره إنما الشارع هو الله
{ { إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه } [يوسف: 40]، فإنها لم تعمل إلا بحكم الله تعالى أو حكم رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإذنه، أو حكم نفسها الذي استنبطه لها جماعة أهل الحل والعقد والعلم والخبرة من أفرادها الذين وثقت بهم واطمأنت بإخلاصهم وعدم اتفاقهم إلا على ما هو الأصلح لها، فهي بذلك تكون خاضعة لوجدانها لا تشعر باستبداد أحد فيها، ولا باستذلاله واستعباده لها، بل يصدق عليها ما دامت لحكومتها على هذا الوجه بقية: أنها أعز الناس نفوسا وأرفعهم رؤوسا، وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.
ولا بد لنا قبل أن نحرر مسألة التنازع من فتح باب البحث في اجتماع أولي الأمر وتقريرهم للأحكام في المصالح العامة التي تحتاج إليها الأمة، فقد علمنا أن أولي الأمر معناه أصحاب أمر الأمة في حكمها وإدارة مصالحها، وهو الأمر المشار إليه في قوله تعالى:
{ { وأمرهم شورى بينهم } [الشورى: 38]، ولا يمكن أن يكون شورى بين جميع أفراد الأمة، فتعين أن يكون شورى بين جماعة تمثل الأمة ويكون رأيها كرأي مجموع أفراد الأمة لعلمهم بالمصالح العامة وغيرتهم عليها، ولما لسائر أفراد الأمة من الثقة بهم والاطمئنان بحكمهم، بحيث تكون بالعمل به عاملة بحكم نفسها وخاضعة لقلبها وضميرها، وما هؤلاء إلا أهل الحل والعقد الذين تكرر ذكرهم في هذا السياق، ولكن كيف يجتمع هؤلاء ومن يجمعهم، ولماذا لم يوضع لهم نظام في الإسلام كنظام مجالس الشورى، التي تسمى مجالس النواب في عرف أهل هذا العصر؟
بحثنا في هذه المسألة في تفسير:
{ { وشاورهم في الأمر } [آل عمران: 159]، فبينا الحكم والأسباب لعدم وضع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا النظام، وكيف كانت خلافة الراشدين بالشورى بحسب حال زمانهم، وكيف أفسد الأمويون بعد ذلك حكومة الإسلام وهدموا قواعدها وسنوا للمسلمين سنة الحكومة الشخصية والمؤيدة بعصبية الحاكم، فعليهم وزرها ووزر من عمل بها ويعمل بها إلى يوم القيامة.
وصفوة ما هنالك أن هذا الأمر يختلف باختلاف أحوال الأمة الاجتماعية في الزمان والمكان، فلم يكن من الحكمة أن يوضع له نظام موافق لحال الصدر الأول وحدهم، والمسلمون قليل من العرب وأولو الأمر فيهم محصورون في الحجاز ويجعل عاما لكل زمان، ولو وضعه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لاتخذوه دينا وتقيدوا به في كل زمان ومكان، وهو لا يمكن أن يوافق كل زمان ومكان، ولكان إذا عمله باجتهاده غير عامل بالشورى، وإذا عمله بالشورى جاز أن يكون رأي المستشارين مخالفا لرأيه كما وقع في غزوة أحد ـ فيكون رأيهم قيدا للمسلمين مدى الدهر، ويتخذونه دينا كما اتخذوا كثيرا من آراء الفقهاء.
فالأمر الذي لا ريب فيه: أن الله تعالى هدانا إلى أفضل وأكمل الأصول والقواعد لنبني عليها حكومتنا ونقيم بها دولتنا، ووكل هذا البناء إلينا فأعطانا بذلك الحرية التامة والاستقلال الكامل في أمورنا الدنيوية ومصالحنا الاجتماعية.
وذلك أنه جعل أمرنا شورى بيننا ينظر فيه أهل المعرفة والمكانة الذين نثق بهم، ويقررون لنا في كل زمان ما تقوم به مصلحتنا وتسعد أمتنا، لا يتقيدون في ذلك بقيد إلا هداية الكتاب العزيز والسنة الصحيحة المبينة له، وليس فيهما قيود تمنع سير المدنية أو ترهق المسلمين عسرا في عمل من الأعمال، بل أساسهما اليسر، ورفع الحرج والعسر، وحظر الضار، وإباحة النافع، وكون ما حرم لذاته يباح للضرورة، وما حرم لسد الذريعة يباح للحاجة، ومراعاة العدل لذاته، ورد الأمانات إلى أهلها، ولكننا ما رعينا هذه الهداية حق رعايتها فقيدنا أنفسنا بألوف من القيود التي اخترعناها وسميناها دينا، فلما أقعدتنا هذه القيود عن مجاراة الأمم في المدنية والعمران صار حكامنا الذين خرجوا بنا عن هذه الأسس والأصول المقررة في الكتاب والسنة فريقين:
فريقا رضوا بالقعود واختاروا الموت على الحياة توهما منهم أنهم بمحافظتهم على قيودهم التقليدية محافظون على الإسلام، قائلين: إن الموت على ذلك خير من الحياة باتباع غير المسلمين في أصول حكومتهم.
وفريقا رأوا أنه لا بد لهم من تقليد غير المسلمين في قوانينهم الأساسية أو الفرعية، فكان كل من الفريقين بجهله حجة على الإسلام في الظاهر، والإسلام حجة عليهم في الحقيقة، فكتاب الله حي لا يموت، ونوره متألق لا يخفى، وإن جعلوا بينه وبينهم ألف حجاب
{ { قل فلله الحجة البالغة } [الأنعام: 149]. ليس بين القانون الأساسي الذي قررته هذه الآية على إيجازها، وبين القوانين الأساسية لأرقى حكومات الأرض في هذا الزمان إلا فرق يسير، نحن فيه أقرب إلى الصواب، وأثبت في الاتفاق منهم إذا نحن عملنا بما هدانا إليه ربنا. هم يقولون: إن مصدر القوانين الأمة، ونحن نقول بذلك في غير المنصوص في الكتاب والسنة كما قرره الإمام الرازي آنفا، والمنصوص قليل جدا.
وهم يقولون: إنه لا بد أن ينوب عن الأمة من يمثلها في ذلك حتى يكون ما يقررونه كأنها هي التي قررته، ونحن نقول ذلك أيضا كما علمت.
وهم يقولون: إن ذلك يعرف بالانتخاب ولهم فيه طرق مختلفة، ونحن لم يقيدنا القرآن بطريقة مخصوصة، فلنا أن نسلك في كل زمن ما نراه يؤدي إلى المقصد، ولكنه سمى هؤلاء الذين يمثلون الأمة أولي الأمر أي: أصحاب الشأن في الأمة الذين يرجع إليهم في مصالحها وتطمئن هي باتباعهم، وقد يكونون محصورين في مركز الحكومة في بعض الأوقات كما كانوا في الصدر الأول من الإسلام، فالستة الذين اختارهم عمر للشورى في انتخاب خلف له كانوا هم أولي الأمر ; ولذلك اجتمعت كلمة الأمة بانتخابهم، ولو بايع غيرهم أميرا لم يبايعوه لانشقت العصا وتفرقت الكلمة، وقد يكونون متفرقين في البلاد فلا بد حينئذ من جمعهم ولهم أن يضعوا قانونا لذلك، وهم يقولون: إن هؤلاء إذا تفرقوا وجب على الحكومة تنفيذ ما يتفقون عليه، وعلى الأمة الطاعة، ولهم أن يسقطوا الحاكم الذي لا ينفذ قانونهم، ونحن نقول بذلك، وهذا هو الإجماع الحقيقي الذي نعده من أصول شريعتنا.
وهم يقولون: إنهم إذا اختلفوا يجب العمل برأي الأكثر، وظاهر الآية على ما اختاره الأستاذ الإمام أن ما يختلفون فيه عندنا يرد إلى الكتاب والسنة ويعرض على أصولهما وقواعدهما، فيعمل بما يتفق معهما، ونحن نعلم كما يعلمون أن رأي الأكثرين ليس أولى بالصواب من رأي الأقلين، ولا سيما في هذا الزمان حيث يتكون الأكثر من حزب ينصر بعض أفراده بعضا في الحق والباطل، ويتواضعون على اتباع أقلهم لأكثرهم في خطئهم.
فإذا كان أعضاء المجلس مائتين منهم مائة وعشرة يتبعون حزبا من الأحزاب، وأراد زعماء هذا الحزب تقرير مسألة، فإذا أقنعوا بالدليل أو النفوذ ستين منهم يتبعهم الخمسون الآخرون وإن كانوا يعتقدون خطأهم، فإذا خالفهم سائر أهل المجلس يكون عدد الذين يعتقدون بطلان المسألة 140 والذين يعتقدون حقيقتها ستون، وهم أقل من النصف وتنفذ برأيهم.
الأكثرية لا تستلزم الحقية والإصابة في الحكم، ولا هي بالتي تطمئن الأمة إلى رأيها، فربما كان الأكثرون الذين يقررون مسألة مالية أو عسكرية مثلا ليس فيهم العدد الكافي من العارفين بها، فيظهر للجمهور خطؤها فتتزلزل ثقته بمجلس الأمة ويفتح باب الخلاف والتفرق، ويخشى أن تتألف الأحزاب للمقاومة، فإما أن يكره الجمهور المخالف على القبول إكراها، وحينئذ يكون الحكم للعصبية الغالبة، لا للأمة المتحدة، وإما أن تتطلع رؤوس الفتن وهذا ما يجب اتقاؤه وسد ذريعته في أساس الحكم وأصول السلطة، لئلا تهلك الأمة بقيام بعضها على بعض ويكون بأسها بينها شديدا فيتمكن بذلك الأعداء من مقاتلها، وقد نهينا في الكتاب والسنة عن التفرق والتنازع والخلاف التي تؤدي إلى مثل هذا البلاء.
فتبين بهذا حكمة عرض المسائل التي يتنازع فيها أولو الأمر على جماعة يردونها إلى الكتاب والسنة، ويحكمون فيها بقواعدهما التي أشرنا إلى بعضها آنفا، فإن الأمة كلها ترضى بفصل هذه الجماعة عندما تؤيده بدليله، وهل تكون هذه الجماعة من علماء الدين فقط أم من طبقات أولي الأمر المختلفة؟ للمفسرين في المخاطبين بقوله تعالى: { فإن تنازعتم } قولان مشهوران:
أحدهما: أنهم أولو الأمر على طريق الالتفات عن الغيبة إلى الخطاب، وعلى هذا يكون أولو الأمر مخيرين في طريقة رد الشيء المتنازع فيه إلى الله والرسول بين أن يكون ذلك بوساطة بعض منهم، أو من غيرهم، بشرط أن يكونا عالمين بالكتاب والسنة والمصالح العامة، فإن اتضح الأمر برده إلى الكتاب والسنة لوضوح دليله وجب العمل به حتما، وإلا كان المرجح هو الإمام الأعظم كما تدل عليه السنة في ترجيح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما اختلف فيه الصحابة ببدر وأحد، وعلى أي شيء يبنى ترجيحه؟ الذي ظهر لي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجح في أحد رأي الأكثرين مخالفا لرأيه، ورجح في بدر الرأي الموافق لرأيه ولم يكن هناك أكثرية ظاهرة، فيجب أن يراعي الإمام ذلك، ولا مجال في هذا للتفرق والخلاف.
والقول الثاني: أن المخاطبين هم غير أولي الأمر أي العامة، وصرح بعضهم بأن هذا يختص بأمر الدين فهو الذي لا يعمل فيه برأي أولي الأمر، والأولى أن يقال: هم مجموع الأمة، وعلى هذا يكون للأمة أن تقيم من يحكم فيما يختلف فيه أولو الأمر برده إلى الكتاب والسنة، ويأتي هنا ما ذكرناه آنفا في الاتفاق والاختلاف.
والتنازع من النزع وهو الجذب؛ لأن كل واحد من المختلفين يجذب الآخر إلى رأيه، أو يجذب حجته من يده ويلقي بها، والمسائل الدينية لا ينبغي أن يكون فيها تفرق ولا خلاف
{ { أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } [الشورى: 13]، لأن العمل فيها بالنص لا بالرأي كما تقدم.
ويؤيد القول الأول: آية الاستنباط الآتية وهي قوله تعالى:
{ { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } [النساء: 83]، فبين أن ما ينظر فيه أولو الأمر هو المسائل العامة كمسائل الأمن والخوف، وأن العامة لا ينبغي لها الخوض في ذلك بل عليها أن ترده إلى الرسول وإلى أولي الأمر، وأن من هؤلاء من يتولى أمر استنباطه وإقناع الآخرين به.
وهذه الآية تنفي أن يكون أولو الأمر هم الملوك والأمراء ; لأنهم لم يكن مع الرسول ملوك ولا أمراء، وأن يكونوا هم العارفين بأحكام الفتوى فقط ; لأن مسائل الأمن والخوف، وما يصلح للأمة في زمن الحرب يحتاج فيه إلى الرأي الذي يختلف باختلاف الزمان والمكان، ولا يكفي فيه معرفة أصول الفقه وفروعه ولا الاجتهاد بالمعنى الذي يقوله علماء الأصول، وقد بينا ذلك في مواضع كثيرة.
قال تعالى: { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } أي: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول إلخ، أو ردوا الشيء المتنازع فيه إلى الله ورسوله بعرضه على الكتاب والسنة إن كنتم تؤمنون بالله إلخ، فإن المؤمن لا يؤثر على حكم الله شيئا، والمؤمن باليوم الآخر يهتم بجزاء الآخرة أشد من اهتمامه بحظوظ الدنيا، فلو كان له هوى في المسألة المتنازع فيها فإنه يتركه لحكم الله ابتغاء مرضاته ومثوبته في اليوم الآخر، وفيه تعريض أو دليل على أن من لا يؤثر اتباع الكتاب والسنة على أهوائه وحظوظه ولا سيما في مسائل المصالح العامة فيه لا يكون مؤمنا بالله واليوم الآخر إيمانا يعتد به.
{ ذلك خير وأحسن تأويلا } هذا بيان لفائدة هذه الأحكام أو هذا الرد في الدنيا بعد بيان فائدته في الآخرة، كما هو اللائق بدين الفطرة الجامع بين مصالح الدارين، أي: ذلك الذي شرعناه لكم في تأسيس حكومتكم، وإصلاح أمركم، أو ذلك الرد للشيء المتنازع فيه إلى الله ورسوله خير لكم في نفسه ; لأنه أقوى أساس لحكومتكم والله أعلم منكم بما هو خير لكم، فلم يشرع لكم في كتابه وعلى لسان رسوله من الأصول والقواعد إلا ما هو قيام لمصالحكم ومنافعكم، وهو على كونه خيرا في نفسه أحسن تأويلا أي مآلا وعاقبة ; لأنه يقطع عرق التنازع ويسد ذرائع الفتن والمفاسد.
الأستاذ الإمام: قيل إن الشرط متعلق بالأخير وهو الرد إلى الله والرسول، والغرض منه تذكيرهم بالله حتى لا يستعملوا شهواتهم وحظوظهم في الرد، وقيل: متعلق بكل ما تقدم من طاعة الله وطاعة الرسول وأولي الأمر، وهو الظاهر.
وجمهور المفسرين على أنه تهديد من الله تعالى لمن يخالف أمرا من هذه الأوامر، وإخراج له من حظيرة الإيمان، ومعنى كونه خيرا: أنه أنفع من كل ما عداه، ولو جرى المسلمون عليه لما أصابهم ما أصابهم من الشقاء، فقد رأينا كيف سعد المهتدون به، وكيف شقي الذين أعرضوا عنه واستبدوا بالأمر، وأما كونه أحسن تأويلا فهو أن الأوامر والأحكام إنما تكون صورا معقولة وعبارات مقولة حتى يعمل بها فتظهر فائدتها وأثرها، فعلمنا بالآخرة ليس إلا صورا ذهنية لا نعرف الحقائق التي تنطبق عليها إلا إذا صرنا إليها.
أقول: تلك أصول الشريعة الإسلامية المدنية السياسية القضائية لا ترى فيها عوجا ولا أمتا، ولا تبصر فيها غلا ولا قيدا، وليس فيها عسر ولا حرج، ولا مجال فيها للاضطراب والهرج، ولكن لم يعمل بها إلا الخلفاء الراشدون عليهم الرضوان، بحسب ما اقتضته حال الأمة في ذلك الزمان، فكانوا مع ذلك حجة الله على نوع الإنسان، إذ لم تكتحل بمثل عدلهم عين الدنيا إلى الآن.
وإذا كان الله تعالى قد أكمل لنا بالإسلام دين الأنبياء أصولا وفروعا، ووضع لنا أصول الكمال للشريعة المدنية، ووكل إلينا أمر الترقي فيها بمراعاة تلك الأصول، فكان ينبغي لنا بعد اتساع ملك الإسلام ودخول الممالك العامرة التي سبقت لها المدنية في دائرة سلطانه أن نرتقي في نظام الحكومة المدنية، ويكون خلفنا فيها أرقى من سلفنا لما للخلف من أسباب ووسائل هذا الترقي، ولكنهم حولوا الحكومة عن أسباب الشورى كما تقدم، وأضاعوا الأصول التي أمروا بإقامتها في هذه الآية، فجرى أكثرهم على أن أولي الأمر هم أفراد الأمراء والسلاطين، وإن كانوا جائرين.
ومنهم من قال: إنهم العلماء المجتهدون في الفقه خاصة، ثم قالوا: إنهم قد انقرضوا، وأنه لا يجوز أن يخلفهم أحد وأن الإجماع خاص بهم، وكذلك استنباط الأحكام الفرعية خاص بهم، ومهما اشتدت حاجة المسلمين إلى استنباط أحكام لوقائع وأقضية جديدة، فلا يجوز لأحد أن يستنبط لها حكما، وأن ما تنازع فيه المسلمون لا يجوز رده إلى الله ورسوله بعرضه على الكتاب والسنة والعمل بما يهديان إليه، بل يجب أن يقلد كل طائفة من المسلمين من شاءوا من المختلفين في الأحكام الشخصية ويتبعوا الحكام في غيرها، ولا ضرر في اختلافهم وتفرقهم شيعا، وإن تفرقت كلمتهم في الأحكام والقضايا وفي العبادات حتى صار الحنفي يمكث في المسجد وإمام الشافعية يصلي الصبح بالمنتسبين إلى مذهبه فلا يصلي هذا الحنفي معهم حتى يجيء إمام مذهبه فيأتم به.
وقف المسلمون في دينهم وشريعتهم عند الكتب التي ألفها المقلدون في القرون الوسطى وما بعدها، ولكن الزمان ما وقف حتى صار حكامهم فريقين كما تقدم، وصار الناس ينسبون كل ما هم عليه من الضعف والوهن والجهل والفقر إلى دينهم وشريعتهم، وسرى هذا الاعتقاد إلى الذين يتعلمون علوم أوربا وقوانينها، فمنهم من مرق من الإسلام وفضل تلك القوانين على الشريعة، اعتقادا منهم أن الشريعة هي ما يعرفه من كتب الفقه، وهو لا يعرف من القرآن ولا من السنة شيئا.
ومنهم من تركوا العمل بهذا الفقه في السياسة وأحكام العقوبات، وأحكام المعاملات المدنية، واستبدل بها القوانين الأوربية، فصارت حكومتهم أمثل مما كانت عليه فقويت بذلك حجة أهل القوانين الوضعية على أهل الشريعة الإلهية، فظنوا أنها حجة على الشريعة نفسها، وقام طلاب إصلاح الحكومة في الدولتين العثمانية والإيرانية من المتفرنجين يطلبون تقليد الإفرنج في إصلاح قوانين حكومتيهما ; لأنهم جاهلون بما في القرآن الحكيم من أصول حكومة الشورى وتفويضها إلى أولي الأمر الذين تثق بهم الأمة وتعول على رأيهم إذا كان.
فقهاؤنا لا يبالون بما يقول فينا أهل العصر لأجلهم ولأجل بعض كتب الفقه، فيجب أن يبالوا ولا يرضوا بأن ينسب الجمود إلى أصل الشريعة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، نعم إنهم لا ينكرون هذه الأصول، ولكنهم يقولون: إنه لا يوجد في المسلمين الآن ولا قبل الآن بقرون من هم أهل للإجماع ولا لاستنباط الأحكام التي تحتاج إليها الأمة من الكتاب والسنة، وما دام المسلمون راضين بهذا الحكم عليهم، فإن حالهم لا تتغير، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
ثم أقول بعد هذا: إنه قد بقي في الآية مباحث لا يتجلى معناها تمام التجلي وتتم الفائدة منه إلا بها، فنأتي بما يفتح الله تعالى به منها، وإن كان فيه شيء من تكرار بعض ما تقدم.
المبحث الأول في أولي الأمر في الصدر الأول:
أولو الأمر في كل قوم وكل بلد وكل قبيلة معروفون؛ فإنهم هم الذين يثق بهم الناس في أمور دينهم، ومصالح دنياهم؛ لاعتقادهم أنهم أوسع معرفة وأخلص في النصيحة، وقد كانوا في عصر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكونون معه حيث كان، وكذلك كانوا في المدينة قبل الفتوحات، ثم تفرقوا، وكانوا يحتاجون إليهم في مبايعة الإمام (الخليفة) وفي الشورى، وفي السياسة، والإدارة والقضاء، فأما البيعة فكانوا يرسلون إلى البعيد من أمراء الأجناد ورؤوس الناس في البلاد من يأخذ بيعتهم، ولما لم يبايع معاوية أمير المؤمنين عليا كرم الله وجهه ـ وكان له عصبة قوية ـ قال من قال من الناس: إنه كان مجتهدا في حربه وقد كان في أتباعه من هو حسن النية، كما كان فيهم محب الفتنة، ومن قال فيهم أمير المؤمنين: " أتباع كل ناعق "، ولو كانت البيعة في عنقه لما كان ثم مجال لاشتباه من كان مخلصا في أمره.
وأما القضاء فكانوا يجمعون له من حضر من أهل العلم والرأي ورؤساء الناس، فيأخذون برأيهم فيما لا نص فيه.
روى الدارمي والبيهقي عن ميمون بن مهران قال: " كان أبو بكر إذا ورد عليه خصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به بينهم، وإن لم يجد في كتاب الله نظر هل كانت من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيه سنة، فإن علمها قضى بها، فإن لم يعلمها خرج فسأل المسلمين، فقال: أتاني كذا وكذا فنظرت في كتاب الله وفي سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلم أجد في ذلك شيئا، فهل تعلمون أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قضى في ذلك بقضاء؟ فربما قام إليه الرهط، فقالوا: نعم قضى فيه بكذا وكذا، فيأخذ بقضاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويقول عند ذلك:
"الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا" ، وإن أعياه ذلك دعا رءوس المسلمين وعلماءهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به.
وإن عمر بن الخطاب كان يفعل ذلك، فإن أعياه أن يجد شيئا في الكتاب أو السنة نظر هل كان لأبي بكر فيه قضاء فإن وجده قضى به، فإن لم يجد دعا رءوس المسلمين وعلماءهم واستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به "، فليتأمل الفقيه تفرقة أبي بكر بين من يسأل عن الرواية لقضاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبين من يستشار في وضع حكم جديد أو استنباطه، فأما الرواية فكان يسأل عنها عامة الناس، وأما الاستشارة فكان يجمع لها الرءوس والعلماء وهم أولو الأمر الذين أمر الله تعالى بالرد إليهم، ولم يذكر الراوي ما كان يعمل الخليفتان إذا اختلف أولئك المستشارون في القضية.
وروى ابن عساكر عن شريح القاضي قال: قال لي عمر بن الخطاب: " أن اقض بما استبان لك من كتاب الله، فإن لم تعلم كل كتاب الله فاقض بما استبان لك من قضاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فإن لم تعلم كل أقضية رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاقض بما استبان لك من أمر الأئمة المهتدين، فإن لم تعلم كل ما قضت به الأئمة فاجتهد رأيك واستشر أهل العلم والصلاح " اهـ، والرواية ضعيفة، وفيها من الغرابة لفظ الأئمة ولم يكن وقتئذ أئمة متعددون يعتمد على قضائهم لبنائه على الكتاب والسنة.
وروى الطبراني في الأوسط، وأبو سعيد في القضاء عن علي قال:
" قلت: يا رسول الله إن عرض لي أمر لم ينزل فيه قضاء في أمره ولا سنة كيف تأمرني؟ قال: تجعلونه شورى بين أهل الفقه والعابدين من المؤمنين ولا تقض فيه برأيك خاصة" ، وتأمل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "تجعلونه" والعدل به عن "تجعله" ـ والخطاب للمفرد ـ فإن فيه أن هذا الجعل من حق جماعة المؤمنين، والمراد بالفقه معرفة مقاصد الشريعة وحكمها، لا علم أحكام الفروع المعروف، فإن هذه تسمية محدثة كما بينه الغزالي في الإحياء، والحكيم الترمذي، والشاطبي وغيرهم، وكان رءوس المسلمين في ذلك العصر من أهل هذا الفقه غالبا.
وأما استشارتهم في الأمور الإدارية فمثالها ما ورد في الصحيحين وغيرهما: أن عمر خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أهل الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فأخبروه أن الوباء وقع بالشام.
قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين فدعوتهم له، فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا، فقال بعضهم: قد خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء. فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي الأنصار فدعوتهم فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي من كان هنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فدعوتهم فلم يختلف عليه رجلان فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر أي: مسافر، والظهر: ظهر الراحلة، فأصبحوا عليه، فقال أبو عبيدة: أفرارا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة وكان عمر يكره خلافه ـ نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف، وكان متغيبا في بعض حاجته، فقال: إن عندي من هذا علما سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول:
"إذا سمعتم به ـ أي الوباء ـ بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه" ، قال: فحمد الله عمر بن الخطاب، ثم انصرف اهـ.
أقول: وفي هذه الواقعة من العبرة أن عمر ـ رضي الله عنه ـ حكم مشيخة قريش في الخلاف بين جمهور المهاجرين والأنصار، فلما اتفقوا على ترجيح أحد الرأيين أنفذه، وهذا نحو ما اخترناه في تفسير الآية، وفيه أيضا أنه لا يشترط في الرجوع إلى رأي أولي الأمر أن يكونوا محيطين بما ورد في السنة من قضاء وعمل أو حديث، وصرح بهذا الأصوليون في صفات المجتهد.
كان الخلفاء الراشدون وقضاتهم العادلون يعرفون رءوس الناس، وأهل العلم والرأي والدين، ويعرفون أنهم هم أولو الأمر فيدعونهم عند الحاجة، وكانت الأمة في مجموعها رقيبة على أميرها يراجعه حتى أضعف رجالها ونسائها فيما يخطئ فيه، كما راجعت المرأة عمر في الصداق، فاعترف بخطئه وإصابتها على المنبر.
فكيف بأولي الأمر الذين يتبعهم خلق كثير؟ ولم يكن لأحد من الخلفاء الراشدين عصبية تمنعه من المسلمين إن أراد أن يستبد فيهم إلا ما كان لعثمان من عصبية بني أمية، ولم يرد هو أن يستبد بقوتهم وعصبيتهم، ولما أخذته الأمة بظلمهم لم يغنوا عنه شيئا، فالخلفاء الراشدون كانوا مخلصين في مشاركة أولي الأمر من الأمة في الحكم، والتقيد برأيهم فيما لا نصف فيه لقوة دينهم ا; ولأن هذا هو الذي كان متعينا، ولم يكن في استطاعة أحد منهم ـ والإسلام في عنفوان قوته ـ أن يتخذ له عصبية يستبد بها دون أولي الأمر إن شاء ـ على أنه لقوة دينه لا يشاء ـ وهذه الحال من الأسباب التي حالت دون الشعور بالحاجة إلى وضع أولي الأمر لنظام يكفل دوام العمل بالشورى الشرعية، وتقييد الأمراء والحكام برأي أولي الأمر.
المسألة الثانية في حال أولي الأمر بعد الراشدين:
بنو أمية هم الذين زعزعوا بناء السلطة الإسلامية على أساس الشورى ; إذ كونوا لأنفسهم عصبية هدموا بها سلطة أولي الأمر من سائر المسلمين بالحيلة والقوة وحصروها في أنفسهم، فكان الأمير مقيدا بسلطة قومه لا بسلطة أولي الأمر من جميع المسلمين، فخرجوا عن هداية الآية شيئا فشيئا، ثم جاء العباسيون بعصبية الأعاجم من الفرس فالترك.
ثم كان من أمر التغلب بين ملوك الطوائف بعصبياتهم ما كان، فلم تكن الحكومة الإسلامية مبنية على أساسها من طاعة الله ورسوله وأولي الأمر، بل جعلت أولي الأمر كالعدم في أمر السلطة العامة، وكان تحري طاعة الله ورسوله بالعدل ورد الأمانات إلى أهلها يختلف باختلاف درجات الأمراء والحكام في العلم والدين، فكانت أحكام عمر بن عبد العزيز كأحكام الخلفاء الراشدين في العدل، ولكنه لم يستطع أن يرد أمانة الإمامة الكبرى إلى أهلها؛ لأن عصبية قومه كانت محتكرة لها حبا في السلطة والرياسة.
ثم كانت سلطة الملوك العثمانيين بعصبيتهم القومية، وقوة جيوشهم المعروفة بالإنكشارية، ولم يكن هؤلاء من أولي الأمر، أصحاب الفقه والرأي، الذين هم في المسلمين أهل الحل والعقد، بل كانوا أخلاطا من المسلمين والكافرين يأخذهم السلاطين ويربونهم تربية حربية، ثم كونوا جندا إسلاميا، ثم جندا مختلطا.
المسألة الثالثة: أولو الأمر في زماننا وكيف يجتمعون:
ذكرنا في تفسير الآية أن أولي الأمر في زماننا هذا هم كبار العلماء ورؤساء الجند والقضاة وكبار التجار والزراع، وأصحاب المصالح العامة، ومديرو الجمعيات والشركات، وزعماء الأحزاب ونابغو الكتاب والأطباء والمحامين ـ وكلاء الدعاوى ـ الذين تثق بهم الأمة في مصالحها وترجع إليهم في مشكلاتها حيث كانوا.
وأهل كل بلد يعرفون من يوثق به عندهم ويحترم رأيه فيهم، ويسهل على رئيس الحكومة في كل بلد أن يعرفهم، وأن يجمعهم للشورى إن شاء، ولكن الحكام في هذا الزمان مؤيدون بقوة الجند الذي تربيه الحكومة على الطاعة العمياء حتى لو أمرته أن يهدم المساجد، ويقتل أولي الأمر الموثوق بهم عند أمته لفعل، فلا يشعر الحاكم بالحاجة إلى أولي الأمر إلا لإفسادهم وإفساد الناس بهم، ولا يريدون أن يقرب إليه منهم إلا المتملق المدهن.
فاشتدت الحاجة لأجل هذا إلى إعادة السلطة إلى أولي الأمر بقوة الأمة ورأيها وتكافلها وقد جرت الدول التي بنت سلطتها على أساس الشورى أن تعهد إلى الأمة بانتخاب من تثق بهم لوضع القوانين العامة للمملكة، والمراقبة على الحكومة العليا في تنفيذها، ومن تثق بهم للمحاكم القضائية والمجالس الإدارية، ولا يكون هذا الانتخاب شرعيا عندنا إلا إذا كان للأمة الاختيار التام في الانتخاب بدون ضغط من الحكومة ولا من غيرها ولا ترغيب ولا ترهيب، ومن تمام ذلك أن تعرف الأمة حقها في هذا الانتخاب والغرض منه، فإذا وقع انتخاب غيرهم بنفوذ الحكومة أو غيرها كان باطلا شرعا، ولم يكن للمنتخبين سلطة أولي الأمر، ويتبع ذلك أن طاعتهم لا تكون واجبة شرعا بحكم الآية، وإنما تدخل في باب سلطة التغلب، فمثل من ينتخب رجلا ليكون نائبا عن الأمة فيما يسمونه السلطة التشريعية وهو مكره على هذا الانتخاب، كمثل من يتزوج أو يشتري بالإكراه لا تحل له امرأته، ولا سلعته، وقد ذكر الأستاذ الإمام اشتراط حرية الانتخاب كما تقدم، ولكن الإجمال لا يغني في هذا المقام عن التفصيل.
خاطب الله الأمة كلها بإقامة القواعد الأربع المنصوصة في الآية بدليل قوله للمخاطبين: وأولي الأمر منكم، فإذا لم يقم أهل الحل والعقد من أنفسهم بالاجتماع لإقامتها، فالواجب على مجموع الأمة مطالبتهم بذلك، ولا يترك الأمر فوضى، ثم يبحث عن إجماع أهل الحل والعقد، أو الاجتهاد وعن استنباط أهل الاستنباط في رواية الرواة: قال فلان كذا، وسكت الناس عن كذا، وهذه المسألة لا نعرف فيها خلافا فهي إجماعية، كما وقع منذ زمن الرواية والتدوين والتصنيف إلى اليوم.
فالله تعالى قد ذكر أولي الأمر هنا بصيغة الجمع، وكذلك ذكرهم بصيغة الجمع في الآية الآتية التي ينوط فيها الاستنباط بهم بقوله:
{ { لعلمه الذين يستنبطونه منهم } [النساء: 83]، فعلم من ذلك أنه يجب أن يكون لأولي الأمر مجمع معروف عند الأمة لترد إليهم فيه المسائل المتنازع فيها والمسائل العامة من أمر الأمن والخوف؛ ليحكموا فيها.
والظاهر أن طاعتهم تجب على الحكومة وأفراد الأمة إذا هم أجمعوا، وأنه يجب على الحاكم والمحكوم رد المسائل العامة والمتنازع فيها إليهم سواء اجتمعوا بأنفسهم أو بطلب الأمة، أو بطلب الحكومة بشرط أن يكونوا هم هم.
فإن قيل: أرأيت إذا انتخبت الأمة غير من ذكرتم وفاقا للرازي، والنيسابوري أنهم أولو الأمر، ليكونوا هم المستنبطين لما تحتاج إليه من الأحكام والقوانين، والمشرفين على الحكام والمستشارين لهم، أيكون أولو الأمر من وصفتم، وإن لم تنتخبهم الأمة، أم يكونون هم المنتخبين من قبل الأمة وإن فقدوا تلك الصفات؟.
أقول في الجواب: إن الأمة إذا كانت عالمة بمعنى الآية، ومختارة في الانتخاب عالمة بالغرض منه لا يمكن أن تنتخب غير من ذكرنا أنهم هم أهل المكانة الموثوق بعلمهم ورأيهم وإخلاصهم عندها ; لأن هذا هو الذي تقوم به مصلحتها الدينية والدنيوية، ويتحقق به العمل بما هداها الله إليه في كتابه، فانتخابها إياهم أثر طبيعي لثقتها بهم ولعلمها بهدي دينها، وإن كانت جاهلة بما ذكر أو غير مختارة في الانتخاب فلا يكون لانتخابها صفة شرعية.
وإنما الخطاب في الآية لأمة الإجابة في الإسلام وهي المذعنة لأمر الإسلام ونهيه العالمة بما لا بد من علمه فيه، ولعل جهل الذين كانوا يدخلون في الإسلام أفواجا في الصدر الأول بهذا الحكم، وعدم معرفتهم لأولي الأمر، كان أحد الأسباب في عدم العمل بقاعدة الانتخاب.
فإن قيل: أيجب انتخاب جميع أهل الحل والعقد لأجل الاجتماع لاستنباط الأحكام العامة التي تحتاج إليها الأمة في سياستها وإدارتها العامة أم يكتفى ببعضهم؟ أقول: الظاهر أنه يكتفى بأن يقوم بذلك من تحصل بهم الكفاية برضى الباقين، فإذا فرضنا أن المملكة مؤلفة من مائة مدينة أو ناحية في كل واحدة منها عشرة من أولي الأمر الذين يثق أهلها بعلمهم ورأيهم، وينقادون لهم يكون مجموع أولي الأمر ألف نسمة، فإذا هم اختاروا من أنفسهم بالانتخاب، أو القرعة مائة أو مائتين للقيام بما ذكر حصل المقصد بذلك وكان ما يقررونه إجماعا من الأمة.
ويرجع الناس إلى الباقين في الأمور الخاصة بمكانهم كالشورى في القضاء والإدارة، وهذا ما يظهر لي أنه أقرب ما يتحقق به العمل بالآية.
المسألة الرابعة: أولو الأمر هم أهل الإجماع:
بينا أن أصول الشريعة الإسلامية هي الأربعة المبينة في هذه الآية، وطبق ذلك بعض المفسرين الأصوليين على الأصول الأربعة التي عليها مدار علم أصول الفقه ـ وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس ـ وجعلوا الآية حجة على مشروعية الإجماع، وهي لعمري أقوى دلالة عليه من آية:
{ { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى } [النساء: 115]، الآية، بل لا تدل هذه على الإجماع الأصولي كما سيأتي في تفسيرها من هذه السورة، وجعلوا معنى رد المتنازع فيه إلى الله ورسوله هو القياس الأصولي.
واشترطوا أن يكون أهل الإجماع هم المجتهدين، وكذلك أهل القياس، وعلى هذا يشترط في أعضاء مجلس النواب الذين يسمون في عرف العثمانيين بالمبعوثين وفي أعضاء المحاكم والمجالس أن يكونوا من المجتهدين، ولا يكون لهم صفة تشريعية بغير ذلك، وهذا هو الذي يفهم من علم الأصول، وقد علمت رأينا فيه وسنزيدك إيضاحا.
قال الرازي في تفسيره الكبير في المسألة الثانية من مسائل الآية: اعلم أن هذه الآية آية شريفة مشتملة على أكثر علم أصول الفقه، وذلك لأن الفقهاء زعموا أن أصول الشريعة أربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، وهذه الآية مشتملة على تقرير الأصول الأربعة، أما الكتاب والسنة فقد وقعت الإشارة إليهما بقوله تعالى: { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول }، فإن قيل: أليس أن طاعة الرسول هي طاعة الله فما معنى هذا العطف؟ قلنا: قال القاضي: الفائدة في ذلك بيان الدلالتين، فالكتاب يدل على أمر الله، ثم نعلم منه أمر الرسول لا محالة، والسنة تدل على أمر الرسول، ثم نعلم منه أمر الله لا محالة.
ثم قال في المسألة الثالثة: اعلم أن قوله: { وأولي الأمر منكم } يدل عندنا على أن إجماع الأمة حجة، انتهى، وقد تقدم تفصيل كلامه في إثبات ذلك ورد قول من قال: إن المراد بأولي الأمر الأئمة المعصومون، ومن قال: إنهم الأمراء والسلاطين، وجزمه بأن المراد من يمثل الأمة وهم أهل الحل والعقد.
ثم قال في المسألة الرابعة: اعلم أن قوله: { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } يدل على أن القياس حجة، والذي يدل على ذلك أن قوله: { فإن تنازعتم في شيء } إما أن يكون المراد، فإن اختلفتم في شيء حكمه منصوص عليه في الكتاب أو السنة أو الإجماع، أو المراد فإن اختلفتم في شيء حكمه غير منصوص عليه في شيء من هذه الثلاثة، والأول باطل؛ لأن على ذلك التقدير وجب عليه طاعته فكان ذلك داخلا تحت قوله: { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } وحينئذ يصير قوله: فإن تنازعتم في شيء { فردوه إلى الله والرسول } إعادة لعين ما مضى وإنه غير جائز، وإذا بطل هذا القسم تعين الثاني، وهو أن المراد فإن تنازعتم في شيء حكمه غير مذكور في الكتاب والسنة والإجماع، وإذا كان كذلك لم يكن المراد من قوله: { فردوه إلى الله والرسول } طلب حكمه من نصوص الكتاب والسنة، فوجب أن يكون المراد رد حكمه إلى الأحكام المنصوصة في الوقائع المشابهة له وذلك هو القياس، فثبت أن الآية دالة على الأمر بالقياس.
ثم أورد الرازي على الأخير أنه يجوز أن يكون المراد برد المتنازع فيه إلى الله ورسوله تفويض أمره إليهما وعدم الحكم فيه بشيء، أو إلى البراءة الأصلية، وأجاب عنهما بإسهابه المعتاد، وإنني أذكر عبارة النيسابوري في الإجماع والقياس ورد هذين الإيرادين ـ وإن تقدم بعضها ـ لأنه اختصر فيها ما طال به الرازي، قال بعد ما قيل في مسألة أولي الأمر غير ما ادعاه: " وإذا ثبت أن حمل الآية على هذه الوجوه غير مناسب تعين أن يكون المعصوم كل الأمة، أي: أهل الحل والعقد وأصحاب الاعتبار والآراء، فالمراد ما اجتمعت عليه الأمة وهو المدعى.
قال: وأما القياس، فذلك قوله: { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول }، إذ ليس المراد من رده إلى الله والرسول رده إلى الكتاب والسنة والإجماع وإلا كان تكرارا لما تقدم، ولا تفويض علمه إلى الله ورسوله والسكوت عنه ; لأن الواقعة ربما كانت لا تحتمل الإهمال وتفتقر إلى قطع مادة الشغب والخصومة فيها بنفي أو إثبات، ولا الإحالة على البراءة الأصلية فإنها معلومة بحكم العقل، فالرد إليها لا يكون ردا إلى الله والرسول، فإذا ردها إلى الأحكام المنصوصة في الوقائع المشابهة لها فهذا هو معنى القياس.
" فحاصل الآية الخطاب لجميع المكلفين بطاعة الله، ثم لمن عدا الرسول بطاعته، ثم لما سوى أهل الحل والعقد بطاعتهم، ثم أمر أهل استنباط الأحكام من مداركها ـ إن وقع اختلاف واشتباه في الناس في حكم واقعة ما ـ أن يستخرجوا لها وجوها من نظائرها وأشباهها، فما أحسن هذا الترتيب "، انتهى كلام النيسابوري، والأظهر المختار أن رد ما لا نص فيه إلى الله والرسول يتحقق بعرضه على ما فيهما من القواعد العامة كاليسر، ورفع الحرج من الأمة، وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يخير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وكمنع الضرر والضرار، وكون المحظور لذاته يباح للضرورة، والمحظور لسد الذريعة يباح للحاجة، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا، ويلي هذا عرض الجزئيات في المعاملات على أشباهها، وتقدم أيضا أن المراد بالرد هنا: رد ما يتنازع فيه أولو الأمر، وأما ما يتنازع فيه غيرهم في الأمور العامة فيرد إليهم عملا بآية الاستنباط [النساء: 83].
المسألة الخامسة: الإجماع والاجتهاد عند الأصوليين:
قد علمت أنهم جعلوا الآية حجة على أن الإجماع أصل من أصول هذه الشريعة، ورأيت أن بعضهم يقول: إجماع الأمة، وإجماع أهل الحل والعقد الذين يمثلون الأمة، ثم إنهم صرحوا مع ذلك بأن المراد بهذا هو الإجماع الأصولي فما هو تعريفه؟
الإجماع في اصطلاح جمهور الأصوليين: " هو اتفاق مجتهدي هذه الأمة بعد وفاة نبيها في عصر على أمر أي أمر كان، فلا عبرة فيه باتفاق بعض المجتهدين ولو الأكثر، ولا باتفاق المقلدين، ولا باتفاق غير المسلمين، كالذين يكفرون ببدعتهم، والذين يجعلون الإسلام جنسية لهم لا دينا، فإذا فرضنا أن عصرا خلا من المجتهدين (كما يقول جماهير المشتغلين بالعلم من المنتمين إلى السنة في هذا العصر)، واتفق جميع المسلمين فيه على حكم في واقعة عرضت ليس فيها نص شرعي فإن اتفاقهم كلهم لا يعد إجماعا، وربما يقول متفقهتنا: إنهم يكونون بذلك كلهم عصاة لله تعالى باجتهادهم هذا، ولا يبعد أن يقول المتنطع من هؤلاء المتفقهة: إنهم إذا استحلوا وضع الحكم والعمل به وعده شرعيا يكونون مرتدين عن الإسلام، ونعوذ بالله من مثل هذا التنطع الذي يجيز عقل صاحبه خطأ الملايين، ويقول بعصمة الاثنين فأكثر من المجتهدين.
واعتبر بعضهم وفاق العوام للمجتهدين ليصح أن الأمة أجمعت، إذ عبر بعضهم كالغزالي في التعريف باتفاق الأمة، وعبر في جمع الجوامع " بمجتهد الأمة " لصدقه على الاثنين فأكثر والمفرد المضاف يعم، وأراد أنه لو لم يوجد إلا اثنان من المجتهدين وأجمعا وجب العمل بإجماعهما بشرطه، ولو كانا امرأتين أو عبدين وفيه خلاف، وهناك خلافات أخرى في قيود الحد ومفهومها وفي مسائل أخرى تتعلق بالإجماع.
وقال في كشاف اصطلاحات الفنون: الاجتهاد في اصطلاح الأصوليين استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي، والمستفرغ وسعه في ذلك التحصيل يسمى مجتهدا، ثم قال: فائدة للمجتهد شرطان:
الأول: معرفة البارئ تعالى وصفاته، وتصديق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمعجزاته وسائر ما يتوقف عليه علم الإيمان، كل ذلك بأدلة إجمالية إن لم يقدر على التحقيق والتفصيل على ما هو دأب المتبحر في علم الكلام.
والثاني: أن يكون عالما بمدارك الأحكام وأقسامها وطرق إثباتها ووجوه دلالتها وتفاصيل شرائطها ومراتبها، وجهات ترجيحها عند تعارضها والتفصي عن الاعتراضات الواردة عليها، فيحتاج إلى معرفة حال الرواة، وطرق الجرح والتعديل، وأقسام النصوص المتعلقة بالأحكام وأنواع العلوم الأدبية من اللغة والصرف والنحو وغير ذلك، هذا في حق المجتهد المطلق الذي يجتهد في الشرع.
وأما المجتهد في مسألة فيكفيه علم ما يتعلق بها ولا يضره الجهل بما لا يتعلق بها، هذا كله خلاصة ما في العضدي وحواشيه وغيرها اهـ.
وإنني أذكر لك خلاصة ما في كتاب جمع الجوامع في ذلك، وهو أن المجتهد عندهم هو الفقيه، ويشترط في تحقق الاجتهاد أن يكون بالغا عاقلا ذا ملكة يدرك بها المعلوم، فقيه النفس، عارفا بالدليل العقلي، أي ـ البراءة الأصلية ـ ذا درجة وسطى في اللغة العربية وفنونها من النحو والصرف والبلاغة، والأصول والكتاب والسنة.
وصرح بأنه يكفي في زماننا الرجوع إلى أئمة الحديث، أي: إلى مصنفاتهم في الجرح والتعديل وما يصح وما لا يصح، وبأنه لا يشترط علم الكلام، ولا الذكورة، ولا الحرية، فيجوز أن يتألف المجتهدون أهل الإجماع من النساء والعبيد.
أقول: ليس تحصيل هذا الاجتهاد الذي ذكروه بالأمر العسير ولا بالذي يحتاج فيه إلى اشتغال أشق من اشتغال الذين يحصلون درجات العلوم العالية عند علماء هذا العصر في الأمم الحية كالحقوق والطب والفلسفة، ومع ذلك نرى جماهير علماء التقليد منعوه فلا تتوجه نفوس الطلاب إلى تحصيله.
وظاهر أن تعريف جمهور الأصوليين للإجماع وتخصيصه بالمجتهدين المعروفين بما ذكر لا يتفق مع قول القائلين: إنهم أهل الحل والعقد، ولا على المصلحة العامة، فإن العالمين بما ذكروه من شروط المجتهد، لا يعرفون مصالح الأمة والدولة في الأمور العامة كمسائل الأمن، والخوف، والسلم والحرب والأموال والإدارة والسياسة، بل لا يوثق بعلمهم الذي اشترطوه في أحكام القضاء في هذا العصر الذي تجدد للناس فيه من طرق المعاملات ما لم يكن له نظير في العصور الأولى فيقيسوه به.
ثم إن ما ذكروه في تعريف الاجتهاد والمجتهد لا يقتضي أن يكون المجتهدون معصومين في اتفاقهم على الأمر الذي يسمى إجماعا، ولا سيما على قول الجمهور الذين يجيزون إجماع العدد القليل كالاثنين والثلاثة، وغلا بعض أهل الأصول، فقالوا: إن عصمتهم كعصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وجعل بعضهم من ذلك اتفاقهم على العمل، وإن لم يصدر منهم قول فيه، فقالوا: فعلهم كفعل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ واختاره الجويني خلافا للباقلاني.
وصرحوا بأن وقوع الخطأ منهم محال، أخذوا هذا من كون الأمة لا تجتمع على ضلالة وهذا معنى آخر، على أنهم يجيزون خطأ الأمة كلها إذا خلت من المجتهدين كما تقدم، فنسأل الله تعالى أن يحفظ علينا العقل والدين، ونحمده أن كانت هذه الآراء مختلفا فيها بين الباحثين، حتى منع بعضهم هذا الاجتماع ألبتة وأحاله، وبعضهم لم يعتد بإجماع الصحابة، واعتد بعضهم بإجماع العترة النبوية، وبعضهم بإجماع أهل المدينة في العصر الأول، واشترط بعضهم عدد التواتر، وبعضهم موافقة العوام.
وبعد هذا وذاك نقول: إن حصر المجتهدين بالمعنى الذي ذكروه لا يمكن، والعلم باتفاقهم على تفرقهم لا يمكن ; ولهذا قال بعض العلماء: إن هذا الإجماع الأصولي غير ممكن، وإذا أمكن فالعلم به غير ممكن، وقال بعضهم: يمكن العلم بالإجماع السكوتي دون القولي، وهو مختلف في كونه إجماعا، قال بعضهم: إنه حجة ظنية لا إجماع، وقال بعضهم: إنه ليس بإجماع ولا حجة، والقول الثالث: إنه إجماع ظني، وقد يقال: السكوتي لا سبيل إلى العلم به أيضا ; لأن عدم العلم بالقول من زيد لا يقتضي عدم صدور القول منه، وكان يطلق بعض السلف الإجماع على المسألة التي رويت عن جمع من الصحابة، ولم ينقل أن أحدا خالفهم فيها، وهذا غير الإجماع الذي يعتد به جمهور الأصوليين.
وروي عن الإمام أحمد أنه قال: " من ادعى الإجماع فقد كذب، لعل الناس قد اختلفوا، هذه دعوى بشر المريسي والأصم ـ من المعتزلة ـ ولكن يقول: لا أعلم الناس اختلفوا أو لم يبلغه " نقل هذا في المسودة، ثم قال: وكذلك نقل المروزي عنه أنه قال: كيف يجوز للرجل أن يقول " أجمعوا " إذا سمعتهم يقولون أجمعوا فاتهمهم، لو قال: إني لا أعلم خلافا كان (أحسن) قال في المسودة: وكذلك نقل أبو طالب عنه أنه قال: هذا كذب، ما علمه أن الناس مجتمعون؟ ولكن يقول: لا أعلم فيه اختلافا فهو أحسن من قوله: إجماع الناس، وكذلك نقل عنه أبو الحارث: لا ينبغي لأحد أن يدعي الإجماع لعل الناس اختلفوا، وحمل القاضي إنكار أحمد للإجماع على الورع، وحمله تقي الدين ابن تيمية على إجماع المخالفين بعد الصحابة، أو بعدهم، وبعد التابعين، أو بعد القرون الثلاثة.
وإنما أولوا كلامه المقرون بالدليل الذي يرد تأويلهم ; لأنه وقع في كلامه لفظ الإجماع كاستدلاله على أن التكبير من غداة يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق بإجماع عمر وعلي وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس، ذكره القاضي، وهذا إجماع مقيد غير الإجماع المطلق الذي نفاه.
كان بعض السلف يذكرون الإجماع في الصدر الأول بمعناه اللغوي، ويظن بعض الناس أنه الإجماع الذي اصطلح عليه أهل فن الأصول الذي حدث بعدهم، ولهذا ظن القاضي أن كلام الإمام أحمد اختلف في الاعتداد بالإجماع تارة وإنكاره تارة أخرى وليس كذلك.
الإجماع في اللغة جمع الأمر وإحكامه والعزم عليه، يقال: أجمعوا الأمر والرأي، وأجمعوا عليه إذا أحكموه وضموا ما انتشر وتفرق منه، وعزموا عليه عزما لا تردد فيه، ولا يكون ذلك في غير الضروريات إلا بعد الروية والتدقيق والمرادة في الشورى، قال تعالى في حكاية عن نوح عليه السلام:
{ فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون } [يونس: 71]، وذلك أنه ليس بعد الإجماع إلا الإمضاء والتنفيذ، وقال في إخوة يوسف: { { فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب } [يوسف: 15]، ثم قال فيهم { { وما منت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون } [يوسف: 102] وقال حكاية لقول فرعون للسحرة: { فأجمعوا كيدكم } [يوسف: 64]، والإجماع للأمر يكون من الواحد ومن الجمع.
قال في لسان العرب: وفي الحديث:
"من لم يجمع الصيام من الليل فلا صيام له" الإجماع: إحكام النية والعزيمة، أجمعت الرأي وأزمعته وعزمت عليه بمعنى، ومنه حديث كعب بن مالك: " أجمعت صدقة " وفي حديث صلاة المسافر: " ما لم أجمع مكثا " أي: ما لم أعزم على الإقامة، وأجمع أمره جعله جميعا بعد ما كان متفرقا، قال: وتفرقه أنه جعل يديره فيقول مرة: أفعل كذا، ومرة أفعل كذا، فلما عزم على أمر محكم أجمعه أي: جعله جميعا، قال: وكذلك يقال: أجمعت النهب، والنهب إبل القوم أغار عليها اللصوص، وكانت متفرقة في مراعيها فجمعوها من كل ناحية حتى اجتمعت لهم، ثم طردوها وساقوها، فإذا اجتمعت قيل: أجمعوها... والإجماع أن تجمع الشيء المتفرق جميعا، فإذا جعلته جميعا بقي جميعا، ولم يكد يتفرق كالرأي المعزوم عليه الممضي، وأجمع المطر الأرض إذا سال رغابها وجهادها كلها، وفلاة مجمعة ومجمعة (بتشديد الميم) يجتمع فيها القوم، ولا يتفرقون خوف الضلال ونحوه كأنها هي التي تجمعهم، انتهى المراد منه.
فعلم من هذا: أن الإجماع في اللغة ليس هو اتفاق الناس أو طائفة منهم على أمر مطلقا، وإنما هو إحكام الأمر المتفرق وعزمه لئلا يتفرق، ويكون من الواحد وأكثر من الواحد ولا يقتضي أن يقوم به كل أهل الشأن، بل يكفي أن يبرمه من يمتنع التفرق بإبرامهم له، فرجوع عمر بمن كان معه عن الوباء كان بالإجماع اللغوي دون الأصولي.
ومنه قول عمر، وابن مسعود وغيرهما من الصحابة: " اقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن فبما في سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فإن لم يكن فبما أجمع عليه الصالحون " وفي لفظ: " ما قضى به الصالحون ".
ومنه قول الإمام أحمد أنه عمل في مسألة التكبير بإجماع عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، أي: ما جزموا به وعزموه بالعمل، فأين هذا من إجماع الأصول الذي معناه أن يتفق جميع المجتهدين على أمر ما، وكان المجتهدون في العصر الأول ألوفا كثيرة لا يمكن حصرهم فلذلك أنكر الإمام أحمد دعوى العلم بإجماعهم على المعنى الذي اصطلح الناس عليه في زمنه، وكذلك أنكره غيره.
وما زال أهل الاستقلال في الفهم يبحثون في ذلك، وقد زرت الأستاذ الإمام في العيد منذ اثنتي عشرة سنة فألفيت عنده أحمد فتحي باشا زغلول العالم القانوني وإذا هو يسأله في الإجماع كيف يمكن أن يقع، وأن يعلم به مع عدم حصر أهله ولا تعارفهم؟ ورأيت الأستاذرحمه الله تعالى وافقه على استنكاره، فقلت: إن الذي أعتقده في الإجماع هو أن يجتمع العلماء النابغون الموثوق بهم ويتذاكروا في المسائل التي لا نص فيها، ويكون ما يتفقون عليه هو المجمع عليه حتى ينعقد إجماع آخر منهم، أو ممن بعدهم، فقال الأستاذ الإمام: هذا حسن لو كان، ولكن ليس هو الإجماع الذي يذكرونه.
وجملة القول: أن الأصل في الإجماع أن يكون إجماع الأمة، كما صرح بهم بعضهم ولا سبيل إلى اجتماع أفراد الأمة، فيحصل المراد بمن يمثلها وهم أولو الأمر بمعنى الذي بيناه مرارا ولا بد من اجتماعهم، وللمتأخرين منهم أن ينقضوا ما أجمع عليه من قبلهم، بل وما أجمعوا هم عليه إذا رأوا المصلحة في غيره، فإن وجوب طاعتهم لأجل المصلحة، لا لأجل العصمة كما قيل في الأصول، والمصلحة تظهر وتخفى وتختلف باختلاف الأوقات والأحوال من القوة والضعف وغير ذلك.
وهذا غير ما حظره السلف من مخالفة الإجماع الذي كانوا يعنون به ما جرى عليه الصحابة، وكذا التابعون من هدي الدين بغير خلاف يصح عن أحد من علمائهم.
وظاهر كلام الشافعي في رسالته أن هذا هو الإجماع الذي يعتد به، وأرى أن أحمد كان على هذا، ومن البديهي أنه لا يعقل أن يتفق أهل العصر الأول على أمر ديني ولا يكون له أصل في الدين، وأين هذا مما يعزى إلى المجتهدين بعدهم من قول أو سكوت مما لم يكن معروفا في خبر القرون، ولا سيما إذا لم يوافقهم عليه سائر المسلمين؟.
وقد احتجوا على دعوى عدم جواز مضادة الإجماع لإجماع قبله بحديث:
"لا تجتمع أمتي على ضلالة" والحديث رواه أحمد والطبراني في الكبير مرفوعا، والحاكم في مستدركه عن ابن عباس بلفظ: لا تجتمع هذه الأمة على ضلالة وجاء المرفوع بلفظ: "سألت ربي ألا تجتمع أمتي على ضلالة وأعطانيها" والحديث لا يدل على ذلك، لا في إجماع جمهور الأصوليين المتأخرين الذي لا يصدق عليه أنه إجماع الأمة ولا في غيره ; لأن الإجماع يكون عن اجتهاد، والمخطئ في اجتهاده لا يعد ضالا وإنما يعد عاملا بما وجب عليه وإن ظهر له خطأ اجتهاده بعد ذلك، كمن يجتهد في القبلة ويصلي عدة صلوات، ثم يظهر أن اجتهاده كان خطأ، فإن صلاته صحيحة.
فهذا هو الحكم في العبادة التي لا تختلف أحكامها كما تختلف المصالح القضائية والسياسية التي يجري فيها الاجتهاد العام والإجماع.
وذكر في جمع الجوامع أن مضادة الإجماع لإجماع قبله فيه خلاف أبي عبد الله البصري الذي يرى أن الإجماع الأول مغيا بوجود الثاني.
وفي المسودة عن ابن عقيل الحنبلي قال: يجوز ترك ما ثبت وجوبه بالإجماع إذا تغيرت حاله، مثل الإجماع على جواز الصلاة بالتيمم فإذا وجد الماء فيها ـ أي: وهو في الصلاة ـ خرج منها بل وجب وبه قالت الحنفية.
وقال بعض الشافعية: لا ينتقل من الإجماع إلا بإجماع مثله.
وهذا الذي ذكره يقتضي جواز مخالفته بدليل شرعي غير الإجماع، ويبطل قول من زعم أن الاستصحاب تمسك بالإجماع كما في مدلول النص، فالأقوال في المسألة ثلاثة، اهـ.
المسألة السادسة: القياس الأصولي:
عرفه ابن السبكي ـ تبعا للباقلاني ـ بأنه حمل معلوم على معلوم لمساواته في علة حكمه، وابن الحاجب تبعا للآمدي مساواة فرع الأصل في علة حكمه، وفيه خلاف، فمنعه ابن حزم في الأحكام الشرعية مطلقا، وابن عبدان إلا في حال الضرورة، ومنع داود غير الجلي منه.
ومنعه أبو حنيفة في الحدود والكفارات والرخص والتقديرات، وقوم في الأسباب والشروط والموانع، وقوم في أصول العبادات، صرح بذلك كله في جمع الجوامع وعلى الأخير الأستاذ الإمام.
وأركان القياس عندهم أربعة: 1 - الأصل المشبه به، أي: المقيس عليه. 2 - حكم الأصل، قالوا: ومن شرطه أن يثبت بغير القياس. 3 - الفرع المشبه بالأصل وهو المقيس، ومن شرطه وجود تمام علة حكم الأصل فيه. 4 - العلة، قالوا: وهي المعرف للحكم. أقول: وفيها معترك الأنظار، فمنها ما هو بديهي ككون الإسكار هو علة تحريم الخمر، ومنها ما لا يدل عليه عقل، ولا نقل، كالأقوال المشهورة في علة تحريم الربا: الكيل والوزن والطعم، وقد اكتفى الحنفية في العلة بأي نوع من التشبيه، والحنابلة على أنه لا بد من علة معينة تجمع بين الفرع والأصل حتى يجوز الرد والحمل وهو الأقرب، ولا يظهر حمل الأمر برد المتنازع فيه إلى الله والرسول على عرضه على مثل تلك العلل والتشبيهات التي لا نص عليها في كتاب ولا في السنة ولا هي متبادرة منهما، على أن ذلك لا يزيل التنازع، بل ربما يزيده، وإذا امتنع هذا وامتنع أن يكون المراد محصورا في طلب النصوص في نفس الشيء المتنازع فيه، تعين أن يكون المراد ما قلناه من قبل، وهو ما يشمل رده إلى مقاصدهما أو قواعدهما العامة وما يتبادر من علل الأحكام فيهما بحيث لا يكون للتنازع فيه مجال.
هذا والظاهر من تعريف الأصوليين للاجتهاد والمجتهد أنه لا يشترط فيه عندهم الإحاطة بما يمكن معرفته من الأحاديث، بل صرح بعضهم بأن سنن أبي داود كافية لما ينبغي العلم به منها، ويؤيد ذلك عمل الصحابة وقضاتهم، فقد كان الخلفاء الراشدون يسألون عن السنة وقضاء النبي من حضر ولا يستقصون في الطلب، فإن لم يجدوا عملوا بالرأي الذي مناطه المصلحة، كما فعل عمر وأصحابه في واقعة الوباء قبل أن يخبرهم عبد الرحمن بن عوف بما عنده فيها من الحديث المرفوع، ولكن طلب النصوص من الكتب الآن أسهل من طلبه من الناس قبل تدوين الحديث.
قال ابن تيمية: هل يجوز الحكم بالقياس قبل الطلب التام للنصوص؟ هذه المسألة لها ثلاث صور: الأولى: الحكم به قبل طلبه من النصوص المعروفة، وهذا لا يجوز بلا تردد.
الثانية: الحكم به قبل الطلب من نصوص لا يعرفها مع رجاء الوجود لو طلبها، فهذه طريقة الحنفية تقتضي جوازه، ومذهب الشافعي وأحمد وفقهاء الحديث أنه لا يجوز، ولهذا جعلوا القياس بمنزلة التيمم، وهم لا يجيزون التيمم إلا إذا غلب على الظن عدم الماء فكذا النص، وهو معنى قول الإمام أحمد: ما تصنع بالقياس، وفي الحديث ما يغنيك عنه! وهذه المسألة أم في الفرق بين أهل الحديث وبين أهل الرأي، لكن يتفاوت أهل الحديث في طلب النصوص وطلب الحكم منها، وهذه المسألة تشبه جواز الاجتهاد بحضور النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وفيها لأصحابنا وجهان مع أن قول الحنفية هناك أنه لا يجوز، لكن قد يقولون: وجود النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس بمنزلة وجود النص.
الثالثة: إذا أيس من الظفر بنص بحيث يغلب على الظن عدمه فهناك يجوز بلا تردد، اهـ.
المسألة السابعة: بناء اجتهاد أولي الأمر على المصالح العامة:
إذا علمت أن اجتهاد أولي الأمر هو الأصل الثالث من أصول الشريعة الإسلامية، وأنهم إذا أجمعوا رأيهم وجب على أفراد الأمة وعلى حكامها العمل به، فاعلم أن اجتهادهم خاص في المختار عندنا بالمعاملات القضائية والسياسية، والمدنية دون العبادات والأحكام الشخصية إذا لم ترفع إلى القضاء، وأنه ينبغي أن يبنى على قاعدة جلب المصالح وحفظها ودرء المفاسد وإزالتها، ويظن بعض المشتغلين بالعلم أن جعل المصالح المرسلة أي - المطلقة - أصلا من أصول الفقه خاص بالمالكية، لكن قال القرافي: إنها عند التحقيق ثابتة في جميع المذاهب.
ومن الأدلة عليها حديث: لا ضرر، ولا ضرار رواه أحمد وابن ماجه عن ابن عباس، والثاني عن عبادة، وعلم السيوطي عليه في الجامع الصغير بالحسن، ورواه الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم، ولها دلائل أخرى أشرنا إلى بعضها في محاورات المصلح والمقلد، والأصل فيها رفع الحرج والعسر، وتقديم كل ما فيه اليسر على الأمة وهذا ثابت في القرآن، وأشرنا إليه في سياق تفسير الآية التي نحن بصدد تفسيرها.
ومما يتفرع على ذلك، التعارض بين المصلحة العامة وبين العمل ببعض النصوص، وهو يرجع في الحقيقة إلى التعارض بين النصوص؛ لأن مراعاة المصلحة مؤيدة بها، وقلما ترى في الكتب المتداولة بحثا مشبعا في هذه المسألة المهمة التي تتوقف عليها حياة الشريعة والعمل بها، وإنك لترى المشتغلين بالفقه لا يبالون بتقديم نصوص علماء مذاهبهم على العمل بما تحفظ به المصلحة العامة، فما بالك بنصوص الكتاب والسنة؟
ولم نر أحدا توسع في هذه المسألة كما توسع فيها نجم الدين الطوفي من أئمة الحنابلة توفي سنة 716 هـ في شرح الحديث الذي ذكرناه آنفا، وقد نشرنا كلامه في ذلك في المجلد العاشر من المنار، وقاعدته: أن المصلحة مقدمة حتى على النص والإجماع.
وقد عرفها ـ بحسب العرف ـ بأنها السبب المؤدي إلى الصلاح والنفع كالتجارة المؤدية إلى الربح، وبحسب الشرع: بأنها السبب المؤدي إلى مقصود الشارع عبادة أو عادة، وأورد في الاستدلال عليها من القرآن سبعة أوجه من قوله تعالى:
{ { ياأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون } [يونس: 57، 58]، وأقول: إن في القرآن دلائل كثيرة أصرح من هاتين الآيتين في الدلالة عليها، والكلام في تفضيل ذلك بدلائل الكتاب والسنة وعمل الصحابة يطول ويمكن أن يدخل في كتاب خاص، ولعلنا نوفق لبيانه في مقدمة التفسير التي نودعها كليات فقه القرآن وحكمته العليا.
على أن الطوفي لم يقتصر على وجوه تينك الآيتين بل ذكر دلائل أخرى من الكتاب والسنة ومسائل الإجماع، ورد ما يعترض به على هذه القاعدة وبين ما تتعارض به المصالح، وطرق الترجيح فيها، فليراجعه من شاء في المجلد العاشر (من المنار من ص 745 - 770].
المسألة الثامنة ـ في الأخبار والآثار في الجماعة بمعنى الإجماع:
بينا أن لفظ الإجماع لم يرد في الكتاب والسنة بالمعنى المعروف في اصطلاح الأصوليين، ولكن ورد في الأخبار والآثار لفظ الجماعة بالمعنى المقصود من الإجماع الأصولي الصحيح المختار، ويقابله الاختلاف والتفرق اللذان نهى الله عنهما ورسوله نهيا شديدا.
ومن الأخبار في ذلك حديث: من فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه رواه أحمد وأبو داود والحاكم عن أبي ذر، وابن أبي شيبة عن حذيفة، ورواه الحاكم عن ابن عمر بلفظ: من خرج من الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه حتى يراجعه، ومن مات وليس عليه إمام جماعة فإن موتته موتة جاهلية وبقريب من هذا اللفظ الطبراني عن ابن عباس، والنسائي عن حذيفة بلفظ: من فارق الجماعة شبرا فقد فارق الإسلام ورواه غيرهم أيضا بألفاظ متقاربة.
ومنها حديث: يد الله على الجماعة رواه الترمذي عن ابن عباس، والطبراني عن عرفجة بزيادة: " والشيطان مع من خالف الجماعة يركض " وحديث: " لن تجتمع أمتي على ضلالة أبدا، وإن يد الله على الجماعة " رواه بهذا اللفظ الطبراني عن ابن عمر، وتقدم في المسألة الخامسة ذكر الشطر الأول منه.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح عند ذكر قول البخاري: " باب وكذلك جعلناكم أمة وسطا، وما أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بلزوم الجماعة وهم أهل العلم "، وورد الأمر بلزوم الجماعة في عدة أحاديث منها ما أخرجه الترمذي مصححا من حديث الحارث بن الحارث الأشعري، فذكر حديثا طويلا فيه: وأنا آمركم بخمس أمرني الله بهن: السمع، والطاعة، والجهاد، والهجرة، والجماعة ; فإن من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه.
وفي خطبة عمر المشهورة التي خطبها في الجابية: عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، وفيه: من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، وقال ابن بطال: مراد الباب الحض على الاعتصام بالجماعة لقوله:
{ { لتكونوا شهداء على الناس } [البقرة: 143]، وشرط قبول الشهادة العدالة، وقد ثبتت لهم هذه الصفة بقوله: وسطا والوسط العدل.
والمراد بالجماعة أهل الحل والعقد من كل عصر، وقال الكرماني: مقتضى الأمر بلزوم الجماعة أنه يلزم المكلف متابعة ما أجمع عليه المجتهدون وهم المراد بقوله - أي البخاري - وهم أهل العلم، والآية التي ترجم عليها احتج بها أهل الأصول لكون الإجماع حجة؛ لأنهم عدلوا بقوله تعالى:
{ { جعلناكم أمة وسطا } [البقرة: 143]، أي عدولا، ومقتضى ذلك أنهم عصموا من الخطأ فيما أجمعوا عليه قولا وفعلا، انتهى ما أورده في الفتح، وقوله: " عصموا " إلخ، ممنوع كما تقدم.
أقول: إن التعديل للأمة، وإنما يمثل الأمة أهل الحل والعقد، وهم الذين يناط بهم أمرها ويجب عليها اتباعهم فيما أجمعوه وعزموه لا المجتهدون، خاصة الذين ذكرهم جمهور المصنفين في الأصول الذين قد يكونون رجلين حرين أو عبدين أو امرأتين، فإن هذين أو هاتين لا يصح أن يصدق عليهما نص وكذلك جعلناكم أمة وسطا فلله در ابن بطال فقد جاء بالحق، وما بعد الحق إلا الضلال.
وقال البخاري في باب قوله تعالى:
{ { وأمرهم شورى بينهم } [الشورى: 38]، من أواخر كتاب الاعتصام: وكان الأئمة بعد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضع الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداء بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وذكر قتال أبي بكر لمانعي الزكاة من غير استشارة عملا بالنص، ثم قال: وكان القراء أصحاب مشورة عمر كهولا كانوا أو شبانا، وكان وقافا عند كتاب الله عز وجل اهـ.
المسألة التاسعة: في توسيد الأمر إلى غير أولي الأمر: أخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة المرفوع إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
"إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة" وتقدم في تفسير الآية السابقة أن الأستاذ الإمام، قال: إن المراد بالساعة في هذا الحديث ساعة الأمة التي تقوم فيها قيامتها أي: تدول دولتها على حد: من مات فقد قامت قيامته، وفي " إحياء علوم الدين ": أن القيامة قيامتان القيامة الصغرى وهي قيامة أفراد الناس بالموت، والقيامة الكبرى وهي قيامتهم كلهم بانتهاء هذا العالم والدخول في عالم الآخرة، وقد يقال: إن قيامة الجماعات.
كقيامة الأفراد، والتجوز بالساعة في هذا المقام أقرب إلى اللغة من التجوز بلفظ القيامة ; فإن القيامة من القيام، وهي:
{ { يوم يقوم الناس لرب العالمين } [المطففين: 6]، وأما الساعة فهي الوقت المعين مطلقا، ولا يزال الناطقون بالعربية يقولون: جاءت ساعة فلان، أو جاء وقته، والقرينة تعين المراد بذلك الوقت وتلك الساعة، وإن خروج أمر الناس من يد أهله ـ القادرين على القيام به كما يجب ـ سبب لفساد أمرهم ومدن للساعة التي يهلكون فيها بالظلم، أو بخرج الأمر من أيديهم.
ثم راجعت مفردات الراغب فرأيت له في تفسير الساعات تقسيما ثلاثيا: الساعة الكبرى بعث الناس للحساب، والوسطى موت أهل القرن الواحد، والصغرى موت الإنسان الواحد، وحمل على الأخير بعض الآيات.
توسيد الأمة الإسلامية أمرها إلى غير أهله لا يمكن أن يكون باختيارها، وهي عالمة بحقوقها قادرة على جعلها حيث جعلها كتاب الله تعالى، وإنما يسلبها المتغلبون هذا الحق بجهلها وعصبيتهم التي يعلو نفوذها نفوذ أولي الأمر، حتى لا يجرؤ أحد منهم على أمر ولا نهي، أو يعرض نفسه للسجن أو النفي أو القتل.
هذا ما كان وهذا هو سبب سقوط تلك الممالك الواسعة، وذهاب تلك الدول العظيمة ووقوع ما بقي في أيدي المسلمين تحت وصاية الدول العزيزة، التي لم تعتز وتقو إلا بجعل أمرها بيد الأمة، وتوسيد هذا الأمر إلى أهله، وهو هو الذي تركه المسلمون من إرشاد دينهم، وما تيسر لهم ترك أصول الشورى وتقديس الملوك والأمراء المستبدين إلا في الزمن الطويل بعد أن حجبوا الأمة عن كتاب ربها وسنة نبيها فجهلت حقوقها، ثم أفسدوا عليها بعض أولي الأمر منها، وأسقطوا قيمة الآخرين بضروب من المكايد الدينية والدنيوية.
نعم، كان الجهل بالكتاب والسنة هو الذي مكن لأهل العصبية في بلاد المسلمين بالتدريج، فكان أول ملك من ملوك العصبية قريبا من الخلفاء الراشدين في احترام أولي الأمر الذين تثق بهم الأمة لدينهم وعلمهم قبل أن تقوى العصبية عليهم، واعتبر ذلك بأخبار معاوية ومن بعده، دخل أبو مسلم الخولاني على معاوية، فقال: السلام عليك أيها الأجير، فقالوا: قل السلام عليك أيها الأمير، فقال: السلام عليك أيها الأجير، فأعادوا قولهم وأعاد قوله، فقال معاوية: دعوا أبا مسلم فإنه أعلم بما يقول، ونظم ذلك أبو العلاء المعري فقال:

مل المقام فكم أعاشر أمة أمرت بغير صلاحها أمراؤها
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها فعدوا مصالحها وهم أجراؤها

وقد عني الملوك المستبدون بعد ذلك بجذب العلماء إليهم بسلاسل الذهب والفضة والرتب والمناصب، وكان غيرهم أشد انجذابا، وقضى الله أمرا كان مفعولا.
وضع هؤلاء العلماء الرسميون قاعدة لأمرائهم ولأنفسهم هدموا بها القواعد التي قام بها أمر الدين والدنيا في الإسلام، وهي أنه يجوز أن يكون أولياء الأمور كالأئمة والولاة والقضاة والمفتين فاقدين للشروط الشرعية التي دل على وجوبها واشتراطها الكتاب والسنة وإن صرح بها أئمة الأصول والفقه، قالوا: يجوز إذا فقد الحائزون لتلك الشروط، مثال ذلك أنه يشترط فيهم العلم الاستقلالي المعبر عنه بالاجتهاد، وقد صرح هؤلاء بجواز تقليد الجاهل ـ أي: المقلد ـ وعدوه من الضرورة، وأطلق الكثيرون هذا القول، وجرى عليه العمل، وذلك من توسيد الأمر إلى غير أهله الذي يقرب خطوات ساعة هلاك الأمة، ومن علاماتها ذهاب الأمانة وظهور الخيانة، ولا خيانة أشد من توسيد الأمر إلى الجاهلين.
روى مسلم، وأبو داود من حديث ابن عباس: من استعمل عاملا من المسلمين، وهو يعلم أن فيهم أولى بذلك منه، وأعلم بكتاب الله وسنة نبيه، فقد خان الله ورسوله وجميع المسلمين وإن لحديث البخاري الذي تقدم في توسيد الأمر إلى غير أهله مقدمة، وذلك أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: إذا ضيعت الأمانة انتظر الساعة قيل: يا رسول الله، وما إضاعتها؟ فقال: " إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة " والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
أطلق أعوان الملوك والأمراء القول بجواز تولية الجاهل، وكذا فاقد غير العلم من شروط الولايات كالعدالة الشرعية، ولم يصرح الكثيرون منهم بأن هذه ضرورة مؤقتة، وأنه يجب على الأمة إذا فقد شرط من شروط إقامة أمر دينها أو دنياها أن تسعى في إقامته، ومن صرح بذلك من أفراد المحققين ذهب قوله في الجمهور الجاهل عبثا، والأمة كلها تكون آثمة إذا فقد أولو الأمر والأمراء والحكام ما يجب فيهم من العلم والتقوى، ويجب عليها السعي والعمل لإيجاد الصالحين لذلك الذين يقيمون أمر الدين والدنيا، وأن تكون هي التي تحكم بفقد تلك الشروط كلها، أو بعضها وتقدره بقدره.
قال ابن تيمية في كتابه: السياسة الشرعية: الأئمة متفقون على أنه لا بد في المتولي من أن يكون عدلا أهلا للشهادة، واختلفوا في اشتراط العلم هل يجب أن يكون مجتهدا، أو يجوز أن يكون مقلدا، أو الواجب تولية الأمثل فالأمثل كيفما تيسر على ثلاثة أقوال، وبسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع، ومع أنه يجوز تولية غير الأهل للضرورة، إذا كان أصلح الموجود، فيجب مع ذلك السعي في إصلاح الأحوال حتى يكمل في الناس ما لا بد لهم منه من أمور الولايات والإمارات ونحوها كما يجب على المعسر في وفاء دينه، وإن كان في الحال لا يطلب منه إلا ما يقدر عليه، وكما يجب الاستعداد للجهاد بإعداد القوة ورباط الخيل في وقت سقوطه للعجز، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، بخلاف الاستطاعة في الحج ونحوها فإنه لا يجب تحصيلها ; لأن الوجوب هناك لا يتم إلا بها اهـ. وجملة القول: أنه ما وسد أمر الولايات العامة والخاصة إلى غير أهله إلا بجهل أولي الأمر وضعفهم، ثم بإفساد الأمراء لهم، والواجب على الأمة أن تعرف ما يشترط فيهم وتعيد إليهم حقهم ليعيدوا إليها حقها.
المسألة العاشرة: الاستدلال بالآية على بطلان القياس:
استدل بعض الظاهرية بالآية على بطلان القياس، كما استدل بها غيرهم على إثباته وقد تقدم، ووجه هؤلاء أن الله تعالى أمر برد المتنازع فيه إلى الله والرسول، أي: إلى نصوص الكتاب والسنة، ولو كان القياس مشروعا لقال: فإن تنازعتم في شيء فقيسوه على أشباهه أو نحوا من هذا.
والصواب أنها ليست نصا أصوليا في إثبات القياس كما قال الرازي وغيره، ولا في منعه كما قال هؤلاء، أما كونها ليست نصا في مشروعية القياس، فلما بيناه من جواز التنازع مع وجود النص قبل علم المتنازعين به، فإذا تحروا رد المسألة إلى الكتاب والسنة بغير طريق القياس، وأما كونها ليست نصا على منعه فلأن ما لا نص فيه إذا حمل على مماثله من الأحكام الثابتة مع علتها بالنص يصدق عليه أنه رد إلى ذلك النص.
نعم، إنها تدل على بطلان القياس على أقوال الفقهاء ـ وإن كانوا مجتهدين ـ كما نراه كثيرا في كتب الفقه، يقولون: هذا جائز أو حرام أو واجب قياسا على قولهم كذا.
ومثله القياس بالعلل المنتزعة عن بعد بالتمحل الذي يوجد في النص ما ينفيه ولا يوجد ما يثبته، ومنه قياس الدم على البول في نقض الوضوء عند بعض الفقهاء، ولو كان هذا قياسا صحيحا لمضت به السنة وتوفرت فيه النصوص لكثرة الوقائع فيه في العصر الأول ; لأن الدماء كانت تسيل كثيرا من جميع تلك الأجساد الطاهرة؛ دفاعا عن الدين والنفس وإعلاء لكلمة الحق، وفي السنة ما يدل على بطلان هذا القياس وهو التفرقة بين الحيض والاستحاضة، وقد قاس النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والصحابة رضي الله عنهم وتبعهم من بعدهم.
ولا يعارض ثبوت القياس العمل بالبراءة الأصلية، وكون الأصل في الأشياء الإباحة كما هو ظاهر، فإن قيل: إن القياس في الدين باطل بنص الأحاديث والقرآن، أما الأحاديث فمنها حديث: ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي هريرة، وفي معناه أحاديث كثيرة في الصحيحين والسنن، ورواية أحمد ومسلم بلفظ: ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم وحديث: إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها قال النووي في الأربعين: حديث حسن رواه الدراقطني وغيره.
فإن هذه الأحاديث تدل على أن الدين لا يؤخذ إلا من نص الشارع، وأن من مقاصد الحنيفية السمحة ألا تكون تكاليفها كثيرة، فتكثيرها بقياس المسكوت عنه على المنصوص مخالف لما أراده الله فيها من اليسر، ولنصوص هذه الأحاديث المأخوذة من عموم القرآن ; إذ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما كان إلا مبينا للقرآن في قوله تعالى:
{ { ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين } [المائدة: 101، 102]، والتعبير بالعفو وتأكيده بالمغفرة والحلم مما يدل على أن المسكوت عنه قد يكون شبيها بالمنصوص، بحيث لو سئل عنه حين كان ينزل القرآن ـ أي وقت شرع الدين لكان الجواب إلحاقه بالمنصوص وزيادة التكليف به، وإنما سكت الله عنه عفوا منه تعالى ورحمة بنا، ولنفاة القياس أن يقولوا: وإذا كان الأمر كذلك فالقياس باطل، وتفسير رد المتنازع فيه إلى الله ورسوله به باطل.
والجواب: أن الآية والأحاديث خاصة بأمر الدين المحض من العبادات والحلال والحرام بحيث يزيد فيها عبادة، أو يحرم شيئا لا يدل النص على تحريمه، وهذا هو الذي تجرأ عليه الكثيرون من المسلمين الذين هم ليسوا أهلا للاجتهاد والقياس، فكم قالوا ـ ولا نزال نسمعهم يقولون ـ هذا حرام وهذا حلال، بما تصف ألسنتهم الكذب والتهجم على شرع ما لم يأذن به الله، وإذا تنازعوا في شيء ردوه إلى كلام هؤلاء المقلدين، حتى إن من يأخذ الإسلام عنهم يراه غير الحنيفية السمحة المبنية على أساس اليسر وموافقة الفطرة، يراه دينا لا يكاد يحتمل من شدة الضيق والعسر وكثرة التكاليف، والله ورسوله بريئان من كل هذه الزيادات.
وأما القياس الذي قد تدل الآية على الإذن به فهو ما يتعلق بأحكام المعاملات القضائية والسياسية والإدارية التي فوض الله تعالى الاجتهاد فيها إلى أولي الأمر ; لأنها تختلف باختلاف الأحوال والأزمنة، ولا يمكن استيفاء كل ما يحتاج إليه منها بالنصوص.
المسألة الحادية عشرة: في زعم بعض المقلدين أن الآية تدل على وجوب التقليد:
هذه المسألة أظهر من سابقتها في جعل الآية دليلا على ضد المراد منها فإنها مبينة لأركان الاجتهاد وشارعة له، وقد جعلها بعض الجاهلين حجة على وجوب التقليد، فزعموا أن تفسير أولي الأمر بالعلماء المجتهدين يدل على ذلك، وهو ظاهر البطلان، فإن الذين فسروا بذلك أرادوا به أن إجماعهم حجة يجب العمل به على المجتهد وغير المجتهد، لا أن كل عالم مجتهد يجب أن يتبع، فإن طاعة أفراد المجتهدين تتعارض باختلافهم، وطاعة الجميع إذا أجمعوا هي الممكنة، على أن الطاعة غير الاتباع، قال صاحب " فتح البيان في مقاصد القرآن " ما نصه:
" ومن جملة ما استدل به المقلدة هذه الآية، قالوا: وأولو الأمر هم العلماء، والجواب أن للمفسرين في تفسيرها قولين، أحدهما: أنهم الأمراء، والثاني: أنهم العلماء كما تقدم، ولا يمتنع إرادة الطائفتين من الآية الكريمة ـ أي معا ـ ولكن أين هذا من الدلالة على مراد المقلدين؟ فإنه لا طاعة لأحدهما إلا إذا أمروا بطاعة الله على وفق سنة رسوله وشريعته، وأيضا العلماء إنما أرشدوا غيرهم إلى ترك تقليدهم، ونهوهم عن ذلك كما روي عن الأئمة الأربعة وغيرهم، فطاعتهم ترك تقليدهم، ولو فرضنا أن في العلماء من يرشد الناس إلى التقليد ويرغبهم فيه لكان يرشد إلى معصية الله، ولا طاعة له بنص حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على وفق سنة رسوله وشريعته، وإنما قلنا يرشد إلى معصية الله؛ لأن من أرشد هؤلاء العامة الذين لا يعقلون الحجج، ولا يعرفون الصواب من الخطأ إلى التمسك بالتقليد كان هذا الإرشاد منه مستلزما لإرشادهم إلى ترك العمل بالكتاب والسنة إلا بواسطة آراء العلماء الذين يقلدونهم، فما عملوا به عملوا به، وما لم يعملوا به لم يعملوا، ولا يلتفتون إلى كتاب وسنة، بل من شرط التقليد الذي أصيبوا به أن يقبل من إمامه رأيه ولا يعول على روايته، ولا يسأله عن كتاب ولا سنة، فإن سأله عنهما خرج عن التقليد ; لأنه قد صار مطالبا بالحجة، انتهى كلامه، والأمر عند هؤلاء المقلدة الذين يضعون هذه الأحكام في أصول الدين وفروعه أعظم مما قال، والجماهير متبعة لهم مع نقلهم الإجماع الذي لم يخالف فيه أحد قط أن المقلد جاهل لا رأي له ولا يؤخذ بكلامه، وقد بينا تهافتهم في مواضع كثيرة، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
المسألة الثانية عشرة ـ مراتب الطاعات الثلاث في الآية ونكتة تكرار لفظة الطاعة:
قد رأى القارئ ما قاله الأستاذ الإمام في نكتة تكرار لفظ أطيعوا في جانب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ دون أولي الأمر، ولم تكن هذه النكتة ظاهرة عندي، وقد ورد الأمر بطاعة الله والرسول مع تكرار لفظ الطاعة وعدمه في عدة آيات التفرقة بينها عسيرة، فإن كان هنالك فرق بين التعبيرين فالأقرب عندي أن يقال: إن إعادة كلمة أطيعوا تدل على تغير الطاعتين، كأن تجعل الأولى طاعة ما نزل الله من القرآن، والثانية طاعة الرسول فيما يأمر به باجتهاده.
وقد يؤيد هذا الفهم ما ورد من الحكم بما في كتاب الله عز وجل، فإن لم يوجد فيه نص في القضية ينظر في سنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيقضي بما فيها، وهذا ما أمر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ معاذا حين أرسله إلى اليمن، وهو ما جرى عليه الخلفاء الراشدون وقضاتهم وعمالهم كما تقدم في المسألة الأولى من هذه المسائل، وعبرنا عنها بالمبحث الأول، وعطف طاعة أولي الأمر على طاعة الرسول بدون إعادة العامل أطيعوا لأنهما في هذا المقام من جنس واحد، أي: إن طاعة أولي الأمر في اجتهادهم بدل من طاعة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في اجتهاده وحالة محلها بعد وفاته، لا لأنهم معصومون كعصمته، بل لأن المصلحة وارتقاء الأمة وسلامتها من الاستبداد لا تتحقق إلا بذلك، وقد نبهنا على هذا المعنى من قبل، وإنما أعدناه لنذكر الناس أن هؤلاء الأصوليين لم يقولوا بعصمة الأنبياء في اجتهادهم؛ لأن الله تعالى بين في كتابه شيئا مما عاتبهم فيه على بعض اجتهادهم ولم يقرهم عليه فكيف يكون لخلفهم من أولي الأمر من المزية ما ليس لهم؟
وما ثبت في السنة وعمل الصحابة من جعل السنة في المرتبة الثانية يدل على أن الكتاب لا ينسخ بها، وأنه هو المرجح دائما عند التعارض.
هذا ما فتح به علينا عند طبع تفسير هذه الآية الحكيمة من المسائل التي يتجلى به معناها، والترجيح بين أقوال المفسرين فيها أنه يجب على جميع المؤمنين طاعة الله بالعمل بكتابه، وطاعة رسوله باتباع سنته، وطاعة جماعة أولي الأمر ـ وهم أهل الحل والعقد من علماء الأمة ورؤسائها الموثوق بهم عندها ـ فيما يضعونه لها بالشورى من الأحكام المدنية، والقضائية، والسياسية، ومنها الصحية والعسكرية، وإذا وقع التنازع بين أولي الأمر، أو بين أفراد الأمة وجماعاتها في شيء فيجب رده إلى الله ورسوله بعرضه على الكتاب والسنة، والعمل بما يظهر للمتنازعين أو لمن يحكمونهم في فصل النزاع من النصوص، أو مقتضى القواعد والأصول العامة فيهما أو القياس على ما عرفت علته فيهما، ولا نسلم قول الرازي والنيسابوري: إن هذا الرد خاص بما لا نص فيه ولا إجماع ; لأنه مبني على التنازع والخلاف، ويجوز أن يقع التنازع والخلاف فيما فيه نص لم يعرفه المتنازعون، كما اختلف المهاجرون والأنصار على عمر في الدخول على مكان الطاعون مع وجود النص الذي رواه بعد ذلك عبد الرحمن بن عوف، ولو جاء عبد الرحمن قبل تحكيم عمر لمشايخ قريش، وروى لهم الحديث لعملوا به ولم يحتاجوا إلى التحكيم، فليتأمل المستقلون ما حققناه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
(تنبيه): تكرر في تفسير هذه الآية لفظ " النص " معرفا ومضافا إلى الكتاب والسنة بمعنى عبارتهما لا النص الأصولي.