خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لاَّ يَسْتَوِي ٱلْقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ وَٱلْمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَٰهِدِينَ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى ٱلْقَٰعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَٰهِدِينَ عَلَى ٱلْقَٰعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً
٩٥
دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
٩٦
-النساء

تفسير المنار

مضت سنة القرآن في مزج آيات الأحكام العملية بما يرغب في الأعمال الصالحة وينشط عليها، ويحفز الهمم إليها، وينفر من القعود عنها، والتكاسل والتواكل فيها، وعلى هذه السنة جاءت هاتان الآيتان بين آيات أحكام القتال، فهما متصلتان بها أتم الاتصال.
قال تعالى: { لا يستوي القاعدون من المؤمنين }، أي عن الجهاد في سبيل الله لتأييد حرية الدين، وصد غارات المشركين، وتطهير الأرض من الفساد، وإقامة دعائم الحق والإصلاح { غير أولي الضرر }، العاجزين عن هذا الجهاد كالأعمى والمقعد والزمن والمريض { والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم }، أي: لا يكون القاعدون عن الجهاد بأموالهم بخلا بها وحرصا عليها، وبأنفسهم إيثارا للراحة والنعيم على التعب وركوب الصعاب في القتال، مساوين للمجاهدين الذين يبذلون أموالهم في الاستعداد للجهاد بالسلاح والخيل والمؤنة، ويبذلون أنفسهم بتعريضها للقتل في سبيل الحق ; لأجل منع القتل في سبيل الطاغوت ; لأن المجاهدين هم الذين يحمون أمتهم وبلادهم، والقاعدين الذين لا يأخذون حذرهم، ولا يعدون للدفاع عدتهم، يكونون عرضة لفتك غيرهم بهم
{ { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض } [البقرة: 251]، بغلبة أهل الطاغوت عليها، وظلمهم لأهلها، وإهلاكهم للحرث والنسل فيها.
{ فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة }، هذا بيان لمفهوم عدم استواء المجاهدين والقاعدين غير أولي الضرر، وهو أن الله - تعالى - رفع المجاهدين عليهم درجة، وهي درجة العمل الذي يترتب عليه دفع شر الأعداء عن الملة والأمة والبلاد { وكلا وعد الله الحسنى }، أي: ووعد الله المثوبة الحسنى كلا من الفريقين المجاهدين والقاعدين عن الجهاد عجزا منهم عنه، وهم يتمنون لو قدروا عليه فقاموا به، فإن إيمان كل منهما واحد وإخلاصه واحد.
وقدم مفعول وعد، الأول وهو لفظ كلا، لإفادة حصر هذا الوعد الكريم في هذين الفريقين المتساويين في الإيمان والإخلاص، المتفاضلين في العمل، لقدرة أحدهما وعجز الآخر، وفسر قتادة الحسنى بالجنة.
{ وفضل الله المجاهدين } بأموالهم وأنفسهم، { على القاعدين }، من غير أولي الضرر كما قال ابن جريج أجرا عظيما، وهو ما يبينه قوله - تعالى -: { درجات منه ومغفرة ورحمة }، أما الدرجات فقد بينا في غير هذا الموضع ما تدل عليه الآيات المتعددة فيها من تفاوت درجات الناس في الدنيا والآخرة، ومنها قوله - تعالى -:
{ { انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا } [الاسراء: 21]، وبينا أن درجات الآخرة مبنية على درجات الدنيا في الإيمان والفضيلة والعمل النافع، لا في الرزق وعرض الدنيا، وقد حمل بعض المفسرين الدرجات هنا على ما يكون للمجاهد في الدنيا من الفضائل والأعمال فقال قتادة: كان يقال: الإسلام درجة، والإسلام في الهجرة درجة، والجهاد في الهجرة درجة، والقتال في الجهاد درجة اهـ. وجعل بعضهم الجهاد هنا عدة درجات بحسب ما فيه من الأعمال الشاقة، فقال ابن زيد: الدرجات هي السبع التي ذكرها الله - تعالى - في سورة " براءة " التوبة { { ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين } [التوبة: 120].
يعني: أن هذه الأمور السبعة التي يتعرض لها المجاهدون هي الدرجات ; لأن لكل منها أجرا كما قال - تعالى -، ومجموعها مع المغفرة والرحمة هو الأجر العظيم.
والصواب: أن المراد هنا درجات الآخرة ; لأنها تفسير للأجر كما قال ابن جرير، وهي مرتبة على ما ذكر وعلى غيره مما يفضل المجاهدون به القاعدين، وأهمه مصدره من النفس وهو قوة الإيمان بالله وإيثار رضاه على الراحة والنعيم، وترجيح المصلحة العامة على الشهوات الخاصة.
والمغفرة المقرونة بهذه الدرجات هي أن يكون لذنوبهم في نفوسهم عند الحساب أثر من الآثار التي قضى عدل الله بأن تكون سبب العقاب ; لأن ذلك الأثر يتلاشى في تلك الأعمال التي استحقوا بها الدرجات، كما يتلاشى الوسخ القليل في الماء الكثير، والرحمة ما يخصهم به الرحمن زيادة على ذلك من فضله وإحسانه.
قال البيضاوي: وقيل: الأول ما خولهم الله في الدنيا من الغنيمة والظفر وجميل الذكر والثاني ما حصل لهم في الآخرة، وقيل: الدرجة ارتفاع منزلتهم عند الله، والدرجات منازلهم في الجنة، وقيل: القاعدون " الأولى " الأضراء، والقاعدون الثانية: هم الذين أذن لهم في التخلف اكتفاء بغيرهم، وقيل: المجاهدون الأولون من جاهد الكفار، والآخرون من جاهد نفسه، وعليه قول علي - عليه السلام -: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، اهـ.
{ وكان الله غفورا رحيما }، وكان شأن الله وصفته أنه غفور رحيم لمن يستحق المغفرة، رحيم بمن يتعرض لنفحات الرحمة، فهو ما فضلهم بذلك إلا بما اقتضته صفاته، وما هو شأنه في نفسه، فإذا لا بد من ذلك الأجر العظيم بأنواعه ولا مرد له.
ومن مباحث اللفظ في الآية أن نافعا وابن عامر قرءا غير أولي الضرر، بنصب غير على الحال أو الاستثناء، وقرأها الباقون بالرفع وهي حينئذ صفة للقاعدون.
وقرئت بالجر شذوذا على أنها صفة للمؤمنين أو بدل منهم وقوله: { أجرا عظيما }، نصب أجرا على المصدر لأنه بمعنى أجرهم أجرا عظيما، أو على الحال و درجات، بدل منه.
وقد تركت ما ذكروه في تفسير الآية من حديث زيد بن ثابت في كون قوله: غير أولي الضرر، نزل لأجل ابن أم مكتوم لأن هذا من المشكلات الجديرة بالرد مهما قووا سندها، ولعلنا نفصل القول فيها في مقدمة التفسير.