خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَآلُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١٧
وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَٰؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّٰؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ
١٨
يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىٰ فَتْرَةٍ مِّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١٩
-المائدة

تفسير المنار

أقام الله الحجة على أهل الكتاب كافة، ثم بين ما كفر به النصارى خاصة، فقال: { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } قال البيضاوي: " هم الذين قالوا بالاتحاد منهم، وقيل لم يصرح به أحد منهم، ولكن لما زعموا أن فيه لاهوتا، وقالوا: لا إله إلا واحد، لزمهم أن يكون هو المسيح، فنسب إليهم لازم قولهم; توضيحا لجهلهم، وتفضيحا لمعتقدهم "، وذكر الفخر الرازي في تفسيره: أن هذا القول مبني على عقيدة الحلول والاتحاد، وأنه لازم مذهب النصارى، وإن كانوا لا يقولونه، أو لا يقوله أحد منهم، وصرح بعض المفسرين بأن هذا المذهب مذهب اليعقوبية منهم خاصة، وذلك أن السابقين من المفسرين والمؤرخين ذكروا أن النصارى ثلاث فرق: اليعقوبية، والملكانية، والنسطورية.
واعلم أن أمثال الزمخشري والبيضاوي والرازي لا يعتد بما يعرفون عن النصارى; فإنهم لم يقرءوا كتبهم، ولم يناظروهم فيها وفي عقائدهم إلا قليلا، وإنما يأخذون ما في كتب المسلمين عنهم قضايا مسلمة.
ومنها ما هو مشهور فيها من تفسير الآب والابن وروح القدس بأنها الوجود والعلم والحياة; فالقول بها لا ينافي وحدانية الخالق، وكان يقول مثل هذا بعض علماء النصارى لعلماء المسلمين، والظاهر أن بعض المتقدمين كان يعتقد هذا، كما أنه يوجد الآن في نصارى أوربة وغيرهم كثير من الموحدين الذين يعتقدون أن المسيح نبي رسول لا إله، ولعله لم يبق في النصارى من يقول بتلك الفلسفة; لأنهم في كل عصر يغيرون في دينهم ما شاءوا أن يغيروا في فلسفته وغير فلسفته.
وكان أكبر تغيير حدث بعد هؤلاء المفسرين مذهب (البروتستانت) أي إصلاح النصرانية; حدث منذ أربعة قرون، وصار هو السائد في أعظم الأمم مدنية وارتقاء; كالولايات المتحدة وإنكلترة وألمانية. نسف هذا المذهب أكثر التقاليد والخرافات النصرانية التي كانت قبله، ثم استبدل بها تقاليد أخرى، فصار عدة مذاهب في الحقيقة.
ومع هذا ترى هؤلاء المصلحين الذين زعموا أنهم أعادوا النصرانية إلى أصلها لم يستطيعوا أن يرجعوها إلى التوحيد الصحيح الذي هو دين المسيح وسائر أنبياء بني إسرائيل ورسل الله أجمعين، فهم لا يزالون يقولون بألوهية المسيح وبالتثليث، ويعدون الموحد غير مسيحي، كما يقول ذلك الفرقتان الكبيرتان الأخريان من فرق النصرانية في هذا العصر، وهم الكاثوليك والأرثوذكس، فجميع فرق نصارى هذا العصر تقول: إن الله هو المسيح ابن مريم، وأن المسيح ابن مريم هو الله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. والظاهر أن النصارى القدماء لم يكونوا متفقين على هذه العقيدة كما قال مفسرونا.
قال (الدكتور بوست) في تاريخ الكتاب المقدس عند الكلام على لفظ الجلالة ما نصه:
طبيعة الله عبارة عن ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر: الله الآب، والله الابن، والله الروح القدس، فإلى الآب ينتمي الخلق بواسطة الابن، وإلى الابن المفدى وإلى الروح القدس التطهير، غير أن الثلاثة أقانيم تتقاسم جميع الأعمال على السواء. أما مسألة التثليث فغير واضحة في العهد القديم كما هي في العهد الجديد، وقد أشير إلى هذا في (تك ص1) حيث ذكر " الله " و " روح الله "... إلخ (قابل مز 33: ويو 16: 10 و3) والحكمة الإلهية المشخصة في (أم ص 8) تقابل الكلمة في (يو ص 1) وربما تشير إلى الأقنوم الثاني، وتطلق نعوت القدير على كل أقنوم من هذه الأقانيم الثلاثة على حدته " انتهى بحروفه.
والحق أن العهد القديم; أي كتب الأنبياء الذين كانوا قبل المسيح، ليس فيها شيء ظاهر ولا خفي في عقيدة التثليث; لأنها عقيدة وتثنية محضة. ومن أغرب التكلف تفسير " الحكمة " في أمثال سليمان، بـ " الكلمة " بالمعنى الذي يريدونه، وهو وهم لم يخطر في بال سليمان ولا المسيح عليهما السلام، وسترى أنهم قالوا: إن استعمال الكلمة بهذا المعنى لم يرد إلا في كلام يوحنا، وقد كان جميع أنبياء الله تعالى موحدين، أعداء للوثنية والوثنيين، وإنما يصح أن يقال: إن التوحيد ظاهر جلي في العهد الجديد أيضا، والتثليث فيه هو الخفي; فإن العقيدة التي يدعو إليها دعاة النصرانية، والعبارات التي يذكرونها في ألوهية المسيح والتثليث لا تفهم كلها من العهد الجديد، بل هنالك عبارات يتحكمون في تفسيرها وشرحها كما يهوون على خلاف شهير فيها بين متقدميهم ومتأخريهم.
والعمدة عندهم في هذه العقيدة أول عبارة من إنجيل يوحنا، وهي: " في البدء كانت الكلمة، والكلمة كان عند الله، والله هو الكلمة " وقد أطلقوا لفظ الكلمة على المسيح، فصار معنى الفقرة الثالثة من عبارة إنجيل يوحنا: والله هو المسيح ابن مريم، وهذا عين ما أسنده القرآن إليهم؛ فكيف يقول البيضاوي والرازي إنه أسند إليهم لازم مذهبهم؟.
قال بوست في قاموسه: " يقصد بالكلمة السيد المسيح، ولم ترد هذه اللفظة بهذا المعنى إلا في مؤلفات يوحنا (1: 1 - 14، و1 يو 1: 1، ورؤ 19: 13) وقد استعمل الفيلسوف (فيلو) لفظة " الكلمة " غير أنه يقصد بها غير ما قصد يوحنا " ا هـ.
أقول: قد بينا في تفسير { فنسوا حظا مما ذكروا به } أنهم قالوا: إن يوحنا ما كتب إنجيله في آخر عمره، إلا إجابة لاقتراح من ألحوا عليه بذلك; للعلة التي ذكروها، فلولا هذا الاقتراح والإلحاح لما كتب، ولو لم يكتب لم تعرف هذه العقيدة، فثبت أن هذه العقيدة لم يذكرها المسيح نفسه في كلامه، ولا دعا إليها أحد من تلاميذه الذين انتشروا في البلاد للدعوة إلى إنجيله، ولم يعرفها أحد إلا في العشر العاشر من القرن الأول الذي كتب فيه يوحنا إنجيله. هذا إن صح أن يوحنا الحواري هو الذي كتبه - ولن يصح - ولا يعقل أن يسكت المسيح وجميع تلاميذه عن هذه العقيدة إذا كانت هي أصل الدين كما تزعم النصارى، بل الذي تتوفر عليه الدواعي أن يقررها المسيح نفسه في كلامه، ويجعلها تلاميذه أول ما يدعون إليه، ويكررونه في أقوالهم ورسائلهم.
ولا يغرنك ما أشار إليه (بوست) من الشواهد عن رسالة يوحنا ورؤياه، فتظن أن هنالك نصا أو نصوصا في إثبات هذه العقيدة، كلا إن الشاهد الذي عزاه إلى أول رسالته الأولى هو: " الذي كان من البدء، الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة "، فكلمة الحياة لا تفيد هذه العقيدة إلا بتحكمهم. وأما الشاهد الذي عزاه إلى الرؤيا; فهو:
" 11 ثم رأيت السماء مفتوحة، وإذا فرس أبيض، والجالس عليه يدعى أمينا وصادقا، وبالعدل يحكم ويحارب 12، وعيناه كلهيب من نار، وعلى رأسه تيجان كثيرة، وله اسم مكتوب ليس أحد يعرفه إلا هو 13 وهو متسربل بثوب مغموس بدم، ويدعى اسمه كلمة الله 14، والأجناد الذين في السماء كانوا يتبعونه على خيل بيض، لابسين بزا أبيض نقيا 15 ومن فمه يخرج سيف ماض; لكي يضرب به الأمم، وهو سيرعاهم بعصا من حديد "، فأنت ترى أن هذه الأوصاف لا تنطبق على المسيح، وإنما تنطبق على أخيه محمد، عليهما الصلاة والسلام، فمن أسمائه الصادق والأمين، وبالعدل كان يحكم ويحارب... إلخ. ولم يكن للمسيح شيء من هذه الصفات; لأنه لم يحكم ولم يحارب ولم يرع الأمم. ولفظ " كلمة الله " هنا لا يفيد معنى تلك العقيدة، ولا يشير إليها; لأن كل شيء وجد بكلمة الله، وهي كلمة التكوين
{ { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } [يس: 82].
وأما الدليل على كون هذه العقيدة وثنية فهو يظهر لك جليا فيما كتبناه في تفسير قوله تعالى من هذا الجزء:
{ { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم } [النساء: 171] إلى قوله: { { ولا تقولوا ثلاثة } [النساء: 171] وذلك أن زعمهم " أن الله هو المسيح ابن مريم " جزء من عقيدة التثليث المأخوذة عن قدماء المصريين والبراهمة والبوذيين وغيرهم من وثنيي الشرق والغرب، وقد أوردنا هنالك من شواهد كتب التاريخ وآثار الأولين ما علم به قطعا أن النصارى أخذوا هذه العقيدة عنهم، وسنعود إلى ذكرها عند تفسير قوله تعالى من هذه السورة: { { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } [المائدة: 73] قال تعالى في تبكيت هؤلاء الناس ورد زعمهم:
{ قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا } أي قل، أيها الرسول، لهؤلاء النصارى المتجرئين على مقام الألوهية بهذا الزعم الباطل: من يملك من أمر الله وإرادته شيئا يدفع به الهلاك والإعدام عن المسيح وأمه، وعن سائر أهل الأرض، إن أراد عز وجل أن يهلكهم ويبيدهم؟
والاستفهام للإنكار والتوبيخ والتجهيل; أي إن المسيح وأمه من المخلوقات التى هي قابلة لطروء الهلاك والفناء عليها كسائر أهل الأرض، فإذا أراد الله أن يهلكهما ويهلك أهل الأرض جميعا، لا يوجد أحد يستطيع أن يرد إرادته; لأنه هو المالك لأمر الوجود كله، ولا يملك أحد من أمره شيئا يستطيع به أن يصرفه عن عمل يريده أو يحمله على أمر لا يريده، أو يستقل بعمل دونه. تقول العرب: ملك فلان على فلان أمره: إذا استولى عليه، فصار لا يستطيع أن ينفذ أمرا ولا أن يفعل شيئا إلا به أو بإذنه. قال ابن دريد في وصف الخمرة التى لم يكسر المزج حدتها، ولم تبطل النار تأثيرها:

لم يملك الماء عليها أمرها ولم يدنسها الضرام المحتضى

وقوله تعالى: { فمن يملك من الله شيئا } أبلغ من مثل هذا القول; لأنه نفى أن يملك أحد بعض أمره تعالى فضلا عن ملك أمره كله، فصار المعنى: أنه لا يوجد أحد يستطيع أن يرد أمره، أو يحوله عن إرادته بوجه ما، ولو الدعاء والشفاعة; إذ لا يستطيع أحد أن يشفع عنده إلا بإذنه لمن ارتضاه، فالأمر في ذلك كله له وحده عز وجل، ويدخل في عموم ذلك المسيح نفسه وغيره من الأنبياء، وكذا الملائكة عليهم السلام، فإذا كان المسيح لا يستطيع أن يدفع عن نفسه الهلاك أو عن والدته، كما أنه لا يستطيع غيره أن يدفعه عنه إذا أراد الله تعالى إنزاله به؛ فكيف يكون هو الله الذى بيده ملكوت كل شيء؟
ومن غريب تهافت هؤلاء الناس أنهم قالوا: إن شر نوع من أنواع الإهلاك، وهو الصلب نزل بالمسيح - الذي هو الكلمة والله هو الكلمة بزعمهم - ولم يستطع أن يدفعه عن نفسه، وأنه استغاث بربه خائفا وجلا ضارعا خاضعا; ليصرف عنه ذلك الكأس، فلم يجبه إلى ما طلب! وهم يكابرون أنفسهم في دفع هذا التهافت بمثل قولهم: إنه كان له طبيعتان ومشيئتان; ثنتان منهما إلهيتان، وثنتان بشريتان، وليت شعري، إذا كان هذا ممكنا؛ فهل يمكن معه أن يجهل المسيح بطبيعته البشرية طبيعته الإلهية، فيعترض عليها بمثل قولهم عنه في إنجيل متى (37: 46 إلهي إلهي، لماذا تركتني) ويستنجدها غير عالم بما يمكن وما لا يمكن لها بمثل ما قالوه عنه في إنجيل متى (26: 39 ثم تقدم قليلا، وخر على وجهه، وكان يصلي قائلا: يا أبتاه، إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس) إلى أن قال: (42 فمضى أيضا ثانية وصلى قائلا: إن لم يمكن أن تعبر عني هذه الكأس، إلا أن أشربها فلتكن مشيئتك) وهذا أعظم حجة عليهم مصدقة لحجة القرآن، فإن مشيئة الله لا يردها شيء.
ثم إن الطبيعة البشرية هي التي خاطبت البشر، فإذا كان هذا شأنها; لا يقبل قولها، ولا يوثق بتعليمها؛ فكيف تجعل مع الطبيعة الأخرى شيئا واحدا يسمى ربا وإلها ويعبد؟ والناس ما رأوا إلا الطبيعة البشرية، ولا عرفوا غيرها، ولا سمعوا إلا كلامها، ولا رأوا إلا أفعالها، والنكتة في عطف (ومن في الأرض جميعا) على المسيح وأمه التذكير بأنهما من جنس البشر الذين في الأرض، وما جاز على أحد المثلين جاز على الآخر، وأناجيلهم تعترف بأن المسيح كان كغيره في الشئون البشرية، كما سيأتي في تفسير
{ { ما المسيح ابن مريم إلا رسول } [المائدة: 75] الآية.
{ ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما } الظاهر أن هذه الجملة حالية; أي فمن يملك من الله شيئا إن أراد إهلاك المسيح وأمه، وأهل الأرض قاطبة، والحال أنه هو صاحب الملك المطلق، والتصرف الاستقلالي الكامل في السماوات والأرض وما بينهما; أي ما بين هذين العالمين; العلوي والسفلي بالنسبة إليكم.
وهذا الملك والتصرف مما تعترف به النصارى، ولكنهم زعموا أن صاحب هذا الملك العظيم والتصرف المطلق والكمال الأعلى قد عرض له بعد خلق آدم - الذي ندم وتأسف من كل قلبه أنه خلقه - أمر عظيم; وهو أن آدم عصاه، فاقتضى عدله أن يعذبه، واقتضت رحمته ألا يعذبه، فوقع التناقض والتعارض بين مقتضى صفاته، فلم يجد لذلك مخرجا يجمع به بين مقتضى العدل والرحمة، إلا أن يحل في بطن امرأة من ذرية آدم ويتكون جنينا فيه; فتلده إنسانا كاملا وإلها كاملا، ثم يعرض نفسه لشر قتلة، لعن صاحبها على لسان رسله، وهي الصلب; فداء لآدم وذريته، وجمعا بين عدله بتعذيب واحد منهم هو وحده البريء من الذنب، ورحمة الآخرين إن آمنوا بهذه العقيدة ولو بغير عقل، ثم لم يتم له هذا الجمع; لأن أكثر البشر لم يؤمنوا بها، فهو لا بد أن يعذبهم في الآخرة على أنه عذب كثيرا من الناس بمثل ما عذبه به وبغير ذلك، ومنهم المؤمنون بتلك العقيدة، فلماذا لم يكن تعذيبهم في الدنيا فداء لهم؟
وهل هذا هو الجمع بين العدل والرحمة؟!
ولما كانت شبهتهم على كون المسيح بشرا إلها، وإنسانا ربا، هي أنه خلق على غير السنة العامة في خلق البشر، وأنه عمل أعمالا غريبة لا تصدر عن عامة البشر، قال تعالى في رد هذه الشبهة: { يخلق ما يشاء } أي لما كان له ملك السماوات والأرض وما بينهما كان من المعقول أن يكون خلقه للأشياء تابعا لمشيئته، فقد يخلق بعض الأحياء من مادة لا توصف بذكورة ولا أنوثة كأصول أنواع الحيوان، ومنها أبو البشر عليه السلام وقد يخلق بعضها من ذكر فقط، أو أنثى فقط، وقد يخلق بعضها بين ذكر وأنثى، ولا يدل شكل الخلق ولا سببه ولا امتياز بعض المخلوقات - كالكهرباء - على بعض ألوهيتها أو حلول الإله الخالق فيها، بل هذا لا يعقل ولا يمكن. فامتياز الأرض على عطارد أو زحل بوجود الأحياء فيها من البشر وغيرهم لا يعد دليلا على كون الأرض إلها لذلك الكوكب الذي فضلته بهذه المزية.
كذلك سنة الله في خلق المسيح ومزاياه لا تدل على كونه إلها أو ربا لمن لم توجد فيهم هذه المزايا; لأن المزايا في الخلق كلها بمشيئة الخالق، فلا يخرج بها المخلوق عن كونه مخلوقا، نسبته إلى خالقه كنسبة سائر المخلوقات إليه تعالى.
وأما الامتياز ببعض الأفعال الغريبة فهو معهود من البشر أيضا، ونقل ذلك عن جميع الأمم والملل، وقد ادعت الأمم الوثنية لأصحابها الألوهية والربوبية، وأجمع الأنبياء من بني إسرائيل وغيرهم على توحيد الله تعالى، وسموا تلك الغرائب بالآيات الإلهية، وقالوا: إن الله تعالى قد يؤيد بها أنبياءه ورسله، فلماذا خرجتم أيها النصارى عن سنة النبيين والمرسلين، واتبعتم سنة الوثنيين، كقدماء الهنود والمصريين، الذين جعلوا غرابة خلق مقدسيهم وغرابة بعض أفعالهم دليلا على ألوهيتهم وربوبيتهم؟ { والله على كل شيء قدير } فكل ما تعلقت به مشيئته ينفذ بقدرته، وإنما يعد بعض خلقه غريبا بالنسبة إلى علم البشر الناقص، لا بالنسبة إليه تعالى. وكذلك غرابة بعض أفعالهم، وهي قد تكون عن علم كسبي يجهله غيرهم، أو قوة نفسية لم يبلغها سواهم، أو تأييد رباني لا صنع لهم فيه ولا تأثير.
روى ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل، عن ابن عباس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أبي وبحري بن عمرو وشاس بن عدي، فكلمهم وكلموه، ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته، فقالوا: ما تخوفنا يا محمد؟
نحن والله أبناء الله وأحباؤه، كقول النصارى. فأنزل الله فيهم { وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه } إلى آخر الآية. ومن قرأ كتب اليهود والنصارى رأى فيها لقب " ابن الله " قد أطلق على آدم. (انظر إنجيل لوقا 3: 38) وعلى يعقوب وداود مع لقب البكر (انظر سفر الخروج 4: 22 و23 والمزمور 98: 26 و27) وكذا على إفرام (انظر نبوة أرمياء 31: 9) وعلى المسيح، عليهم السلام، ولكن مع لقب الحبيب; فهو تفسير لكلمة ابن، وأطلق مجموعا على الملائكة وعلى المؤمنين الصالحين، وهذا الاستعمال كثير في العهد الجديد.
ومنه ما حكاه متى في وعظ المسيح على الجبل (5: 9 طوبى لصانعي السلام; لأنهم أبناء الله يدعون) وقال بولس في رسالته إلى أهل رومية (8: 14 لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله) وجاء في سياق المناظرة بين المسيح واليهود من إنجيل يوحنا، ما نصه: (8: 41 أنتم تعلمون أعمال أبيكم، فقالوا له: إننا لم نولد من زنا، لنا أب واحد، وهو الله 42 فقال لهم يسوع: لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني، إلى أن قال - 44 أنتم من أب، هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا) وفي هذا المعنى ما جاء في الرسالة الأولى، من رسالتي يوحنا (3: 9 كل من هو مولود من الله لا يفعل خطيئة; لأن زرعه يثبت فيه، ولا يستطيع أن يخطئ; لأنه مولود من الله 10 بهذا أولاد الله ظاهرون، وأولاد إبليس) فعلم من هذه النصوص وأشباهها أن لفظ " ابن الله " يستعمل في كتب القوم بمعنى حبيب الله الذي يعامله الله معاملة الأب لابنه من الرحمة والإحسان والتكريم، فعطف أحباء الله على أبناء الله للتفسير والإيضاح؛ وإنما تحكم النصارى بهذا اللقب فجعلوه بمعنى الابن الحقيقي بالنسبة إلى المسيح، وبالمعنى المجازي بالنسبة إلى غيره من الصالحين.
ومعنى الابن الحقيقي محال على الله تعالى; لأنه عبارة عن الولد الذي ينشأ من تلقيح الرجل بمائه لبعض ما في رحم المرأة من البيض، فالمعنى المجازي متعين كما ترى، وسنوضحه في تفسير
{ { وقالت النصارى المسيح ابن الله } [التوبة: 30] ولما كان ما ذكرناه مؤيدا بالشواهد هو المعنى المراد لأولئك المتبجحين من اليهود والنصارى حسن رد الله تعالى عليهم بقوله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:
{ قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } أي قل لهم أيها الرسول: إذا كان الأمر كما زعمتم فلم يعذبكم الله تعالى بذنوبكم في الدنيا كما تعلمون من تاريخكم الماضي، وكما ترون في تاريخكم الحاضر، ومن هذا العذاب لليهود ما كان من تخريب الوثنيين لمسجدهم الأكبر ولبلدهم المرة بعد المرة، ومن إزالة ملكهم من الأرض، وللنصارى ما اضطهدهم به الأمم، وما نكل به بعضهم، وهو شر من تنكيلهم وتنكيل الوثنيين باليهود; أي أن الأب لا يعذب ابنه، والمحب لا يعذب حبيبه، فلستم إذا أبناء الله ولا أحباءه، بل أنتم بشر من جملة من خلق الله تعالى وهو عز وجل الحكم العدل، لا يحابي أحدا، وإنما يغفر لمن يعلم أنه مستحق للمغفرة، ويعذب من يعلم أنه مستحق للعذاب، فهو يجزيكم بأعمالكم، كما يجزي سائر البشر أمثالكم، فارجعوا عن غروركم بأنفسكم وسلفكم وكتبكم; فإنما العبرة بالإيمان الصحيح والأعمال الصالحات، لا بمن سلف من الآباء والأمهات.
{ ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير } أثبت الله تعالى في هذه الآية مثل ما أثبت في التي من قبلها، من أن له ملك السماوات والأرض وما بين أجرامهما وأجزائهما من المخلوقات، إلا أنه ختم تلك بكونه على كل شيء قدير; لأن المقام مقام الغرابة في الخلق، وامتياز بعضه على بعض، وختم هذه ببيان كون المرجع والمصير إليه; لأن المقام مقام الجزاء على الأعمال، وذلك أن السماوات والأرض ومن فيهما وبين عالميهما نسبتها إليه تعالى واحدة، وهي أنه الخالق المالك الرب، ذو التصرف المطلق في كل شيء بمقتضى العلم والحكمة والعدل والفضل، وهي المخلوقات المملوكة، وجميع من يعقل فيها من الإنس والجن والملائكة عبيد له لا أبناء ولا بنات
{ { إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا } [مريم: 93].
وفي ختمها بقوله: " وإليه المصير " إشعار بأنه سيعذبهم في الآخرة على هذا الكفر والغرور، والدعاوى الباطلة، فيعلمون عندما يصيرون إليه أنهم عبيد آبقون يجازون، لا أبناء ولا أحباء يحابون.
وقد استشكل بعضهم كون تعذيبهم دليلا على بطلان دعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه; لأنه إن أريد به عذاب الآخرة لا تقوم به الحجة عليهم لإنكارهم إياه، وإن أريد به عذاب الدنيا، أورد عليه أنه غير قادح في ادعائهم; لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأمته لم يسلموا من محن الدنيا كالذي حصل في وقعة أحد، وقتل الحسن والحسين، عليهما السلام، ونحن نعتقد أن الذين ابتلوا بهذه المحن من أحباء الله تعالى. وأجاب الرازي عن هذا الإشكال بثلاثة أجوبة:
حاصل الأول: أننا نعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم وخيار أمته من أحباء الله تعالى، ولا ندعي أنهم أبناء الله تعالى.
وحاصل الثاني: أن المراد عذاب الآخرة، وقد اعترف به اليهود; إذ قالوا:
{ { لن تمسنا النار إلا أياما معدودة } [البقرة: 80].
وحاصل الثالث: أن المراد به المسخ الذي وقع لبعض اليهود قبل الإسلام، أضيف إلى المخاطبين لأنهم من جنسهم.
قال الرازي بعد شرح الأجوبة بعبارة أخرى: وهذا الجواب أولى; لأنه تعالى لم يكن ليأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحتج عليهم بشيء لم يدخل بعد في الوجود; فإنهم يقولون لا نسلم أنه تعالى يعذبنا، بل الأولى أن يحتج عليهم بشيء قد وجد حتى يكون الاستدلال قويا متينا، انتهى.
ونحن نقول: إن هذا الأخير أضعفها، وإنهم لا يعترفون به أيضا، وإنه لا حجة فيه ولا في الثاني على النصارى; فيكون تسليما لهم، أو إقرارا على دعوى أنهم أبناء الله، وهم الذين يكثرون هذه الدعوى ويتبجحون بها، ثم إن التعبير بالمضارع (يعذبكم) ينفي أن يكون المراد تعذيبا خاصا بطائفة وقع في الزمن الماضي، وأقوى أجوبته الأول، ولكنه لم يفطن لما فيه من القوة، ولم يبينه بيانا تاما، على أنه لم يحرر أصل الدعوى; فيهتدي إلى تحرير الجواب. والصواب أن هذا الإشكال لا يرد على الإسلام والقرآن، وإليك البيان الصحيح الذي يتضاءل به حتى يدخل في خبر كان.
كان اليهود يعتقدون أنهم شعب الله الخاص، ميزهم لذاتهم على جميع البشر; فلا يمكن أن يساويهم شعب آخر عنده، وإن كان أصح منهم إيمانا وأصلح عملا، وأنهم لا يكونون تابعين لغيرهم في الدين، فلا يصح أن يتبعوا محمدا صلى الله عليه وسلم; لأنه عربي، لا إسرائيلي، والفاضل لا يتبع المفضول بزعمهم، ولا يمكن أن يؤاخذهم الله على الكفر به; لأنهم شعبه الخاص المحبوب، فهو لا يعاملهم إلا معاملة الوالد لأبنائه الأعزاء، والمحب لمحبوبه الخاص، وأما النصارى فقد أربوا عليهم في الغرور، وإن كان النبي الذي يدعون اتباعه قد جاهد غرور اليهود جهادا عظيما، فهم يدعون أن المسيح قد فداهم بنفسه، وأنهم أبناء الله بولادة الروح، والمسيح ابنه الحقيقي، ويخاطبون الله تعالى دائما بلقب الأب.
وقد كانت جميع فرقهم في زمن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم أشد من اليهود فسادا وإفسادا، وفسقا وفجورا، وظلما وعدوانا، بشهادة مؤرخي الأمم كلها، منهم ومن غيرهم، ومع هذا كله كانوا يدعون أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم غير محتاجين إلى إصلاح في دينهم ولا دنياهم; ولهذا رفضوا ما دعاهم إليه النبي صلى الله عليه وسلم من التوحيد الخالص والفضائل الصحيحة، والأعمال الصالحة، وردوا ما جاءهم به من كون مرضاة الله تعالى ومثوبته لا تنالان إلا بتزكية النفس وإصلاحها بالتوحيد والعمل.
هذا حاصل ما كان عليه اليهود والنصارى من الغرور بدينهم وأنفسهم، وبأنبيائهم الذين تركوا هديهم وضلوا طريقهم، وقد عبر الكتاب الحكيم عن ذلك هنا بأوجز لفظ وأخصره، وهو قولهم: { نحن أبناء الله وأحباؤه }.
وحاصل رده عليهم: أنكم من نوع البشر الذي هو من جنس مخلوقات الله تعالى وأنه ليس لكم ولا لغيركم من طوائف البشر، امتياز ذاتي خاص، ولا نسبة ذاتية إليه تعالى; لأن جميع خلقه بالنسبة إليه سواء، وقد مضت سنته في البشر بأن يعذبهم في الدنيا بما كسبت أيديهم، ويعفو عن كثير من أعمالهم ويغفرها فلا يعجل لهم العذاب عليها.
وذلك بحسب مشيئته المطابقة لعلمه وعدله وحكمته. فإذا كان لكم امتياز ذاتي، على جميع البشر، فلم يعذبكم بذنوبكم في هذه الدنيا، كما يعذب غيركم بذنوبهم؟ وأنتم تعلمون هذا علم اليقين من أنفسكم، ومن تاريخكم. والمضارع " يعذبكم " هنا لبيان الشأن المستمر في معاملتهم; فهو يدل على أن هذا التعذيب ثابت في كل زمان، متى وقع سببه ووجدت علته، والكلام في سنة الله في الأمم والشعوب، وتاريخهم فيه كتاريخ غيرهم قبل البعثة وفي زمنها وبعدها: ما عذبت أمة من الأمم بشيء إلا وعذبوا بمثله، فلو كانوا أبناء الله وأحباءه، ولو مجازا، بحسب ما بيناه بالشواهد من كتبهم، لما حل بهم ما حل بغيرهم، أو لم تكن لهم ذنوب يعذبون بها كما قال يوحنا (1 يو 9: 3).
إذا فقهت هذا ظهر لك أن إشكال الرازي غير وارد أصلا; فإن الكلام في الأمم والشعوب وإبطال دعوى أن يكون شعب منها ممتازا عند الله بذاته، لا تجري عليه سنته في سائر خلقه، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يدع أن أمته لها مثل هذا الامتياز، وأن كل من انتمى إليها كان من أبناء الله ولا من أحبائه، مهما عملوا من الأعمال; فيقال: لم غلبوا إذا في غزوة " أحد "؟ كيف وقد كان فيهم بأحد المنافقين، وضعفاء الإيمان؟
يثبت لك هذا ما أنزله الله تعالى في شأن غزوة أحد من الآيات; فقد بين فيها أن ما أصاب المسلمين إنما أصابهم بذنوب بعضهم; إذ خالف الرماة أمر نبيهم وقائدهم، وتنازعوا واختلفوا في أمرهم، وأن الأيام دول والعاقبة للمتقين، فهم الذين يتعظون بالحوادث، فلا يعودون إلى مثل ما عوقبوا به.
وقد قال تعالى في فاتحة سياق هذه القصة:
{ قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين } [آل عمران: 137 - 141] ثم قال: { { ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون } [آل عمران: 152] إلى آخر الآية 155، ثم قال: { { أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم } [آل عمران: 165] إلخ.
فأنت ترى أن هذه الآيات تبين سنته تعالى في البشر، وأن الجزاء إنما يكون على الأعمال، لا على الأسماء والألقاب، وهذا هو الذي يصدقه الوجود، وتشهد به تواريخ جميع الأقوال والأجيال، غاية الأمر أن شأن أهل الإيمان الصحيح والدين القيم أن يكونوا أعرف بسنن الله تعالى في خلقه; فتكون ذنوبهم التي يعاقبون بها موعظة يتعظون بها، وتمحيصا يكمل نفوسهم بالعبر، ويعلي شأنها، وأن يكونوا من المتقين لكل ما جعله الله سببا للخيبة والخسران; كالظلم والبغي والعدوان، والتنازع والتفرق، والغرور وعدم النظام، وبهذا يكونون من أحباء الله تعالى ويكون ما حل بهم من قبيل تربية الوالد لولده، ولا يحسن أن يسمى تعذيبا; لأن مرارة الدواء الذي يشفيك من السقم، ليس كالسوط الذي لا يصيبك منه إلا الألم.
ومن راجع تفسير هذه الآيات في الجزء الرابع من تفسيرنا هذا يتجلى له الحق في ذلك تمام التجلي، ولكن المسلمين لم يعتصموا بهذا البيان; فيتقوا غرور أهل الكتاب، بل اتبعوا سنتهم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، إلى أن آل الأمر إلى ضد ما كان، فترك جماهير أهل الكتاب ذلك الغرور بدينهم، واهتدوا بسنن الله في الأمم والدول التي كانت قبلهم، فساروا عليها في سياسة ملكهم، وكان آخر حوادث غرور دولهم الكبرى غرور دولة الروسية في حربها مع دولة اليابان الوثنية، على أنه لم يكن غرورا دينيا محضا، بل كان ممزوجا بالاستعداد الدنيوي مزجا، وبقي من اتبعوا سننهم من المسلمين ثابتين على تقليد أولئك المخذولين، وفتن بعضهم بالمتأخرين المعتبرين، ولكنهم ما احتذوا مثالهم في أمر الدنيا، ولا رجعوا في مثله إلى هدي الدين
{ { وما يتذكر إلا من ينيب } [غافر: 13].
أقام الله الحجة على أهل الكتاب، ودحض شبهتهم التي غرتهم في دينهم، فحسن بعد هذا أن يذكرهم بحجته عليهم يوم القيامة إذا هم أصروا على غرورهم وضلالهم، فقال:
{ ياأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل } أي قد جاءكم رسولنا المبشر به في كتبكم، المنتظر في اعتقادكم، فإن الله أخبركم على لسان موسى أنه سيقيم نبيا من بني إسماعيل إخوتكم، وعلى لسان عيسى ابن مريم بأن سيجيء بعده البارقليط روح الحق، الذي يعلمكم كل شيء، ولا تزال هذه البشارات في كتبكم، وإن حرفتموها بسوء فهم أو بسوء قصد منكم، وهو النبي الكامل المعهود الذي سأل أجدادكم عنه يحيى (يوحنا) عليه السلام. ففي أوائل الإنجيل الرابع أن اليهود أرسلوا كهنة ولاويين فسألوا يوحنا: أأنت المسيح؟ قال: لا. أأنت إيليا؟ قال: لا. أأنت النبي؟ قال: لا.
وهذا هو الرسول محمد النبي العربي الأمي الذي لم يتعلم شيئا - وهو يبين لكم على فترة - أي انقطاع - من الرسل، وطول عهد على الوحي - جميع ما تحتاجون إليه من أمر دينكم، وما يصلح به أمر دنياكم من العقائد الحق التي أفسدتها عليكم نزغات الوثنية، والأخلاق والآداب الصحيحة التي أفسدها عليكم الإفراط والتفريط في الأمور المادية والروحية، والعبادات والأحكام، التي تصلح بها أموركم الشخصية والاجتماعية؛ فترك التصريح بمفعول { يبين لكم } لإفادة العموم، ويدخل فيه ما بينه لكم مما كنتم تخفون من الكتاب; لإقامة الحجة عليكم، ولو لم يكن رسولا من عند الله تعالى لما عرف هذا ولا ذاك، مما تقاصرت عنه علوم أحباركم ورهبانكم وحكمائكم وساستكم، جاء رسولنا محمد يبين لكم كل هذا; ليقطع معذرتكم، ويمنعكم يوم القيامة { أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير } يبشرنا بحسن عاقبة المؤمنين الصالحين المتقين، وينذرنا ويخوفنا سوء عاقبة المفسدين الضالين المغرورين.
{ فقد جاءكم بشير ونذير } يبين لكم أن أمر النجاة والخلاص والسعادة الأبدية في دار القرار ليس منوطا بأمانيكم التى تتمنونها، وأوهامكم التى تغترون بها، بل هو منوط بالإيمان والأعمال، وأن الله تعالى لا يحابي أحدا من الناس. قال تعالى:
{ { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا } [النساء: 123 - 124] { والله على كل شيء قدير } فلا يعجزه أن يريكم صدق نبيه بنصر دعوته، وإعلاء كلمته عليكم في الدنيا; لتقيسوا على ذلك - إن عقلتم - ما يكون من الأمر في الدار الأخرى.
روى أبناء إسحاق وجرير والمنذر وأبي حاتم، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود إلى الإسلام، فرغبهم فيه وحذرهم; فأبوا عليه، فقال لهم معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب: يا معشر يهود، اتقوا الله، فوالله لتعلمون أنه رسول الله، لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه، وتصفونه لنا بصفته، فقال رافع بن حريملة ووهب بن يهوذا: إنا ما قلنا لكم هذا، وما أنزل الله من كتاب من بعد موسى، ولا أرسل بشيرا ولا نذيرا بعده. فأنزل الله الآية; أي أنزلها في هذا السياق، متضمنة للرد عليهم.
ومن مباحث اللفظ في الآية أن " الفترة " من فتر الشيء: إذا سكن أو زالت حدته. وقال الراغب: " الفتور " سكون بعد حدة، ولين بعد شدة، وضعف بعد قوة، وذكر الآية، والمراد بها هنا انقطاع الوحي وظهور الرسل عدة قرون، وقوله { أن تقولوا } تقدم مثله، ومنه:
{ { يبين الله لكم أن تضلوا } [النساء: 176] في آخر سورة النساء، وتقدم وجه إعرابه، وأن بعضهم يقدر له: كراهية أن تقولوا، ومثله اتقاء أن تقولوا، بل هذا أحسن، وبعضهم يقدر النفي فيقول: لئلا تقولوا، والمعنى على كل وجه ما ذكرناه آنفا من منعهم من هذا الاحتجاج، وقطع طريقه عليهم.