خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَٱلْكُفَّارَ أَوْلِيَآءَ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
٥٧
وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاَةِ ٱتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ
٥٨
قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ
٥٩
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّاغُوتَ أُوْلَـٰئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ
٦٠
وَإِذَا جَآءُوكُمْ قَالُوۤاْ آمَنَّا وَقَدْ دَّخَلُواْ بِٱلْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ
٦١
وَتَرَىٰ كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ ٱلسُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
٦٢
لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ ٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ ٱلإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ ٱلسُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ
٦٣
-المائدة

تفسير المنار

نهى الله تعالى عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء من دون المؤمنين; معللا له بأن بعضهم أولياء بعض، لا يوالي المؤمنين منهم أحد، ولا يواليهم ممن يدعون الإيمان إلا مرضى القلوب، والمنافقون الذين يتربصون الدوائر بالمؤمنين، ثم أعاد النهي عن اتخاذهم أولياء، واصفا إياهم بوصف آخر مما كانوا يؤذون به المؤمنين، ويقاومون دينهم، وعطف عليهم الكفار، والمراد بهم مشركو العرب، فقال:
{ ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء } قرأ أبو عمر، والكسائي: " الكفار " بالجر عطفا على { الذين أوتوا الكتاب } والباقون بالنصب عطفا على { الذين اتخذوا } والفرق بينهما أن قراءة الجر تفيد أن الكفار؛ أي المشركين، الذين اتخذوا دين المسلمين هزوا ولعبا، لا تباح ولايتهم.
وقراءة النصب تفيد أن جميع المشركين يتخذون أولياء بحال من الأحوال، وأما أهل الكتاب فإنما ينهى عن موالاتهم; لوصف فيهم ينافي الموالاة، كاتخاذهم دين الإسلام هزوا ولعبا; أي شيئا يمزح به ويسخر منه، فلا تنافي بين القراءتين. ولكن قراءة النصب فيها زيادة معنى.
وحكمة قراءة الجر أنه كان يوجد من المشركين من يهزأ بدين الإسلام، ويعبث به، فقراءة الجر نص في النهي عن موالاة هؤلاء لوصفهم هذا، وقراءة النصب; لإفادة النهي عن موالاة جميع المشركين; لأن موالاة المسلمين لهم، بعد أن أظهرهم الله عليهم بفتح مكة، ودخول الناس في دين الله أفواجا، تكون قوة لهم، وإقرارا على شركهم الذي جاء الإسلام لمحوه من جزيرة العرب.
وأما أهل الكتاب، فسياسة الإسلام فيهم غير سياسته مع مشركي العرب; ولذلك أجاز في هذه السورة، وهي من آخر ما نزل من القرآن، أكل طعامهم، ونكاح نسائهم، وشرع في سورة التوبة قبول الجزية منهم، وإقرارهم على دينهم، ونهى في سورة العنكبوت عن مجادلتهم إلا بالتي هي أحسن.
وفي الآية تمييزهم على المشركين في إطلاق اللقب; إذ خصهم في المقابلة بلقب أهل الكتاب، ولقب المشركين بالكفار، كما يعبر عنهم في آيات أخرى بالمشركين والذين أشركوا; لأنهم لوثنيتهم عريقون في الكفر والشرك وأصلاء فيه، وأما أهل الكتاب فكان قد عرض الشرك والكفر للكثيرين منهم عروضا، وليس من أصل دينهم، ثم لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ازداد المعاندون منهم كفرا بجحود نبوته، وإيذائه.
{ واتقوا الله إن كنتم مؤمنين } أي واتقوا الله في أمر الموالاة، فلا تضعوها في غير موضعها، فينقلب الغرض إلى ضده، فتكون وهنا لكم، لا نصرا، وكذا في سائر الأوامر والنواهي، إن كنتم مؤمنين صادقين في إيمانكم، تحفظون كرامته، وتتجنبون مهانته.
{ وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا } أي وإذا أذن مؤذنكم بالدعوة إلى الصلاة، جعلها أولئك الذين نهيتم عن ولايتهم من أهل الكتاب والمشركين من الأمور التي يهزءون ويلعبون بها، ويسخرون من أهلها { ذلك بأنهم قوم لا يعقلون } حقيقة الدين وما يجب لله تعالى من الثناء والتعظيم. ولو كانوا يعقلون ذلك لخشعت قلوبهم كلما سمعوا مؤذنكم يكبر الله تعالى ويوحده بصوته الندي، ويدعو إلى الصلاة له والفلاح بمناجاته وذكره. والآية تدل على شرع الأذان، فهو ثابت بالكتاب والسنة معا، خلافا لما يوهمه حديث الأذان.
روينا وسمعنا من بعض النصارى المعتدلين في بلادنا كلمات الثناء والاستحسان لشعيرة الأذان من شعائر الإسلام، وتفضيلها على الأجراس والنواقيس المستعملة عندهم، وقد كان جماعة من بيوتات نصارى طرابلس مصطافين في بلدنا (القلمون) فكان النساء يجتمعن مع الرجال في النوافذ عند أذان المؤذن، ولا سيما أذان الصبح; ليسمعوا أذانه، وكان المؤذن ندي الصوت، حسنه. واتفق أن غاب المؤذن يوما، فأذن رجل قبيح الصوت، فلقي والدي رب بيت من تلك البيوتات، فقال له: إن مؤذنكم اليوم يستحق المكافأة علي؟ قال الوالد: بماذا؟ قال بأنه أرجع أهل بيتنا إلى دينهم، بعد أن صاروا مسلمين بأذان المؤذن الأول. وأنا أتذكر أن بعض صبيانهم حفظ الأذان، وصار يقلده تقليد استحسان، فتغضب والدته منه، وتنهاه عن الأذان، وأما والده فكان يضحك، ويسر لأذان ولده; لأنه كان على حرية وسعة صدر، ولا يدين بالنصرانية.
فالأذان ذكر مؤثر، لا تخفى محاسنه على من يعقل الدين، ويؤمن بالله العلي الكبير، ولا على غيرهم من العقلاء، وقد روي في التفسير المأثور عن السدي أنه قال في تفسير الآية: كان رجل من النصارى في المدينة إذا سمع المنادي ينادي " أشهد أن محمدا رسول الله " قال: أحرق الكاذب { دعاء عليه بالحريق } فدخلت خادمته ذات ليلة من الليالي بنار وهو نائم، وأهله نيام، فسقطت شرارة فأحرقت البيت، فاحترق هو وأهله، ووجود النصارى في المدينة كان نادرا، وأكثر هذا الاستهزاء كان يكون من اليهود، كما يعلم من رد الله تعالى عليهم في هذه الآيات التالية:
{ قل ياأهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون } الاستفهام للإنكار والتبكيت; أي قل أيها الرسول مخاطبا ومحتجا على أهل الكتاب دون المشركين: هل تنقمون منا شيئا; أي هل عندنا شيء تنكرونه وتعيبونه علينا، وتكرهوننا لأجله لمضادتكم إيانا فيه، إلا إيماننا الصادق بالله، وتوحيده وتنزيهه، وإثبات صفات الكمال له، وإيماننا بما أنزله، وبما أنزله من قبل على رسله؟ أي ما عندنا سوى ذلك، وهو لا يعاب ولا ينقم، بل يمدح صاحبه ويكرم، وإلا أن أكثركم فاسقون; أي خارجون من حظيرة هذا الإيمان الصحيح الكامل، وليس لكم من الدين إلا العصبية الجنسية، والتقاليد الباطلة؟ فلذلك تعيبون الحسن من غيركم، وترضون القبيح من أنفسكم.
يقال: نقم منه كذا ينقم (كضرب يضرب) إذا أنكره عليه بالقول والفعل، وعابه به، وكرهه لأجله، وهو من مادة النقمة، وهي كراهة السخط والعقاب المرتب عليها، ويقال: نقم ينقم (بوزن علم يعلم) والمستعمل في القرآن الأول.
روى ابن جرير وغيره عن ابن عباس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من اليهود، فيهم أبو ياسر بن أخطب، ورافع بن أبي رافع، وعاري، وزيد، وخالد، وإزار بن أبي إزار، وواسع، فسألوه عمن يؤمن به من الرسل، فقال: " آمنا بالله، وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون" فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته، وقالوا لا نؤمن بمن آمن به، فأنزل الله فيهم: { قل يا أهل الكتاب }... إلخ. والمعنى: أن الآية تتناول هؤلاء أولا وبالذات، وتعم كل ناقم من المسلمين.
وفي قوله تعالى: { وأن أكثركم فاسقون } ما نبهنا على مثله من دقة القرآن في الحكم على الأمم والشعوب; إذ يحكم على الكثير أو الأكثر، وما عم إلا واستثنى، وقد كان ولا يزال في أهل الكتاب أناس لا يزالون معتصمين بأصول الدين وجوهره من التوحيد وحب الحق والعدل والخير، وهؤلاء هم الذين كانوا يسارعون إلى الإسلام إذا عرفوه بقدر نصيب كل من جوهر الدين ونور البصيرة. وهذا لا ينافي ما كان من طروء التحريف على دينهم، ونسيان حظ ونصيب مما نزل إليهم.
{ قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله } المثوبة كالمقولة من ثاب الشيء يثوب، وثاب إليه، إذا رجع; فهي الجزاء والثواب، واستعماله في الجزاء الحسن أكثر، وقيل استعماله في الجزاء السيئ تهكم، والمعنى هل أنبئكم يا معشر المستهزئين بديننا وأذاننا بما هو شر من عملكم هذا ثوابا وجزاء عند الله تعالى؟ وهذا السؤال يستلزم سؤالا منهم عن ذلك، وجوابه قوله تعالى: { من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت } أي إن الذي هو شر من ذلك ثوابا وجزاء عند الله، هو عمل من لعنه الله، أو جزاء من لعنه الله... إلخ. فهو على حد قوله تعالى:
{ { ولكن البر من اتقى } [البقرة: 189] وقوله: { { ولكن البر من آمن بالله } [البقرة: 177] وفي هذا التعبير وجه آخر، وهو: هل أنبئكم بشر من أهل ذلك العمل مثوبة عند الله؟ هم الذين لعنهم الله... إلخ. كما تقول في تفسير الآية الأخرى: ولكن ذا البر من اتقى.
انتقل بهذه الآية من تبكيت اليهود وإقامة الحجة على هزئهم ولعبهم بما تقدم، إلى ما هو أشد منه تبكيتا وتشنيعا عليهم، بما فيه من التذكير بسوء حالهم مع أنبيائهم، وما كان من جزائهم على فسقهم، وتمردهم بأشد ما جازى الله تعالى به الفاسقين الظالمين لأنفسهم، وهو اللعن والغضب، والمسخ الصوري أو المعنوي، وعبادة الطاغوت، وقد عظم شأن هذا المعنى بتقديم الاستفهام عليه، المشوق إلى الأمر العظيم المنبأ عنه.
أما لعن الله فهو مبين مع سببه في عدة آيات من سورتي البقرة والنساء، وقد تقدم تفسيره، وكذا هذه السورة (المائدة) فسيأتي في غير هذه الآية، خبر لعنهم، ومنها أنهم لعنوا على لسان داود وعيسى ابن مريم عليهما السلام. وبعض ذلك اللعن مطلق، وبعضه مقيد بأعمال لهم; كنقض الميثاق. والفرية على مريم العذراء، وترك التناهي عن المنكر. ومنه لعن أصحاب السبت; أي الذين اعتدوا فيه. وقد ذكر في سورة البقرة مجملا، وسيأتي في سورة الأعراف مفصلا.
والغضب الإلهي يلزم اللعنة وتلزمه، بل اللعنة عبارة عن منتهى المؤاخذة لمن غضب الله عليه، وتقدم تفسير كل منهما.
وأما جعله منهم القردة والخنازير فتقدم في سورة البقرة، وسيأتي في سورة الأعراف. قال تعالى في الأول:
{ { ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين } [البقرة: 65] وقال بعد بيان اعتدائهم في السبت من الثانية: { { فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين } [الأعراف: 166] وجمهور المفسرين على أن معنى ذلك أنهم مسخوا فكانوا قردة وخنازير حقيقة، وانقرضوا; لأن الممسوخ لا يكون له نسل كما ورد. وفي الدر المنثور " أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم في قوله: { فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين } قال: مسخت قلوبهم، ولم يمسخوا قردة، وإنما هو مثل ضربه لهم كمثل الحمار يحمل أسفارا "; فالمراد على هذا أنهم صاروا كالقردة في نزواتها، والخنازير في اتباع شهواتها، وتقدم في تفسير آية البقرة ترجيح هذا القول من جهة المعنى، بعد نقله عن مجاهد من رواية ابن جرير.
قال: " مسخت قلوبهم، ولم يمسخوا قردة، وإنما هو مثل ضربه الله لهم كمثل الحمار يحمل أسفارا " ولا عبرة برد ابن جرير قول مجاهد هذا، وترجيحه القول الآخر فذلك اجتهاده، وكثيرا ما يرد به قول ابن عباس والجمهور. وليس قول مجاهد بالبعيد من استعمال اللغة; فمن فصيح اللغة أن تقول: ربى فلان الملك قومه أو جيشه على الشجاعة والغزو، فجعل منهم الأسود الضواري، وكان له منهم الذئاب المفترسة.
وأما قوله تعالى: { وعبد الطاغوت } ففيه قراءتان سبعيتان متواترتان، وعدة قراءات شاذة، قرأ الجمهور " عبد " بالتحريك على أنه فعل ماض من العبادة، و " الطاغوت " بالنصب مفعوله، والجملة على هذا معطوفة على قوله: (لعنه الله) أي هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله؟ هم من لعنه الله، وغضب عليه... إلخ، ومن عبد الطاغوت. وقرأ حمزة (وعبد) بفتح العين والدال وضم الباء، وهو لغة في )عبد) بوزن (بحر) واحد العبيد، وقرأ (الطاغوت) بالجر بالإضافة، وهو على هذا معطوف على (القردة) أي وجعل منهم عبيد الطاغوت، بناء على أن عبدا يراد به الجنس لا الواحد، كما تقول: كاتب السلطان يشترط فيه كذا وكذا، وقد تقدم أن الطاغوت اسم فيه معنى المبالغة من الطغيان الذي هو مجاوزة الحد المشروع والمعروف إلى الباطل والمنكر; فهو يشمل كل مصادر طغيانهم، وخصه بعض المفسرين بعبادة العجل، ولا دليل على التخصيص.
{ أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل } أي أولئك الموصوفون بما ذكر من المخازي والشنائع شر مكانا; إذ لا مكان لهم في الآخرة إلا النار، أو المراد بإثبات الشر لمكانهم إثباته لأنفسهم من باب الكناية، الذي هو كإثبات الشيء بدليله، وأضل عن قصد طريق الحق ووسطه الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، ومن كان هذا شأنه لا يحمله على الاستهزاء بدين المسلمين وصلاتهم وأذانهم واتخاذها هزؤا ولعبا إلا الجهل وعمى القلب.
{ وإذا جاءوكم قالوا آمنا } الكلام في منافقي اليهود الذين كانوا في المدينة وجوارها; أي ذلك شأنهم في حال البعد عنكم، وإذا جاءوكم قالوا للرسول ولكم: إننا آمنا بالرسول، وما أنزل عليه { وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به } أي والحال الواقعة منهم أنهم دخلوا عليكم متلبسين بالكفر، وهم أنفسهم قد خرجوا متلبسين به; فحالهم عند خروجهم هي حالهم عند دخولهم، لم يتحولوا عن كفرهم بالرسول، وما نزل من الحق، ولكنهم يخادعونكم، كما قال في آية البقرة: { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم } [البقرة: 76].
الآية { والله أعلم بما كانوا يكتمون } عند دخولهم من قصد تسقط الأخبار والتوسل إليه بالنفاق والخداع، وعند خروجهم من الكيد والمكر والكذب الذي يلقونه إلى البعداء من قومهم، كما تقدم قريبا في تفسير { سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين }.
ونكتة قوله: { وهم قد خرجوا به } هي تأكيد كون حالهم في وقت الخروج كحالهم في وقت الدخول، وإنما احتاج هذا للتأكيد لمجيئه على خلاف الأصل; لأن من كان يجالس الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم يسمع من العلم والحكمة ويرى من الفضائل ما يكبر في صدره، ويؤثر في قلبه، حتى إذا كان سيئ الظن رجع عن سوء ظنه، وأما سيئ القصد فلا علاج له، وقد كان يجيئه الرجل يريد قتله، فإذا رآه وسمع كلامه آمن به وأحبه.
وهذا هو المعقول الذي أيدته التجربة، وإنما شذ هؤلاء وأمثالهم; لأن سوء نيتهم وفساد طويتهم قد صرفا قلوبهم عن التذكر والاعتبار، ووجها كل قواهم إلى الكيد والخداع والتجسس وما يراد به، فلم يبق لهم من الاستعداد ما يعقلون به تلك الآيات، ويفهمون مغزى الحكم والآداب.
{ { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } [الأحزاب: 4].
{ وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت } أي وترى أيها الرسول أو أيها السامع كثيرا من هؤلاء اليهود، الذين اتخذوا دين الحق هزؤا ولعبا، يسارعون فيما هم فيه من قول الإثم وعمله، وهو كل ما يضر قائله وفاعله في دينه ودنياه، وفي العدوان وهو الظلم وتجاوز الحقوق والحدود الذي يضر الناس، وفي أكل السحت وهو الدنيء من المحرم - كما تقدم - ولم يقل: يسارعون إلى ذلك; لأن المسارع إلى الشيء يكون خارجا عنه، فيقبل عليه بسرعة، وهؤلاء غارقون في الإثم والعدوان، وإنما يسارعون في جزئيات وقائعهما، كلما قدروا على إثم أو عدوان ابتدروه، ولم ينوا فيه { لبئس ما كانوا يعملون } تقبيح للعمل الذي كانوا يعملونه في استغراقهم في المعاصي المفسدة لأخلاقهم، وللأمة التي يعيشون فيها إن لم تنههم وتزجرهم على أنهم تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلم يكن يقوم به أحد منهم، لا العلماء ولا العباد; إذ كان الفساد قد عم الجميع; ولذلك قال:
{ لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون } أي هلا ينهى هؤلاء المسارعين فيما ذكر أئمتهم في التربية والسياسة وعلماء الشرع والفتوى فيهم عن قول الإثم كالكذب، وأكل السحت كالرشوة ! لبئس ما كان يصنع هؤلاء الربانيون والأحبار من الرضا بهذه الأوزار، وترك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. روي عن ابن عباس أنه قال: ما في القرآن أشد توبيخا من هذه الآية; أي فهي حجة على العلماء إذا قصروا في الهداية والإرشاد، وتركوا النهي عن البغي والفساد، وإذا كان حبر الأمة ابن عباس يقول هذا، فما قول علماء السوء الذين أضاعوا الدين وأفسدوا الأمة بترك هذه الفريضة؟ ومن العجائب أننا نقرأ توبيخ القرآن لعلماء اليهود على ذلك، ونعلم أن القرآن أنزل موعظة وعبرة، ثم لا نعتبر بإهمال علمائنا لأمر ديننا، وعناية علمائهم في هذا العصر بأمر دينهم ودنياهم، وسيأتي بسط هذا المعنى إن شاء الله تعالى.
ومن مباحث البلاغة في التعبير التفرقة بين " يعملون "، و " يصنعون " قال الراغب: الصنع: إجادة الفعل; فكل صنع فعل، وليس كل فعل صنعا، ولا ينسب إلى الحيوانات والجمادات كما ينسب الفعل، انتهى. وقال غيره: الصنع أخص من العمل; فهو ما صار ملكة منه، والعمل أخص من الفعل; لأنه فعل بقصد، وقال في الكشاف: كأنهم جعلوا " آثم " من مرتكبي المناكير; لأن كل عامل لا يسمى صانعا، ولا كل عمل يسمى صناعة حتى يتمكن فيه ويتدرب وينسب إليه، وكان المعنى في ذلك أن مواقع المعصية مع الشهوة التي تدعوه إليها وتحمله على ارتكابها، وأما الذي ينهاه فلا شهوة معه في فعل غيره، فإذا فرط في الإنكار كان أشد إثما من المواقع، انتهى.
والذي أفهمه أن معاصي العوام من قبيل ما يحصل بالطبع; لأنه اندفاع مع الشهوة بلا بصيرة، ومعصية العلماء بترك النهي عن المنكر والأمر بالمعروف من قبيل الصناعة المتكلفة; لفائدة للصانع فيها يلتمسها ممن يصنع له، وما ترك العلماء النهي عن المنكر، وهم يعلمون ما أخذ الله عليهم من الميثاق، إلا تكلفا لإرضاء الناس، وتحاميا لتنفيرهم منهم، فهو إيثار لرضاهم على رضوان الله وثوابه، والأقرب أن يكون من الصنع، لا من الصناعة، وهو العمل الذي يقدمه المرء لغيره يرضيه به.