خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ ٱلْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِٱلْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ
١١٤
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
١١٥
-الأنعام

تفسير المنار

بين الله تعالى في السياق الذي قبل هذا أن الذين اقترحوا على رسوله الآيات الكونية وأقسموا بأنهم يؤمنون بها إذا جاءتهم كاذبون في دعواهم وأيمانهم، كما ثبت فيما مضت به سنة الله في أمثالهم من أعداء الرسل المعاندين، وهم شياطين الإنس والجن الذين يغرون الجاهلين بزخرف أقوالهم. فيصرفونهم بها عن الحق ويزينون لهم الباطل، فتميل إليه قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة ويرضونه لموافقته لأهوائهم فيحملهم على اقتراف السيئات وارتكاب المنكرات.
ثم قفى عليه بهاتين الآيتين المبينتين لآية الله الكبرى التي هي أقوى دلالة على رسالة نبيه من جميع ما اقترحوا ومما لم يقترحوا من الآيات الكونية. وهي القرآن الحكيم، وكون منزلها هو الذي يجب الرجوع إليه في الحكم في أمر الرسالة وغيره، واتباع حكمه فيها دون شياطين الإنس والجن المبطلين المضلين فقال آمرا لرسوله أن يقول لهم:
{ أفغير الله أبتغي حكما } الحكم، بفتحتين كالجبل، هو من يتحاكم الناس إليه باختيارهم ويرضون بحكمه وينفذونه، أي أأطلب حكما غير الله تعالى يحكم بيني وبينكم في هذا الأمر غيره { وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا } أي والحال أنه هو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا فيه كل ما يصح به الحكم - فإنزاله مشتملا على الحكم التفصيلي للعقائد والشرائع وغيرها على لسان رجل منكم أمي مثلكم هو أكبر دليل وأوضح آية على أنه من عند الله تعالى لا من عنده هو، كما قال بأمر الله في آية أخرى:
{ { فقد لبثت فيكم عمرا من قبله } [يونس: 16] جاوز الأربعين من السنين، ولم يصدر عني فيه شيء من مثله في علومه ولا في إخباره بالغيب ولا في أسلوبه ولا في فصاحته وبلاغته { أفلا تعقلون } أن مثل هذا لا يكون إلا بوحي من العليم الحكيم؟
ثم إن ما فصل فيه من سنن الله تعالى في طباع البشر وأخلاقهم وارتباط أعمالهم بما استقر في أنفسهم من الآراء والأفكار والأخلاق والعادات - الموضح بقصص من قبلنا من الأمم - برهان علمي على صحة ما حكم به في طلبكم الآية الكونية وزعمكم أنكم تؤمنون بها، وقد تقدم توجيهه في تفسير السياق الأخير في طلبها وفي أمثاله، كما تقدم بيان كون القرآن أدل على صحة الرسالة وصدق الرسول من جميع الآيات التي جاء بها الرسل عليهم السلام، وهو في مواضع من التفسير والمنار، ومن أقربها ما جاء في تفسير الآية 37 من هذه السورة [ص323 وما بعدها ج 7 ط الهيئة].
{ والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق } أي والذين أعطيناهم علم الكتب المنزلة من قبله كعلماء اليهود والنصارى دون المقلدين منه يعلمون أن هذا الكتاب منزل عليك من ربك بالحق. وبيان هذا من وجهين:
{ أحدهما } أن العالم بالشيء يميز بين ما كان منه وما لم يكن، فمن ألف كتابا في علم الطب كان الأطباء أعلم الناس بكونه طبيبا، ومن ألف كتابا في النحو كان النحاة أعلم الناس بكونه نحويا، كذلك المؤمنون بالوحي العالمون بما أنزل الله على أنبيائهم منه يعلمون أن هذا القرآن من جنس ذلك الوحي وفي أعلى مراتب الكمال منه، وأن أوسع البشر علما لا يستطيع أن يأتي بمثله، فكيف يستطيعه رجل أمي لم يقرأ ولم يكتب قبله شيئا
{ { وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون } [العنكبوت: 48] ولذلك قال تعالى في آية أخرى: { { أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل } [الشعراء: 197].
ثانيهما أن في الكتب الأخيرة كالتوراة والإنجيل بشارات بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم تكن تخفى على علمائهما في زمنه صلى الله عليه وسلم، وقد بينا بعضها وسيأتي تفصيلها في الجزء التاسع، وقال تعالى:
{ { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون } [البقرة: 146] وقد اعترف المنصفون من أولئك العلماء بذلك وآمنوا، وكتم بعضهم الحق وأنكروه بغيا وحسدا كما بيناه في محله.
والخطاب في قوله تعالى: { فلا تكونن من الممترين } للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره، على حد قولهم: إياك أعني واسمعي يا جارة، وقيل: لكل مخاطب، أي فلا تكونن من الشاكين في ذلك. على أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الشك في كون أهل الكتاب يعلمون أنه منزل بالحق مقرونا بإخباره به لا يقتضي جواز شكه فيه بعد هذا الإخبار، فإن كان يشك فيه قبله فلا ضرر.
{ وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا } الكلمة تطلق على الجملة والطائفة من القول في معنى واحد أو غرض واحد طال أو قصر، فإذا ألقى أفراد خطبا أو كتبوا مقالات في موضوع ما، قيل في كل خطبة وكل مقالة: هذه كلمة فلان، وروي أن العرب كانت تسمي القصيدة من الشعر كلمة ; لأن القصيدة تقال في غرض واحد وإن اشتملت على معان كثيرة، وتسمى جملة " لا إله إلا الله " كلمة التوحيد،
ومن هنا قال بعض المفسرين: إن المراد بالكلمة في هذه الآية القرآن. وهو جائز لغة ولكنه غير ظاهر معنى، وإنما الظاهر المتبادر بقرينة السياق أن الكلمة هنا من قبيل قوله تعالى:
{ { وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } [هود: 119] وقوله: { { وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا } [الأعراف: 137] الآية فمعنى الجملة: وتمت كلمة ربك أيها الرسول فيما وعدك به من نصرك، وما أوعد به هؤلاء المستهزئين بالقرآن المقترحين للآيات وأمثالهم من معاندي قومك المستكبرين عن الإيمان بك من خذلانهم وهلاكهم، كما تمت من قبل في الرسل وأعدائهم من قبلك، وهي قوله تعالى: { { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون } [الصافات: 171 173] وما في معناها من عام كقوله تعالى: { { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد } [غافر: 51] وخاص كقوله لرسوله عليه الصلاة والسلام: { { إنا كفيناك المستهزئين } [الحجر: 95]
أما تمامها صدقا فهو وقوع مضمونها من حيث كونها خبرا، وأما تمامها عدلا فمن حيث كونها جزاء للكافرين المعاندين للحق بما يستحقون، وللمؤمنين المهتدين بما يستحقون، وإن كانوا بمقتضى الفضل يزادون، وإذا كانت هذه الآية نزلت بمكة قبل نصر الله تعالى نبيه على طغاة قومه في بدر وغيرها، فالفعل الماضي فيها " تمت " بمعنى المستقبل، فهو لتحقق وقوعه كأنه وقع،
وهذا من ضروب المبالغة البليغة. وفيه وجه آخر وهو أن المراد بالخبر هنا لازمه وهو تأكيد ما تضمنته هذه الآيات من تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عن كفر هؤلاء المعاندين وإيذائهم له ولأصحابه وإيئاس الطامعين من المسلمين في إيمانهم بإيتائهم الآيات المقترحة، كأنه يقول: كما أن سنتي مضت بأن يكون للرسل أعداء من شياطين الإنس والجن، قد تمت كلمتي بنصر المرسلين، وخذلان هؤلاء الطغاة المفسدين.
{ لا مبدل لكلماته } كما أنه لا تبديل لسننه
{ { سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا } [الأحزاب: 62] والتبديل التغيير بالبدل. وهذه الجملة تعليل لما قبلها، والمعنى أن كلمة الله تعالى في نصرك أيها الرسول وخذلان أعدائك قد تمت وأصبح نفوذها حتما لا مرد له ; لأن كلمات الله التي هي من أفرادها لا مبدل لها ; إذ لا يستطيع أحد من خلقه - وكل ما عداه فهو من خلقه - أن يزيل كلمة من كلماته بكلمة أخرى تخالفها، أو يمنع صدقها على من وردت فيهم، كأن يجعل الوعد وعيدا أو الوعيد وعدا أو يصرفهما عن الموعود بالثواب أو الموعد بالعقاب إلى غيرهما أو يحول دون وقوعهما ألبتة. فإن قيل: إن بعض المتكلمين جوز تخلف الوعيد دون الوعد لأنه فضل وإحسان، قلنا: لم يجوز أحد من محققي أهل الحق تخلف الوعيد مطلقا، بل صرحوا بأن من أصول العقيدة أن نفوذ الوعيد في الكفار وفي طائفة من عصاة المؤمنين حق، وإنما قيل: يتخلف شمول الوعيد لجميع العصاة الذي يدل عليه إطلاق بعض النصوص،
ولنا أن نقول: إن هذا ليس بتخلف فيقال: إنه تبديل لكلمات الله سبحانه وتكذيب لها، فإنه -تعالى- لم يرد بتلك الإطلاقات الشمول العام لجميع أفراد من وردت فيهم تلك النصوص، لأنه بين في نصوص أخرى أنه يعفو عن بعض الذنوب ويغفر لمن يشاء من مقترفيها ويعذب من يشاء، وهو يعلم من أراد المغفرة لهم ومن أراد تعذيبهم ولا يبدل كلامه في أحد منهما، وأبهم ذلك علينا لنرجوه دائما ولا يوقعنا العمل الصالح في الغرور والأمن من عذابه فنقصر، ونخافه دائما ولا يوقعنا ارتكاب الذنب في اليأس من رحمته فنهلك، وقد أحسن أبو الحسن الشاذلي في قوله في هذا المقام: وقد أبهمت الأمر علينا لنرجو ونخاف فأمن خوفنا ولا تخيب رجاءنا.
فإن قيل: أليس الشفعاء يؤثرون في إرادته تعالى فيحملونه على العفو عن المشفوع لهم والمغفرة لهم؟ قلنا: كلا إن المخلوق لا يقدر على التأثير في صفات الخالق الأزلية الكاملة، وقد نطقت الآيات بأن الشفاعة لله جميعا، ليس لأحد من دونه ولي ولا شفيع، ولا يستطيع أحد أن يشفع عنده إلا بإذنه، وهو لا يأذن إلا لمن تعلقت مشيئته وعلمه في الأزل بالإذن لهم
{ { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون } [الأنبياء: 28] فيكون ذلك إظهار كرامة وجاه لهم عنده، لا إحداث تأثير للحادث في صفات القديم وسلطان له عليها، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وقد تقدم تحقيق هذه المسألة مرارا.
فإن قيل: ألا يدل قوله: { لا مبدل لكلماته } على استحالة التحريف أو التبديل في الكتب الإلهية أي في لفظها وعبارتها، كاستحالة التبديل في صدقها ونفوذها؟ قلنا: إنما ورد السياق والنص في صدقها وعدلها في لفظها، وقد أثبت الله في كتابه تحريف أهل الكتاب قبلنا لكلامه ونسيانهم حظا منه،
وما كفل تعالى حفظ كتاب من كتبه بنصه إلا هذا القرآن المجيد الذي قال فيه:
{ { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } [الحجر: 9] وظهر صدق كفالته بتسخير الألوف الكثيرة في كل عصر لحفظه عن ظهر قلب، ولكتابة النسخ التي لا تحصى منه في كل عصر من زمن الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم - إلى هذا العصر، وناهيك بما طبع من ألوف الألوف من نسخه في عهد وجود الطباعة بمنتهى الدقة والتصحيح، ولم يتفق مثل ذلك لكتاب إلهي ولا غير إلهي، فأهل الكتاب لم يحفظوا كتب رسلهم في الصدور ولا في السطور، وسيأتي بسط هذا في موضعه إن شاء الله تعالى.
وقد ختمت هذه الآية بقوله تعالى { وهو السميع العليم } لأنه تذييل للسياق الأخير كله لا لهذه الآية فقط، وهو سياق محاجة المشركين المعاندين مقترحي الآيات، وفيه ذكر اقتراحهم وأيمانهم الكاذبة، وذكر سائر أعداء الرسل أمثالهم من شياطين الإنس والجن وخداعهم للناس بزخرف القول، وصغي قلوب منكري البعث والجزاء إليه وضلالهم به، فهو يقول إنه تعالى سميع لتلك الأقوال الخادعة منهم، عليم بما في قلوبهم من ذلك الصغي والميل وغيره من مقاصدهم ونياتهم، وبما يقترفون من السيئات بكفرهم وغرورهم.