خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ ٱلْحَرْثِ وَٱلأَنْعَٰمِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَـٰذَا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـٰذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَىٰ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ للَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَآئِهِمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ
١٣٦
وَكَذٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَٰدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ
١٣٧
وَقَالُواْ هَـٰذِهِ أَنْعَٰمٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَٰمٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَٰمٌ لاَّ يَذْكُرُونَ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهَا ٱفْتِرَآءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
١٣٨
وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَـٰذِهِ ٱلأَنْعَٰمِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰ أَزْوَٰجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ
١٣٩
قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ قَتَلُوۤاْ أَوْلَٰدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ ٱللَّهُ ٱفْتِرَآءً عَلَى ٱللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ
١٤٠
-الأنعام

تفسير المنار

بعد محاجة مشركي مكة وسائر العرب فيما تقدم من أصول الدين وآخرها البعث والجزاء ذكر بعض عباداتهم الشركية في الحرث وقتل الأولاد والتحليل والتحريم بباعث الأهواء النفسية. والخرافات الوثنية.
فقال: { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا } أي وكان من أمرهم من ضلالتهم العملية أن جعلوا لله نصيبا مما ذرأ وخلق لهم من ثمر الزرع وغلته كالتمر والحبوب ونتاج الأنعام، ونصيبا لمن أشركوا معه من الأوثان والأصنام وقد حذف ذكر هذا النصيب إيجازا لدلالة ما بعده عليه وهو قوله تعالى: { فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا }
أي فقالوا في الأول: هذا لله، أي نتقرب به إليه. وفي الثاني: هذا لشركائنا، أي معبوداتهم يتقربون به إليها. وقوله في الأول بزعمهم معناه بتقولهم ووضعهم الذي لا علم لهم به ولا هدى من الله; لأن جعله قربة لله يجب ألا يشرك معه غيره في مثله وأن يكون بإذن منه تعالى لأنه دين، وإنما الدين لله ومن الله وحده. وأما كونه لله خلقا وملكا فغير مراد في هذه القسمة، فإن له تعالى كل شيء لأنه خالق كل شيء لا شريك له في الخلق وهذا لا خلاف فيه بينهم وبين المؤمنين، وإنما الخلاف في التقرب إلى غيره تعالى بما يتقرب به إليه من دعاء وصدقة وذبائح نسك، وأن يطاع غيره طاعة خضوع في التحليل والتحريم لذاته بغير إذن منه تعالى وغير ذلك. فهذا شرك جلي. ومنه هذه القسمة بين الله تعالى وبين ما أشركوا معه.
روي أنهم كانوا يجعلون نصيب الله تعالى لقرى الضيفان وإكرام الصبيان والتصدق على المساكين، ونصيب آلهتهم لسدنتها وقرابتها وما ينفق على معاهدها فإن قيل: لم قرن الأول بالزعم الذي يعبر به عن قول الكذب والباطل على ما فيه من البر والخير، دون الثاني الذي هو شر محض وباطل بحت وبه كان الأول شركا في القسمة ودون جعله لكل منهما؟
نقول: إن الأول وحده هو الذي يمكن أن يستحسنه المؤمن أو العاقل وإن لم يكن مؤمنا، فاحتيج إلى قرنه بكونه زعما مخترعا لهم لا دينا مشترعا لله تعالى، فكان بهذا باطلا في نفسه فوق كونه مقرونا بالشرك إذ جعلوا مثله لما اتخذوا لله من الأنداد مع أحكام أخرى لهم فيه فصلها بقوله: { فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله } أي فما كان منه للتقرب إلى شركائهم التي جعلوها لله فلا يصل إلى الوجوه التي جعلوها لله لا بالتصدق ولا بالضيافة ولا غيرهما، بل يعنون بحفظه لها بإنفاقه على سدنتها وذبح النسائك عندها ونحو ذلك { وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم } أي وما جعلوه لله فهو يحول أحيانا إلى التقرب به إليها فيما ذكر آنفا وفي غيره مما سيأتي { ساء ما يحكمون } أي قبح حكمهم هذا أو ما يحكمون به.
وقبحه من وجوه، منها أنه اعتداء على الله بالتشريع. ومنها الشرك في عبادته ولا يجوز أن يكون لغير الله أدنى نصيب مما يتقرب به إليه. ومنها ترجيح ما جعلوه لشركائهم على ما جعلوه لخالقها وخالقهم فيما فصل آنفا وهو أدنى الوجوه الثلاثة المحتملة في القسمة. والثاني: المساواة بين ما لشركائهم وما لله سبحانه. والثالث: ترجيح ما لله تعالى، ومنها أن هذا الحكم لا مستند له من العقل، كما أنه لا هداية له من الشرع. وهذا مما يستدل به على أن العقول تدرك حسن الأحكام وقبحها ويحتج بها فيها. ولما كان مورد هذا هو الرواية وقد روي عنهم سخافات أخرى في هذه القسمة الجائرة، اخترنا أن ننقل ما أورده الحافظ ابن كثير في تفسير الآية قال:
قال علي بن أبي طلحة، والعوفي، عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية: إن أعداء الله كانوا إذا حرثوا حرثا أو كانت لهم ثمرة جعلوا لله منه جزءا وللوثن جزءا، فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه وإن سقط منه شيء فيما سمي للصمد. ردوه إلى ما جعلوه للوثن. وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن فسقى شيئا جعلوه لله جعلوا ذلك للوثن.
وإن سقط شيء من الحرث والثمرة الذي جعلوه لله فاختلط بالذي جعلوه للوثن قالوا هذا فقير ولم يروه إلى ما جعلوه لله. وإن سبقهم الماء الذي جعلوه لله فسقى ما سمي للوثن تركوه للوثن. وكانوا يحرمون من أموالهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي فيجعلونه للأوثان ويزعمون أنهم يحرمونه قربة لله، فقال الله تعالى: { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا } الآية. وهكذا قال مجاهد، وقتادة، والسدي وغير واحد،
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في الآية: كل شيء يجعلونه لله من ذبح يذبحونه لا يأكلونه أبدا حتى يذكروا معه أسماء الآلهة وما كان للآلهة لم يذكروا اسم الله معه، وقرأ الآية حتى بلغ { ساء ما يحكمون } أي ساء ما يقسمون; لأنهم أخطئوا أولا في القسم; لأن الله تعالى هو رب كل شيء ومليكه وخالقه وله الملك وكل شيء له وفي تصرفه وتحت قدرته ومشيئته لا إله غيره ولا رب سواه. ثم لما قسموا فيما زعموا القسمة الفاسدة لم يحفظوها بل جاروا فيها بقوله جل وعلا:
{ { ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون } [النحل: 57] وقال تعالى: { { وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين } [الزخرف: 15] وقال تعالى: { { ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى } [النجم: 21، 22] اهـ.
{ وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم } هذا حكم آخر مما كانوا عليه من أعمال الشرك التي لا يستحسنها عقل سليم، ولم تستند إلى شرع إلهي قويم، أي ومثل ذلك التزيين لقسمة القرابين من الحرث والأنعام بين الله تعالى وبين آلهتهم زين لكثير من المشركين شركاؤهم قتل أولادهم. فأما الشركاء هنا فقيل: هم سدنة الآلهة وخدمها
وقيل: بل هم الشياطين الذين يوسوسون لهم ما يزين ذلك في أنفسهم، وإنما سمي كل منهما شريكا لأنه يطاع ويدان له فيما لا يطاع به إلا الله تعالى، ولهذا التزيين وجوه:
(أحدها) اتقاء الفقر الواقع أو المتوقع، فالأول هو ما بينه الله تعالى بقوله:
{ { ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم } [الأنعام: 151] والثاني ما بينه بقوله: { { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم } [الإسراء: 31] وقدم في الأول رزق الوالدين على رزق الأولاد لأن الولد الصغير تابع لوالده في الرزق الحال، وقدم في الثاني رزق الأولاد على رزق الوالدين لتعلقه بالمستقبل، وكثيرا ما يعجز فيه الآباء عن كسب الرزق ويحتاجون إلى إنفاق أولادهم عليهم:
(والوجه الثاني) اتقاء العار وهو خاص بوأد البنات - أي دفنهن حيات - خشية أن يكن سببا للعار إذا كبرن; فهم يصورون البنت لوالدها الجبار العاتي ترتكب الفاحشة أو تقترن بزوج دونه في الشرف والكرامة فتلحقه الخسة، أو تسبى في القتال.
(والوجه الثالث) التدين بنحر الأولاد للآلهة تقربا إليها بنذر أو بغير نذر، وكان الرجل ينذر في الجاهلية لئن ولد له كذا غلاما لينحرن أحدهم، كما حلف عبد المطلب وخبره معروف يذكر في قصص المولد النبوي.
ولولا الشرك الذي يفسد العقول لما راجت هذه الوسوسة عندهم; ولذلك عبر عنهم هنا بوصف (المشركين) في مقام الإضمار لأن الكلام السابق فيهم، وسمى المزينين لهم ذلك من شياطين الإنس كالسدنة أو الجن شركاء وإن لم يسموهم هم آلهة أو شركاء; لأنهم أطاعوهم طاعة إذعان ديني في التحليل والتحريم وهو خاص بالرب المعبود كما ورد مرفوعا في تفسير
{ { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } [التوبة: 31] فإن مقتضى الفعل الإذعاني أقوى دلالة من مدلول القول اللساني لكثرة الكذب في هذا دون ذاك، وإننا نرى كثيرا من الذين يدعون التوحيد يدعون غير الله تعالى من الموتى تضرعا وخفية خاشعين عند قبورهم باكين متضرعين، ويتقربون إليهم بالصفات وذبائح النسك منذورة أو غير منذورة، ولكنهم لا يسمونهم شركاء لله ولا يسمون عبادتهم هذه شركا ولا عبادة، وقد يسمونها توسلا.
والأسماء لا تغير الحقائق والأفعال، ومنها الأقوال كالدعاء أدل على الحقائق من التسمية الاصطلاحية والتأويلات الجدلية، فهذه أفعال عبادة لغير الله حقيقة لغة وشرعا لا مجازا.
وقرأ ابن عامر { زين } بالبناء للمفعول الذي هو { قتل } ونصب { أولادهم } مفعولا للقتل وجر الشركاء بإضافة القتل إليه مع الفصل بينهم بمفعوله، وهو غير فصيح في عرف النحاة وإن أجازوه حتى في غير الشعر; ولذلك أنكر القراءة الزمخشري وغلط ابن عامر لظنه أنه استنبطها من كتابة بعض المصاحف، وانتصر لها ابن مالك في الألفية وشنعوا على الزمخشري في إنكارها وكانوا يكفرونه به، ولكن سبقه به إمام المفسرين ابن جرير الطبري والقرآن من جميع رواياته الثابتة بالتواتر حجة على كل أحد، وقد تكون القراءة فصيحة على لغة القبيلة التي وردت ببيان عملها وإن لم تكن فصيحة عند من راعى جمهور النحاة لغاتهم في القواعد، وقد يكون ورود القراءة بغير الشائع في الاستعمال هو ما يسميه النحاة شاذا; لنكتة تجعلها من البلاغة بمكان كإفادة معنى جديد مع منتهى الإيجاز، كما يدل عليه معنى هذه القراءة وكثير من القراءات.
ومعناها زين لكثير من المشركين قتل شركائهم لأولادهم أي استحسنوا ما توسوسه شياطين الإنس من سدنة الأصنام وشياطين الجن من قتل الأولاد فكأن هؤلاء الشركاء هم الذين قتلوهم. ففائدة هذه القراءة إذا تذكير أولئك السفهاء بقبح طاعة أولئك الشركاء في أفظع الجرائم والجنايات وهو قتل الأولاد.
ثم علل هذا التزيين بقوله تعالى: { ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم } أي زينوا لهم هذه المنكرات ليردوهم، أي يهلكوهم بالإغواء وهو إفساد الفطرة، الذي يذهب بما أودع في قلوب الوالدين من عواطف الرأفة والرحمة، بل يقلبها إلى منتهى الوحشية والقسوة، حتى ينحر الوالد ريحانة قلبه بمديته. ويدفن بنته الضعيفة وهي حية بيده. فهذا إرداء نفسي معنوي فوق الإرداء الحسي وهو القتل وتقليل النسل. وأما لبس دينهم عليهم فالمراد بالدين فيه ما كانوا يتبعونه من دين إبراهيم وملة إبراهيم عليهما السلام،
وقد اشتبه واختلط عليهم بما ابتدعوه من هذه التقاليد الشركية، حتى لم يعد يعرف الأصل الذي كان يتبع من هذه الإضافات الشركية التي لا تزال تبتدع، فاللبس: الخلط بين الشيئين أو الأشياء الذي يشتبه فيه بعضها ببعض، وقيل: إن المراد دينهم الذي وجب أن يكونوا عليه، وقيل: ليوقعوهم في دين ملتبس مشتبه لا تتجلى فيه حقيقة، ولا تخلص فيه هداية. وهذا التعليل ظاهر على القول بأن الشركاء شياطين الجن، وتزيينهم وسوستهم. وأما على القول بأن الشركاء هم سدنة الآلهة فاللام للعاقبة والصيرورة; لأن السدنة لا تقصد الإرداء لهم ولبس الدين عليهم كذا قيل: وهو ظاهر في الإرداء، ولا يصح على إطلاقه في لبس الدين، فإن كثيرا من السدنة والكهنة يقصدون العبث بدين من يتبعهم ويدين لهم التذاذا بطاعتهم واستعلاء بالرياسة فيهم.
قال تعالى: { ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون } أي ولو شاء الله تعالى ألا يفعل الشركاء ذلك التزيين، أو المشركون ذلك القتل لما فعلوه، وذلك بأن يغير خلقهم وسننه الحكيمة فيهم. ولكنه أخبرنا بأنه لا تبديل لخلقه ولا لسننه
أو بأن يخلق الناس من أول الأمر مطبوعين على عبادة الله تعالى طبعا لا يستطيعون غيره كالملائكة، فلا يؤثر فيهم إغواء، بل لا تتوجه إليهم وسوسة لعدم استعدادهم لقبولها، ولكنه شاء أن يخلق الناس مستعدين للتأثر بكل ما يرد على أنفسهم من المعلومات الحسية والفكرية، ولاختيار ما يترجح في أنفسهم أنه خير لهم على ما يقابله ولأجل هذا يغلب على كل إنسان ما رسخ في نفسه بالتعليم والاستنباط، وتأثير المعاشرة والاختلاط، فيكون عليه اعتماده في ترجيح بعض الأعمال على بعض
والناس متفاوتون في هذا استعدادا واستفادة، فلا يمكن أن يكونوا على دين واحد أو رأي واحد، فدع أيها الرسول هؤلاء المفترين على الله بانتحال ما لم يشرعه لهم وما يفترونه من العقائد والأعمال المستندة إليها وعليك بما أمرت به من التبليغ ولله تعالى سنن في الاهتداء لا تتغير ولا تتبدل، فلا يحزنك أمرهم، فإن من سنته أن يغلب حقك باطلهم.
هذا معنى الآية الموافق لكتاب الله ومقتضى صفاته وسننه في خلقه التي أخبر بأنها لا تبديل لها ولا تحويل، وليس معناها أن مشيئة الله تعالى قد تعلقت بأن يقتل هؤلاء أولادهم تعلقا ابتدائيا بأن يكون أمرا خلقيا كدوران الدم في البدن لا اختيار لهم فيه ولا يستطيعون سبيلا إلى تركه، كيف وقد وصفهم في الآية الآتية بأنهم يفعلونه سفها بغير علم، وقد تركوا هذا السفه بهداية الإسلام، فلا حجة في الآية للجبرية وإن لهج بها خواصهم وعوامهم بغير علم ولا فهم.
{ وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها } هذه ثلاثة أنواع أخرى من أحكامهم المخترعة المبنية على غواية شركهم.
(فالأول) أنهم كانوا يقتطعون بعض أنعامهم وأقواتهم من الحبوب وغيرها ويمنعونه التصرف فيها إلا فيما يخصونها له تعبدا ويقولون: { هي حجر } وهو بالكسر بمعنى المحجور الممنوع أن يتصرف فيه، كالذبح بمعنى المذبوح والطحن بمعنى المطحون، ويجري وصفا للمذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والجمع; لأن حكمه - حكم الأسماء - غير الصفات، وأصله ما أحيط بالحجارة ومنه حجر الكعبة وسمي العقل حجرا لأنه يمنع صاحبه مما يضر ويقبح من الأعمال. قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، والسدي: الحجر الحرام مما حرموا من الوصيلة وتحريم ما حرموا انتهى
أي وما حرموا من غيرها. وقال زيد بن أسلم: حجر أي احتجروها لآلهتهم. وقال قتادة: حجر عليهم في أموالهم من الشياطين وتغليظ وتشديد ولم يكن من الله. أي ولهذا قال بزعمهم. قالوا: وكانوا يحتجرونها عن النساء ويجعلونها للرجال، وقالوا: إن شئنا جعلنا للبنات فيه نصيبا وإن شئنا لم نجعل. وهذا أمر افتروه على الله
(والثاني) أنعام حرمت ظهورها: أي أن تركب. قال السدي: هي البحيرة والسائبة والحامي. وقد تقدم ذكرها في سورة المائدة
{ { ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون } [المائدة: 103].
(والثالث) أنعام لا يذكرون اسم الله عليها في الذبح، بل يهلون بها لآلهتهم وحدها. وعن أبي وائل: كانوا لا يحجون عليها فلا يلبون على ظهورها، وقال مجاهد: كان من إبلهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها ولا في شيء من شأنها، لا إن ركبوا ولا إن حلبوا ولا إن حملوا ولا إن سحبوا ولا إن عملوا شيئا اهـ.
وجملة القول أنهم قسموا أنعامهم هذا التقسيم الذي جعلوه من أحكام الدين فنسبوه إلى الله تعالى حكما وديانة { افتراء عليه } أي قالوه أو فعلوه مفترين إياه أو افتروه افتراء واختلقوه اختلاقا والله بريء منه لم يشرعه لهم، وما كان لغير الله أن يحلل أو يحرم على العباد ما لم يأذن به كما قال في آية أخرى:
{ { قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون } [يونس: 59] أي بل أنتم تفترون عليه.
ولا يزال بعض الناس يحلون ويحرمون على أنفسهم وعلى الناس بأهوائهم أو تقليد بعض المصنفين من أوليائهم والمنتحلين لمذاهبهم، إما موقتا بيمين أو نذر أو تنسك تصوف، وإما تحريما مطلقا دائما، وهم يجهلون على ادعائهم للعلم والدين، أنهم يتبعون بذلك المشركين الذين بينت هذه الآيات سوء حالهم، وذيلت هذه الآية ببيان سوء مآلهم. وهو قوله تعالى: { سيجزيهم بما كانوا يفترون } أي سيجزون الجزاء الشديد الأليم بسبب هذا الافتراء القبيح.
{ وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء } هذا ضرب آخر من أحكامهم السخيفة في التحريم والتحليل، وهو خاص بما في بطون بعض الأنعام من اللبن والأجنة،
روي أن المراد بالأنعام هنا البحائر وحدها أو هي والسوائب، كانوا يجعلون لبنها للذكور ويحرمونه على الإناث، وكانت إذا ولدت ذكرا حيا جعلوه خالصا للذكور لا تأكل منه الإناث وإذا كان ميتا اشترك فيه الذكور والإناث، وإذا ولدت أنثى تركوها لأجل النتاج.
وبعض مفسري السلف لم يقيدوا هذه الأنعام بالبحائر والسوائب، فيمكن حمل المطلق على المقيد، يحتمل أنهم كانوا يقولون ذلك في أنعام أخرى يعينونها بغير وصف البحيرة أي مشقوقة الأذن، والسائبة التي تسيب وتترك للآلهة فلا يتعرض لها أحد.
وعن الشعبي وعكرمة وقتادة وغيرهم أن البحيرة لا يأكل من لبنها إلا الرجال وإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء. فإن قيل: إن الآية في شأن ما في بطون هذه الأنعام لا في نفسها فلا يصح إدخال قول هؤلاء في تفسيرها - قلنا يصح ذلك بل هو المتبادر من بعض القراءات.
قرأ ابن عامر " وإن تكن " بالتاء " و ميتة " بالرفع، وابن كثير: " يكن " بالياء و " ميتة " بالرفع، وأبو بكر عن عاصم " يكن " بالياء و " ميتة " بالنصب. فأما الأول فليس في قراءته إلا تأنيث الفعل " تكن " لتأنيث خبره، وأما قراءة ابن كثير فقالوا: إن فيها حذف الخبر، والتقدير: وإن يكن لهم ميتة - أو - وإن يكن هناك ميتة، وتذكير الفعل لأن الميتة بمعنى الميت، وهذا يصدق بتلك الأنعام نفسها وبأجنتها التي في بطونها ومثل ذلك ما إذا جعلت " يكن " بمعنى يوجد أي فعلا تاما.
وقالوا في تقدير قراءة عاصم: وإن تكن المذكورة ميتة، وهو يشمل تلك الأنعام وما في بطونها أيضا. بل قال بعضهم مثل هذا في قراءة الباقين، ولكن الذي يتبادر إلى ذهن العربي الفصيح من قوله تعالى: { وإن يكن ميتة } بالنصب أن المراد: وإن يكن ما في بطون تلك الأنعام ميتة. فالفائدة المعنوية في اختلاف القراءات ما ذكرنا وما عداه فاختلاف وجوه جائزة في اللغة.
ومن مباحث اللفظ في الآية أن قوله: { خالصة } فيه وجوه. أحدها: أن التاء فيه للمبالغة في الوصف كراوية وداهية وطاغية فلا يقال إنه غير مطابق للمبتدأ على القول بأنه خبر، وثانيها: أن المبتدأ وهو { ما في بطون هذه الأنعام } مذكر اللفظ مؤنث المعنى لأنه المراد به الأجنة، فيجوز تذكير خبره باعتبار اللفظ وتأنيثه باعتبار المعنى - وثالثها: أنه مصدر فتكون العبارة مثل قولهم: عطاؤك عافية، والمطر رحمة، والرخصة نعمة، ورابعها أنه مصدر مؤكد أو حال من المستكن في الظرف وخبر المبتدأ { لذكورنا }.
{ سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم } يقال: جزاه كذا وبكذا - أي جعله جزاء له على عمل عمله، قال تعالى:
{ { أولئك يجزون الغرفة بما صبروا } [الفرقان: 75] إلخ وقال: { { فذلك نجزيه جهنم } [الأنبياء: 29] وقال: { { هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون } [يونس: 52] وقال: { { هل تجزون إلا ما كنتم تعملون } [النمل: 90] وجعل الجزاء عين العمل قد تكرر في سورة أخرى وقدروا له كلمة جزاء أو ثواب وعقاب بناء على أن العمل هو ما يجازى عليه لا ما يجازى به، ولكن تعبير الكتاب لا يكون إلا لنكتة عالية في البلاغة، وهي عندنا الإيذان بأن الجزاء لما كان أثرا لما يحدثه العمل في النفس من تزكية أو تدسية كان كأنه عين العمل، فإن النفس تنعم أو تعذب بالصفة التي تطبعها فيها الأعمال، وبهذا يتجلى لك هنا معنى جعل جزاء المفترين على الله في التشريع وصفهم، ولا سيما إذا جعل الوصف هنا بمعنى الصفة التي هي حالة النفس وصورتها، وقد بينا هذا المعنى في التفسير مرارا.
ومعنى الجملة مع تعليلها: سيجزيهم الله بمقتضى حكمته في الخلق وعلمه بشئونهم وأعمالهم ومناشئها من صفاتهم، بأن يجعل عقابهم عين ما يقتضيه وصفهم ونعتهم الروحي، فإن لكل نفس في الآخرة صفات تجعلها في مكان معين من عليين، أو سجين في أسفل سافلين، كما أن صفة الجسم السائل الخفيف تقتضي بسنن الله أن يكون فوق الجسم الثقيل كما ترى في الزيت إذا وضع في إناء مع الماء،
وما يعرف الناس من درجات الحرارة في موازينها المعروفة مثال موضح للمراد، فمنشأ الجزاء نفس الإنسان باعتبار عقائدها وسائر صفاتها التي يطبعها العمل عليها. وإذا جعل الوصف مصدرا فلا بد من تقدير معموله كأن يقال سيجزيهم وصفهم لربهم بما جعلوا له من الشركاء في العبادة والتشريع، أو وصف ألسنتهم الكذب بما افتروا عليه فيهما:
{ { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب } [النحل: 116] الآية.
قال الزمخشري في مادة وصف الأساس: ومن المجاز وجهها يصف الحسن، ولسانه يصف الكذب، وذكر هذه الآية ثم قال: وهذه ناقة تصف الإدلاج.
قال الشماخ:

إذا ما أدلجت وصفت يداها لها الإدلاج ليلة لا هجوع

وفي روح المعاني أن الجملة كما قال بعض المحققين من بليغ الكلام وبديعه، فإنهم يقولون: وصف كلامه الكذب، إذا كذب، وعينه تصف السحر أي ساحرة، وقده يصف الرشاقة، بمعنى رشيق مبالغة حتى كأن من سمعه أو رآه وصف له ذلك بما يشرحه له: قال المعري:

سرى برق المعرة بعد وهن فبات برامة يصف الملالا

{ قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين } حاصل ما أنكر الله تعالى على مشركي العرب في هذا السياق يرجع إلى الأمرين الفظيعين اللذين نعتهما عليهم هذه الآية وحكمت عليهم فيهما حكما حقا وعدلا، وهو أنهم خسروا بقتل أولادهم وبوأد البنات - الآتي بيانه وغيره - خسرانا عظيما دل عليه حذف مفعول خسروا الدال على العوام في بابه ليتروى السامع فيه، ويتأمل ما وراء قوادمه من خوافيه، وذلك أن خسران الأولاد يستلزم خسران كل ما كان يرجى من فوائدهم من العزة والنصرة، والبر والصلة والفخر والزينة والسرور والغبطة، كما يستلزم خسران الوالد القاتل لعاطفة الأبوة ورأفتها، وما يتبع ذلك من القسوة والغلظة والشراسة، وغير ذلك من مساوئ الأخلاق التي يضيق بها العيش في الدنيا ويترتب عليها العقاب في الآخرة; ولذلك علل هذا الجرم بسفه النفس وهو اضطرابها وحماقتها، وبالجهل أي عدم العلم بما ينفع ويضر وما يحسن ويقبح.
ثم بين بعد هذا أنهم حرموا ما رزقهم الله من الطيبات وهذا سفه وجهل أيضا ولكنه دون ما سبقه من هذه الجهة; ولذلك اقتصر على تعليله بشر ما فيه من القبح وهو الافتراء على الله بجعله دينا يتقرب به إليه. ثم بين نتيجة الأمرين بأنهم قد ضلوا فيهما، وما كانوا مهتدين إلى شيء من الحق والصواب من طريق العقل ولا من طريق الشرع، ولا من منافع الدنيا ولا من سعادة الآخرة، فهذه الأعمال أقبح ما كانت عليه العرب من غواية الشرك وقد عاد إلى المسلمين شيء منه بتحريم ما لم يحرم الله وجعله دينا وهم لا يشعرون.
أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال: إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة الأنعام { قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها } إلى قوله: { وما كانوا مهتدين }
وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن عكرمة في الآية قال: نزلت فيمن كان يئد البنات من مضر وربيعة. كان الرجل يشترط على امرأته أنك تئدين جارية { أي بنتا } وتستحيين { أي تبقين } أخرى، فإذا كانت الجارية التي توءد غدا من عند أهله أو راح وقال: أنت علي كأمي { أي محرمة } إن رجعت إليك ولم تئديها، فترسل إلى نسوتها فيحفرن لها حفرة فيتداولنها بينهن فإذا بصرن به مقبلا دسسنها في حفرتها ويسوين عليها التراب - أي وهي حية - وهذا هو الوأد.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة في الآية قال: هذا صنع أهل الجاهلية، كان أحدهم يقتل ابنته مخافة السباء والفاقة ويغذو كلبه.