خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا ٱللَّهُ كَٱلَّذِي ٱسْتَهْوَتْهُ ٱلشَّيَاطِينُ فِي ٱلأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى ٱلْهُدَى ٱئْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلْهُدَىٰ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
٧١
وَأَنْ أَقِيمُواْ ٱلصَّلاةَ وَٱتَّقُوهُ وَهُوَ ٱلَّذِيۤ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
٧٢
وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ ٱلْحَقُّ وَلَهُ ٱلْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ
٧٣
-الأنعام

تفسير المنار

ضرب الله تعالى في الآية الأولى من هذه الآيات مثلا يتضح لمن عقله من المشركين ما تقرر فيها وفي الآيات قبلها من بينات التوحيد ودلائله، ويظهر لهم سوء حالهم وقبح مآلهم في شركهم، ويعلل لهم ما بدئ به سياق الآيات الأخيرة فيه - أي التوحيد - من النهي عن دعاء غير الله وعن اتباع أهوائهم، ويشرح لهم مفهومه، ويفصل لهم مضمونه، ويبين لهم مقابله. وأعني بهذا السياق ما في حيز قوله تعالى: { قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله } [غافر: 66] إلخ. وحيز قوله: { قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر } [الأنعام: 63] وما يليه من الوعيد بعذاب الدنيا والآخرة، وختم الآية بالأمر بالإسلام المقابل لطريق الضلال والهوى، وبدأ الآية الثانية ببيان أعظم أعمال طريق الهدى، والآية الثالثة في التذكير بدلائل ذلك، وعاقبته، وصدق وعيده تعالى، وكمال علمه، وحكمته فيه، قال:
{ قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله } روي عن السدي أن المشركين قالوا للمؤمنين: اتبعوا سبيلنا واتركوا دين محمد، فقال الله: { قل أندعوا } الآية، وعن قتادة أنه قال في الآية: خصومة علمها الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يخاصمون بها أهل الضلالة. ولعل هذا مراد السدي؛ إذ لا يظهر أن مراده أن المشركين قالوا ذلك مرة واحدة لبعض المؤمنين أو لجميعهم، بل كانوا يفتنون المسلمين دائما ويدعونهم إلى العود إلى الكفر، ومنه ما روي من دعوة عبد الرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنهما لأبيه إلى الشرك فنزلت الآية ردا عليهم، فلقنهم الله تعالى هذه الحجة المؤثرة - بما فيها من المثل الجلي الواضح لحالي الشرك وضلاله والتوحيد وهدايته - في سياق حجج الحق الكثيرة في هذه السورة التي نزلت دفعة واحدة كما تقدم،
والاستفهام للإنكار والتعجب، والمعنى: قل أندعو - متجاوزين دعاء الله القادر على استجابة دعائنا - ما لا يضرنا ولا ينفعنا - كالأصنام وسائر ما عبد من دون الله - ونرد على أعقابنا بالعود إلى ضلالة الشرك الفاضحة بعد إذ هدانا الله إلى الإسلام!.
ومن بلاغة هذه العبارة أنها بينت علة الإنكار والتعجب في الاستفهام من خمسة أوجه:
(أحدها) أن دعاء غير الله تعالى تحول وارتداد من دعاء القادر على كل شيء، الذي يكشف ما يدعى إليه إن شاء - إلى دعاء العاجز الذي لا يقدر على نفع ولا ضر.
(ثانيها) أنه نكوص على الأعقاب، وتقهقر إلى الوراء، والعرب تقول فيمن عجز بعد قدرة، أو سفل بعد رفعة، أو أحجم بعد إقدام على محمدة: نكص على عقبيه، وارتد على عقبيه ورجع القهقرى، والأصل فيه رجوع الهزيمة أو الخيبة والعجز عن السير المحمود، ثم صار يطلق على كل تحول مذموم.
(ثالثها) التعبير ب (نرد) المبني للمجهول بدل التعبير ب " نرتد " أو " نرجع "، والنكتة فيه أن هذا التحول المذموم ليس من شأنه أن يقع من عاقل ; لأن العاقل إذا وصل إلى مرتبة عالية من العلم والكمال فإنه لا يختار الرجوع عنها واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير وأعلى، فإذا كانت فطرته وعقله يأبيان عليه هذه الردة والنكوص، فكيف يرد وهو لا يرتد؟.
(رابعها) أن من أنقذه الله القدير العزيز الرحيم من الضلالة، وهداه إلى صراط السعادة بما أراه من آيات في الأنفس والآفاق، وما شرح به صدره للإسلام، فمن يقدر أن يضله بعد إذ هداه الله؟
{ ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام } [الزمر: 37].
(خامسها) المثل الذي يصور المرتد في أقبح حالة كانت تتصورها العرب، وذلك قوله تعالى: { كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا } قرأ حمزة " استهواه " بألف ممالة، وكانوا يرسمونها ياء كأصلها وإن تكن طرفا، ورسمها في المصحف الإمام هكذا (استهوته) وهو يحتمل القراءتين.
وتقدير التشبيه في الكلام أنرد على أعقابنا بعد تلك الهداية مثل رد الذي استهوته الشياطين في الأرض، أو مشبهين بالذي استهوته الشياطين - إلخ!.
قال أهل اللغة: استهوته الشياطين: ذهبت بهواه وعقله، وقيل: استهامته وحيرته. وقيل: زينت له هواه، ويقال للمستهام الذي استهامته الجن: واستهوته الشياطين.
لقتيبي: استهوته الشياطين هوت به وأذهبته - جعله من هوى يهوي.
وجعله الزجاج من هوى يهوى، أي زينت له هواه. كذا في لسان العرب وغيره، والمستهام هو الذي جعله العشق أو الجنون هائما، أي يسير على وجهه لا يقصد غاية معينة، وكانت العرب في الجاهلية تزعم أن الجنون كله من تأثير الجن، والأصل في قولهم: جن فلان - مسته الجن فذهبت بعقله. وكانوا يقولون: إن الجن تظهر لهم في البراري والمهامه، وتتلون لهم بألوان مختلفة، فتذهب بلب من يراها فيهيم على وجهه لا يدري أين يذهب حتى يهلك. والشياطين التي تتلون هي التي يسمونها الغيلان والأغوال والسعالي (بوزن الصحاري)،
وروى مسلم في صحيحه من حديث جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
"لا عدوى ولا طيرة ولا غول" قال النووي في شرحه: قال جمهور العلماء: كانت العرب تزعم أن الغيلان في الفلوات، وهي من جنس الشياطين، تتراءى للناس وتتغول تغولا، أي تتلون تلونا فتضلهم عن الطريق فتهلكهم، فأبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذاك، وقال آخرون: ليس المراد نفي وجود الغول، وإنما معناه إبطال ما تزعمه العرب من تلون الغول بالصور المختلفة واغتيالها. قالوا: ومعنى " لا غول " لا تستطيع أن تضل أحدا، ويشهد له حديث آخر " لا غول ولكن السعالي
" وقال العلماء: السعالي - بالسين المفتوحة والعين المهملتين - هم سحرة الجن،
أي: ولكن في الجن سحرة، لهم تلبيس وتخييل " وفي الحديث الآخر
"إذا تغولت الغيلان فنادوا بالأذان" أي ادفعوا شرها بذكر الله تعالى، وهذا دليل على أنه ليس المراد نفي أصل وجودها، وفي حديث أبي أيوب: كان لي تمر في سهوة، وكانت الغول تجيء فتأكل منه. اهـ.
أقول: إن هذا الشرح مأخوذ من النهاية لابن الأثير، ليس للنووي من التصرف فيه إلا عزو نفي وجود الغول إلى جمهور العلماء، وهو القول الذي قدمه ابن الأثير، وقد نقل عبارته ابن منظور في لسان العرب وغيره من العلماء. وما عزاه النووي إلى الجمهور هو المتبادر في لفظ الحديث، فإن كلمة " لا غول " نافية لجنس الغول كما هو المتبادر، وقد ورد هذا اللفظ وحده في حديث لأبي هريرة عند أبي داود، وما أيد به قول غير الجمهور لا يحتج بشيء منه ; ولذلك لم يعرج الجمهور عليه، ولكن روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أن الغيلان ذكروا عند عمر فقال: إن أحدا لا يستطيع أن يتحول عن صورته التي خلقه الله عليها، ولكن لهم سحرة كسحرتكم، فإذا رأيتم ذلك فأذنوا وهذا رأي لعمر - رضي الله عنه - فيما كانوا يرونه، وهو أنه تخييل باطل من ذلك سحر الجن. والجمهور على أن الجن تتشكل، وهو لا يقتضي إثبات الغول، وقد اشتهر أن الغول اسم ليس له مسمى في الحقيقة. قال ابن هشام في قول كعب بن زهير:

فما تدوم على حال تكون بها... كما تلون في أثوابها الغول

من شرحه لقصيدته (بانت سعاد) والغول بالضم كل شيء اغتال الإنسان فأهلكه، والمراد هنا الواحدة من السعالي وهي إناث الشياطين، سميت بذلك لأنها - فيما زعموا - تغتالهم، أو لأنها تتلون كل وقت، ومن قولهم: تغولت على البلاد - إذا اختلفت. وللعرب أمور تزعمها لا حقيقة لها، منها أن الغول تتراءى وتتلون لهم، وتضلهم عن الطريق. وذكر أشياء أخرى من خرافاتهم، ثم ذكر حديث مسلم في نفي الغول والطيرة، وقول بعض الشعراء:

الجود والغول والعنقاء ثالثة... أسماء أشياء لم تخلق ولم تكن.

وما فسر به ابن هشام الغول هو المعتمد المشهور، قال في اللسان: والسعلاة والسعلاء - الغول. وقيل: هي ساحرة الجن، فجعل هذا قولا ضعيفا ثم ذكر قولين آخرين مثله. أحدهما: إنها أخبث الغيلان، وثانيهما: أنها أنثى الغيلان. ويشبهون المرأة القبيحة الوجه السيئة الخلق بالسعلاة، وشبهوا بها الخيل أيضا، والظاهر أن بعضهم كان يخيل إليه الخوف في البراري المنقطعة شيئا يتلون فيهم على وجهه خوفا لاعتقاده أنه من الجن،
ويحتمل أن يكون بعضهم رأى بعض القردة الراقية التي تشبه العجوز القبيحة الوجه فسموها السعلاة، وأن تكون السعلاة التي أكلت من التمر في حديث أبي أيوب منها - إن صح ما روي وكان عن مشاهدة - وإلا كان مبنيا على ما توارثه قبل نفي النبي - صلى الله عليه وسلم - له أو قبل العلم بهذا النفي. وقد قال الله تعالى في الشيطان:
{ إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم } [الأعراف: 27] وقال ابن عباس: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ير الجن حين استمعوا القرآن منه، بل علم ذلك بالوحي لقوله تعالى: { قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن } [الجن: 1] ولكن في حديث ابن مسعود - وكان معه - أنه رأى أسودة تشبه السحاب، وسيأتي تفصيل ذلك في موضعه.
وروى البيهقي في مناقب الشافعي بإسناده عن الربيع: سمعت الشافعي يقول: من زعم أنه يرى الجن أبطلنا شهادته إلا أن يكون نبيا. انتهى. وقد حملوه كما حملوا الآية على من يدعي رؤيتهم بصورتهم التي خلقهم الله عليها دون الصور التي يتمثلون بها.
على أننا نقول: إن ما اشتهر عن العرب في مسألة الأغوال واستهوائها بعض الناس في الفلوات حتى يضلوا الطرق لا بد أن يكون له أصل عندهم. والراجح المعقول فيه ما ذكرناه عن سيدنا عمر - رضي الله عنه - وصرح به بعض المتكلمين من أنه تخيل لا حقيقة له في الخارج، وقد يكون منه رؤية حيوان غريب كبعض القردة.
والعرب تطلق اسم الشيطان على العاتي المتمرد من الإنس والجن، وعلى بعض الحيوان والحشرات، وعلى كل قبيح الصورة. قال تعالى في شجرة الزقوم:
{ طلعها كأنه رءوس الشياطين } [الصافات: 65] قيل هو نبات قبيح، وقيل: شبهها بالعارم من الجن.
قال في التاج: وقال الزجاج في تفسيره: وجهه أن الشيء إذا استقبح شبه بالشياطين، فيقال: كأنه وجه شيطان، وكأنه رأس شيطان، والشيطان لا يرى، ولكنه يستشعر أنه أقبح ما يكون من الأشياء، ولو رئي لرئي في أقبح صورة. وقيل: كأنه رءوس حيات، فإن العرب تسمي بعض الحيات شيطانا، وأورد شاهدا من الشعر على ذلك، وورد في بعض الأخبار أن حيات البيوت من الجن، وفي حديث أبي ثعلبة الخشني عند ابن حبان والحاكم وغيرهما
"الجن على ثلاثة أصناف: صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء، وصنف حيات وعقارب، وصنف يحلون ويظعنون" . قال السهيلي: هذا الأخير هم السعالي،
وعن وهب بن منبه أنهم أجناس خالصهم ريح - أي كالريح - لا يأكلون، ولا يشربون، ولا يتوالدون، ولا يموتون، ومنهم من يأكلون.. إلخ. والحاصل أن اسم الجن والشياطين يطلق عند العرب على بعض الحشرات، والحيوانات الضارة، أو القبيحة، وعلى ما يؤثر عن أهل الكتاب وغيرهم من العالم الروحي الغيبي الذي يوسوس للناس فيزين لهم الشر، ويلابس بعضهم أحيانا فيصابون بالصرع أو الجنون، ويتمثل للكهان وغيرهم، ويراه الأنبياء وبعض الصالحين من باب الكرامة الخاصة. والأكاذيب عن جميع الأمم في ذلك كثيرة، والشبهات فيها غير قليلة. ولكن قل المصدقون بها في بلاد العلم والمدنية.
بعد هذا الشرح نقول: إن للمفسرين قولين: تفسير { كالذي استهوته الشياطين } أشرنا إليهما في تفسير الاستهواء: (الأول) أنه تشبيه لمن يرتد مشركا بعد الإيمان بالمستهام الذي يضل في الفلوات حيران لا يهتدي، تاركا رفاقه على الجادة ينادونه: ائتنا، عد إلينا، فلا يستجيب لهم لانجذابه وراء ما تراءى له من الغيلان بغير عقل ولا بصيرة. وهذا التفسير مروي عن السدي، وهو إحدى روايتين عن ابن عباس.
قال السدي بعد بيان التشبيه: فذلك مثل من تبعكم بعد المعرفة لمحمد، ومحمد الذي يدعو إلى الطريق، والطريق هو الإسلام.
ومما جاء عن ابن عباس في هذه الرواية:
"إن الغول تدعوه باسمه واسم أبيه وجده، فيتبعها ويرى أنه في شيء، فيصبح وقد ألقته في هلكة وربما أكلته، أو تلقيه في مضلة الأرض يهلك فيها عطشا" .
" ومن المفسرين من يرى أن هذا التشبيه مثبت للغول الذي نفاه الحديث الصحيح الذي أخذ به جمهور العلماء كما تقدم، ومنهم من يرى أنه لا يقتضي إثباته؛ لأن التشبيه قد يبنى على المتعارف لأجل التأثير، وقد أشار الزمخشري إلى ذلك بقوله: وهذا مبني على ما كانت تزعمه العرب وتعتقده من أن الجن تستهوي الإنسان، والغيلان تستولي عليه كقوله: { الذي يتخبطه الشيطان من المس } [البقرة: 275] انتهى. وقد شنع عليه ابن المنير في هذا، إذ جعله من إنكار الجن - وهو لا ينكرهم - وتبعه الألوسي فقال: وليس هذا مبنيا على زعمات العرب كما زعم من استهوته الشياطين. انتهى.
وما هذا الشنيع إلا من تعصب المذاهب، ولولاه لما وقع أمثال هؤلاء الأذكياء في هذه الغياهب، وقد علمت أنه لا دليل على كون ما كانت تزعمه العرب في الجاهلية من شياطين الجن، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كذبهم في دعوى الغول، وأن جمهور العلماء أخذوا بهذا التكذيب ولم يؤولوه، وأن من أوله بإنكار تغول الغيلان وإضلالهم للناس مكذب للعرب في زعمها ذاك، وإنما بنى التشبيه على ما قيل من استهوائهم وإضلالهم بتغولهم، لا على مجرد وجودهم، وإذا كان الاستهواء بتخيلات لا حقيقة لها يكون التشبيه أبلغ وأقوى،
وخلاصته أن من يتبع داعي الشرك كالمستهوى بما لا حقيقة له من الأوهام الضارة الشيطانية التي تنسب إلى الأغوال الخيالية. ولا يقتضي ذلك إنكار الجن والشياطين، وما كان الزمخشري ولا شيعته من المنكرين، وإنما الجن من عالم الغيب، لا نصدق من خبرهم إلا ما أثبته الشرع، أو ما هو في قوته من دليل الحس أو العقل، ولم يثبت شرعا ولا عقلا ولا اختيارا أن شياطين الجن تأكل الناس، ولا أنها تظهر لهم في الفيافي والقفار، كما كانت تزعم العرب وغير العرب في طور الجهل والخرافات.
وأما حديث خرافة فقد رواه الترمذي في جامعه وفي الشمائل من طريق أبي عقيل عبد الله بن عقيل الثقفي، وأبو عقيل مختلف فيه، وثقه أحمد وأبو داود، وروي عن ابن معين أنه منكر الحديث، والظاهر أنه قد ذكر على سبيل الحكاية، فهو نحو مما نقله الكلبي عن العرب من أنه رجل من بني عذرة أسرته الجن في الجاهلية، فأقام فيهم زمنا ثم أعادوه إلى الإنس، فكان يحدث بما رأى فيهم من العجائب، فصار الناس يقولون: " حديث خرافة " لكل حديث مستملح يكذبونه، على أن ما عساه يثبت لبعض الأفراد على خلاف الأصل لا يتخذ دليلا على صدق ما كذبه الحديث الصحيح من أخبار الأغوال ونحوها، وهذا الحديث غير معارض لهذه الآية حتى على هذا القول في التشبيه؛ لجواز أن يسمى ما كان يتراءى لهم بالشيطان لقبحه وضرره، وإن كان كالسراب لا حقيقة له في نفسه، أو يكون حيوانا مفترسا تمثله الأوهام بأشكال مختلفة. وراجع ما يقرب لك في هذا تفسير
{ ولكن شبه لهم } [النساء: 157].
فإن فرضنا وقوع التعارض على هذا القول نمنعه بترجيح (القول الثاني) عليه، وهو أن الذي استهوته الشياطين في الأرض هو الذي أضلته بوسوستها، وحملته على اتباع هواه، فاتخذ دينه لعبا ولهوا، وغرته الحياة الدنيا، فآثرها على الآخرة لإنكاره إياها، أو عدم إيمانه بوعد الله ووعيده فيها.
وهذا في معنى الرواية الأخرى عن ابن عباس، قال: هو الرجل الذي لا يستجيب لهدى الله، وهو رجل أطاع الشيطان، وعمل في الأرض بالمعصية، وحاد عن الحق وضل عنه. إلا أن في هذه الرواية أن أصحاب المستهوى الذين يدعونه إلى الهدى هم الضالون المتبعون للهوى، وإنما يصحب الإنسان أمثاله، فالمراد يدعونه إلى ما يزعمون أنه هدى كما هو شأن كل داع إلى ضلالة، فكلمة الهدى ذكرت بطريق الحكاية، أو المراد بها الطريق الجادة،
وقد روى أبو الشيخ عن مجاهد قال في قراءة ابن مسعود (يدعونه إلى الهدى بينا) قال: الهدى: الطريق، أنه بين. والكلام بعدها رد من الله تعالى لهذا الزعم، ومعناه أن الهدى صراط الله المستقيم لا ما هم عليه من طرق الوهم.
وأنكر ابن جرير هذه الرواية بناء على أن الجملة لم ترد على سبيل الحكاية، وإنما هي من كلام الله تعالى، والله تعالى لا يسمي الضلالة هدى، وسواء أصح ما أنكره ابن جرير أم لا، فإن المعنى الثاني لا يتوقف عليه، بل يصح أن يقال: إن ذلك الذي استهوته الشياطين بوسوستها - حال كونه حيران - له أصحاب يدعونه إلى الهدى والخروج من ذلك الضلال، تتنازعه وسوسة شياطينه ودعوة أصحابه، فلا يستطيع التفلت من الأولى فيكون من المهتدين، ولا البت برد الأخرى فيكون من الأخسرين، بل يظل هائما في حيرته، مضطربا في أمره، وإنما جعل دعاة الهدى أصحابا له باعتبار ما كانوا عليه قبل إضلال الشياطين له، ومثل هذا لا يستقر على حال من القلق،
والتشبيه يدل بهذا التوجيه على أن المرتد عن الإسلام لا يمكن أن يعود مطمئنا بالشرك، ووجه الاستفهام الإنكاري في أول الآية على هذا الوجه: أيعقل أن يختار هذه الحال السوأى التي لا بد منها لمن يرتد عن الإيمان، وهي أسوأ حال يمكن أن يكون عليها الإنسان؟.
{ قل إن هدى الله هو الهدى } أعاد الأمر من القول هنا كما أعاده فيما تقدم قريبا بمعنى ما هنا من التبرؤ من الشرك والضلالة والاعتصام بما أنزل الله من الهداية، وهو قوله:
{ قل إني نهيت } [الأنعام: 56] إلى قوله: { قل لا أتبع أهواءكم } إلخ. وفي ذلك ما فيه من العناية بكل من البراءة والاعتصام في النهي والأمر، ويعبرون عنهما بالتخلي والتحلي. أي قل إن هدى الله الذي أنزل به آياته، وأقام عليه حججه وبيناته - هو الهدى الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لا ما تدعون إليه من أهوائكم اتباعا لما ألفيتم عليه آباءكم، وهذا الهدى المعقول هو الذي دعينا إليه فأجبنا، وأمرنا به فأطعنا،
{ وأمرنا لنسلم لرب العالمين } فأسلمنا، واللام في " لنسلم " فيها وجهان: (أحدهما) أنها للتعليل، والتقدير: وأمرنا بهذا الهدى لأجل أن نسلم قلوبنا ونوجهها لرب العالمين وحده بالإذعان والخضوع لدينه والإخلاص في عبادته، إذ لا يستحق العبادة من العباد إلا ربهم الذي خلقهم وغذاهم بنعمه (وثانيهما) أنها للمصدرية، أي وأمرنا بأن نسلم لله رب العالمين، وقد روي القول بتأويل الفعل بالمصدر هنا وفي مثل
{ يريد الله ليبين لكم } [النساء: 26] { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } [المائدة: 6] إلخ. عن الخليل وسيبويه ومن تابعهما. وصرح الكسائي والفراء بأن اللام تكون حرفا مصدريا بعد الفعل، من الأمر والإرادة خاصة. وهذا الوجه أوجه وأظهر. { وأن أقيموا الصلاة واتقوه } أي أمرنا بأن نسلم لرب العالمين، وبأن أقيموا واتقوه، أي قيل لنا ذلك، وقدر بعضهم: أمرنا بالإسلام وبإقامة الصلاة والتقوى، وإقامة الصلاة: الإتيان بها على الوجه الذي شرعت لأجله، وهو كونها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتزكي النفس بمناجاة الله وذكره { ولذكر الله أكبر } [العنكبوت: 45] ولم يكن شرع عند نزول السورة زكاة ولا صيام ولا حج، والتقوى: اتقاء ما يترتب على مخالفة دين الله وشرعه وتنكب سننه في خلقه من ضرر وفساد، فهذا أوسع معنى من تفسيرها بامتثال الأمر واجتناب النهي { وهو الذي إليه تحشرون } أي تجمعون وتساقون إلى لقائه يوم القيامة دون غيره، فيحاسبكم على أعمالكم، ويجازيكم عليها. وإذا كان الحشر إليه وحده، والجزاء بيده وحده، فمن الجنون أن يعبد غيره ويدعى، أو يخاف أو يرجى. { وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق } أي خلقهما بالأمر الثابت المتحقق، وهو آياته القائمة بالسنن المطردة المشتملة على الحكمة البالغة الدالة على وجوده وصفاته الكاملة، فلم يخلقهما باطلا ولا عبثا، فإذا لا يترك الناس سدى، بل يجزي كل نفس بما تسعى.
{ ويوم يقول كن فيكون قوله الحق } أي وقوله هو الحق يوم يقول للشيء كن فيكون، وهو وقت الإيجاد والتكوين، فلا مرد لأمره التكويني ولا تخلف، فكذلك يجب الإسلام والخضوع لأمره التكليفي بلا حرج في النفس ولا تكلف ; لأن الأمر حق، والخلق حق { ألا له الخلق والأمر }
{ وله الملك يوم ينفخ في الصور } ويبعث من في القبور، فإذا كان لغيره ملك ما في الدنيا بمقتضى سننه المقدرة، وشريعته المقررة، فلا تملك يومئذ نفس ما مهما تكن مكرمة لنفس ما مهما تكن قريبة أو مقربة - شيئا ما من خير أو شر، أو نفع أو ضر، وإنما الأمر يومئذ لله وحده. فكيف يدعو من هداه إلى هذه الحقائق غيره من دونه فيرد على عقبيه، ويرجع إلى شر حاليه!
والصور في اللغة: القرن، واستشهد له في اللسان بقول الراجز:

لقد نطحناهم غداة الجمعين... نطحا شديدا لا كنطح الصورين

وقد ثقب الناس قرون الوعول والظباء وغيرها فجعلوا منها أبواقا ينفخون فيها فيكون لها صوت شديد يدعى به الناس إلى الاجتماع، ويعزفون به كغيره من آلات السماع، وقد ورد ذكره في سفر الأيام الأولى من كتب العهد العتيق قال: (5: 28 فكان جميع إسرائيل يصعدون تابوت عهد الرب بهتاف وبصوت الأصوار والأبواق والصنوج، يصوتون بالرباب والعيدان)
وقال بعض المفسرين: إن الصور جمع صورة كبسر وبسرة، وصوف وصوفة. وقيل في سور المدينة أيضا: إنه جمع سورة، ونقلوا هذا التفسير عن أبي عبيدة من رواة اللغة، وقد رده جمهور المفسرين بأنه لا يظهر معناه في قوله تعالى:
{ ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله } [الزمر: 68] وهذه هي النفخة الأولى، ولا يظهر معنى لكونها في صور المخلوقات، وإنما يظهر ذلك في النفخة الأخرى التي يبعث الله بها العباد، وهي قوله في تتمة الآية: { ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون } [الزمر: 68] وبأنه مخالف لما ورد في الأخبار والآثار من تفسيره بالقرن والبوق أو بما يشبههما، وفي بعض الآثار الإسرائيلية أنه مستقر أرواح الخلق، فإذا نفخ فيه نفخة البعث تصيب النفخة تلك الأرواح، فتذهب إلى أجسادها بعد أن يكون الله قد أعادها كما بدأها، ورده اللغويون أيضا بأن المقيس في كلام العرب أن ما كان على وزن فعلة بضم الفاء يجمع على فعل بضم الفاء وفتح العين، كغرفة وغرف، وصورة وصور،
وقد أجمع القراء على فتح الواو في قوله تعالى:
{ وصوركم فأحسن صوركم } [غافر: 64] وأما ما جاء من جمعه بضم فسكون كبسر وصوف فهو خاص بما سبق استعمال الجمع فيه على استعمال الواحد، وروى الأزهري هذا الرد بسنده عن أبي الهيثم، ويراجع في مادتي سورة وصور من لسان العرب، فقد أطال الكلام في المسألة فيهما.
وأما الأخبار المرفوعة في الصور فقد أخرجها أصحاب السنن والتفسير المأثور وغيرهم بأسانيد لم يصح منها شيء على شرط الشيخين، ولذلك لم يخرجا منها شيئا، وأقواها ما رواه أبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي وغيرهم، وصححه الحاكم من حديث عبد الله بن عمر قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصور فقال:
"هو قرن ينفخ فيه" وروي عن ابن مسعود أنه قال: الصور كهيئة القرن ينفخ فيه، وورد في روايات يقوي بعضها بعضا، وصحح بعضها الحاكم - أن الملك الموكل بالصور مستعد للنفخ فيه، ينتظر متى يؤمر، وفي بعضها أنه وكل به ملكان،
وورد في وصف ملك الصور، وفي صفة الصور، والنفخ وتأثيره وما يتعلق به، وما يكون يومئذ - روايات منكرة، بعضها مأخوذ من الإسرائيليات، عن كعب الأحبار ووهب بن منبه، وبعضها ملفق من أخبار كثيرة، وممزوج بالآيات الواردة في قيام الساعة كحديث أبي هريرة الطويل الذي رواه عنه الطبراني من طريق إسماعيل بن رافع قاضي المدينة، وقد ذكر منه ابن كثير ما يملأ عدة صفحات، وذكر أنه غريب جدا، وأن إسماعيل تفرد به، وأنه اختلف عليه في إسناده على وجوه كثيرة، وذكر الخلاف في توثيق إسماعيل وتضعيفه، ومنه أنه نص على نكارة حديثه غير واحد من الأئمة كأحمد وأبي حاتم، ومنهم من قال: إنه متروك. وسنعود إلى الكلام على الصور وحكمة النفخ فيه في تفسير سورتي الأنبياء والزمر، إن أحيانا الله تعالى.
{ عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير } فسر ابن عباس الغيب والشهادة هنا بالسر والعلانية، وقال الحسن: الشهادة ما قد رأيتم خلقه، والغيب ما غاب عنكم مما لم تروه. وتقدم القول في عالم الغيب في موضعين من تفسير هذه السورة مفصلا تفصيلا. والمعنى أن الذي خلق الخلق بالحق، والذي قوله الحق في التكوين، والذي له الملك وحده يوم ينفخ في الصور ويحشر الخلق - هو عالم الغيب والشهادة، وهو الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه، وهو الخبير بدقائق الأمور وخفاياها، فلا يشذ عن علمه وحكمته شيء منها، فلا يليق بعاقل أن يدعو غيره ولو بقصد التوسل والتقريب إليه زلفى
{ فلا تدعوا مع الله أحدا } [الجن: 18] { بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء } [الأنعام: 41] ففي هذا التذييل تقرير لمضمون الآية، وفذلكة للسياق الوارد في إنكار دعاء غير الله تعالى.