خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّيۤ أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٧٤
وَكَذَلِكَ نُرِيۤ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلْمُوقِنِينَ
٧٥
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلْلَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لاۤ أُحِبُّ ٱلآفِلِينَ
٧٦
فَلَمَّآ رَأَى ٱلْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلضَّالِّينَ
٧٧
فَلَماَّ رَأَى ٱلشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي هَـٰذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ يٰقَوْمِ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ
٧٨
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ
٧٩
-الأنعام

تفسير المنار

بدأ الله سبحانه هذه السورة بعد حمد نفسه ببيان أصول الدين ومحاجة المشركين، فبين استحقاقه للعبادة وحده، وإشراكهم به، وتكذيبهم بالآيات التي أيد بها رسوله ورد ما لهم من الشبهة على الرسالة، ثم لقن رسوله طوائف من الآيات البينات في إثبات التوحيد والرسالة والبعث مبدوءة بقوله له (قل. قل) ثم أمره في هذه الآيات بالتذكير بدعوة أبيه إبراهيم - عليهما الصلاة والسلام - إلى مثل ما دعا، وما استنبطه هو منه من آيات التوحيد وبطلان الشرك، وإقامة الحجة على أهله تأييدا لمصداق دعوته في سلالة ولده إسماعيل عليهم الصلاة والتسليم، ولإبراهيم المكانة العليا من إجلال الأمة العربية، كما أن اليهود والنصارى متفقون على إجلاله. وإننا نقدم لتفسير الآية مقدمة في أصل إبراهيم ومسألة كفر أبيه آزر وحكمة الله تعالى فيما قصه عنه، فنقول: (مقدمة في أصل إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ومسألة كفر أبيه).
(إبراهيم) هو الاسم العلم لخليل الرحمن، أبي الأنبياء الأكبر من نوح، عليهم الصلاة والسلام، ويؤخذ من سفر التكوين - وهو السفر الأول من أسفار العهد العتيق - أنه العاشر من أولاد سام بن نوح، وأنه ولد في (أور الكلدانيين) وهي بلدة من بلاد الكلدان.
و " أور " بضم الهمزة وسكون الواو، ومعناها في الكلدانية النور أو النار كما قالوا. قيل: هي البلدة المعروفة الآن باسم (أورفا) في ولاية حلب كما رجح بعض المؤرخين، وقيل: غيرها من البلاد الواقعة في جزيرة العراق - بين النهرين - وفي أقطار العالم القديم بلاد ومواقع كثيرة مبدوءة أسماؤها بكلمة (أور) واقعة مع ما بعدها موقع المضاف من المضاف إليه، وأشهرها (أورشليم) لمدينة القدس، قالوا: إن معناها ملك السلام، أو إرث السلام، ف " شليم " بالعبرية هي السلام بالعربية.
وفي بعض التواريخ العربية أنه من قرية اسمها (كوثى) من سواد الكوفة. وكان اسم إبراهيم (أبرام) بفتح الهمزة، وقالوا: إن معناه (أبو العلاء) فهو مركب من كلمة " أب " العربية السامية مضافة إلى ما بعدها.
وفي سفر التكوين أن الله تعالى ظهر له في سن التاسعة والتسعين من عمره وكلمه، وجدد عهده له بأن يكثر نسله ويعطيه أرض كنعان (فلسطين) ملكا أبديا، وسماه لذريته (إبراهيم) بدل (أبرام) وقالوا: إن معنى إبراهيم (أبو الجمهور) العظيم أي أبو الأمة. وهو بمعنى تبشير الله تعالى إياه بتكثير نسله من إسماعيل ومن إسحاق عليهم الصلاة والسلام، ولا ينافي ذلك كسر همزته، فقد علم أن أصلها الفتح، وأن " إب " المكسورة في إبراهيم هي أب المفتوحة في أبرام. فالجزء الأول منه عربي، والثاني كلداني أو من لغة أخرى من فروع السامية أخوات العربية التي هي أعظمها وأوسعها، حتى جعلها بعض علماء اللغات هي الأصل والأم لسائر تلك الفروع السامية كالعبرية والسريانية.
وذكر رواة العربية في هذا الاسم سبع لغات عن العرب وهي إبراهيم وابراهام وابراهوم وابراهيم مثلثة الهاء وأبرهم بفتح الهاء بلا ألف. وصرح بعضهم بأنه سرياني الأصل ثم نقل، وبعضهم بأن معناه أب راحم أو رحيم، وعلى هذا يكون جزآه عربيين بقلب حائه هاء كما يقلبها جميع الأعاجم الذين لا ينطقون بالحاء المهملة كالإفرنج، وتركيبه مزجي. وفي " القاموس المحيط " كغيره " أن تصغيره بريه أو أبيره وبريهيم " قال شارحه عند الأول: قال شيخنا: وكأنهم جعلوه عربيا وتصرفوا فيه بالتصغير، وإلا فالأعجمية لا يدخلها شيء من التصريف بالكلية.
وقد ثبت عند علماء العاديات والآثار القديمة أن عرب الجزيرة قد استعمروا منذ فجر التاريخ بلاد الكلدان ومصر، وغلبت لغتهم فيهما، وصرح بعضهم بأن الملك حمورابي الذي كان معاصرا لإبراهيم - عليه الصلاة والسلام - عربي، وحمورابي هذا هو ملكي صادق ملك البر والسلام، ووصف في العهد العتيق بأنه كاهن الله العلي، وذكر فيه أنه بارك إبراهيم، وأن إبراهيم أعطاه العشر من كل شيء.
ومن المعروف في كتب الحديث والتاريخ العربي أن إبراهيم أسكن ابنه إسماعيل مع أمه هاجر المصرية - عليهم السلام - في الوادي الذي بنيت فيه مكة بعد ذلك، وأن الله تعالى سخر لهما جماعة من جرهم سكنوا معهما هنالك، وأن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - كان يزورهما، وأنه هو وولده إسماعيل بنيا بيت الله المحرم، ونشرا دين الإسلام في البلاد العربية،
فيظهر من ذلك أن العربية القديمة هي لغة إبراهيم وهاجر، ولغة حمورابي وقومه، ولغة قدماء المصريين أو اللغة الغالبة في ذينك القطرين، وأنها على ما كان فيها من الدخيل الكلداني والمصري كانت قريبة جدا من العربية الجرهمية، ولذلك كان الذين ساكنوا هاجر من جرهم يفهمون منها وتفهم منهم.
وقد ثبت في صحيح البخاري أن إبراهيم زار إسماعيل مرة فلم يجده، وتكلم مع امرأته الجرهمية ولم تعجبه، ثم زاره مرة أخرى فلم يجده، وكانت عنده امرأة أخرى فتكلم معها فأعجبته. وقد ورد أيضا أن لغة إسماعيل كانت أفصح من لغة جرهم، فهي أم اللغة المضرية التي فاقت بفصاحتها وبلاغتها سائر اللغات أو اللهجات العربية، ثم ارتقت في عهد قريش من ذريته بما كانوا يقيمونه لها من أسواق المفاخرة في موسم الحج، ثم كملت بلاغتها وفصاحتها بنزول القرآن المجيد المعجز للخلق بها.
وأما أبو إبراهيم فقد سماه الله تعالى في الآية الأولى من هذه الآيات (آزر) وفي سفر التكوين أن اسمه (تارح) بفتح وحاء مهملة، وقالوا: إن معناه (متكاسل) ومن الغريب أن نرى أكثر المفسرين والمؤرخين اللغويين منا يقولون: إن اسمه " تارخ " بالخاء المعجمة أو المهملة، وإن آزر لقبه أو اسم أخيه أو أبيه أو صنمه، ونقل عن الزجاج والفراء أنه ليس بين النسابين والمؤرخين اختلاف في كون اسمه تارخ أو تارح. ولا نعرف لهذه الأقوال أصلا مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا منقولا عن العرب الأولين، وإنما هو منقول فيما يظهر عمن دخل في الإسلام من أهل الكتاب، كوهب بن منبه، وكعب الأحبار اللذين أدخلا على المسلمين كثيرا من الإسرائيليات، فتلقوها بالقبول على علاتها. وعن مقاتل بن سليمان المجروح بالكذب الذي قال ابن حبان فيه: كان يأخذ من اليهود والنصارى من علم القرآن الذي يوافق كتبهم.
ففي التفسير المأثور عن مجاهد قال: آزر لم يكن بأبيه، ولكنه اسم صنم. وعن السدي اسم أبيه تارح، واسم الصنم آزر. وعن ابن عباس في إحدى الروايتين عنه قال: آزر الصنم، وأبو إبراهيم اسمه يازر، وفي الأخرى أن أبا إبراهيم لم يكن اسمه آزر، وإنما اسمه تارح. رواهما عنه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ، وعن ابن جريج أن اسمه تيرح. وجزم الضحاك بأن اسمه آزر، واعتمده ابن جرير، وروي عن الحسن أيضا.
وقال البخاري في " التاريخ الكبير ": إبراهيم بن آزر، وهو في التوراة تارح، والله سماه آزر، وإن كان عند النسابين والمؤرخين اسمه تارخ ليعرف بذلك. اهـ. فقد اعتمد أن آزر هو اسمه عند الله - أي في كتابه - فإن أمكن الجمع بين القولين فبها وإلا رددنا قول المؤرخين، وسفر التكوين لأنه ليس حجة عندنا حتى نعتد بالتعارض بينه وبين ظواهر القرآن، بل القرآن هو المهيمن على ما قبله، نصدق ما صدقه، ونكذب ما كذبه، ونلزم الوقف فيما سكت عنه حتى يدل عليه صحيح.
وأضعف ما قالوه في الجمع بين القولين أن آزر اسم عمه بناء على أن العرب تسمي العم أبا مجازا، وهذه الدعوى لا تصح على إطلاقها، وإنما يصح ذلك حيث توجد قرينة يعلم منها المراد، ولا قرينة هنا ولا في سائر الآيات التي ذكر فيها من غير تسمية، ويليه في الضعف قول بعضهم: إنه كان خادم الصنم المسمى بآزر، فأطلق عليه من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مكانه. وأقواه أن له اسمين؛ أحدهما علم والآخر لقب:
والظاهر حينئذ أن يكون تارح هو اللقب؛ لأن معناه المتكاسل، وهو لقب قبيح قلما يطلقه أحد ابتداء على ولده، وإنما يطلق مثله على المرء بعد ظهور معناه فيه أو رميه به، إلا أن يصح ما زعمه من عكس، فجعل آزر هو اللقب بناء على أن معناه في لغتهم المخطئ أو المعوج أو الأعوج أو الأعرج - ولعله تحريف عما قبله - وقيل: إنه الشيخ الهرم بالخوارزمية.
بعد كتابة ما تقدم راجعت (روح المعاني) للألوسي، والتفسير الكبير (مفاتيح الغيب) للرازي، فأحببت أن أنقل عنهما ما يأتي:
قال الألوسي: وعلى القول بالوصفية يكون منع صرفه للحمل على موازنه وهو فاعل المفتوح العين، فإنه يغلب منع صرفه لكثرته في الأعلام الأعجمية، وقيل: الأولى أن يقال: إنه غلب عليه فألحق بالعلم. وبعضهم يجعله نعتا مشتقا من الأزر بمعنى القوة، أو الوزر بمعنى الإثم، ومنع صرفه حينئذ للوصفية ووزن الفعل؛ لأنه على وزن أفعل.
وقال الرازي بعد أن ذكر قول الزجاج باتفاق علماء النسب على أن اسم أبي إبراهيم تارح، ومن الملحدة من جعل هذا طعنا في القرآن، وقال في هذا النسب خطأ وليس بصواب. ثم ذكر أن للعلماء هاهنا مقامين؛ أحدهما رد الاستدلال بإجماع النسابين على أن اسمه كان تارح، قال: لأن ذلك الإجماع إنما حصل لأن بعضهم يقلد بعضا، وبالآخرة يرجع ذلك الإجماع إلى قول الواحد والاثنين، مثل قول وهب وكعب وأمثالهما، وربما تعلقوا بما يجدونه من أخبار اليهود والنصارى، ولا عبرة بذلك في مقابلة صريح القرآن. انتهى. وقد بينا لك مأخذه، وأنه لا إجماع في المسألة. ثم ذكر المقام الثاني، وهو تسليم قولهم، والجمع بينه وبين نص القرآن بما نقلناه عنهم آنفا وبينا قويه من ضعيفه.
ومن الناس من استدل على أن آزر لم يكن والد إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - بل عمه بالجزم ; لأن آباء الأنبياء كافة أو نبينا خاصة لم يكونوا كفارا، وبأن إبراهيم خاطب آزر بالغلظة والجفاء، ولا يجوز ذلك من الأنبياء. وقد عزا الرازي هذا القول إلى الشيعة، وأطال في بيانه، واختص في بيان (زعم أصحابه - أي الأشاعرة أو أهل السنة كافة - أن آزر كان والد إبراهيم وكان كافرا وفي ردهم قول الشيعة.
وقال الألوسي: والذي عول عليه الجم الغفير من أهل السنة أن آزر لم يكن والد إبراهيم - عليه السلام - وادعوا أنه ليس في آباء النبي - صلى الله عليه وسلم - كافر أصلا؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام -: " لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات " والمشركون نجس، وتخصيص الطهارة بالطهارة من السفاح لا دليل له يعول عليه، والعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، وقد ألفوا في هذا المطلب الرسائل، واستدلوا له بما استدلوا. والقول بأن ذلك قول الشيعة كما ادعاه الإمام الرازي ناشئ من قلة التتبع.
وأكثر هؤلاء على أن آزر اسم لعم إبراهيم - عليه السلام - وجاء إطلاق الأب على الجد في قوله تعالى:
{ أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } [البقرة: 133] وفيه إطلاق الأب على الجد أيضا. وعن محمد بن كعب القرظي أنه قال: الخال والد والعم والد، وتلا هذه الآية.
ثم ذكر السيد الألوسي آثارا استدلوا بها على ما ذكر، أخذها فيما يظهر من بعض رسائل السيوطي التي ألفها في نجاة الأبوين الشريفين، وجمع فيها الذرة وأذن الجرة - كما يقال - ورجح الآثار الواهية والمنكرة على الأحاديث الصحيحة المؤيدة بالآيات الصريحة، وهي التي أشار إليها الألوسي بقوله: وألفوا في هذا المطلب الرسائل.. إلخ، واعتمد عليها فيما ادعى أنه هو الذي عول عليه أهل السنة، ومن الغريب وقوع هذه الهفوة من مثل هذا النقاد، وإنما أوقعه فيها هوى صادفته في الفؤاد، وهو الميل إلى ما يدل على نجاة جميع أولئك الآباء والأجداد الذين أنجبوا أفضل الأبناء والأحفاد، محمدا وإبراهيم الخليلين عليهما وعلى آلهما أفضل الصلاة والسلام، فإن من حبهما - وهو من آيات الإيمان بهما - أن يحب المؤمن نجاة أصولهما، ولكن إذا ثبت أن بعضهم أصر على الكفر، وقضت حكمة الله أن يبينه لنا في محكم الذكر، وأن يطلع رسوله على عاقبته في النار، فيخبر أمته به لكمال التوحيد والاعتبار، أفيكون مقتضى حب الله ورسوله هو الإيمان بذلك وبيانه كما بيناه؟ أم يكون حبهما تحريفه وتأويله مبالغة في تعظيم نسب الرسل، واستعظاما لهلاك أقرب الناس منهم نسبا مع كرامتهم عند الله، وتأثرا بأقوال أهل الملل الذين جعلوا نجاة الخلق وسعادتهم في الآخرة بجاه أنبيائهم وتأثيرهم الشخصي عند الله لا باتباعهم والاهتداء بما جاءوا به من أصول الإيمان وفضائل الأعمال
{ ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين } [آل عمران: 53].
نعم، إن مما يصدع الفؤاد، ويكاد يفتت أصلب الجماد، أن يرى المؤمن والد خليل الرحمن قد أثبت عليه في كتاب الله تعالى عبادة الأوثان، وأطلع الله تعالى رسوله على أن مآله أن يمسخ حيوانا منتنا ويلقى في سعير النيران، كما روى البخاري في " كتاب أحاديث الأنبياء " و " كتاب التفسير " من صحيحه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال:
"يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يارب إنك وعدتني ألا تخزيني يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله تعالى إني حرمت الجنة على الكافرين ثم يقال: يا إبراهيم انظر ما تحت رجليك؟ فينظر فإذا هو بذيخ متلطخ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار" قال الحافظ بن حجر في شرحه. وفي رواية إبراهيم بن طهمان: فيؤخذ منه، فيقول: يا إبراهيم، أين أبوك؟ قال: أنت أخذته مني، قال: انظر أسفل، فينظر فإذا ذيخ يتمرغ في نتنه.
وفي رواية أيوب: فيمسخ الله أباه ضبعا فيأخذ بأنفه (أي يأخذ إبراهيم أنفه بأصابعه كراهة لرائحة نتنه، فيقول: يا عبدي، أبوك هو؟ فيقول: لا وعزتك. وفي حديث سعيد: فيحول في صورة قبيحة وريح منتنة في صورة ضبعان. زاد ابن المنذر من هذا الوجه: فإذا رآه كذا تبرأ منه وقال: لست أبي. والذيخ - بكسر الذال المعجمة بعدها تحتانية ساكنة ثم خاء معجمة - ذكر الضباع، ولا يقال: ذيخ إلا إذا كان كثير الشعر. والضبعان لغة في الضبع. اهـ.
أقول: الضبعان - بالكسر - ذكر الضباع، وهو مفرد، والضبع - بضم الباء وسكونها - هي الأنثى فلا يقال: ضبعة، وقال ابن الأنباري: يطلق على الذكر والأنثى. وهو وحش خبيث الرائحة، فناسب ذلك خبث الشرك.
وقال الحافظ: قيل: الحكمة في مسخه لتنفر نفس إبراهيم منه، ولئلا يبقى في النار على صورته فيكون غضاضة على إبراهيم. وقيل: الحكمة في مسخه ضبعا أن الضبع من أحمق الحيوان، وآزر كان من أحمق البشر؛ لأنه بعد أن ظهر له من ولده ما ظهر من الآيات البينات أصر على الكفر حتى مات.. إلخ.
ثم ذكر الحافظ أن الإسماعيلي استشكل متن هذا الحديث من أصله، وطعن في صحته من جهة أن إبراهيم علم أن الله لا يخلف الميعاد، فكيف يجعل ما صار لأبيه خزيا مع علمه بذلك؟ قال الحافظ: وقال غيره: هذا الحديث مخالف لظاهر قوله تعالى:
{ وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه } [التوبة: 114] وأجاب عن الثاني بأن أهل التفسير اختلفوا في الوقت الذي تبرأ فيه إبراهيم من أبيه، فقيل: كان ذلك في الحياة الدنيا لما مات آزر مشركا. وذكر أن الطبري رواه عن ابن عباس من طرق قال في بعضها: استغفر له ما كان حيا، فلما مات أمسك. وقيل: إنما تبرأ منه يوم القيامة لما يئس حين مسخ على ما صرح به في رواية ابن المنذر التي أشرت إليها.
وهذا الذي أخرجه الطبري أيضا من طريق عبد الملك بن أبي سليمان، سمعت سعيد بن جبير يقول: إن إبراهيم يقول يوم القيامة: رب والدي، رب والدي، فإذا كان الثالثة أخذ بيده، فيلتفت إليه وهو ضبعان، فيتبرأ منه...
(ثم قال الحافظ): ويمكن الجمع بين القولين بأنه تبرأ منه لما مات مشركا، فترك الاستغفار له، لكن لما رآه يوم القيامة أدركته الرأفة والرقة، فسأل فيه، فلما رآه مسخ يئس منه حينئذ، فتبرأ منه تبرءا أبديا. وقيل: إن إبراهيم لم يتيقن موته على الكفر لجواز أن يكون آمن في نفسه ولم يطلع إبراهيم على ذلك، ويكون تبرؤه منه بعد الحال التي وقعت منه في الحديث. انتهى. وفيه التعبير عن المستقبل بصيغة الماضي، وهو كثير في أخبار القيامة.
ثم نقل الحافظ عن الكرماني إيرادا بمعنى إشكال الإسماعيلي موضحا. والجواب عنه من وجهين: أحدهما أنه إذا مسخ وألقي في النار لم تبق الصورة التي هي سبب الخزي، فهو عمل بالوعد والوعيد معا، وثانيهما أن الوعد كان مشروطا بالإيمان، وإنما استغفر له وفاء بما وعده، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه.
وأقول: إن ما في الحديث من أن الله تعالى وعد إبراهيم - صلى الله عليه وآله وسلم - بألا يخزيه يوم القيامة يشير إلى دعائه الذي حكاه الله تعالى عنه في سورة الشعراء، ومنه
{ واغفر لأبي إنه كان من الضالين * ولا تخزني يوم يبعثون * يوم لا ينفع مالا ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم } [الشعراء: 86-89] وأما وعد الله تعالى إياه بذلك فلا نعرفه إلا من الحديث، فهو يدل على أن الله تعالى أوحى إليه بأنه استجاب له هذا الدعاء بشرطه المعلوم من الدين بالضرورة، وهو أن الله تعالى لا يغفر لمن يشرك به. وتأمل قوله تعالى في خاتمة الدعاء: { يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم } [الشعراء: 88-89] فهو من دقائق الرقائق.
وأما استدلال الألوسي تبعا لغيره بحديث
"لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات" على إيمان آباء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من عبد الله (أولهم) إلى آدم - عليه السلام - فهو معارضة لظاهر القرآن والأحاديث الصحيحة بحديث واه رواه أبو نعيم في الدلائل من حديث ابن عباس بلفظ "لم يلتق أبوي في سفاح، لم يزل الله عز وجل ينقلني من أصلاب طيبة، إلى أرحام طاهرة، صافيا مهذبا لا تنشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما" هكذا في نسخة الدلائل التي بأيدينا. وذكره السيوطي عنه بلفظ "من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة" بالتعريف، ولا نعرفه باللفظ الذي ذكره الألوسي عن أحد من المحدثين، وإنما يذكره بهذا اللفظ من لا يتحرون نقل الأحاديث بضبط مخرجيها، بل يتساهلون بنقلها حيث وجدوها ككثير من المفسرين والمتكلمين.
وقد سبق الفخر الرازي الألوسي إلى ذكره بهذا اللفظ من غير عزو ولا ذكر لاسم الصحابي الذي رفعه كعادته. واللفظ المروي لا معنى له إلا كون آبائه - صلى الله عليه وسلم - ولدوا من نكاح لا من سفاح، وهو معنى صحيح وردت فيه أحاديث أخرى، ولو فرضنا أنه روي باللفظ الذي ذكراه لاحتمل هذا المعنى أيضا، وكان حمله عليه جمعا بينه وبين القرآن، والأحاديث الصحيحة أولى من جعله أصلا وإرجاعها إليه بالتأويل والتكلف. والذي خرجه إنما جعله في دلائل طهارة نسبه لا إيمان أصوله.
ومما ذكر السيوطي من الدلائل في معنى هذه المسألة قوله تعالى:
{ وتقلبك في الساجدين } [الشعراء: 219] لقول بعضهم: إن معناه في أصلاب الطاهرين أي المؤمنين، وروى أبو نعيم أنهم الأنبياء، ويبطل ذلك ما ذكرنا من المعارضة، وقوله تعالى قبل الآية: { الذي يراك حين تقوم } [الشعراء: 218] أي: ويرى تقلبك في الساجدين، فهو لا يحتمل الماضي، وإنما معناه كما قال ابن عباس وغيره: الذي يراك حين تقوم في الصلاة، ويرى تقلبك في المصلين أي معهم وبينهم. وما روي عنه من أن المعنى تقلبه من صلب نبي إلى صلب نبي حتى أخرجه نبيا - لا يصح سندا ولا متنا ولا لغة. وتفصيل ذلك سيأتي في محله.
وأما الأحاديث الصحيحة المعارضة لحديث أبي نعيم التي أشرنا إليها في سياق الكلام غير حديث البخاري في مسخ آزر فأهمها ما ورد في أبوي الرسول الطاهرين - صلى الله عليه وآله وسلم - فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك
"أن رجلا قال: يا رسول الله، أين أبي؟ قال: في النار قال: فلما قفا الرجل دعاه فقال: إن أبي وأباك في النار" قال النووي في شرحه: فيه أن من مات على الكفر فهو في النار، ولا تنفعه قرابة المقربين، وفيه أن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو من أهل النار، وليس هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة، فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم، وقوله - صلى الله عليه وسلم - "إن أبي وأباك في النار" هو من حسن العشرة للتسلية بالاشتراك في المصيبة. ومعنى " قفا " ولى قفاه منصرفا. انتهى. وورد حديث مثله في أمه - صلى الله عليه وسلم - أخرجه الإمام أحمد.
وروى مسلم أيضا من طريق مروان بن معاوية، عن زيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي" ورواه من طريق محمد بن عبيد بلفظ: "زار النبي - صلى الله عليه وسلم - قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: استأذنت ربي في أن أستغفر لها، فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور، فإنها تذكركم الموت" وذكر النووي أن هذه الرواية وجدت في نسخ المغاربة دون المشارقة، ولكنها توجد في كثير من الأصول في آخر كتاب الجنائز ويضبب عليها، وربما كتبت في الحاشية. وذكر أن الحديث رواه من هذه الطريق أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، ورجاله عندهم كلهم ثقات، قال: فهو حديث صحيح بلا شك.
وقال النووي في شرح الحديث: فيه جواز زيارة المشركين في الحياة وقبورهم بعد الوفاة؛ لأنه إذا جازت زيارتهم بعد الوفاة ففي الحياة أولى، وقد قال تعالى:
{ وصاحبهما في الدنيا معروفا } [لقمان: 15] وفيه النهي عن الاستغفار للكفار. قال القاضي عياضرحمه الله : سبب زيارته - صلى الله عليه وسلم - قبرها أنه قصد الموعظة والذكرى بمشاهدة قبرها، ويؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم - في آخر الحديث: "فزوروا القبور؛ فإنها تذكركم الموت" انتهى. فهذا كلام أهل السنة.
وقد ورد في التفسير المأثور عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما من عدة طرق، أن قوله تعالى في سورة التوبة:
{ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم * وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم } [التوبة: 113-114] نزلت في هذه الواقعة. ولكن روى الشيخان وغيرهما أنها نزلت "لما عرض النبي - صلى الله عليه وسلم - على أبي طالب عند موته أن يقول: لا إله إلا الله ليحاج له بها أو يجادل عنه أو يشفع له بها، وكان عنده أبو جهل، فجعل يقول له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال آخر ما كلمهم إنه على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقولها، فحينئذ قال - صلى الله عليه وسلم -: والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فأنزل الله: { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } [التوبة: 113]" إلخ. وأنزل الله في أبي طالب فقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } [القصص: 56] قيل في تفسير " من أحببت " من أحببت هدايته. وقيل: من أحببته بقرابة ونحوها.
قال الحافظ عند شرح هذا الحديث من كتاب التفسير في البخاري حين ذكره في تفسير سورة القصص: وفيه إشكال؛ لأن وفاة أبي طالب كانت بمكة قبل الهجرة اتفاقا، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى قبر أمه لما اعتمر. فاستأذن ربه أن يستغفر لها، فنزلت هذه الآية، والأصل عدم تكرر النزول،
ثم ذكر الروايات في ذلك عن الحاكم، وابن أبي حاتم، والطبري، والطبراني، ثم قال: ويحتمل أن يكون نزول الآية تأخر وإن كان سببها تقدم، ويكون لنزولها سببان: متقدم وهو أمر أبي طالب، ومتأخر وهو أمر آمنة. ويؤيد تأخير النزول ما سيأتي في تفسير براءة (9: 80) من استغفاره - صلى الله عليه وسلم - للمنافقين حتى نزل النهي عن ذلك، فإن ذلك يقتضي تأخير النزول وإن تقدم السبب، ويشير إلى ذلك أيضا قوله في حديث الباب: وأنزل الله في أبي طالب:
{ إنك لا تهدي من أحببت } [القصص: 56] لأنه يشعر بأن الآية الأولى نزلت في أبي طالب وفي غيره، والثانية نزلت فيه وحده. انتهى.
ثم أيد الحافظ تعدد النزول بروايات أخرى فيمن استغفر لوالديه المشركين ومن استأذن في ذلك، ومعنى ذلك أن الصحابة كانوا يقولون في الآية الدالة على حكم وقع له عدة أسباب: إنها نزلت في تلك الأسباب، أي نزلت مبينة لحكم الله فيها وإن تأخرت عنها، وسيأتي تحقيق هذه المسائل في محلها إن شاء الله تعالى.
ومن غريب التعصب للرأي أن السيوطي حاول في بعض رسائله إعلال أحاديث الزيارة، فزعم أنه لم يروها أحد من أصحاب الصحاح ولا السنن، وحصر روايتها في الحاكم وأحمد وسائر من ذكر شيخه الحافظ بن حجر في شرح البخاري وأشرنا إليه آنفا، كأنه ظن أنها لو كانت في الصحاح أو السنن لما اقتصر الحافظ على من ذكر من مخرجيها مع ما عرف من عادته أنه يذكر جميع طرق الحديث أو أقواها، وفاته أنه إنما أراد هنا ذكر ما ثبت في سبب نزول الآية من أحاديث الزيارة، وما رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه فيها ليس فيه ذكر نزول الآية في ذلك، ولكن أين حفظ السيوطيرحمه الله تعالى؟ أليس أهون ما يدل عليه هذا الإنكار أنه لم يكن حافظا للصحاح والسنن حفظا، وإنما كان يراجع الكتب عند الحاجة وينقل منها نقلا؟.
ومما ذكر السيوطي في التقصي من حديث
"إن أبي وأباك في النار" أن المراد بأبيه فيه عمه أبو طالب، وفي حديث عرض كلمة التوحيد على أبي طالب ما يبطل دعواه إيمان جميع آباء الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو أن آخر ما قاله أبو طالب أنه على ملة عبد المطلب. فهو دليل على أن ملة عبد المطلب تنافي كلمة التوحيد التي هي عنوان الإسلام. (ومنه) زعمه أن الحديث قد نسخ، ولعله نسي قول الأصوليين أن الأخبار لا تنسخ، ولا نقول: إنه جهله، فقد قرره في الإتقان تقريرا،
وقد تقدم أن إطلاق كلمة الأب على العم مجاز لا يصح في اللغة إلا بقرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي، وسياق الحديث يعين المعنى الحقيقي، فإذا جاز أن يكون السائل عن أبيه أراد عمه يجوز أن يكون معنى الحديث " إن عمي وعمك في النار ".
ولعمري إن من يقول هذه الأقوال لا يرد عليه، ولا يصح أن يحكى قوله إلا في مقام التعجب أو مقام الاعتبار والرد، على أن بعض العلماء ردوا عليه، ومع ذلك اغتر كثيرون بما أورده في نجاة الأبوين ومن حديث إحيائهما وإيمانهما الذي قال بعض الحفاظ بوضعه، وغاية ما قرره هو أنه ضعيف لا موضوع، وهو معارض بالآيات والأحاديث الصحاح. (ومنه) أنهما من أهل الفترة، وجمهور الأشاعرة على القول بنجاتهم، ولكنهم استثنوا من ورد النص بأنهم من أهل النار،
وأقوى ما قاله هو وغيره، وأرجاه ما ورد من الأحاديث في امتحان الله تعالى لأهل الفترة يوم القيامة ونجاة بعضهم به، هذا إذا لم يصح ما نقلناه عن النووي من جزمه بأن مشركي العرب قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره، وفيه بحث سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى، وإذا حق نجاة الأبوين الطاهرين بالامتحان يكون ما ورد فيهما خاصا بما قبل الامتحان.
(حكمة النصوص في كفر بعض أرحام الرسل الأقربين).
إن الذين اتخذوا استنباطهم البعيد من الروايات الضعيفة والمنكرة أصلا في إثبات إيمان آباء الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويؤولون لأجله الآيات الكثيرة والأحاديث الصحيحة الصريحة - قد غفلوا عن أمر عظيم، وهو الحكمة والفائدة في الإكثار من التصريح بكفر والد إبراهيم في القرآن، وما في معناه كقصة ابن نوح الذي أصر على كفره، ولم يرض أن يركب السفينة مع والده وأهله، وفي تصريح الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما يكون من أمر إبراهيم الخليل مع والده يوم القيامة، وتصريحه أيضا بأن أباه في النار، وبعدم إذن الله تعالى له في الاستغفار لأمه ولا لعمه الذي رباه وله عليه أعظم الحقوق. ومثل ذلك - فيما يظهر - إنزال سورة في سوء حال أبي لهب ومصيره إلى النار وهو عم الرسول - صلى الله عليه وسلم.
إن الحكمة البالغة والفائدة الظاهرة من هذه النصوص هي تقرير أصل التوحيد الهادم لقاعدة الوثنية بالفصل بين ما هو لله وما هو لرسله، وهو أن الرسل - عليهم الصلاة والسلام - لم يرسلوا إلا مبشرين ومنذرين، ما عليهم إلا تبليغ دين الله وإقامته، وليس لهم من الأمر شيء، ولا يملكون لأحد ضرا ولا نفعا، وليس عليهم هدى أحد ولا رشده بالفعل، وإنما عليهم هداية التعليم والحجة، فلا يهدون من أحبوا، ولا يغنون عنه من الله شيئا وإن كان أقرب الناس وأحبه إليهم في النسب والمعاملة الدنيوية.
وأما قاعدة وثنية العرب وغيرهم فهي اتخاذ أولياء من العباد يزعمون أنهم وسطاء بين الله وبين عباده في شئون الخلق والإيجاد، والإشقاء والإسعاد، والسلب والإمداد، لا في مجرد التبليغ والإرشاد قياسا على ما يعهدون من الأقربين والمقربين عند الملوك المستبدين، فهم لذلك يدعونهم مع الله أو من دون الله
{ ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [يونس: 18] وكانوا يعبرون عنهم بالأولياء والشركاء كما قال تعالى: { والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } [الزمر: 3] الآية. وكانوا يقولون في طوافهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك.
وأصل عبادة أصنامهم وأوثانهم الغلو في تعظيم الصالحين، فهي مأخوذة عن قوم نوح؛ كان فيهم رجال صالحون هلكوا، فأوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت (راجع سورة نوح من كتاب التفسير في " صحيح البخاري " وقد هدم القرآن جميع قواعد شرك العرب وغيرهم من الوثنيين وأهل الكتاب الذين جعلوا مدار السعادة والنجاة على شفاعة أنبيائهم وأوليائهم، لا على اتباعهم في الإيمان والعمل وفضل الله تعالى، ولما كان إبراهيم أعلى البشر مقاما في أنفس العرب - ومقامه الأعلى في الرسل عند أهل الكتاب مقامه - كرر الله تعالى في كتابه ذكر كفر والده واجتهاده هو في هدايته وعنايته بالاستغفار له، وأن ذلك كله لم يفده شيئا،
وزاد الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم - فبين لنا ما أطلعه الله عليه من عاقبته السوأى في الآخرة. وذكر أيضا عن أبويه ما علمت من روايات الصحيحين وغيرهما ليعلم الناس أن مدار النجاة في الآخرة على الإيمان الصحيح الإذعاني المستلزم للعمل بما جاء به الرسل عليهم السلام، لا بأشخاص الرسل وتأثيرهم الشخصي عند الله، كتأثير الأقربين والمقربين عند الملوك المستبدين، إذ يحملونهم بالشفاعة أو الإقناع على عفو عن مذنب أو إحسان إلى غير مستحق، وهذه هي نظرية الوثنيين في الشفاعة التي نفاها القرآن المجيد، وأثبت أن الشفاعة لله جميعا، لا يشفع عنده أحد إلا من بعد إذنه للشافع ورضاه عن المشفوع له. وقد تقدم تفصيل ذلك في تفسير هذه السورة من هذا الجزء وفي غيرها.
ولا يرد على حصر وظيفة الرسل في التبليغ بالقول والفعل ما يؤيدهم الله تعالى به من الآيات، فإنها وإن كان بعضها يحصل بقول أو فعل منهم لا يصح أن تعد من جملة كسبهم وتصرفهم، ولا أن يترتب على ذلك أن يدعوا أحياء وأمواتا لفعلها، كإبراء الأكمه، وإحياء الميت، بل هي من تصرف الله تعالى وحده، سواء منها ما لا دخل لهم فيه بقول ولا فعل كإعجاز القرآن، وما يجري عقب قول كقول الرسول للميت:
"قم بإذن الله" ، أو فعل كإلقاء موسى لعصاه أو ضربه البحر بها،
قال تعالى:
{ وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين } [العنكبوت: 50] وهذه الآية نص في الموضوع، وفي معناها آيات تقدم بعضها فيما فسرتا من هذه السورة (الأنعام) وسيأتي في آخر هذا الجزء منها { قل إنما الآيات عند الله } [العنكبوت: 50] ومما هو بمعناها قوله تعالى بعد حكاية ما اقترحه كفار مكة على الرسول في سورة الإسراء { قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا } [الإسراء: 93] أي فأنا لا أقدر على ذلك بصفتي البشرية ; لأنني مثلكم فيها، وليس من شأن الرسول ذلك من حيث هو رسول مبلغ عن الله تعالى.
لولا تقرير هذه القاعدة لما ظهرت حكمة تلك العناية بتكرار ذكر كفر أبي إبراهيم في القرآن الحكيم، كالآيات التي في سورة مريم (19: 41 - 48) وكذكر أبيه قبل قومه في خبر بعثته في هذه السورة (الأنعام) وفي سورة الأنبياء (21: 52) إلخ. وسورة الشعراء (26: 70) إلخ. وسورة الصافات (37: 85). إلخ. وسورة الزخرف (43: 26) فمن تأمل في هذه الآيات وما في معناها كآية الاستغفار له في سورة براءة (9: 114) - وتقدمت آنفا - وقوله تعالى في سورة الممتحنة:
{ لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير * قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء } [الممتحنة: 3-4] من تأمل ذلك كله جزم بما قلناه.
وأجدر بنا - وقد وفقنا الله تعالى إلى إظهار الحق بهذه الشواهد والبينات - أن ندعو الله تعالى بالدعاء المتمم لهذه الآيات، فنقول:
{ ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم } [الممتحنة: 4-5].
هذا وإن كلام بعض الذين حاولوا إثبات إيمان جميع آباء الخليلين، أو جميع الأنبياء وإيمان أبي طالب يدور على ما يقابل هذا الأصل، وهو الغلو فيهم بدعوى أن كرامتهم تنفع أولي القربى منهم، فتكون سببا لهدايتهم إلى الإيمان ولا سيما من يسوءهم ويؤذيهم بقاؤه على الكفر، ومن يدعوهم أو يدعو بعض الصالحين من أتباعهم لجلب النفع أو لكشف الضر، يظنون أنهم ينالون سعادة الدنيا والآخرة بالتوسل بذواتهم، لا بما أمر الله من اتباعهم،
ومنهم من يعتقد أنهم يخرجون من قبورهم، ويقضون الحوائج التي تطلب منهم بأشخاصهم، وذلك مصادم لتلك النصوص كلها ولما في معناها من قواعد التوحيد، وكون الدعاء عبادة لا يكون إلا لله تعالى:
{ قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا * أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا } [الإسراء: 56-57].
وإذا كانت هذه الأمة لم تسلم من وجود أناس قد اتبعوا سنن من قبلهم في الغلو في الأنبياء والصالحين مع هذه النصوص الكثيرة الصريحة في الكتاب والسنة، ومع تحذير النبي للأمة من اتباع سننهم، فكيف لو لم توجد هذه النصوص بهذه الصراحة وهذا التحذير؟.
نعم إن من الناس الراسخين في التوحيد من يحمله حب الرسول - عليه صلوات الله وسلامه - على تقوية كل قول يمكن أن يستنبط منه نجاة أبويه الطاهرين أو جميع أصوله، وإنما يحسن هذا بشرط ألا يكون في ذلك تحريف لكلامه أو كلام الله تبارك وتعالى، ولا إخلال بمقاصد الرسالة وأصول الدين، فإن الحب الصحيح لله ولرسوله الذي هو آية الإيمان إنما يثبت ويتحقق بالاتباع وإقامة الدين،
ومن يرجح قرابة الرسول على رسالته فإنما حبه له ولهم حب هوى للعصبية والنسب، لا حب هدى باتباع ما أوجب الله على لسانه أو استحب، وقد كان أبو طالب أشد الناس حبا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عصبية لقرابته، لا اتباعا لرسالته، وكل مؤمن يتمنى لو كان آمن به، كما روي عن الصديق من تفضيل إيمانه على إيمان والده، ولكن ثبت في صحيح البخاري أنه بعد أن كان أعظم وأقوى ظهير ومانع للرسول - صلى الله عليه وسلم - من أعدائه لقرابته، قد أبى أن يقر عينه عند الوفاة بالنطق بكلمة " لا إله إلا الله ".
ولم يمنع ذلك بعض الغلاة من القول بإسلامه، ولا ما رواه البخاري ومسلم في الصحيحين أيضا من حديث أخيه العباس بن عبد المطلب قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -:
"ما أغنيت عن عمك فوالله كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار" . ورويا من حديث أبي سعيد الخدري أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر عنده عمه، فقال: "لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه، يغلي منه دماغه" فهذا رجاء والذي قبله خبر،
وفي هذا الحديث من الإشكال أنه معارض بقوله تعالى:
{ فما تنفعهم شفاعة الشافعين } [المدثر: 48] وما في معناها من الآيات كقوله تعالى في الملائكة والمسيح: { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } [الأنبياء: 28] أي لأهل التوحيد كما روي عن مفسري السلف، وبحديث عدم نفع شفاعة إبراهيم لأبيه - إن صح أن يسمى ذلك شفاعة - وأحاديث أخرى.
وقد يجاب عن حديث أبي سعيد على طريقة العلماء في مثله بأن هذا الرجاء ليس اعتقادا جازما ولا خبرا عن الله تعالى، فيحتمل أن يكون وقع منه - صلى الله عليه وسلم - قبل إعلام الله تعالى إياه بما ذكر في الآيات، وليس في حديث العباس ذكر الشفاعة، ولكنه بمعناها. ويشير كلام الحافظ بن حجر في شرح الحديث في باب قصة أبي طالب من الفتح إلى أن ذلك خصوصية له - صلى الله عليه وسلم - ولم يصرح بالإشكال.
ويمكن أن يجاب بأن الشفاعة المنفية هي ما كان يعتقد المشركون من تأثير الشفعاء في إرادة الباري سبحانه وتعالى كتأثير الشفعاء عند الملوك وعظماء الدنيا، وبأن الشفاعة لا تنفع الكافر بإنقاذه من النار وجعله من أهل الجنة، كما أن أعماله الصالحة في الدنيا لا تنفعه هذا النوع من النفع ; لأن تأثير الكفر يغلب تأثيرها، ولكنها قد تنفع بجعل عذاب المشفوع له بفضيلة فيه وعمل صالح له أخف من عذاب الكافر الذي ليس له فضائل ولا أعمال صالحة مثلها، كما يدل عليه ما ورد في تفاوت عذاب أهل النار.
وما أجدر أبا طالب بأن يكون أخف الكفار عذابا بأعماله الصالحة التي أجلها كفالة الرسول وحفظه وحياطته، بل روي عنه أنه كان مصدقا له ولكنه أصر على الشرك استكبارا وحمية لما كان عليه أبوه وقومه، وقد أثار هذه الحمية فيه أبو جهل - لعنه الله - وكذا عبد الله بن أبي أمية - رضي الله عنه؛ فقد آمن بعد ذلك - إذ كانا لديه في وقت تلك الدعوة كما تقدم. وروى أحمد من حديث أبي هريرة أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: لولا أن تعيرني قريش يقولون ما حمله على ذلك إلا جزع الموت لأقررت بها عينك. فكان جل كفره غلبة الحمية الجاهلية، وتعظيم الآباء بتقليدهم وإيثار ذلك على الشهادة بالحق،
فأين هو من كفر المعاندين الذين آذوا الرسول والمؤمنين بكل ما استطاعوا من أنواع الأذى، وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم، وما زالوا يحاربونهم ويحرضون الناس عليهم إلى أن خذلهم الله تعالى، ونصر رسوله والمؤمنين عليهم؟ ولكن يرد على ذلك أن من كان مستحقا لأخف العذاب وجوزي به لا يكون منتفعا بالشفاعة، والتخفيف بسببها بعد الاستحقاق معارض بقوله تعالى:
{ ولا يخفف عنهم من عذابها } [فاطر: 36] وبنصوص أخرى، فلا يظهر معنى للشفاعة إلا على قول من يقول: إن كل الشفاعات تكريم صوري للشفعاء بما يجزيه الله تعالى عقب شفاعتهم لا بها، كما يقول الأشعرية في جميع الأسباب.
بعد كتابة ما تقدم وجمعه للطبع راجعت شرح الحافظ للحديث في كتاب الرقاق من البخاري، فإذا هو قد ذكر الإشكال وأجوبة عنه بمعنى ما تقدم من الخصوصية وتخصيص العموم، وكون التخفيف من عذاب المعاصي دون الكفر، والتجوز في لفظ الشفاعة. فنقل عن (المفهم شرح صحيح مسلم) للقرطبي أن أبا طالب لما بالغ في إكرام النبي - صلى الله عليه وسلم - والذب عنه جوزي على ذلك بالتخفيف، فأطلق على ذلك شفاعة لكونها بسببه. اهـ.
هذا وإن في المسألة مباحث نرجئ القول فيها إلى تفسير آيات السور الأخرى التي أشرنا إليها في سياق هذا الكلام، ونختم الكلام هنا بمسألتين من متعلقاته:
(المسألة الأولى: حظر إيذاء الرسول أو آله بذكر أبويه أو عمه بسوء.
إذا علمت أن حكمة بيان كتاب الله تعالى وحديث رسوله - صلى الله عليه وسلم - لكفر من ذكر وعذابهم في النار هي تقرير أساس الدين وهو التوحيد على أكمل وجه، فاعلم أن الذي يطلب شرعا هو أن يذكر ذلك في مقام التعليم، وهو يشمل قراءة القرآن وتفسيره، ورواية الحديث وشرحه - ومنه أو مثله السيرة النبوية وتاريخ الإسلام - وبيان عقيدة أهل السنة والجماعة ومن وافقهم من الفرق والرد على من خالفهم.
ولا يجوز أن يتجاوز ذلك إلى ما يخل بالأدب، ويؤذي الرسول أو آله بحسب أو نسب، وناهيك بالأم والأب، وبأبي طالب دون أبي لهب، بل لا ينبغي أن يذكر أبو لهب بسوء موصوفا بكونه عم الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا في مقام التعليم والبيان الذي تقدم، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة قالت:
"استأذن حسان بن ثابت النبي - صلى الله عليه وسلم - في هجاء المشركين، قال: كيف بنسبي فيهم؟ فقال حسان: لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين" أي: لأخلصن نسبك من أنسابهم حتى لا يصيبه من الهجو شيء، وفي رواية أنه استأذنه في هجو أبي سفيان، فقال: " كيف بقرابتي منه؟ فأجاب حسان بنحو ما تقدم، وقد كان أبو سفيان يومئذ أشد الناس عداوة للنبي - صلى الله عليه وسلم.
ومن هدي علماء السلف في ذلك واقعتان، رويتا عن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - وناهيك بعلمه وهديه. (إحداهما) أنه أتي بكاتب يخط بين يديه، وكان أبوه كافرا، فقال للذي جاء به: لو كنت جئت به من أولاد المهاجرين، فقال الكاتب: ما ضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفر أبيه. فقال عمر: قد جعلته مثلا! لا تخط بين يدي بقلم أبدا. (ثانيتهما) أنه قال لسليمان بن سعد: بلغني أن أبا عاملنا بمكان كذا وكذا زنديق. قال: وما يضره ذلك يا أمير المؤمنين؟ قد كان أبو النبي - صلى الله عليه وسلم - كافرا فما ضره. فغضب عمر غضبا شديدا وقال: ما وجدت له مثلا غير النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فعزله عن الدواوين.
ومنه أن الشافعي - رضي الله عنه - قال: وقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة - أي يدها - لها شرف فكلم فيها، فقال " لو سرقت فلانة - لامرأة شريفة - لقطعت يدها " وإنما قال - صلى الله عليه وسلم -
"لو سرقت فاطمة" فكنى الشافعي عن فاطمة - عليها السلام - ولم يذكر اسمها مبالغة في الأدب، مع أن إسناد السرقة إليها في الحديث مفروض فرضا لا واقعا، وهو يذكره في سياق الاستنباط من السنة الذي يجوز فيه ما هو أعظم من ذلك.
ومن هذا القبيل: ما فعله أبو داود -رحمه الله تعالى - في حديث تعزية فاطمة - عليها السلام - في ميت وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لها:
"فلعلك بلغت معهم الكدى" أي المقابر، قالت: معاذ الله وقد سمعتك تذكر فيها ما تذكر، فقال لها كما في سنن النسائي: "لو بلغتها معهم ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك" وأما أبو داود فرواه هكذا: قال: "لو بلغت معهم الكدى" فذكر تشديدا عظيما. اهـ. وقالوا: إنه ترك التصريح بآخر الحديث من باب الأدب.
فإن قيل: أي المحدثين خير عملا في هذا الحديث؟ النسائي الذي رواه بلفظه، وعمل بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغ القول عنه كما سمع كما في حديث عبد الله بن مسعود عند أحمد والترمذي، وما في معناه من الأمر بتبليغ الشاهد الغائب في خطبة حجة الوداع كما في الصحيحين وغيرهما، أم أبو داود الذي راعى الأدب بحذف ما حذف؟ فالجواب أن الذي جرى عليه حملة السنة ومبلغوها للأمة من السلف الصالح، وهو وجوب تبليغ النص بلفظه على من حفظه، أو بمعناه إذا وعاه ووثق بقدرته على أدائه،
ولهؤلاء الأعلام أعظم منة في عنق الأمة الإسلامية بنقل السنة إليها كما رووها، وضبط متونها، ووزن أسانيدها بميزان الجرح والتعديل المستقيم، والشافعي وأبو داود رحمهما الله تعالى من أئمتهم. وإنما يحسن مثل ما روي عنهما من الأدب العالي مع بضعة الرسول سيدة النساء - عليها السلام - إذا كان لا يضيع به شيء من الحديث، كذكره لمن يعلم الأصل المروي أو لمن لا مصلحة له في العلم بنصه، والله أعلم، ولو كان أئمة الحديث يستبيحون حذف شيء منها لما وثقنا بنقلهم، ولكن علم ضد ذلك من سيرتهم ومن روايتهم للأحاديث المشكلة كغيرها، ومن جرحهم لمن غير أو بدل، أو حذف أو زاد أو نقص، أو خالف الثقات في شيء من المتون وإن كان غرضه التعظيم، والظاهر أن الشافعي وأبا داود قالا ما قالا عالمين بأنه لا يضيع من الحديث شيئا؛ لأنه محفوظ مشهور.
(المسألة الثانية: ما مذهب أهل السنة)
قد علمت أن السيد الألوسي عزا القول بإيمان أبي إبراهيم الخليل - عليه الصلاة والسلام - إلى الجم الغفير من أئمة أهل السنة، وأن هذه هفوة منه - عفا الله تعالى عنه - ولا يخفى على مثله أن هذا اللفظ لا يصح أن يطلق على رأي كل من صنف رسالة أو كتابا من المنتسبين إلى مذاهب أهل السنة في الأصول أو الفروع. وإنما مذهب أهل السنة والجماعة ما كان عليه السواد الأعظم من الصحابة وعلماء التابعين، وأئمة الحديث والفقه ممن تبعهم في الاعتصام بنصوص الكتاب والسنة. ومن غير تحريف ولا تكلف لإرجاع ظواهرها إلى ما ابتدع من البدع والآراء التي أحدثها أهل الأهواء،
ومنهم فقهاء الأمصار المشهورون، كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وسفيان الثوري، والأوزاعي، وداود، وغيرهم. وقد انتسب إلى بعض مذاهب هؤلاء كثير من أهل الكلام فخالفوهم في بعض الأصول كبعض المعتزلة من الشافعية، وكثير من المعتزلة والمرجئة من الحنفية، وأقرب المتكلمين إليهم الأشاعرة، وأكثرهم من المالكية والشافعية والماتريدية من الحنفية، ولكن هؤلاء قد اضطروا إلى الخوض في مسائل من الكلام لم تؤثر عن أئمتهم في الفقه، ولا عن غيرهم من السلف الصالح، واختلف الأشعرية والماتريدية في كثير منها كما اختلف الأولون منهم في عدة مسائل خالف بعضهم فيها الأشعري، أو خالف بعضهم بعضا، فهم على انتسابهم كلهم إلى السنة لا يصح أن يجعل كل ما قرره واحد أو آحاد منهم مذهبا لأهل السنة والجماعة، وإن تقلد ذلك الكثيرون من الناس،
وإنما القاعد في كل ما حدث بعد الصدر الأول من الأقوال والآراء، وتنازع فيه العلماء فلم يجمعوا فيه على قول أن يرد إلى الكتاب والسنة، فيؤخذ ما وافقهما ويرد ما خالفهما عملا بقوله تعالى:
{ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } [النساء: 59] الآية. وقد بينا نصوص القرآن والسنة الصحيحة في مسألة آباء الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكلام بعض علماء السلف والخلف في الأخذ بها من غير تأويل فكل ما خالفها فهو مردود، وليس من مذهب أهل السنة في شيء.
هذا وإنني بعد كتابة ما تقدم وجمعه للطبع عثرت بالمصادفة على ما كتبه الألوسي في مسألة استغفار إبراهيم لأبيه من تفسير سورة الممتحنة، فإذا هو مبني على رجوعه عن هفوته التي نقلناها عنه وانتقدناها عليه، وحملنا ذلك على مراجعة ما كتبه في المسألة من تفسير سورة التوبة، فإذا هو مثل الذي في تفسير سورة الممتحنة في بنائه على أن آزر أبو إبراهيم، وأنه مات مشركا،
وهذا هو اللائق بعلمه واستقلاله في الفهم، وهذا شأن علماء السنة؛ إذا قال أحدهم قولا ثم كان الدليل من أحدهما أو كليهما، وهو من الخطأ الذي يغفره الله تعالى للمخلصين الأوابين، بل ثبت في الحديث الصحيح أن الحاكم إذا اجتهد فأخطأ فله أجر، أي أجر الاجتهاد، وإذا اجتهد فأصاب كان له أجران، أي أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، وهذا مما يؤكد اتقاء الاغترار بقول أي عالم خالف النص أو ما اشتهر عن السلف الصالح - رضي الله تعالى عنهم، ووفقنا للاقتداء بهم.
(تفسير الآيات)
{ وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة } هذه الجملة معطوفة على الجملة (قل أندعوا من دون الله) وما في حيزها - وهو آخر حجاج المشركين في العقائد مبدوء بالأمر القولي، وسيعاد هذا الأسلوب في السورة حجاجا في الأحكام العملية أيضا - والظرف فيها متعلق بفعل عهد حذفه، تقديره " اذكر " أي: واذكر أيها الرسول لهؤلاء المشركين الذين لقناك ما تقدم من الحجج على بطلان شركهم وضلالهم في عبادة ما لا يضرهم ولا ينفعهم، ومن بيان هدي الله تعالى والإسلام له - اذكر لهم عقب هذا - قصة إبراهيم جدهم الذي يجعلون ويدعون اتباع ملته، حين قال لأبيه آزر منكرا عليه وعلى قومه شركهم: أتتخذ أصناما آلهة تعبدها من دون الله الذي خلقك وخلقها، وهو المستحق للعبادة من دونها!
{ إني أراك وقومك في ضلال مبين } الضلال العدول عن الطريق الموصل إلى الغاية التي يطلبها العاقل من سيره الحسي أو المعنوي، وغاية الدين تزكية النفس بمعرفة الله وعبادته، وما شرعه من الأعمال والآداب للفوز بسعادة الدارين. وأما عبادة غير الله تعالى - ولو بقصد التقرب إليه - فهو مدس للنفس مفسد لها، فلا يوصلها إلا إلى الهلاك الأبدي. والتعبير عنها بالضلال ليس فيه سب ولا جفاء ولا غلظة كما زعم من استشكله من الولد للوالد، وقابله بأمر الله تعالى لموسى وهارون أن يقولا لفرعون قولا لينا، وأجاب عنه بأنه حسن للمصلحة، كالشدة في تربية الأولاد أحيانا، ومن استدل به على أن آزر كان عم إبراهيم لا والده، فالصواب أن التعبير بالضلال البين هنا بيان للواقع باللفظ الذي يدل عليه لغة، كقوله تعالى:
{ ووجدك ضالا فهدى } [الضحى: 7] وكقولك لمن تراه منحرفا عن الطريق الحسي: إن الطريق من هنا، فأنت حائد أو ضال عنه،
ومعنى قول إبراهيم لأبيه: إني أراك وقومك الذين يعبدون هذه الأصنام مثلك في ضلال - عن صراط الحق المستقيم - بين ظاهر لا شبهة للهدى فيه، فإن هذه الأصنام التي اتخذتموها آلهة لكم لم تكن آلهة في أنفسها، بل باتخاذكم وجعلكم، ولستم من خلقها ولا من صنعها، بل هي من صنعكم، ولا تقدر على نفعكم ولا ضركم، وذلك أنها تماثيل تنحتونها من الحجارة، أو تقتطعونها من الخشب، أو تصوغونها من المعدن، فأنتم أفضل منها، ومساوون في أصل الخلقة لمن جعلت ممثلة لهم من الناس، أو لما صنعت مذكرة به من النيرات، ولا يليق بالإنسان أن يعبد ما هو دونه، ولا ما هو مساو له في كونه مخلوقا مقهورا بتصرف الخالق، ومربوبا فقيرا محتاجا إلى الرب الغني القادر،
وقد دلت آثار أولئك القوم التي اكتشفت في العراق على صحة ما عرف في التاريخ من عبادتهم للأصنام الكثيرة، حتى كان يكون لكل منهم صنم خاص به، سواء الملوك والسوقة في ذلك، وكانوا يعبدون الفلك ونيراته عامة، والدراري السبع خاصة، كما يعلم من قوله تعالى:
{ وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض } أي وكما أرينا إبراهيم الحق في أمر أبيه وقومه، وهو أنهم كانوا على ضلال بين في عبادتهم للأصنام، كنا نريه المرة بعد المرة ملكوت السماوات والأرض على هذه الطريقة التي يعرف بها الحق، فهي رؤية بصرية، تتبعها رؤية البصيرة العقلية، وإنما قال: " نريه " دون أريناه؛ لاستحضار صورة الحال الماضية التي كانت تتجدد وتتكرر بتجدد رؤية آياته تعالى في ذلك الملكوت العظيم كما يعلم من التعليل الآتي، والتفصيل المترتب على هذا الإجمال في الآيات، والملكوت: المملكة أو الملك العظيم والعز والسلطان، وإطلاق الصوفية إياه على عالم الغيب اصطلاح. قال في اللسان: وملك الله تعالى وملكوته: سلطانه وعظمته، ولفلان ملكوت العراق، أي عزه وسلطانه وملكه، وعن اللحياني: والملكوت من الملك كالرهبوت من الرهبة، ويقال للملكوت ملكوة (كترقوة). انتهى. وقال الراغب: والملكوت مختص بملك الله تعالى، وهو مصدر ملك أدخلت فيه التاء نحو رحموت ورهبوت. انتهى. وصرح بعضهم بأن هذه التاء للمبالغة على قاعدة زيادة المبنى لزيادة المعنى. فالملكوت: الملك العظيم، والرحموت: الرحمة الواسعة، والرهبوت: الرهبة الشديدة.
وروي عن عكرمة أن كلمة ملكوت نبطية، وأصلها بلسانهم " ملكوتا "، وفي كتب اللغة أن النبط والأنباط جيل من الناس يسكنون البطائح وغيرها من سواد العراق، فهم بقايا قوم إبراهيم في وطنه الأصلي إذا كانت سلسلة نسبهم محفوظة، ويقول المؤرخون: إنهم من بقايا العمالقة، وأنهم هاجروا من العراق بعد سقوط دولة الحمورابيين، وتفرقوا في جزيرة العرب، ثم أنشئوا دولة في الشمال منها. وقد روي عن علي وابن عباس - رضي الله عنهما أن كلا منهما قال: إننا نبط من كوثى،
وكوثى بلد إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - كما يحفظ عن العرب. ومراد الحبرين أن بني هاشم من ذرية إبراهيم، وأن النبط من قومه، وفيه إنكار احتقارهم لنسبهم أو ضعف لغتهم، وقيل: إن مرادهما به التواضع وذم التفاخر بالأنساب،
وروي عن ابن عباس أن المراد بملكوت السماوات والأرض خلقهما، أي كقوله تعالى:
{ أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء } [الأعراف: 185] وعن مجاهد أنه آياتهما، وعنهما وعن قتادة أنه الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والبحار،
وعن مجاهد، وقتادة، وسعيد بن جبير، والسدي أن الله تعالى أراه ما وراء مسارح الأبصار من السماوات والأرض حتى انتهى بصره إلى العرش، وزاد بعضهم أنه أراه خفايا أعمال العباد ومعاصيهم، وليس لهذه الأقوال الأخيرة حجة من الحديث المرفوع، وإنما استنبطوها فيما يظهر من إسناد الإراءة إلى الله عز وجل، فإنه يدل على عناية خاصة،
واختار ابن جرير مما رواه من تلك الأقوال أنه تعالى أراه من ملكوت السماوات والأرض ما فيهما من الشمس والقمر والشجر والدواب، وغير ذلك من عظيم سلطانه فيهما، وجلى له بواطن الأمور وظواهرها، ويتحقق ذلك بهدايته إياه إلى وجوه الحجة فيها على وحدانيته تعالى وقدرته وعلمه وحكمته، وفضله ورحمته، ويدل على ذلك تعليل الإراءة، وما يترتب عليها من إقامة الحجة.
أما التعليل فقوله تعالى: { وليكون من الموقنين } قيل: إن المعنى: ولأجل أن يكون من أهل اليقين الراسخين فيه أريناه ما أرينا، وبصرناه من أسرار الملكوت ما بصرنا، وقيل: إن هذا عطف على تعليل حذف؛ لتغوص الأذهان على استخراجه من قرائن الحال، وأسلوب المقال، أي نريه ذلك ليعرف سنننا في خلقنا، وحكمنا في تدبير ملكنا، وآياتنا الدالة على ربوبيتنا وألوهيتنا؛ ليقيم بها الحجة على المشركين الضالين، وليكون في خاصة نفسه من الواقفين على عين اليقين، وهو من الإيجاز البديع.
واليقين في اللغة: الاعتقاد الجازم المبني على الأمارات، والدلائل، والاستنباط - دون الحس والضرورة. وقال الراغب: هو سكون الفهم مع ثبات الحكم، وأنه من صفة العلم فوق المعرفة والدراية، وبذلك جمع إبراهيم بين العلم النظري والعلم اللدني.
وأما ما يترتب على ذلك من الاهتداء إلى وجه الحجة والاستدلال، فقوله عز وجل: { فلما جن عليه الليل رأى كوكبا } إلخ. قال الراغب: أصل الجن ستر الشيء عن الحاسة، يقال: جنه الليل، وأجنه، وأجن عليه. فجنه: ستره، وأجنه: جعل له ما يجنه، كقولك: قبرته، وأقبرته، وسقيته، وأسقيته، وجن عليه كذا ستر عليه. انتهى.
ومنه الجن والجنة - بالكسر - والجنة بالضم وهي الترس يستر به ما يحاول العدو ضربه من الوجه والرأس وغيرها، والجنة - بالفتح - وهي البستان الذي يستر الشجر أرضه من الشمس. والكوكب والكوكبة واحد الكواكب، وهي النجوم. والفلكيون يطلقون المؤنث على المجموعة المعينة منها، والعرب تطلقه على الزهرة، كما غلب إطلاق النجم معرفا على الثريا، ولم ينقل إلينا تأنيث النجم، والعامة تقول نجمة.
والمعنى أن الله تعالى لما بدأ يريه ملكوت السماوات والأرض تلك الإراءة التي عللها بما تقدم آنفا، كان من أول أمره في ذلك أنه لما أظلم عليه الليل، وستره أو ستر عنه ما حوله من عالم الأرض نظر في ملكوت السماء، فرأى كوكبا عظيما ممتازا على سائر الكواكب بإشراقه وجذب النظر إليه - يدل على ذلك تنكير الكوكب -
وقد روي عن ابن عباس أنه المشترى الذي هو أعظم آلهة بعض عباد الكواكب من قدماء اليونان والروم، وكان قوم إبراهيم سلفهم وأئمتهم في هذه العبادة، وعن قتادة أنه الزهرة. فماذا قال لما رآه؟ (قال هذا ربي) أي مولاي ومدبر أمري، قيل: إنه قال ذلك في ذلك في مقام النظر والاستدلال لنفسه، وقيل: في مقام المناظرة والحجاج لقومه، واعتمد من قال بالأول على ما روي في التفسير المأثور من عبادته - عليه الصلاة والسلام - لهذه الكواكب في صغره اتباعا لقومه، حتى أراه الله تعالى بعد كمال التمييز حجته على بطلان عبادتها، والاستدلال بأفولها وتعددها وغير ذلك من صفاتها على توحيد خالقها، وأن ذلك كله كان قبل النبوة ودعوتها.
ومنه قصة طويلة مروية عن محمد بن إسحق فيها أن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ولدته أمه في مغارة أخفته فيها خوفا عليه من ملكهم نمرود بن كنعان أن يقتله، إذ كان أخبره المنجمون بأن سيولد في قريته غلام يفارق دينهم، ويكسر أصنامهم، فشرع يذبح كل غلام ولد في الشهر الذي وصف أصحاب النجوم من السنة التي عينوا، وفيها أن إبراهيم كان يشب في اليوم كما يشب غيره في شهر، وفي الشهر كما يشب غيره في سنة، وأنه طلب من أمه بعد خمسة عشر يوما من ولادته أن تخرجه من المغارة، فأخرجته عشاء، فنظر وتفكر في خلق السماوات والأرض - وذكر رؤيته للكواكب، فالقمر، فالشمس...
ولاشك في أن هذه القصة موضوعة لهذه المسألة، وأن ابن إسحاق أخذها عن بعض اليهود الذين كانوا يلقنون المسلمين أمثال هذه القصص ليلبسوا عليهم دينهم، فتبطل ثقة يهود وغيرهم بهم.
وروى نحوه أبو حاتم عن السدي. والسدي المفسر كذاب معروف كما قال علماء الحديث، واسمه محمد بن مروان. وأما ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس من تفسير " هذا ربي " بالعبادة فلا يصح، وهو من مراسيل علي بن طلحة مولى بني العباس، وقد روى عن ابن عباس تفسيرا كثيرا ولم يره، وقال فيه أحمد بن حنبل: له أشياء منكرات. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: صدوق يخطئ، ومعاوية بن أبي صالح الراوي عنه من رجال مسلم، وقد لينه ابن معين، وقال أبو حاتم: لا يحتج به، ولم يرضه البخاري، ولا ابن القطان، فكيف يؤخذ بروايته عن ابن عباس أن إبراهيم خليل الرحمن كان في صغره مشركا؟ وهذا إذا فرضنا أن السند إليه صحيح!.
ومن العجيب أن ابن جرير اختار هذا القول مع تقريره القول المقابل له على أحسن وجه، وهو الذي جزم به الجمهور مع أنه كان مناظرا لقومه، فقال ما قال تمهيدا للإنكار عليهم، فحكى مقالتهم أولا حكاية استدرجهم بها إلى سماع حجته على بطلانها، إذ أوهمهم أنه موافق لهم على زعمهم، ثم كر عليه بالنقض، بانيا دليله على قاعدة الحس ونظر العقل، وقيل: إنه استفهام إنكار أو تهكم واستهزاء حذفت أداته، أي: أهذا ربي الذي يجب علي أن أعبده؟ وقيل أراد: هذا ربي بزعمكم، أو إنكم تقولون هذا ربي، وذلك مما لا يلتئم مع ما يأتي في الشمس، ولا يقبله الذوق.
أما ابن جرير فاحتج أولا بالرواية، وقد علمت أنها لا تصلح حجة على دعوى شرك الخليل - عليه الصلاة والسلام - ولو في الصغر على أنها مطلقة - وثانيا بالعبارة التي قالها بعد أفول القمر، وسترى حسن توجيهها على الوجه الآخر.
وأما الجمهور فاحتجوا بحجج كثيرة أطال الإمام الرازي في تعدادها، وفي أكثر ما أورده نظر ظاهر. وأقوى حجتهم السياق من حيث تشبيه إراءة الله تعالى إياه هذا الملكوت وما يترتب عليه من إبطال ربوبية الكواكب بإراءته ضلال أبيه وقومه في عبادة الأصنام، ومن إسناد هذه الإراءة إلى الله تعالى الدال على تمييز ما رأى بها على ما كان يرى قبلها، ومن تعليل الإراءة بما تقدم، ومن التعقيب على ذلك بمحاجة قومه، وقوله تعالى إنه آتاه الحجة عليهم.
{ فلما أفل قال لا أحب الآفلين } أي فلما غرب هذا الكوكب واحتجب، قال: لا أحب من يغيب ويحتجب، ويحول بينه وبين محبه الأفق أو غيره من الحجب، وأشار بقوله " الآفلين " إلى أن هذا الكوكب فرد من أفراد جنس كله يغيب ويأفل، والعاقل السليم الفطرة والذوق لا يختار لنفسه حب شيء يغيب عنه ويوحشه فقد جماله وكماله، حتى في الحب الذي هو دون حب العبادة، فإن أحب شيئا من ذلك بجاذب الشهوة دون الاختيار فلا يلبث أن يسلو عنه بنزوح الدار والاحتجاب عن الأبصار، إلا أن يصير حبه من هوس الخيال، وفنون الجنون والخبال،
وأما حب العبادة الذي هو أعلى الحب وأكمله - لأنه من مقتضى الفطرة السليمة والعقل الصحيح - فلا يجوز إلا أن يكون للرب الحاضر القريب، السميع البصير الرقيب، الذي لا يغيب ولا يأفل، ولا ينسى ولا يذهل، الظاهر في كل شيء بآياته وتجليه، الباطن في كل شيء بحكمته ولطفه الخفي فيه
{ لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير } [الأنعام: 103] ولكن تشاهده البصائر بآثار صفاته في الخلق والتقدير، وسلطانه في التصرف والتدبير،
وما كان ليخفى على الخليل الأول ما قاله الخليل الثاني في مقام الإحسان، وما ملته إلا عين ملته في الإسلام والإيمان، وهو
"أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" فكيف يعبد هذه الكواكب التي تأفل وتحجب عن عابديها، ويخفى حالهم عليها؟!.
وقد فسر بعض النظار وعلماء الكلام الأفول بالانتقال من مكان إلى مكان، وجعلوا هذا هو المنافي للربوبية؛ لدلالته على الحدوث أو الإمكان، وهو تفسير الشيء بما قد يباينه، فإن المحفوظ عن العرب أنها استعملت الأفول في غروب القمرين والنجوم، وفي استقرار الحمل، وكذا اللقاح في الرحم، فعلم أن مرادها من الأول عين مرادها من الثاني، وهو الغيوب والخفاء. وقد يتحول الشيء وينتقل من مكان إلى آخر وهو ظاهر غير محتجب،
وفسره بعضهم بالتغير ليجعلوه علة الحدوث المنافي للربوبية أيضا، وهو غلط كسابقه، فإن الشمس والقمر والنجوم لا تتغير بأفولها، ومذهب المتأخرين من علماء الفلك - وهو الصحيح - أن أفولها إنما يكون بسبب حركة الأرض لا بحركتها هي، وأن حركتها على محاورها وحركة السيارات من المغرب إلى المشرق ليس من سبب أفولها المشاهد في شيء،
وفي الكلام تعريض لطيف بجهل قومه في عبادة الكواكب بأنهم يعبدون ما يحتجب عنهم، ولا يدري شيئا من أمر عبادتهم، وهو يقرب من قوله لأبيه بعد ذلك:
{ لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا } [مريم: 42] ولا يظهر هذا التعريض على قول النظار في تفسير الأفول ; فإن قوم إبراهيم لم يكونوا على شيء من هذه النظريات الكلامية، بل كانوا يعبدون الأفلاك قائلين بربوبيتها، وبقدمها مع حركتها، وما زال الفلاسفة والفلكيون يقولون بقدم الحركة وأزليتها، وعلماء الكون في هذا العصر يعدون الحركة مبدأ وجود كل شيء. وأنها ملازمة للوجود المطلق من الأزل إلى الأبد.
وقد كان الزمخشري من أولئك النظار، وقد قال بعد ما يأتي في القمر والشمس: (فإن قلت): لم احتج عليهم بالأفول دون البزوغ وكلاهما انتقال من حال إلى حال؟ (قلت): الاحتجاج بالأفول أظهر؛ لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب. انتهى. وقال ابن المنير: إنه من عيون نكته ووجوه حسناته. انتهى.
والصواب أن الكلام كان تعريضا خفيا، لا برهانا نظريا جليا، وأن وجه منافاة الربوبية فيه هو الخفاء والاحتجاب والتعدد، وأن البزوغ والظهور لم يجعل فيه مما ينافي الربوبية، بل بني عليه القول بها، فإن من صفات الرب أن يكون ظاهرا وإن لم يكن ظهورا كظهور غيره من خلقه كما علم مما تقدم آنفا.
{ فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي } أي فلما رأى القمر طالعا من وراء الأفق أول طلوعه قال: هذا ربي - على طريق الحكاية لما كانوا يقولون تمهيدا لإبطاله كما تقدم، وقد استعملت العرب هذا الحرف في التعبير عن ابتداء طلوع النيرات وأول طلوع الناب. وفي بزغ البيطار والحاجم للجلد، وهو تشريطه بالمبزغ ; ولذلك قالوا: إن معنى البزغ الشق، فالنيرات تشق الظلام بطلوعها، وجعله بعضهم تشبيها بشق الناب والسن للثة، وشق البيطار والحجام للجلد.
والظاهر أن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - رأى الكوكب في ليلة، ورأى القمر في الليلة التالية لها كما يؤخذ من العطف بالفاء، وذلك أنه لا فاصل بين ليلة وأخرى إلا النهار، وهو ليس بمظهر للكواكب والقمر؛ فكأنه غير فاصل،
ويحتمل أن يكون قد رأى الكوكب والقمر في ليلة واحدة، وإذا كانت هذه الليلة هي التي رأى الشمس في أول نهارها - وهو المتبادر - وجب أن يكون رأى الكوكب في أول الليل هاويا للغروب، وبعد أفوله بقليل بزغ القمر، وأن ذلك كان في وسط الشهر، وأنه سهر مع بعض قومه الليل كله حتى أفل القمر في آخره، وكثيرا ما يفعل الناس هذا، ولا سيما في الليالي البيض ولو لم يكن لهم غرض ديني أو علمي منه،
وقد يتصور وقوع ذلك في بعض الليالي القليلة من السنة كالليلة الخامسة عشرة من شهر رجب من سنتنا هذه (سنة 1336 هـ) فإن الشمس تغرب فيها عن أفق مصر الساعة 6 والدقيقة 28 ويطلع القمر بعد غروبها بعشرين دقيقة، وفي هذه المدة يحتمل أن يرى بعض السيارات أو نحوها من النجوم المشرقة الممتازة - كالشعرى - هاويا للغروب، ويغرب بعدها بربع ساعة، ويغرب القمر في تلك الليلة بعد انتهاء الساعة الرابعة بدقيقتين من صبيحتها، وتشرق الشمس بعد غروبه بأربع عشرة دقيقة، ولكن يعكر على هذا أنه لا يظهر فيه جن الليل، وهو إظلامه. وإنما يتعين تصوير وقوع ما ذكر في مثل هذه الليلة من الشهر والقمر بدر والشمس في الدرجة الخامسة من برج الثور، إذا تعين أنه لا يجوز وصف القمر والشمس بالبزوغ إلا في أول طلوعهما من وراء أفق القطر كله، وقد يقال: إن هذا غير متعين بالوصف، وأنه يجوز أن يقال: رأيت القمر بازغا ولو بعد طلوعه بساعات، كما يقال: رأيت ناب البعير بازغا بعد طلوعه بأيام.
ثم إن البزوغ والغروب منهما ما هو حقيقي عرفا وما هو نسبي، فمن كان في مكان مطمئن أو محاط بالبنيان والشجر، يبزغ عليه القمر والشمس بعد بزوغهما في أفق قطره، ويغربان عنه قبل غروبهما عن ذلك الأفق، وقد يكون في مكان يحجب مشرقه ما ذكر دون مغربه وبالعكس - فيختلف البزوغ والغروب باختلاف ذلك. وبهذا يتسع مجال احتمال وقوع ما ذكر في ليلة واحدة وصبيحتها بغير تكلف.
والكلام في الآيات مرتب على رؤية الكوكب رؤية غير مقيدة بحال ولا وصف، وعلى رؤية القمر والشمس بازغين لا على بزوغها، فالأول يصدق برؤيته قبيل الغروب في أول جنون الليل، والآخران يصدقان بالرؤية في حال البزوغ النسبي، وقد غفل عن هذه الدقة في تعبير التنزيل من زعم أن رؤية ما ذكر لا يتصور وقوعه في ليلة واحدة وصبيحتها، ومن فرض لذلك وجود حال في ذلك المكان الخالي من الجبال.
{ فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين } أي: فلما أفل القمر كالكوكب، وهو أكبر منه منظرا وأبهى نورا من الأرض، قال مسمعا من حوله من قومه: لئن لم يهدني ربي الذي خلقني إلى العبادة التي ترضيه بإعلام خاص من لدنه لأكونن من القوم الضالين عما يجب أن يعبد به، فيتبعون فيه أهواءهم أو اجتهادهم، فلا يكونون عابدين له بما يرضيه، ولا يقتضي أن كل ضال يعبد الأصنام أو الكواكب، بل هذا تعريض آخر بضلال قومه يقرب من التصريح، وإرشاد إلى توقف هداية الدين على الوحي الإلهي.
قال ابن المنير في " الانتصاف ": والتعريض بضلالهم ثانيا أصرح وأقوى من قوله: " لا أحب الآفلين " وإنما ترقى في ذلك لأن الخصوم قد قامت عليهم بالاستدلال الأول حجة فأنسوا بالقدح في معتقدهم، ولو قيل هذا في الأول فلعلهم كانوا ينفرون ولا يصغون إلى الاستدلال، فما عرض - صلوات الله عليه - بأنهم في ضلالة إلا بعد أن وثق بإصغائهم إلى إتمام المقصود واستماعه إلى آخره، والدليل على ذلك أنه ترقى النوبة الثالثة إلى التصريح بالبراءة منهم، والتقريع بأنهم على شرك بين، ثم قيام الحجة عليهم، وتبلج الحق، وبلغ من الظهور غاية المقصود. انتهى. وذلك قوله عز وجل:
{ فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي } أي قال مشيرا إليها على الطريقة التي بيناها فيما قبله: هذا الذي أرى الآن أو الذي أشير إليه ربي. قال الزمخشري: جعل المبتدأ مثل الخبر بكونهما عبارة عن شيء واحد، كقولهم: ما جاءت حاجتك، ومن كانت أمك. (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا) وكان اختيار هذه الطريقة واجبا لصيانة الرب عن شبهة التأنيث، ألا تراهم قالوا في صفة الله: علام، ولم يقولوا علامة - وإن كان العلامة أبلغ - احترازا من علامة التأنيث. انتهى.
وجوز أبو حيان أن يكون تذكير الإشارة إلى الشمس حكاية لما قيل بلغة العجم، وأكثر لغاتهم لا تميز بين المذكر والمؤنث في الإشارة ولا في الضمائر. ونوقش في كون ذلك مقتضى الحكاية، وفي دعوى كون لغة إبراهيم من تلك الأعجمية، وقد سبق لنا القول بأنها عربية ممزوجة، على أن بعض الأعاجم يذكرون الشمس ويؤنثون القمر. وسيأتي فيما نذكر من عقائد قوم إبراهيم أن للشمس زوجة.
وأما قوله - صلوات الله وسلامه عليه -: { هذا أكبر } فهو تأكيد لإظهار النصفة للقوم، ومبالغة في تلك المجاراة الظاهرة لهم، وتمهيد قوي لإقامة الحجة البالغة عليهم، واستدراج لهم إلى التمادي في الاستماع بعد ذلك التعريض الذي كان يخشى أن يصدهم عنه. ومعناه أن هذا أكبر من القمر والكواكب قدرا، وأعظم ضياء ونورا، فهو إذا أجدر منهما بالربوبية، إن كان المدار فيها على التفاضل والخصوصية.
{ فلما أفلت قال ياقوم إني بريء مما تشركون } أي فلما أفلت كما أفل غيرها، واحتجب ضوؤها المشرق وذهب سلطانها، وكانت الوحشة بذلك أشد من الوحشة باحتجاب الكوكب والقمر - صرح - عليه الصلاة والسلام - بالنتيجة المرادة من ذلك التعريض، فتبرأ من شرك قومه الذي أظهر مجاراتهم عليه في ليلته ويومه. والبراءة من الشيء: التفصي منه والتنحي عنه لاستقباحه، فهو كالبرء من المرض، وهو السلامة من ألمه وضرره، و " ما " مصدرية أو موصولة، أي: إني بريء من شرككم بالله تعالى أو من هذه المعبودات التي جعلتموها أربابا وآلهة مع الله تعالى. فيشمل الكواكب، والأصنام، وكل ما عبدوه وهو كثير.
{ إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين } تبرأ من شركهم وقفى على تلك البراءة ببيان عقيدته الحق، وهي التوحيد الخالص، فقال: إني وجهت وجهي وقصدي، وجعلت توجهي في عبادتي للرب الخالق الذي فطر السماوات والأرض، أي: ابتدأ خلقهما بما فتق من رتق مادتهما وهي دخان، وأكمل خلقهن أطوارا في ستة أزمان، فهو خالق هذه الكواكب النيرات، وخالقكم وما تصنعون منه هذه الأصنام من معدن ونبات، وتوجيه الوجه هنا بمعنى إسلامه في قوله عز وجل:
{ ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا } [النساء: 125] وقوله: { ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن } [لقمان: 22] الآية.
وقد تقدم في تفسير الأولى أن إسلام الوجه له تعالى عبارة عن توجه القلب، فإن الوجه أعظم مظهر لما في النفس من الإقبال، والإعراض، والخشوع، والسرور، والكآبة وغير ذلك، وأن المراد بإسلامه وبتوجيهه لله تعالى: تركه له يتوجه إليه وحده في طلب حاجته، وإخلاص عبوديته، فهو وحده الرب المستحق للعبادة، القادر على الأجر والإثابة.
ومن الشواهد على استعمال الوجه بمعنى القلب حديث
"لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم" وفي رواية "قلوبكم" رواه أحمد وأصحاب السنن. و " وجه " يتعدى باللام وإلى كأسلم، وتقدم شاهد " أسلم " آنفا، ولم يتكرر " وجه " في القرآن بهذا المعنى، وإلا فاللام هنا بمعنى " إلى " كقوله تعالى: { بأن ربك أوحى لها } [الزلزلة: 5] وقوله: { لعادوا لما نهوا عنه } [الأنعام: 28] واخترع الرازي للام هنا نكتة سماها دقيقة، فقال: المعنى أن توجيه وجه القلب ليس إليه؛ لأنه متعال عن الحيز والجهة، بل إلى خدمته وطاعته لأجل عبوديته إلخ. فجعل اللام " دليلا ظاهرا " على كون المعبود متعاليا عن الحيز والجهة.
وهذا تحكم مردود لا تقبله اللغة ولا يقتضيه العقل، ولا يتفق مع ما ورد في القرآن في معنى توجيه الوجه. أما إباء اللغة له فلأن اللام لو كانت للتعليل مع حذف مضاف لكانت الآية خالية من المقصود منها بالذات، وهو كون توجيه القلب بالعبادة إلى الله تعالى فاطر السماوات والأرض ; إذ التعليل على ما فيه من التكلف يصدق بالتوجه إلى غيره تعالى توسلا إليه، كالتوجه إلى الكوكب وغيره، لأجل خالقه لا لأجله باعتقاد أنه هو الذي يقرب إليه زلفى، أو يشفع عنده.
وأما العقل فإنه يدرك أن توجه القلب لا ينحصر في كونه إلى الحيز والجهة المحصورة، وأما القرآن فقد عدى إسلام الوجه ب (إلى) في سورة لقمان وباللام في سورة النساء، وهي بمعنى توجيهه كما تقدم آنفا.
هذا وإن التعبير بفاطر السماوات والأرض هو وجه الحجة في الآية، فإن ما فتن به القوم من تأثير النيرات في الأرض - إن صح - لم يعد أن يكون خاصية لبعض أجرام السماء، وهي لم توجد نفسها ولا صفاتها وخواصها، فالواجب أن ينظر في أمرها من حيث هي جزء أو أجزاء من مجموع العالم، وحينئذ يراها الناظر المتفكر خاضعة لتدبير من فطر العالم الكبير التي هي بعضه، ويعلم أنه هو الحقيق بالعبادة من دونها؛ لأنه هو الرب الحق المدبر لها ولغيرها،
وإنما يتجلى الاستدلال على وحدانية الربوبية والإلهية بالنظر في جملة العالم، وكونه لا بد أن يكون له خالق مدبر واحد ; إذ لا يمكن أن يستقيم نظام المتعدد إلا إذا كان له جهة واحدة كما بيناه في غير هذا الموضع، وسيعاد إن شاء الله تعالى في تفسير:
{ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [الأنبياء: 22] وأما الاستدلال بأجزاء الكون فيتولد منه شبهات ومشكلات كثيرة.
والحنيف صفة من الحنف، وهو بالتحريك الميل عن الضلال والعوج إلى الاستقامة، وضده الجنف بالجيم. فقوله حنيفا حال، أي: وجهت وجهي له حال كوني مائلا عن معبوداتكم الباطلة وعن غيرها، فتوجهي وإسلامي خالص له لا يشوبه شرك ولا رياء، وما أنا من القوم المشركين به الذين يتوجهون إلى غيره من المخلوقات، كالكواكب أو الملائكة أو الملوك والصالحين، أو ما يتخذ لهم من الأصنام والتماثيل.
تبرأ أولا من شركهم أو شركائهم، ثم تبرأ منهم أنفسهم:
{ قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله } [الممحنة: 4] روى ابن جرير عن ابن زيد أن قوم إبراهيم قالوا حين قال: إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض -: ما جئت بشيء ونحن نعبده وتتوجهه. فرد عليهم بأنه حنيف، أي مخلص له، لا يشرك به كما يشركون. انتهى بالمعنى.
وفي الآيات قراءات لا تتعلق بالمعنى: كفتح ياء " إنى " وسكونها، وإمالة " رأى " وكسر الراء والهمزة فيها، ولكن قراءة يعقوب ضم " آزر " على النداء، فهي دليل على كونه اسما علما؛ لأن حذف حرف النداء خاص بالعلم في الفصيح، وغيره شاذ.
(مسائل متممة لتفسير الآيات)
(المسألة الأولى: في عقائد قوم إبراهيم صلى الله عليه وسلم)
تقدم أنهم كانوا يعبدون الكواكب والأصنام، وقال ابن زيد: إنهم كانوا يعبدون الله تعالى أيضا، ويشركون ما ذكر به، وكل ذلك صحيح دلت عليه آثار الكلدانيين التي اكتشفت في العراق.
وقد أثبت بيروسوس وسنيلوس أن علماءهم وكهانهم كانوا يعرفون حقيقة التوحيد. ولكن كانوا يدينون بها في أنفسهم ولا يبيحونها للعامة، وأن اليونان أخذوا هذا النفاق عنهم. ولعل الصواب أن الذين أخذوا عنهم أولا هم قدماء المصريين، فقد كان التوحيد منتهى علم حكمائهم، وكانوا يكتمونه عن العامة ; لأن استعباد الملوك الذين هم أعوانهم لها لا يدوم إلا بالوثنية كما يعلم مما بيناه في التفسير وغيره مرارا، واليونان اقتبسوا من قدماء المصريين. على أن هنري رولنسن من مدققي مؤرخي أوربة قال: إن أمة من ضفاف الدجلة والفرات ارتحلت إلى أوربة بتلك العقائد منقوشة في صفائح الآجر.
من آلهة الكلدانيين (إل) وهي كلمة سامية عرفت في العربية والسريانية والعبرانية، قال صاحب القاموس: والإل الربوبية، واسم الله تعالى، وكل اسم آخره " إل " و " إيل " فمضاف إلى الله تعالى، وقال: أل المريض والحزين يئل ألا وأللا: أن وحن، ورفع صوته بالدعاء. وقال في مادة (أ ي ل) إيل - بالكسر - اسم الله تعالى، وفي لسان العرب بحث في كون الإل من أسماء الله تعالى، ولكنه نقله عن ابن سيده، ثم قال: والإل الربوبية، والأل - بالضم - الأول في بعض اللغات، وليس من لفظ الأول، ثم قال في (إيل) من أسماء الله عز وجل عبراني أو سرياني.
ثم نقل عن ابن الكلبي أن جبرائيل وشراحيل وأشباههما كشرحبيل تنسب إلى الربوبية " لأن إيلا لغة في " إل " وهو الله عز وجل، كقولهم: عبد الله وتيم الله " أقول: ونقل مثله في (إل) وضعفه بمنع جبريل وما أشبهه من الصرف، أي دون شرحبيل وشهميل من أسماء الرب،
ونقل عن أبي منصور أنه يجوز أن يكون إيل عرب فقيل: إل. ثم قال في مادة (ا ل هـ) وقد سمت العرب الشمس لما عبدوها إلهة، والإلهة الشمس الحارة - حكي عن ثعلب. والأليهة والألاهة (بالفتح والكسر) وألاهة (مضمومة الهمزة غير معرفة) كله الشمس.. إلخ. ثم ذكر أن: الألاهة الألوهة والألوهية: العبادة، وذكر عند تفسير الإله بالمعبود في أول المادة قولهم: إله بين الإلهة والإلهية والألهانية، وأن أصله من أله يأله (من باب علم) إذا تحير.
هذا وإن دلالة مادة " أ ل هـ " على العبادة والمعبود سامية قديمة منقولة عن الكلدانيين وغيرهم. قال البستاني في دائرة المعارف عند تعريف اسم (الله) بأنه اسم للذات الواجب الوجود، المستحق لجميع المحامد - أي كما قال علماء المسلمين - وهو بالعبرانية ألوهيم بصيغة الجمع تعظيما لا تكثيرا، وقد يطلق على غير الله، و " يهوه " أي الكائن، وهو خاص به تعالى، وإيل أي القدير، وبالسريانية ألوهو وبالكلدانية إلاها. انتهى.
وفي تواريخ المتأخرين المؤيدة بالعاديات (الآثار القديمة) أن أعظم أرباب الكلدانيين وآلهتهم (إيل - أو - إل) فهو رب الأرباب، وأصل الآلهة، وليس له تمثال ولا صورة في معابدهم، والظاهر أنهم كانوا يعتقدون مما ورثوا من دين نوح - عليه السلام - أنه منزه عن صفات الخلق وتخيلاتهم، وروى ديودورس عن فيلو أنه مرادف لزحل، ولا يصح هذا إلا أن يراد بزحل أبو المشترى كما قيل ذلك، وقد أشاروا إلى الإيمان به في عصور قدماء ملوكهم، ومما قالوا عنه في أقدم الخرافات أنه أولد ولدين (أنا) و (بيل). و (أنا) هذا هو رأس (الثالوث) الكلداني، وقيل: إن هذا الاسم بمعنى اسم الجلالة (الله) ويقولون: " أنو " - إذا كان فاعلا - و " أنا " إذا كان مفعولا، وإني إذا كان مضافا إليه.
ومن ألقابه عندهم: القديم، والرأس الأصلي، وأبو الآلهة، ورب الأرواح والشياطين، وملك العالم الأسفل، وسلطان الظلام أو رأس الموت. ووجدت آثار عبادته في مدينة (أرك) وهي الوركاء، قال ياقوت: الوركاء موضع بناحية الروابي، ولد به إبراهيم الخليل عليه السلام، وقد بنى أحد ملوكهم معبدا له ولابنه (قول) في أشور سنة 1830 قبل المسيح، فصار اسم هذه المدينة بعد ذلك (تلان) وأصله (تل أنا) جاء ذكره في آجر للملك (أوركه) اكتشفت في أنقاض (أم قبر) هذه ترجمته " إن إله القمر ابن شقيق (أنو) وبكر (بعلوس) قد حمل عبده (أوركه) الرئيس التقي ملك (أور) على بناء هيكل (تسين كاثو) معبدا مقدسا له ".
والثاني من ثالوثهم (بلوس - أو - بيل و) لعلهما محرفان عن (بعل) و (بعلوس) ومن أسمائهم (أنو) و (إيل انيو) ومعناه السيد. وتلحق غالبا بلفظ (نيبرو) ومؤنثها (نيبروث) وهي قريبة من كلمة (نمرود) التي هي في ترجمة التوراة السبعينية (نيبروث) وكلمة (نيبرو) مشتقة من كلمة " بابار " السريانية، ومعناها طارد. وتدل مادة نبر في العربية على الارتفاع، فنبر: رفع، والنبرة: الشيء المرتفع، ففيها معنى الشرف،
ومعناها في الأشورية يقارب معناها في السريانية (فبيل نبرو) بمعنى السيد الصياد، أو رب الصيد - ولذلك قيل: إنه نمرود المذكور في العهد العتيق، ويقولون: إنه كان يصيد الوحوش. وهو بعلوس الذي ذكر مؤرخو اليونان أنه يأتي مدينة (بابل) وملكها الأول،
ودلت الآثار على أن الأشوريين كانوا يسمونها مدينة (بل نبرو) وظل الكلدانيون يعبدون (نمرود) مدة وجود دولتهم، وكانوا يكنونه بأبي الآلهة، ويكنون زوجه المسماة (موليتا - أو - أنوتا) بأم الآلهة العظام، ولكن وصفت في بعض الآثار بأنها زوج (نين) وهو ابنها، وفي بعضها أنها زوج (أشور) ولها ألقاب عظيمة، ووجد لها عدة هياكل.
والثالث من ثالوثهم (حوا - أو - حيا) وهو حيوان بعضه كالإنسان وبعضه كالسمك، زعموا أنه خرج من خليج فارس ليعلم سكان ضفاف النهرين علم الفلك والأدب، ونسب إليه اختراع حروف الهجاء، وقد وجد اسمه على صحيفة من الآجر وجدت في خرائب (أور) ويرى بعض الباحثين أن اسمه من مادة الحياة العربية أو الحية، وشعاره في القلم الكلداني الشكل الإسفيني، ومنه رسم الحية للدلالة على منتهى الذكاء والحكمة، والإشارة إلى الحياة، وله ألقاب عظيمة.
وكان للكلدان (ثالوث) آخر أحد آلهته (سيني) وهو القمر، وهذا الاسم سامي، فاسم القمر بالسريانية سين، وكذا في السنسكريتية، ومن ألقابه زعيم الأرباب في السماء والأرض (وبعل رونا) أي رب البناء، وكانوا يصورونه في جميع تطوراته منذ يكون هلالا، وله هياكل كثيرة، وأعظم معابده في (أور).
والثاني (سان) أو (سانسي) وهو الشمس، والاسم سامي أيضا، ومنه السنا بالعربية، وهو - بالقصر - الضياء، وقيل: ضوء النار والبرق، والصواب أنه أعم. قال تعالى:
{ هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا } [يونس: 5] ومنه (شاني) بالعبرية، ومعناها لامع، واسم الشمس باللغة السنسكريتية (سيونا) ومن ألقاب هذا الإله: رب النار، ونير الأرض والسماء، وكان له هياكل في المدن الكبيرة وأشهرها (بيت بارا) وبارا أو فرا اسم الشمس بالمصرية القديمة، وكان اسم (هليبوليس) عندهم (سيبارا) وتسمى في الآثار (تسيبار شاشاماس) ومعنى الثلاثة مدينة الشمس، وللشمس زوجة عندهم يسمونها (أي) و (كولا) (أنونيت).
وثالث الثلاثة (فول) أو (ايفا) أي الهواء، وهو رب الجو القائم بتسخير الرياح والعواصف والأعاصير، المتصرف في الزراعة والمواسم. ومن هياكله هيكل بناه الملك (شماس فول) الذي ملك الكلدان سنة 1850 قبل المسيح.
وهذه الأخبار والآثار تشهد بصدق القرآن، وكونه حجة لله تعالى عن الأنام ; لأن من جاء به أمي لم يقرأ شيئا من كتب الأولين، ولا رأى أثرا من آثار الغابرين، فيعلم منها خبر معبوداتهم، ولا يرد عليه ما أورد على العهد العتيق من كون كاتبه (عزرا الكاهن) كتبه بعد السبي، فاقتبس فيه كثيرا من تقاليد البابليين.
(المسألة الثانية: معنى الرب والإله وشبهة الشرك وكونه قسمان)
ظاهر ما حكاه الله تعالى عن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - أن قومه كانوا يتخذون الأصنام آلهة لا أربابا، ويتخذون الكواكب أربابا آلهة، فالإله هو المعبود، فكل من عبد شيئا فقد اتخذه إلها، والرب: هو السيد المالك والمربي والمدبر المتصرف، وليس للخلق رب ولا إله إلا الله الذي خلقهم، فهو المالك لكل شيء في كل زمن وكل حال، وملكه حقيقي تام، وملك غيره عرفي ناقص موقوت، له أجل محدود، وهو المعبود بحق، إذ العبادة الحق لا تكون إلا للرب ; فإن العبادة هي التوجه بالدعاء وكل تعظيم قولي أو عملي إلى ذي السلطان الأعلى على عالم الأسباب، وما فوق الأسباب ; لأنه هو الموجد لها والمتصرف فيها، فهي خاضعة لسلطانه، وكل ماعداه فهو خاضع لسلطانها بل سلطانه فيها. والأصل في اختراع كل عبادة لغيره تعالى أمران:
(أحدهما أن بعض ضعفاء العقول رأوا بعض مظاهر قدرته تعالى في بعض خلقه، فتوهموا أن ذلك ذاتي لهذا المخلوق ليس خاضعا لسنن الله في الأسباب والمسببات ; لقصر إدراكهم عن الوصول إلى كون القدرة الذاتية خاصة بخالق كل شيء الذي أعطى كل شيء خلقه وما امتاز به على غيره، وكون خفاء سبب الخصوصية لا يقتضي عدم خضوع صاحبها لسنن الخالق فيها وفي غيرها من شئونه (أي شئون صاحب الخصوصية) ووثنية هؤلاء هي الوثنية السافلة.
(ثانيهما) اتخاذ بعض المخلوقات ذات الخصوصية في مظاهر النفع والضر وسيلة إلى الرب الإله الحق، تشفع عنده، وتقرب إليه كل من توجه إليها، أو التماثيل والأصنام والقبور وغيرها مما يمثلها أو يذكر بها، فيتوسل ذو الحاجة بدعائها وتعظيمها بالقول أو الفعل لأجل حمله تعالى - بتأثيرها عنده - على قبوله وإعطائه سؤله، وهذا التوسل توجه إلى غير الله مبني على اعتقاد عدم انفراد الرب بالاستقلال بقضاء الحاجات، وكونه يفعل بتأثير الوسيلة في إرادته، وهذا شرك في العبادة ينافي الحنيفية. وهذه هي الوثنية الراقية التي كانت العرب عليها في زمن البعثة ; ولذلك كانوا يقولون في طوافهم:
لبيك لا شريك لك،
إلا شريكا هو لك،
تملكه وما ملك.
وكان بعض قوم إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - قد ارتقوا في وثنيتهم إلى هذه المرتبة في الجملة أو أوشكوا، إذ إنهم عقلوا أن الأصنام لا تسمع دعاءهم ولا تبصر عبادتهم، ولا تقدر على نفعهم ولا ضرهم، وإنما قلدوا بعبادتها آباءهم، كما يعلم من محاجته - عليه الصلاة والسلام - لهم في سورة الشعراء (26: 69) إلخ. ولذلك اتخذوها آلهة معبودين، لا أربابا مدبرين، ولكنهم اتخذوا الكواكب أربابا لما لها من التأثير السببي أو الوهمي في الأرض، وتوسعوا في إسناد التأثير إليها حتى اخترعوا من ذلك ما لا شبهة له، فكانوا يعتقدون أن الشمس رب النار، ونير الأرض والسماء، يدبر الملوك، ويفيض عليهم روح الشجاعة والإقدام، وينصر جندهم، ويخذل عدوهم، ويمزقه كل ممزق، ويعتقدون نحو ذلك في زحل واسمه (بيني)
ويعتقدون أن (مرداخ) وهو المشترى - شيخ الأرباب ورب العدل والأحكام، حافظ الأبواب التي يدخلها الخصوم لفصل الخصومات -
وأن (رنكال) وهو المريخ كمي الأرباب، ورب الصيد، وسلطان الحرب، فهو يشترك مع زحل في تدبيره إلا أن هذا هو المقدم في الصيد، وذاك المقدم في الحرب،
وأن (عشتار - أو - نانا) وهي الزهرة ربة الغبطة والسعادة، ومفيضة السرور على الناس، وتمثل في الآثار بامرأة عارية، وأن (نبو) وهو عطارد رب العلم والحكمة.
وكانت حجة إبراهيم البالغة في حصر العبادة بالتوجه فيها إلى فاطر السماوات والأرض وحده دون غيره من الوسائط والوسائل، ومثلها في سورة الأنبياء فقد قال في تماثيلهم:
{ بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين } [الأنبياء: 56] وبهذا كان يحتج جميع الرسل عليهم السلام، وهو أقوى الحجج وأظهرها، وأما ما ذكره إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - من التعريض قبلها فهو تمهيد لها.
(المسألة الثالثة: آراء المتكلمين والفلاسفة في حجة إبراهيم)
ما ذكره الرازي وغيره من مفسري المتكلمين في هذه المحاجة تكلف لا تدل عليه العبارة، ولا يقتضيه العقل، ولا تتوقف عليه الحجة، وقد تقدم أنهم جعلوا مقولهم فيها على ذكر الأفول، وكون وجه الحجة فيه دلالته على الإمكان والحدوث، وقالوا: إن أحسن الكلام ما يحصل فيه نصيب لكل من الخواص والأوساط والعوام،
فالخواص يفهمون من الأفول الإمكان، وكل ممكن محتاج، والمحتاج لا يكون مقطع الحاجة، فلا بد من الانتهاء إلى من يكون منزها عن الإمكان حتى تنقطع الحاجات بسبب وجوده كما قال:
{ وأن إلى ربك المنتهى } [النجم: 42]
وأما الأوساط فإنهم يفهمون من الأفول مطلق الحركة، فكل متحرك محدث، وكل محدث فهو محتاج إلى القديم القادر، فلا يكون الآفل إلها بل الإله هو الذي احتاج إليه ذلك الآفل،
وأما العوام فإنهم يفهمون من الأفول الغروب، وهم يشاهدون أن كل كوكب يقرب من الأفول فإنه يزول نوره وينقص ضوؤه، ويذهب سلطانه ويصير كالمعزول، ومن يكون كذلك لا يصلح للإلهية
(قال الرازي) بعد ما تقدم: فهذه الكلمة { لا أحب الآفلين } مشتملة على نصيب المقربين، وأصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، فكانت أكمل الدلائل وأفضل البراهين. ثم ذكر الرازي بعد هذا دقيقة استنبطها من مذهب علماء الفلك على عهده، هي أعرق في التكلف من هذا التفصيل الذي جعل فيه الوجه الصحيح في الحجة نصيب العوام الذين سماهم أصحاب الشمال، وهو يعلم أن أصحاب الشمال هم أهل النار
{ فاعتبروا يا أولي الأبصار } [الحشر: 2].
ثم قال الرازي: تفلسف الغزالي في بعض كتبه، وحمل الكوكب على النفس الناطقة الحيوانية التي لكل كوكب، والقمر على النفس الناطقة التي لكل فلك، والشمس على العقل المجرد الذي لكل ذلك. وكان أبو علي بن سينا يفسر الأفول بالإمكان (أي فهو عند الرازي إمام المقربين!) فزعم الغزالي أن المراد بأفولها إمكانها في نفسها، وزعم أن المراد من قوله: { لا أحب الآفلين } أن هذه الأشياء بأسرها ممكنة الوجود لذواتها، وكل ممكن فلا بد له من مؤثر، ولا بد له من الانتهاء إلى واجب الوجود. واعلم أن هذا الكلام لا بأس به إلا أنه يبعد حمل لفظ الآية عليه. ومن الناس من حمل الكوكب على الحس، والقمر على الخيال والوهم، والشمس على العقل، والمراد أن هذه القوى المدركة الثلاث قاصرة متناهية، ومدبر العالم مستول عليها قاهر لها، والله أعلم. انتهى كلام الرازي، وليس ما استحسنه من قبل - بل سماه أحسن الكلام - إلا مثل ما استبعد حمل الآية عليه من بعد أو هو أبعد وأجدر بالملام.
المسألة الرابعة: إشارات الصوفية في الآيات).
أورد نظام الدين الحسن بن محمد النيسابوري في تأويلات تفسيره عبارتين في الآيات، قال في الأولى: إن إبراهيم رأى نور الرشد في صورة الكوكب، ونور الربوبية في صورة القمر، ونور الهداية في صورة الشمس، وسبك ذلك بعبارة شعرية متكلفة. وأما العبارة الثانية فزعم أنها دارت في خلده، وما هي إلا ما نقله الرازي (الذي لخص هو تفسيره وزاد عليه هذه التأويلات) عن الغزالي - وذكرناه آنفا - إلا أنه تصرف فيه فجعله أقرب إلى التصوف.
وقد نقل الألوسي هذه العبارة الأخيرة عن النيسابوري في إشاراته، وذكر قبلها إشارة جعل فيها الكواكب إشارة إلى النفس التي هي الروح الحيوانية، والقمر إشارة إلى القلب، والشمس إشارة إلى الروح، وأنها أفلت بعد تجليها بتجلي أنوار الحق، وهو أقل تكلفا مما قبله، وإن كان باطلا مثله.
وأمثل ما قيل في باب الإشارة ما شرحه الغزالي في بحث فرق المغرورين من الصوفية في كتاب الغرور من الإحياء، فإنه بعد أن ذكر الذين اغتروا بأول ما انفتح لهم من أبواب المعرفة وما شموا من رائحتها فوقفوا عنده، قال:
{ وفرقة أخرى } جاوزوا هؤلاء، ولم يلتفتوا إلى ما يفيض عليهم من الأنوار في الطريق، ولا إلى ما تيسر لهم من العطايا الجزيلة، ولم يعرجوا على الفرح بها والالتفات إليها، جادين في السير حتى قاربوا فوصلوا إلى حد القربة إلى الله تعالى، فظنوا أنهم قد وصلوا إلى الله فوقفوا وغلطوا ; فإن لله تعالى سبعين حجابا من نور، لا يصل السالك إلى حجاب من تلك الحجب في الطريق إلا يظن أنه قد وصل. وإليه الإشارة بقول إبراهيم عليه السلام، إذ قال تعالى إخبارا عنه: { فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي } [الأنعام: 76]
وليس المعني به هذه الأجسام المضيئة ; فإنه كان يراها في الصغر ويعلم أنها ليست آلهة، وهي كثيرة وليست واحدا، والجهال يعلمون أن الكوكب ليس بإله، فمثل إبراهيم - عليه السلام - لا يغره الكوكب الذي لا يغر السوادية، ولكن المراد به أنه نور من الأنوار التي هي من حجب الله عز وجل، وهي على طريق السالكين، ولا يتصور الوصول إلى الله تعالى إلا بالوصول إلى هذه الحجب، وهي حجب من نور بعضها أكبر من بعض، وأصغر النيرات الكوكب، فاستعير له لفظه، وأعظمها الشمس، وبينهما رتبة القمر،
فلم يزل إبراهيم - عليه السلام - لما رأى ملكوت السماوات حيث قال الله تعالى: { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض } يصل إلى نور بعد نور، ويتخيل إليه في أول ما كان يلقاه أنه قد وصل، ثم كان يكشف له أن وراءه أمرا فيترقى إليه ويقول قد وصلت، فيكشف له ما وراءه حتى وصل إلى الحجاب الأقرب الذي لا وصول إلا بعده، فقال: (هذا أكبر) فلما ظهر له أنه مع عظمه غير خال عن الهوى في حضيض النقص والانحطاط عن ذروة الكمال { قال لا أحب الآفلين.... إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات }.
وسالك هذه الطريق قد يغتر في الوقوف على بعض هذه الحجب، وقد يغتر بالحجاب الأول، وأول الحجب بين الله وبين العبد هو نفسه، فإنه أيضا أمر رباني، وهو نور من أنوار الله تعالى، أعني سر القلب الذي تتجلى فيه حقيقة الحق كله حتى إنه ليتسع لجملة العالم ويحيط به، وتتجلى فيه صورة الكل، وعند ذلك يشرق نوره إشراقا عظيما، إذ يظهر فيه الوجود كله على ما هو عليه، وهو في أول الأمر محجوب بمشكاة هي كالساتر له، فإذا تجلى نوره وانكشف جمال القلب بعد إشراق نور الله ربما التفت صاحب القلب إلى القلب فيرى من جماله الفائق ما يدهشه، وربما يسبق لسانه في هذه الدهشة فيقول: أنا الحق، فإن لم يتضح له ما وراء ذلك اغتر به، ووقف عليه وهلك، وكان قد اغتر بكوكب صغير من أنوار الحضرة الإلهية، ولم يصل بعد إلى القمر فضلا عن الشمس فهو مغرور. وهذا محل الالتباس، إذ المتجلي يلتبس بالمتجلى فيه كما يلتبس لون ما يتراءى في المرآة بالمرآة، فيظن أنه لون المرآة، وكما يلتبس ما في الزجاج بالزجاج كما قيل:

رق الزجاج وراقت الخمر... فتشابها فتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قدح... وكأنما قدح ولا خمر.

وبهذه العين نظر النصارى إلى المسيح، فرأوا إشراق نور الله قد تلألأ فيه فغلطوا فيه، كمن رأى كوكبا في مرآة أو في ماء فيظن أن الكوكب في المرآة أو في الماء، فيمد يده إليه ليأخذه وهو مغرور ". اهـ.