خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَجَآءَ ٱلسَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْوۤاْ إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ ٱلْغَالِبِينَ
١١٣
قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ
١١٤
قَالُواْ يٰمُوسَىٰ إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ ٱلْمُلْقِينَ
١١٥
قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّآ أَلْقَوْاْ سَحَرُوۤاْ أَعْيُنَ ٱلنَّاسِ وَٱسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ
١١٦
-الأعراف

تفسير المنار

{ وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين } أي: وجاء فرعون السحرة الذين حشرهم له أعوانه وشرطته، ولم يذكر الكتاب الحكيم ولا الرسول المعصوم عددهم؛ إذ لا فائدة منه، وكل ما روي فيهم من أنهم عشرات الألوف فهو من الإسرائيليات التي لا أصل لها عندنا، ولا في التوراة التي بين أيديهم.
فلما جاءوا قالوا لفرعون إن لنا لأجرا عظيما يكافئ ما يطلب منا من العمل العظيم إن كنا نحن الغالبين لموسى، ذكر قولهم هنا بأسلوب الاستئناف البياني كأنه جواب سائل ماذا قالوا؟ وجاء في سورة الشعراء بصيغة الشرط والجزاء: { وجاء السحرة فرعون قالوا } [الأعراف: 113] وهو تفنن في العبارة، قرأ ابن كثير ونافع وحفص، عن عاصم { إن لنا لأجرا } بهمزة واحدة، قيل: إنه على الإخبار الدال على إيجاب الأجر، وكونه لا بد منه.
وقيل: إنه على حذف همزة الاستفهام الذي يكثر في كلام العرب، وهو المتبادر والمختار ليوافق قراءة ابن عامر بإثباتها هنا وهو ما اتفقوا عليه في سورة الشعراء.{ قال نعم وإنكم لمن المقربين } أي: قال فرعون مجيبا لهم إلى ما طلبوا: نعم؛ إن لكم لأجرا عظيما وإنكم مع ذلك الأجر المالي والمادي لمن المقربين من جانبنا السامي، فيجتمع لكم المال والجاه، وذلك منتهى الدنيا ومجدها.
أكد لهم نيل ما طلبوه منه، وما زادهم عليه تأكيدا بعد تأكيد؛ لاهتمامه بهذا الأمر، وخوفهم من عاقبته، فإنه لو قال لهم: نعم، ولم يزد عليها؛ لأفاد إجابة طلبهم، ولو قال في منحة القربى: وتكونون من المقربين، لكفى، ولكنه عبر عنها بالجملة الاسمية المؤكدة بـ (إن) وبتحلية الخبر باللام، وبعطف التلقين؛ أي عطف: " وإنكم لمن المقربين " على الجملة المقدرة التي دل عليها حرف الإيجاب " نعم " وهي " إن لكم لأجرا " وقد قدّر إعادتها.
وفي سورة الشعراء زيادة الحالة وهي كونكم أنتم الغالبين دون موسى لمن المقربين وحذفها من هذه السورة دليل على أنه قالها مرة دون أخرى فأفاد أنه كرر لهم الإجابة والوعد وذلك تأكيد آخر.
{ قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين } استئناف بياني كنظائره؛ أي: قال السحرة لموسى عليه السلام بعد أن وعدهم فرعون ما وعدهم: إما أن تلقي ما عندك أولا، وإما أن نكون نحن الملقين لما عندنا من دونك.
أما تخييرهم إياه فلثقتهم بأنفسهم، واعتدادهم بسحرهم، وإرهابا له، وإظهارا لعدم المبالاة به، مع العلم بأن المتأخر يكون أبصر بما يقتضيه الحال بعد وقوفه على منتهى شوط خصمه، وما قيل من أن علة التخيير مراعاة الأدب لا وجه له ألبتة، بل مقامهم بحضرة ملكهم الذي يدعي الألوهية والربوبية فيهم، وما طلبوه منه، وما وعدهم إياه - كله يقتضي أن يحتقروا خصمه لا أن يتأدبوا معه كما يتأدب أهل الصناعة الواحدة بعضهم مع بعض إذا تلاقوا للمباراة، وهو ما وجه الزمخشري به التعليل، وما قاله البيضاوي وغيره من أن علته إظهار التجلد فضعيف، إذ لم يروا من موسى شيئا بأعينهم يقتضيه، وإنما سمعوا أنه ألقى عصاه بحضرة فرعون فصارت ثعبانا فاستعدوا لمقابلته بعصي وحبال كثيرة يخيل إليه وإلى كل ناظر أنها ثعابين تسعى فيبطلون سحره بسحر مثله كما قال ملكهم:
{ فلنأتينك بسحر مثله } [طه: 58].
وذهب الزمخشري ومن تبعه إلى أن هذا التغيير عن إلقائهم يدل على رغبتهم في البدء بما ينبئ عنه تغييرهم للنظم بتعريف الخبر وتوسيط ضمير الفصل " نحن " وتوكيد الضمير المستتر به.
وفي سورة طه:
{ إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى } [طه: 65] وفيه من التوكيد ما يدل على الرغبة في الأولية التي صرحوا بذكرها هنا.
فلا فرق بين التعبيرين في المعنى، فلا بأس حينئذ بجعل الاختلاف اللفظي في الحكاية عنهم لمراعاة الفواصل، وقد اختلف فيه على أقوال " ثالثها " وهو الصحيح المعتمد: أنه جائز وواقع فيما لا يخل بأداء المعنى، ولا ينافي البلاغة العليا، فكيف إذا كان مزيد تفنن قد يصل إلى حد الإعجاز فيها، وذلك أن تأدية دقائق المعنى مكررة بألفاظ مختلفة في منتهى العسر، وكثيرا ما يكون متعذرا، فلو لم يؤكد الضمير المتصل هاهنا بالضمير المنفصل " نحن " لما أفاد معنى الرغبة في أولية الإلقاء المصرح به في سورة طه، وبذلك علم أن مراعاة الفاصلتين في الموضعين هو الذي وحد بينهما بجعل كل منهما دالا على رغبة السحرة في التقدم والأولية، فأي خطيب أو كاتب يقدر على إفادة هذا المعنى بأسلوبين مختلفين في اللفظ من غير تصريح به، وأي مترجم تركي أو إفرنجي يفقه هذا ويؤديه في ترجمته للقرآن؟
{ قال ألقوا } وفي سورة طه:
{ قال بل ألقوا } [طه: 66] وهو أدل على رغبته عليه السلام في سبقهم للإلقاء، ولعله نطق أولا بما فيه الإضراب فقال: بل ألقوا أنتم من دوني ثم أعاد كلمة (ألقوا) وحدها؛ لتأكيد رغبته، والإيذان بعدم مبالاته.
وفي سورتي يونس والشعراء: { قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون }، فأظهر اسم موسى الذي أضمره هنا، وفي سورة طه؛ لأنه جواب لخطابهم إياه باسمه بالتخيير، فالمقام فيها مقام الإضمار حتما، وأما إظهاره في سورتي يونس والشعراء فسببه أنه ليس فيهما ذكر لنداء السحرة إياه وتخييرهم له، فأول آية يونس:
{ فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا } [يونس: 80] وقبلها طلب فرعون للسحرة، ومجيئهم وسؤالهم إياه الأجر إن كانوا هم الغالبين، وإجابته إياهم، فهي أولى من آية يونس بما ذكر، وأما زيادة ما أنتم ملقون فإنها فائدة نافلة ذات شأن تدل على عدم مبالاته بما يلقون مهما عظم أمره وكان مجهولا عنده، وهي لا تنافي عدم ذكرها في آية الأعراف فيجمع بينهما.
وقد قيل: كيف أمرهم موسى عليه السلام بإلقاء ما عندهم وهو من السحر المنكر؟ وأجيب بأنه لم يأمر بفعل السحر ابتداء، وإنما أمر بأن يتقدموه فيما جاءوا لأجله ولا بد لهم منه، وأراد التوسل به إلى إظهار بطلان السحر لا إثباته، وإلى بناء ثبوت الحق على بطلانه، ولم يكن ثم وسيلة لإبطاله إلا ذلك، وقد صرح به فيما حكاه تعالى عنه في سورة يونس:
{ { قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون } [يونس: 81 - 82] ومثله توسل إبراهيم ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلى نبينا وآلهما إلى إظهار حقيقة التوحيد لعبدة الكواكب من قومه لما رأى كلا من الكوكب والقمر والشمس بازغا قال { { هذا ربي } [الأنعام: 77] ثم تعقبه بما يدل على كونه لا يصح أن يكون ربا، وإسماعه إياهم بعد إبطال ربوبيتها، كلها حقيقة التوحيد بقوله: { { إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين } [الأنعام: 79].
{ فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم } أي: فلما ألقوا ما ألقوا من حبالهم وعصيهم كما في سورتي الشعراء وطه سحروا أعين الناس الحاضرين، ومنهم موسى عليه السلام، ففي سورة طه:
{ فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى } [طه: 66] واسترهبوهم أي: أوقعوا في قلوبهم الرهب والخوف كما قال تعالى: { فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى } [طه: 67 - 68] وأصل الاسترهاب محاولة الإرهاب وطلب وقوعه بأسبابه، وقد قصدوا ذلك فحصل وجاءوا بسحر عظيم أي: مظهره كبير، وتأثيره في أعين الناس عظيم. قال الحافظ ابن كثير: أي؛ خيلوا إلى الأبصار أن ما فعلوه له حقيقة في الخارج، ولم يكن إلا مجرد صنعة وخيال. ثم ذكر عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أنهم ألقوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا " قال " فأقبلت يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى، ثم ذكر عن ابن إسحاق أن السحرة كانوا خمسة عشر ألف ساحر، وأن الحيات التي أظهروها بخيال سحرهم كانت كأمثال الجبال قد ملأت الوادي، وعن السدي أن السحرة كانوا بضعا وثلاثين ألفا، وعن القاسم بن أبي بزة 70 ألفا، وذكر غيره ما هو أعظم من ذلك من المبالغة والتهويل، ولا يصح شيء من ذلك في خبر مرفوع، وإنما هي من الإسرائيليات الباطلة المروية عن اليهود كما تقدم على أنه ليس في توراتهم منها شيء، وإنما جاء في الفصل السابع من سفر الخروج منها أن فرعون دعا الحكماء والسحرة " ففعل عرافو مصر أيضا بسحرهم كذلك: طرحوا كل واحد عصاه فصارت العصي ثعابين، ولكن عصا هارون ابتلعت عصيهم ".
وقد ذكر بعض المفسرين سر صناعتهم في ذلك بما أراه استنباطا علميا لا نقلا تاريخيا، قال الإمام الجصاص في أحكام القرآن: قال الله تعالى: { سحروا أعين الناس } يعني موهوا عليهم حتى ظنوا أن حبالهم وعصيهم تسعى. وقال: { يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى } فأخبر أن ما ظنوه سعيا منها لم يكن سعيا، وإنما كان تخيلا، وقد قيل: إنها كانت عصيا مجوفة قد ملئت زئبقا، وكذلك الحبال كانت معمولة من أدم؛ أي: جلد، محشوة زئبقا، وقد حفروا قبل ذلك تحت المواضع أسرابا، وجعلوا أزواجا ملئوها نارا فلما طرحت عليه، وحمي الزئبق حركها؛ لأن من شأن الزئبق إذا أصابته النار أن يطير، فأخبر الله أن ذلك كان مموها على غير حقيقته، والعرب تقول لضرب من الحلي: مسحور؛ أي: مموه على من رآه مسحورا به ا هـ. فعلى هذا يكون سحرهم لأعين الناس عبارة عن هذه الحيلة الصناعية إذا صح خبرها، ويحتمل أن يكون بحيلة أخرى كإطلاق أبخرة أثرت في الأعين فجعلتها تبصر ذلك أو يجعل العصي والحبال على صورة الحيات، وتحريكها بمحركات خفية سريعة لا تدركها أبصار الناظرين، وكانت هذه الأعمال من الصناعات وتسمى السيمياء.