خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ
١٤٦
وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ ٱلآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٤٧
-الأعراف

تفسير المنار

انتهى بالآية قبل هاتين الآيتين فصل من فصول قصة موسى - عليه السلام -، وهاتان الآيتان استئناف مرتب على جملة ما تقدمه منها، بين الله فيه بخاتم رسله في الأولى منهما سننه في ضلال البشر بعد مجيء البينات في كل زمان، ويدخل فيه قوم فرعون من الغابرين دخولا أوليا، وينطبق على رؤساء كفار قريش المعاندين له - صلى الله عليه وسلم - من الحاضرين، وبين في الثانية جزاءهم على تكذيبهم وكفرهم، قال: { سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق } هذا بيان لسنته تعالى في تكذيب البشر لدعاة الحق والخير من الرسل وورثتهم، وسببه الأول الكبر، فإن من شأن الكبر أن يصرف أهله عن النظر والاستدلال على الحق والهدى لأجل اتباعه، فهم يكونون دائما من المكذبين بالآيات الدالة عليه الغافلين عنها، وتلك حال الملوك والرؤساء والزعماء الضالين كفرعون وملئه.
وإنما ذكرت هذه السنة عامة من أخلاق البشر بصيغة المستقبل؛ لإعلام النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الطاغين المستكبرين من مشيخة قومه لن ينظروا في آيات القرآن الدالة على صدقه - صلى الله عليه وسلم - في دعوى الرسالة من وجوه كثيرة بيناها مرارا، والدالة على وحدانية الله - تعالى - بما أقامته عليها البراهين الكثيرة، ولا في غيرها مما أيده ويؤيده به من آياته الكونية، لتكبرهم في الأرض بالباطل، فوجهة نظرهم تنحصر في تفضيل أنفسهم عليه - صلى الله عليه وسلم - بأنهم سادة قريش وكبراؤها وأغنياؤها وأقوياؤها، فلا يليق بهم أن يتبعوا من هو دونهم سنا وقوة وثروة وعصبية، والمعنى: سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق من قومك أيها الرسول، ومن غيرهم في كل زمان ومكان، كما صرفت فرعون وملأه عن آياتي التي آتيتها رسولي موسى.
والتكبر صيغة تكلف أو تكثر من الكبر الذي هو غمط الحق بعدم الخضوع له واحتقار الناس، فهو شأن من يرى أنه أكبر من أن يخضع لحق، أو يساوي نفسه بشخص، والأصل الغالب في التكبر أن يكون بغير الحق، وقد يتصور أن يتكلف الإنسان إعلاء نفسه على غيره أو إكثاره من الاستعلاء عليه بحق كالترفع عن المبطلين، وإهانة الجبارين، واحتقار المحاربين، فقوله - تعالى -: { بغير الحق } يكون على هذا صلة للتكبر، وهو قيد له، وإلا كان بيانا للواقع.
أو المعنى: أنه يتكبرون حالة كونهم متلبسين بغير الحق أي منغمسين في الباطل، فأمثال هؤلاء لا قيمة للحق في نفسه عندهم، فهم لا يطلبونه ولا يبحثون عنه، وقد تظهر لهم آياته ويجحدونها وهم بها موقنون، كما قال - تعالى - في آل فرعون:
{ { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا } [النمل: 14] وقال في طغاة قريش: { فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } [الأنعام: 33].
{ وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها } هذا إما عطف على الجملة (سأصرف) أي: سأصرفهم عن آياتي المنزلة والكونية فينصرفون، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها - وإما عطف على (يتكبرون) فيكون هو وما بعده بيانا لصفات المتكبرين وأحوالهم، وأولها: أنهم إن يروا كل آية من الآيات التي تدل على الحق وتثبت وجوده لا يؤمنون بها، فإن كثرة الآيات بتعدد أنواعها وأفرادها إنما تفيد من كان طالبا للحق، ولكنه جاهل أو شاك أو سيء الفهم، فإذا خفيت عليه دلالة بعضها فقد تظهر له دلالة غيره، وفي هذا إعلام للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الذين يقترحون عليه الآيات من قومه إنما يقصدون التعجيز، لا استبانة الحق بالدليل، فهم إن أجيبوا إلى طلبهم لا يؤمنون، ولهذا نظائر تقدم بعضها في سورة الأنعام مفصلا تفصيلا.
وإن يروا سيبل الرشد لا يتخذوه سبيلا الرشد: الصلاح والاستقامة، وضده الغي؛ وهو الفساد، وفيه ثلاثة لغات: ضم أوله وسكون ثانيه، وبه قرأ الجمهور هنا - وفتحهما؛ وبها قرأ حمزة والكسائي - والرشاد، وقد وردت في سورة المؤمن - غافر - حكاية عن فرعون
{ { وما أهديكم إلا سبيل الرشاد } [غافر: 29] ومثلها السقم والسقم والسقام - المعنى: أن من صفة هؤلاء الذين مرنوا على الضلال واستمرءوا مرعى الغي والفساد، أن ينفروا من الهدى والرشاد، فإن رأى أحدهم سبيله واضحة جلية لا يختار لنفسه، جعلها سبيلا له بإيثارها وتفضيلها على ما هو عليه، وكل أحد يصل إلى هذه الدرجة من الغي؛ لأن من الناس من يسلك الغي على جهل، فإذا علم بما تنتهي به إليه من الفساد ورأى لنفسه مخرجا منها، تركها واختار سبيل الرشد عليها.
وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا وهذه الحالة شر مما قبلها فإن هذه إيجابية وتلك سلبية، وبينهما حال أخرى وهي حال من ليس فيه من نور البصيرة وزكاء النفس ما يحمله على سلوك الرشد إذا رآه لضعف همته، ولكنه يكره الغي والفساد وإذا لم يصل من اعتلال الفطرة وظلمة البصيرة إلى تفضيله على الرشد، وإيثار سبيله واختيارها لنفسه إذا رآها، بحيث لا يصرفه عن الفساد إلا جهل سبيله أو العجز عن سلوكها.
فمن اجتمعت له هذه الأحوال أو الصفات، فهو الذي أضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة، فلم تبق له سبيل من أسباب الحق والرشد يسلكها، وقد علل ذلك سبحانه تعالى بقوله: { ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين } يعني أن الله - تعالى - لم يخلقهم مطبوعين على شيء مما ذكر طبعا، ولم يجبرهم ويكرههم عليه إكراها، بل كان ذلك بكسبهم واختيارهم للتكذيب بآياته الدالة على الحق، والصدود عن سبيله الموصلة إلى الرشد، وكانوا غافلين عنها دون أهوائهم لا يعطونها حقها من النظر والتأمل والتفكير والتدبر، لاشتغالهم عن ذلك بأهوائهم وعصبتهم لأنفسهم ولآبائهم، وبذلك قطعوا على أنفسهم طريق الهدى، فالغفلة هنا: هي الغفلة المطبوعة المانعة من أسباب العلم والفطنة، لا أي نوع من أنواع الغفلة، بل هي المبينة في قوله - تعالى - من أواخر هذه السورة:
{ { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون } [الأعراف: 179].
الضالون من هؤلاء الغافلين عن آيات الله - تعالى -، وما تهدي إليه من معرفته والاستعداد للحياة الأخرى الباقية هم الذين يقول الله - تعالى - في وصفهم:
{ { أولئك في ضلال بعيد } [إبراهيم: 3] ويقول: { { قد ضلوا ضلالا بعيدا } [النساء: 167] إذ كان لهم من الانهماك فيما هم فيه والغرور به، واحتقارهم ما سواه ما يصدهم عن توجيه عقولهم إلى غيره، ومنهم متفرنجة المسلمين الجغرافيين في هذا العصر، يحتقرون هداية الدين الروحية، ولها من التأثير العظيم في تهذيب النفس، وحملها على الخير، وصدها عن الشرور من الفواحش والمنكرات، وإنما غرهم وأضلهم أنهم في عصر وصل فيه الغربيون إلى غاية بعيدة من الفنون والصناعات، كأنهم يرون أن من عاش في هذا العصر يجب أن يكون مثلهم عبدا لشهواته، ومقتضى ذلك أنه كان الأفضل لبني إسرائيل ألا يتبعوا موسى - عليه السلام -؛ لأنه لم يكن عنده من زينة الدنيا وقوتها وصناعاتها وفنونها ما كان عند فرعون وقومه { { فاعتبروا يا أولي الأبصار } [الحشر: 2].
ثم قال - تعالى -: { والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون }؟ الآيات، في الآية التي قبل هذه بمعنى الدلائل والبينات من براهين عقلية نظرية كانت أو علمية أو كونية، كآياته تعالى في الأنفس والآفاق، ومنها معجزات الأنبياء عليهم السلام وأظهرها وأقواها؛ القرآن العظيم، من حيث هو دال على صدق النبي الأمي في دعوى الرسالة من وجوه كثيرة تقدم بيانها، وأما الآيات المذكورة في هذه الآية فالظاهر المتبادر أنها الآيات المنزلة من حيث اشتمالها على الهداية والإصلاح بتزكية الأنفس من خرافات الشرك وفساد الأخلاق ومنكرات الأعمال، واللقاء مصدر لقي الشيء أو الشخص، ولاقاه كالملاقاة إذا صادفه أو قابله أو انتهى إليه، يقال: لقي زيدا ولاقاه ولقي خيرا أو شرا
{ لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا } [الكهف: 62] ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره، ولقي جزاءه، قال الراغب: وملاقاة الله - عز وجل - عبارة عن القيامة وعن المصير إليه قال: { { واعلموا أنكم ملاقوه } [البقرة: 223] { { قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله } [البقرة: 249].
والمعنى: والذين كذبوا بآياتنا المنزلة بالحق والهدى على رسلنا فلم يؤمنوا لهم ولا اهتدوا بها، وكذبوا بلقاء الآخرة، وما يكون فيها من الجزاء على الأعمال - على الخير بالثواب، وعلى الشر بالعقاب - فاتبعوا أهواءهم، لا يجزون هنالك إلا ما كان من تأثير أعمالهم النفسية والبدنية معا أو النفسية فقط (كترك الواجبات) في أرواحهم وأنفسهم من حق وخير زكاها وأصلحها، أو من باطل وشر دساها وأفسدها - إن الله لا يظلم الناس في الجزاء مثقال ذرة، وإنما مضت سنته بجعل الجزاء في الآخرة أثرا للعمل مرتبا عليه ترتب المسبب على السبب، كأنه هو نفسه، وقد شرحنا هذا المعنى مرارا " تراجع كلمة جزاء في فهارس التفسير ".