خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً ٱتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ
١٤٨
وَلَمَّا سُقِطَ فِيۤ أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ
١٤٩
-الأعراف

تفسير المنار

(قصة اتخاذ بني إسرائيل للعجل)
في أثناء مناجاة موسى - عليه السلام - لربه - عز وجل - في جبل الطور، اتخذ قومه من بني إسرائيل عجلا مصوغا من الذهب والفضة وعبدوه من دون الله - تعالى -، لما كان رسخ في قلوبهم من فخامة مظاهر الوثنية الفرعونية في مصر، ذكرت هذه القصة هنا معطوفة على ما قبلها من خبر المناجاة وألواح الشريعة لما بين السياقين من العلاقة والاشتراك في الزمن، وقال - تعالى -: رواتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار } الحلي بالضم والتشديد جمع حلي بالفتح والتخفيف فهو كثدي جمعا لثدي، وهذا الحلي استعاره نساء بني إسرائيل من نساء المصريين قبل خروجهم من مصر فملكوه بإذن الله - تعالى -، والعجل ولد البقرة سواء كانت من العراب أو الجواميس، فهو كالحوار لولد الناقة، والمهر لولد الفرس، والحمل لولد الشاة، والجدي لولد العنز، إلخ.
والجسد الجثة وبدن الإنسان حقيقة، ويطلق على غيره مجازا، والأحمر كالذهب والزعفران والدم الجاف، قال في لسان العرب: الجسد جسم الإنسان، ولا يقال لغيره من الأجسام المتغذية، ولا يقال لغير الإنسان جسد من خلق الأرض، والجسد: البدن، نقول منه تجسد كما تقول من الجسم تجسم.
ابن سيده: وقد يقال للملائكة والجن جسد. غيره: وكل خلق لا يأكل ولا يشرب من الملائكة والجن مما يعقل فهو جسد.
وكان عجل بني إسرائيل جسدا يصيح لا يأكل ولا يشرب، وكذا طبيعة الجن، قال - عز وجل -:
{ فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار } [طه: 88] " جسدا " بدل من عجل؛ لأن العجل هنا هو الجسد، وإن شئت حملته على الحذف؛ أي: ذا جسد، وقوله: { له خوار } يجوز أن تكون الهاء راجعة إلى العجل، وأن تكون راجعة إلى الجسد، وجمعه أجساد، وقال بعضهم في قوله: { عجلا جسدا } قال: أحمر من ذهب.
وقال أبو إسحاق في تفسير الآية: الجسد هو الذي لا يعقل ولا يميز إنما معنى الجسد معنى الجثة فقط، وقال في قوله:
{ { وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام } [الأنبياء: 8] قال: جسد واحد يعني على جماعة، قال ومعناه وما جعلناهم ذوي أجساد إلا ليأكلوا الطعام، وذلك أنهم قالوا: { { ما لهذا الرسول يأكل الطعام } [الفرقان: 7] فأعلموا أن الرسل أجمعين يأكلون الطعام وأنهم يموتون، المبرد وثعلب: العرب إذا جاءت بين كلامين بجحدين كان الكلام إخبارا، (قالا) ومعنى الآية: إنما جعلناهم جسدا ليأكلوا، (قالا) ومثله في الكلام: ما سمعت منك، وما أقبل منك معناه إنما سمعت منك لأقبل منك (قالا): وإن كان الجحد في أول الكلام كان الكلام مجحودا جحدا حقيقيا (قالا) وهو كقولك: ما زيد بخارج، قال الأزهري: جعل الليث قول الله - عز وجل -: { وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام } [الأنبياء: 8] كالملائكة.
(قال) وهو غلط، ومعناه الإخبار، كما قال النحويون: أي جعلناهم جسدا ليأكلوا الطعام (قال): وهذا يدل على أن ذوي الأجساد يأكلون الطعام، وأن الملائكة روحانيون لا يأكلون الطعام، وليسوا جسدا فإن ذوي الأجساد يأكلون الطعام. انتهى، وقولهم: معناه الإخبار؛ أي: الإثبات.
والخوار: صوت البقر، وهو بضم أوله كأمثاله من أسماء الأصوات: رغاء الإبل، وثغاء الغنم، ويعار المعز، ومواء الهر، ونباح الكلب.. إلخ.
وعلم من القصة من سورة طه أن السامري هو الذي أخذ منهم ما حملوه من أوزار زينة قوم فرعون فألقاها في النار فصاغ لهم منه عجلا؛ أي: تمثالا له صورة العجل وبدنه وصوته، وإنما نسب ذلك هنا إليهم؛ لأنه عمل رأي جمهورهم الذين طلبوا أن يكون لهم آلهة، قال الحافظ ابن كثير: وقد اختلف المفسرون في ذلك العجل هل صار لحما ودما له خوار أو استمر على كونه من ذهب إلا أنه يدخل فيه الهواء فيصوت كالبقر؟ على قولين والله أعلم ا هـ.
روي القول الأول عن قتادة، وأخرج ابن أبي حاتم، عن الضحاك أنه خار خورة واحدة، ولم يثن، فمن قال: إنه حلت فيه الحياة؛ عللوه بأن السامري رأى جبريل حين جاوز ببني إسرائيل البحر، وفي وراية عند نزوله على موسى (- عليهما السلام -) راكبا فرسا ما وطئ بها أرضا إلا حلت فيها الحياة واخضر النبات، فأخذ من أثرها قبضة فنبذها في جوف تمثال العجل فصار حيا له خوار، وفسروا بهذا ما حكاه الله - تعالى - عنه في سورة طه وسيأتي بيانه في تفسيرها، ولكن قال بعض هؤلاء: إن خواره كان بتأثير دخول الريح في جوفه وخروجها من فيه، كقول الآخرين الذين قالوا: إنه لم يكن حيا، والروايات في حياته لا يصح منها شيء، ولذلك وقف الحافظ ابن كثير فلم يرجح أحد القولين على الآخر، وفي تفسير القصة من سورة طه روايات كثيرة من خرافات الإسرائيليات، فيها ضرب من الكذب والضلالات، وسنعود إليها في تفسير سورة طه إن شاء الله وقدر لنا الحياة.
قال - تعالى - في بيان ضلالتهم وتقريعهم على جهالتهم: { ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا }؟ أي: ألم يروا أنه فاقد لما يعرف به الإله الحق، وخاصة ما له من حق العبادة على الخلق بما يكلم به من يختاره منهم لرسالته، ويعلمه ما يجب أن يعرفوه من صفاته وسبيل عبادته كما يكلم رب العالمين رسوله موسى - عليه السلام -، ويهديه سبيل الشريعة التي تتزكى بها أنفسهم، وتقوم بها مصالحهم، فعلم بهذا أن من شأن الرب الإله الحق أن يكون متكلما، وأن يكلم عباده، ويهديهم سبيل الرشاد باختصاصه من شاء منهم وإعداده لسماع كلامه، وتلقي وحيه، وتبليغ أحكامه، وفي سورة طه:
{ أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا } [طه: 89] فالمراد بالقول: هداية الوحي، والمعنى: أنه ليس له من صفات الرب الإله هداية الإرشاد التي مرجعها صفة الكلام، ولا الضر والنفع اللذين هما متعلق صفتي القدرة والإرادة.
ثم قال - تعالى -: { اتخذوه وكانوا ظالمين } أي: اتخذوه وهم يرون أنه لا يكلمهم بما فيه صلاحهم، ولا يهديهم لما فيه رشادهم، ولا يملك دفع الضر عنهم، ولا إسداء النفع إليهم؛ أي: إنهم لم يتخذوه عن دليل ولا شبه دليل، بل عن تقليد لما رأوا عليه المصريين من عبادة العجل " أبيس " من قبل، ولما رأوه من العاكفين على أصنام لهم من بعد، وكانوا ظالمين لأنفسهم بهذا الاتخاذ الجهلي الذي يضرهم ولا ينفعهم بشيء.
{ ولما سقط في أيديهم } يقال: سقط في يده، وأسقط في يده - بضم أولهما على البناء للمفعول - وكذا بفتح أول الثلاثي على قلة في اللغة، وشذوذ في القراءة - أي: ندم، ويقولون: فلان مسقوط في يده، وساقط في يده أي: نادم - كما في الأساس - ولكنه فسره في الكشاف بشدة الندم والحسرة، وجعله من باب الكناية، وفي اللسان: وسقط في يد الرجل: زل وأخطأ، وقيل: ندم، قال الزجاج: يقال للرجل النادم على ما فعل الحسر على ما فرط منه: قد سقط في يده وأسقط.
وفي التنزيل العزيز { ولما سقط في أيديهم } قال الفارسي: ضربوا بأكفهم على أكفهم من الندم، فإن صح ذلك فهو إذا من السقوط، وقد قرئ " سقط في أيديهم " كأنه أضمر الندم؛ أي: سقط الندم في أيديهم، كما تقول لمن يحصل على شيء، وإن كان مما لا يكون في اليد: قد حصل في يده من هذا مكروه، فشبه ما يصل في القلب وفي النفس بما يحصل في اليد، ويرى بالعين ا هـ.
زاد الواحدي في تفسيره: وخصت اليد؛ لأن مباشرة الأمور بها كقوله - تعالى -:
{ { ذلك بما قدمت يداك } [الحج: 10] أو لأن الندم يظهر أثره بعد حصوله في القلب في اليد بعضها، والضرب بها على أختها ونحو ذلك، فقد قال سبحانه في النادم: { { فأصبح يقلب كفيه } [الكهف: 42]، { { ويوم يعض الظالم على يديه } [الفرقان: 27] وفي تاج العروس، وفي العباب: هذا نظم لم يسمع قبل القرآن، ولا عرفته العرب، والأصل فيه نزول الشيء من أعلى إلى أسفل، ووقوعه على الأرض، ثم اتسع فيه فقيل للخطأ من الكلام سقط؛ لأنهم شبهوه بما لا يحتاج إليه فيسقط، وذكر اليد؛ لأن الندم يحدث في القلب، وأثره يظهر في اليد كقوله - تعالى -: { فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها } [الكهف: 42] ولأن اليد هي الجارحة العظمى، فربما يسند إليها ما لم تباشره كقوله - تعالى -: { { ذلك بما قدمت يداك } [الحج: 10] ا هـ.
والمعنى: أنهم لما اشتد ندمهم وحسرتهم على ما فعلوه { ورأوا أنهم قد ضلوا } أي: وعلموا أنهم قد ضلوا بعبادة العجل، أو تبين لهم ضلالهم به، وتحقق بما قاله وفعله موسى حتى كأنهم رأوه رأي العين { قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا } أي: أقسموا إنه لا يسعهم بعد هذا الذنب إلا رحمة ربهم التي وسعت كل شيء، قائلين: لئن لم يرحمنا بقبول توبتنا والتجاوز عن جريمتنا { لنكونن من الخاسرين } لسعادة الدنيا؛ وهي الحرية والاستقلال في أرض الموعد، ولسعادة الآخرة؛ وهي دار الكرامة والرضوان. وقد بحث بعض الغواصين على نكت البلاغة في تقديم الندم في الذكر على تبين الضلالة، مع أن المعروف في العادة أن يندم الإنسان على ما علم من ذنبه، فقال القطب الشيرازي ما معناه موضحا: إن الانتقال من الجزم بأن هذا الشيء أو الأمر حق إلى استبانة الجزم بضده أو نقيضه لا يكون دفعة واحدة في الأغلب، بل الأغلب أنه ينتقل من الجزم بصحته أو حقيقته إلى الشك فيها ثم إلى الظن بالضد أو النقيض، ثم إلى الجزم به، ثم إلى تبينه واليقين فيه الذي يعبر عنه بالرؤية، والقوم كانوا جازمين بأن ما فعلوه صواب، والندم عليه ربما وقع لهم حال الشك فيه، فيكون تبين الضلال متأخرا عن الندم ا هـ.
وأقول: جاء في سياق القصة المفصل من سورة طه أنه لما أنكر عليهم هارون - عليه السلام - عبادة العجل، وذكرهم بتوحيد الربوبية الدال على وجوب توحيد العبادة للرب وحده
{ { قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى } [طه: 91] فلما رجع موسى وأنب هارون (قال) فيما قاله له: { يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني أفعصيت أمري } [طه: 92 - 93] لك { { اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين } [الأعراف: 142] فعند تصريح موسى بأنهم ضلوا، ورؤيتهم ما كان من غضبه وإلقائه بالألواح حتى تكسرت، وأخذه برأس أخيه هارون ولحيته وجره إليه ندموا على ما فعلوا، فإن كان هذا الندم عن تقليد وطاعة لموسى لا عن علم يقيني بأن عملهم ضلال، فالراجح أن يكون العلم القطعي المعبر عنه بقوله: { ورأوا أنهم قد ضلوا } قد حصل بعد تحريق موسى للعجل، ونسفه في اليم.
فإن كان من قواعد النحو أن العطف بالواو لا يقتضي الترتيب، فمن قواعد علم المعاني أن ما لا يجب الترتيب فيه بزمان ولا رتبة أن يقدم في سرده وفي نسقه الأهم، فإن لم يكن تقديم الندم هنا لسبقه في الزمن فالأظهر أنه للمبالغة في استشعارهم استحقاق العقاب، كأنه يقول: إنهم على ندمهم وتوبتهم التي من شأنها محو الذنب وترك العقاب، وعلى كونهم صاروا على علم يقيني ببطلان عبادة العجل، ووجوب تخصيص الرب بالعبادة - قالوا ذلك القول الدال على أن مجموع
الأمرين لا يكفي لاستحقاق المغفرة إلا برحمة الله - تعالى -، ومن المعلوم أن العلم بالضلال وحده لا يقتضي العفو والمغفرة إلا إذا ترتب عليه العمل بمقتضاه؛ وهو التوبة، والرجوع إلى الله - تعالى - بالعمل، فإن الذين ضلوا على علم ولم يتوبوا؛ أشد الناس عقابا - فعلم بذلك أن تقديم الندم أهم من العلم بالضلال، وهذا من فضل الله الذي لم نره لأحد، وقد علم منه وجه تقديم ذكر الرحمة على ذكر المغفرة وهو أنها سببها، فإن التوبة ومعرفة الحق لا يكفيان للمغفرة بدونها، ولا غرو فقد ورد في الصحيحين عن أبي هريرة قال:
" سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لن يدخل أحدا عمله الجنة قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة فسددوا وقاربوا " إلى آخر الحديث وفي مسلم من حديث جابر " لا يدخل أحدا منكم عمله الجنة ولا يجيره من النار، ولا أنا إلا برحمة من الله " وأمثل الأجوبة في الجمع بين الحديث وبين الآيات الكثرة الصريحة في دخول الجنة بالعمل أن ذلك بفضل الله ورحمته، فإن عمل أي عامل لا يستحق عليه لذاته ذلك النعيم الكامل الدائم، بل لا يفي عمل أحد ببعض نعم الله - تعالى - عليه في الدنيا.
وأما قولهم: إن دخول الجنة بالرحمة واقتسامها بالأعمال فهو لا يدفع التعارض بين الآيات والحديث فإن منها
{ { ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون } [النحل: 32].