خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ٱلنَّبِيِّ ٱلأُمِّيِّ ٱلَّذِي يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَٱتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
١٥٨
-الأعراف

تفسير المنار

ذكرت رسالة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم في الآية التي قبل هذه من قصة موسى عليه السلام استطرادا بحسب نظم الكلام، ولكنها هي المقصودة بالذات من القصة، ومن سائر قصص الرسل عليهم السلام، ولما كان ذكرها في سياق القصة لدعوة أهل الكتاب إلى الإسلام، وإقامة الحجة عليهم بذكره ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كتبهم والبشارة برسالته على ألسنة أنبيائهم، وبيان ما يكون لهم من الفلاح والفوز بالإيمان به ـ صلى الله عليه وسلم ـ واتباعه ناسب أن يقفى على ذلك ببيان عموم بعثته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودعوة الناس كافة إلى الإيمان بالله تعالى وبه، فقال عز وجل مخاطبا له صلواته وسلامه عليه:
{ قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا } هذا خطاب عام لجميع البشر من العرب والعجم وجهه إليهم محمد بن عبد الله النبي العربي الهاشمي بأمر الله تعالى، ينبئهم به أنه رسول الله تعالى إليهم كافة لا إلى قومه العرب خاصة كما زعمت العيسوية من اليهود، فهو كقوله تعالى:
{ وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا } [سبا: 28] وقوله: { { وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ } [الأنعام: 19] أي وأنذر به كل من بلغه من الثقلين، فمن قال إنهيؤمن برسالته إلى العرب خاصة لا يعتد بإيمانه؛ لأنه مكذب لهذه النصوص العامة القطعية مما جاء به.
وما في معناها كقوله تعالى:
{ { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا } [الفرقان: 1] وقوله: { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } [الأنبياء: 107] وهو يشمل عقلاء الجن. وفي هذا المعنى أحاديث صحيحة ناطقة باختصاصه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لرسالة العامة كحديث جابر في الصحيحين وغيرهما، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة" وفي رواية " كافة " ، ورواه آخرون عن غيره بألفاظ أخرى.
ولما كانت الشفاعة على إطلاقها غير خاصة به ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذهب الجمهور إلى أن الخاص به الشفاعة العظمى لجميع الخلق بفصل القضاء فيهم ومحاسبتهم ليعلم مستقر كل منهم، وفي أحاديث الصحيحين وغيرهما أن أهل الموقف يرسلون الوفود إلى آدم فنوح فإبراهيم فموسى فعيسى عليهم السلام يطلبون منهم الشفاعة عند الله تعالى بفضل القضاء، فيعترف كل منهم بأن هذا ليس من شأنه ويقول " لست هناكم " ويطلب النجاة لنفسه ويحيلهم على من بعده، حتى إذا أحالهم عيسى على محمد صلوات الله عليه وعليهم أجمعين أجابهم إلى طلبهم، وقال: " أنا لها " وفي رواية " أنا صاحبكم " فيشفع في فصل القضاء بين الخلق فتقبل شفاعته.
وقيل: إن المراد غير هذه الشفاعة. وقيل: ما يعمها وغيرها، والروايات في الشفاعة متداخلة مضطربة، ولسنا بصدد تحقيق القول فيها.
ثم وصف الله عز وجل نفسه في هذا المقام بتوحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وبالإحياء والإماتة فقال: { الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيى ويميت } والمراد بملك السماوات والأرض: التصرف والتدبير في العالم كله، لما جرى عليه عرف البشر من أن السماوات هي العوالم التي تعلو هذه الأرض التي يعيشون فيها، وصاحب الملك والتصرف والتدبير فيهما هو ربهما رب العالمين وهو واحد، ولو كان لغيره تصرف لتعارض مع تصرفه، وفسد النظام العام؛ فإن وحدة النظام في جملة المخلوقات وعدم التفاوت والتعارض فيها دليل على وحدة مصدرها وتدبيرها، وإذا كان رب الخلائق واحدا وجب أن يكون هو المعبود وحده لا إله إلا هو، والتوحيد بقسميه، توحيد الربوبية بالإيمان وتوحيد الألوهية بالإيمان والعمل - أي عبادة الله وحده - هما أصل الدين وأساسه، والركن الأول لعقائده، وقد اقترن برسالة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهي الركن الثاني، وأما وصفه تعالى بالإحياء والإماتة، وهو بعض تصرف الرب في خلقه فيتضمن عقيدة البعث بعد الموت التي هي الركن الثالث من أركان الإيمان، فقد أدمجت في دعوى الرسالة أركان الدين الثلاثة - وهو من إيجاز القرآن الغريب - وبنى على ذلك الدعوة إلى الإيمان على طريقة التفريع على هذا الأصل بل الأصول، وذلك قوله عز من قائل: { فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي } أي: فآمنوا يا أيها الناس من جميع الأمم بالله الواحد في ربوبيته وألوهيته الذي يحيي كل ما تحله الحياة في العالم، ويميت كل ما يعرض له الموت بعد الحياة، وهذا أمر يتجدد كل يوم فتشاهدونه، ومثله البعث العام بعد الموت العام وخراب هذا العالم، وآمنوا برسوله الإيمان المطلق الممتاز بأنه النبي الأمي الذي بعثه في الأميين (العرب) رسولا إلى الخلق أجمعين يعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم ويطهرهم من خرافات الشرك والرذائل والجهل والتفرق والتعادي بعصبيات الأجناس واللغات والأوطان؛ ليكونوا بهدايته أمة واحدة يتحقق بها الإخاء البشري العام، وقد بشر به الأنبياء الكرام عليهم السلام؛ لأنه المتم المكمل لما بعثوا به من هداية الأقوام، وأميته ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أعظم معجزاته، وأية على صحة دعوى الرسالة أقوى وأظهر من تعليم الأمي الذي لم يتعلم شيئا لجميع الأمم ما فيه صلاحهم وفلاحهم من العلوم والحكم؟!.
{ الذي يؤمن بالله وكلماته } أي: يؤمن بما يدعوكم إلى الإيمان به من توحيد الله تعالى وكلماته التشريعية التي أنزلها لهداية خلقه، وهي مظهر علمه وحكمته ورحمته، وكلماته التكوينية التي هي مظهر إرادته وقدرته وحكمته.
وبعد أمرهم بالإيمان أمرهم بالإسلام فقال: { واتبعوه لعلكم تهتدون } أي: واتبعوه بالإذعان الفعلي لكل ما جاءكم به من أمر الدين فعلا وتركا، رجاء اهتدائكم بالإيمان وباتباعه لما فيه سعادتكم في الدنيا والآخرة، فثمرة الإيمان والإسلام اهتداء صاحبهما ووصوله بالفعل لسعادة الدارين كما فصلناه في غير هذا الموضع، ودليله الفعلي في الدنيا أنه ما آمن قوم بنبي إلا وكانوا بعد الإيمان به خيرا مما كانوا قبله من هناء المعيشة والعزة والكرامة في دنياهم.
وأظهر التواريخ وأقربها عهدا تاريخ الأمة المحمدية، ومن العجائب أن يصل بهم الجهل بعد ذلك إلى ترك هذه الهداية التي نالوا بها الملك العظيم والعز والسؤدد والغنى والحضارة، وأعجب منه أن يزول المعلول بزوال علته وهم لا يشعرون به فيعودوا إليه وأعجب من هذين أن يصل بهم الجهل إلى أن يعتقد كثير منهم في هذا العصر أن هداية الإسلام التي سعدوا بها ثم شقوا بتركها هي سبب هذا الشقاء الأخير لا تركها.
فصل في معنى اتباع الرسول وموضوعه ولوازمه
قوله تعالى هنا: { واتبعوه } أعم من قوله في الآية التي قبلها:
{ واتبعوا النور الذي أنزل معه } [الأعراف: 157] فتلك في اتباع القرآن خاصة، وهذه تشمل اتباعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما شرعه من الأحكام من تلقاء نفسه على القول بأن الله تعالى أعطاه ذلك، وأذن له به، واتباعه في اجتهاده واستنباطه من القرآن إذا كان تشريعا - كتحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها كالجمع بين الأختين المنصوص في القرآن - ولا يدخل فيه اتباعه فيما كان من أمور العادات كحديث: "كلوا الزيت وادهنوا به فإنه طيب مبارك" رواه أحمد وابن ماجه عن أبي هريرة والحاكم وصححه ورواه غيرهما بألفاظ أخرى وأسانيده ضعيفة، وحديث كلوا البلح بالتمر إلخ رواه النسائي وابن ماجه والحاكم عن عائشة وصححوه؛ فإن هذا من أمور العادات التي لا قربة فيها ولا حقوق تقتضي التشريع بخلاف حديث: كلوا لحوم الأضاحي وادخروا رواه أحمد والحاكم عن أبي سعيد وقتادة بن النعمان وسنده صحيح، فإن الأضاحي من النسك والأكل منها سنة فأمر المضحي به للندب، وادخارها جائز له، لولا الأمر به لظن تحريمه أو كراهته لعلاقة الأضاحي بالعيد فهي ضيافة الله تعالى للمؤمنين في أيام العيد، فالتشريع إما عبادة أمرنا بالتقرب إلى الله تعالى بها وجوبا أو ندبا، وإما مفسدة نهينا عنها اتقاء لضررها في الدين كدعاء غير الله فيما ليس من الأسباب التي يتعاون عليها الناس، وكأكل المذبوح لغير الله وتعظيم غير الله بما شرع تعظيم الله به من الذبح له والحلف باسمه - أو لضررها في العقل أو الجسم أو المال أو العرض أو المصلحة العامة - وإما حقوق مادية أو معنوية أمرنا بأدائها إلى أهلها كالمواريث والنفقات ومعاشرة الأزواج بالمعروف، أو أمرنا بالتزامها لضبط المعاملات كالوفاء بالعقود، وبإدخال حكم الاستحباب وحكم كراهة التنزيه في التشريع تتسع أحكامه في أمور العادات كما يعلم مما يأتي:
ليس من التشريع الذي يجب فيه امتثال الأمر واجتناب النهي ما لا يتعلق به حق الله تعالى، ولا لخلقه لا جلب مصلحة ولا دفع مفسدة كالعادات والصناعات والزراعة والعلوم والفنون المبنية على التجارب والبحث، وما يرد فيها من أمر ونهي يسميه العلماء إرشادا لا تشريعا إلا ما ترتب على النهي عنه وعيد كلبس الحرير وقد ظن بعض الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أن إنكار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لبعض الأمور الدنيوية المبنية على التجارب للتشريع كتلقيح النخل فامتنعوا عنه فأشاص (خرج ثمره شيصا أي رديئا أو يابسا) فراجعوه في ذلك فأخبرهم أنه قال ما قال عن ظن ورأي لا عن التشريع، وقال لهم: " أنتم أعلم بأمر دنياكم " والحديث معروف في صحيح مسلم وحكمته تنبيه الناس إلى أن مثل هذه الأمور الدنيوية والمعاشية كالزراعة والصناعة لا يتعلق بها لذاتها تشريع خاص بل هي متروكة إلى معارف الناس وتجاربهم.
وكانوا يراجعونه أيضا فيما يشتبه عليهم أهو من رأيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ واجتهاده الدنيوي أو بأمر من الله تعالى؟، وإن لم يكن تشريعا كسؤاله عن الموضع الذي اختاره للنزول فيه يوم بدر، قال له الحباب بن المنذر ـ رضي الله عنه ـ أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا متقدم عنه ولا متأخر؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فلما أجابه بأنه رأي لا وحي، وأن المعول فيه على المصلحة ومكايد الحرب أشار بغيره فوافقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
وإذا اشتبه على بعض الصحابة بعض هذه المسائل فغيرهم أولى بأن يعرض لهم الاشتباه في كثير منها، وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبين لأولئك الحق فيما اشتبهوا فيه، ومن ذا يبين ذلك من بعده؟ ولو لم يتخذ الناس اجتهاد العلماء من بعده دينا يوجبون اتباعه لهان الأمر، ولكن اتخاذه دينا قد كثرت به التكاليف، ووقع المسلمون به في حرج عظيم في الأزمنة التي ضعف فيها الاتباع، فثقلت على الطباع فصاروا يتركون ما ثقل عليهم منها، وجرأهم ذلك على ترك المشروع القطعي الذي لا حرج ولا عسر فيه، ثم جرهم ذلك إلى ترك بعضهم للدين كله، ودعوة غيرهم إلى ذلك، والجامدون من مقلدة الفقه المتشددين في إلزام الأمة التدين باجتهاد الفقهاء لا يشعرون بهذه العاقبة السوء ولا يبالون إذا أشعرهم المصلحون. مثال ما شدد به بعضهم من ذلك صبغ الشيب بالسواد، وهو من الأمور العادية المتعلقة بالزينة المباحة إذ لا تعبد فيه ولا حقوق لله ولا للناس، إلا ما قد يعرض فيه وفي مثله كالزي من كون فعله أو تركه صار خاصا بالكفار، وفعله بعض المسلمين تشبها بهم أو صار بفعله له مشابها لهم بحيث يعد منهم، وفي ذلك ضرر معنوي وسياسي معروف عند الباحثين في سنن الاجتماع من كون المتشبه بقوم تقوى عظمتهم في نفسه من حيث تضعف فيها رابطته بقومه وأهل ملته، وقد ورد في صبغ الشيب أخبار وآثار يدل بعضها على استحبابه عادة لا عبادة ولو بالسواد، وفهم بعض.
العلماء منهما استحبابه شرعا، وفهم آخرون من بعض آخر كراهته بالسواد بل قال المتشددون منهم بتحريمه، فصار المقلدون لهم ينكرون على فاعله، ويعدونه عاصيا لله تعالى، فخالفوا هدي السلف في المسألة وفي القاعدة العامة وهي عدم الإنكار في المسائل الاجتهادية التي وقع فيها الخلاف.
فمن الأخبار في المسألة ما ورد في الصحيح
" أن أبا قحافة والد أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ جاء أو أتي به يوم فتح مكة ورأسه ولحيته كالثغامة بياضا فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد " فاستدل الشافعية بهذا الحديث على تحريم الصبغ بالسواد، مع أن الحديث في واقعة عين تتعلق بأمر عادي فلا هي من مسائل الحرام والحلال، ولا من المسائل التي يعتبر فيها العموم كما هو مقرر في الأصول، وهي مع ذلك معارضة بإطلاق الأمر بصبغ الشيب الموجه للأمة وهو قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم" رواه الشيخان وأصحاب السنن الأربعة - وبقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " "إن أحسن ما غيرتم به هذا الشيب الحناء والكتم" " وظاهره تغييره بهما معا، وإلا لقال " أو الكتم "، ويؤيده ما صح عن أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ أنه كان يخضب بالحناء والكتم معا، إنه أسود يضرب إلى الحمرة أي ليس حالكا، والجمع بين القولين أنه يكون شديد السواد إذا كان قويا مشبعا، ويضرب إلى الحمرة إذا كان خفيفا، وهو أسود على كل حال.
وذكر بعض العلماء أن سبب أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ باجتناب السواد في تغيير شيب أبي قحافة أنه لم يستحسنه لشيخ بلغ من الكبر عتيا، وكان شعر رأسه ولحيته كالثغامة في شدة بياضه كله، ومن رجع إلى ذوق البشر العام أدرك أن السواد لا يليق بمثله، ويؤيده ما ذكره الحافظ في الفتح عن ابن شهاب الزهري أنه قال: كنا نخضب بالسواد إذ كان الوجه جديدا فلما نفض الوجه والأسنان تركناه اهـ. ولمثل هذه الخصوصيات قال الأصوليون: إن وقائع الأعيان لا عموم لها.
وذكر الحافظ في الفتح أيضا: أن الذين أجازوا الصبغ بالسواد تمسكوا بالأمر المطلق بتغييره مخالفة للأعاجم.
(وقال) وقد رخص فيه طائفة من السلف منهم سعد بن أبي وقاص، وعقبة بن عامر والحسن والحسين وجرير وغير واحد (أي من الصحابة)-.
أقول: وقد نقل النووي في شرح الحديثين من صحيح مسلم عن القاضي عياض بعد جزمه هو بأن الأصح المختار عند الشافعية تحريم السواد ما نصه:
" وقال القاضي اختلف السلف من الصحابة والتابعين في الخضاب وفي جنسه فقال بعضهم: ترك الخضاب أفضل. ورووا حديثا عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في النهي عن تغيير الشيب، ولأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يغير شيبه، روي هذا عن عمر وعلي وأبي وآخرين ـ رضي الله عنهم ـ، وقال آخرون: الخضاب أفضل، وخضب جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم للأحاديث التي ذكرها مسلم وغيره، ثم اختلف هؤلاء فكان أكثرهم يخضب بالصفرة منهم ابن عمر وأبو هريرة وآخرون، وروي ذلك عن علي، وخضب جماعة منهم بالحناء والكتم، وبعضهم بالزعفران، وخضب جماعة بالسواد. روي ذلك عن عثمان والحسن والحسين ابني علي، وعقبة بن عامر وابن سيرين وأبي بردة وآخرين.
(قال القاضي) قال الطبراني الصواب أن الآثار المروية عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بتغيير الشيب وبالنهي عنه كلها صحيحة، وليس فيها تناقض، بل الأمر بالتغيير لمن شيبه كشيب أبي قحافة، والنهي لمن له شمط فقط.
(قال): واختلاف السلف في فعل الأمرين بحسب اختلاف أحوالهم في ذلك مع أن الأمر والنهي في ذلك ليس للوجوب بالإجماع؛ ولهذا لم ينكر بعضها على بعض خلافه في ذلك. (قال): ولا يجوز أن يقال فيهما ناسخ ومنسوخ.
(قال القاضي) وقال غيره هو على حالين فمن كان في موضع عادة أهله الصبغ أو تركه فخروجه عن العادة شهرة ومكروه، والثاني أنه يختلف باختلاف نظافة الشيب فمن كانت شيبته تكون نقية أحسن منها مصبوغة فالترك أولى، ومن كانت شيبته تستبشع فالصبغ أولى.
(قال النووي): هذا ما نقله القاضي، والأصح الأوفق للسنة ما قدمناه عن مذهبنا والله أعلم اهـ.
أقول: إن هذا الإصرار من النوويرحمه الله تعالى على تصحيح مذهب أصحابه، وجعله أوفق للسنة من غريب تعصبه لهم بعد العلم بعمل بعض عظماء الصحابة والتابعين بخلافه، وسائر ما نقله عن القاضي وغيره في المسألة، ومنه قول الإمام الطبري من أن الأمر في هذه المسألة - وكذا أمثالها - ليس للوجوب، والنهي ليس للتحريم؛ لأنها من أمور العادات والزينة والتجمل بين الناس.
وما نقله عنه وعن غيره من كونها تختلف باختلاف السن، وباختلاف العادة والأحوال بين الناس، ويعبر فيها الذوق في الزينة هو الصواب كما قال الطبري. وأي مدخل للتحريم في مثل هذا ولا محرم في الشريعة السمحة إلا ما كان ضارا؟.
وقد سبق لنا تفصيل لهذه المسألة وأمثالها كسنن الفطرة في فتاوى المنار، ومنه أن حديث ابن عباس عند أبي داود " يكون قوم في آخر الزمان يخضبون بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة " ضعيف متنا وسندا بل قال ابن الجوزي: إنه موضوع ويؤيده أن من آيات الوضع في متنه الوعيد بالحرمان من رائحة الجنة على أمر من العادات، ولا يحرم من الجنة إلا الكافر بالمعنى الأخص دع مخالفته لحديث الصحيحين، وفي سنده عبد الكريم غير منسوب والظاهر أنه ابن أبي المخارق وهو ضعيف، فإن قيل يحتمل أنه الجزري الذي روى عنه الشيخان قلنا: التصحيح لا يثبت بالاحتمال، ولا سيما في أمر مخالف لأصول الشرع كهذا الوعيد، وإن ابن حبان منع من الاحتجاج بما ينفرد به عبد الكريم الجزري كهذا الحديث.
وما نقله القاضي عن الذين اختاروا عدم تغيير الشيب من أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يغير شيبته غير صحيح، بل ثبت في الصحيح أنه خضب رواه البخاري وغيره عن ابن عمر وأم سلمة، وله باب في شمائل الترمذي فيراجع مع شروحه.
وفي الأصول أن أفعاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا تدل من حيث هي على وجوب ولا ندب شرعي، وإنما تدل على الإباحة؛ لأنه لا يفعل الحرام، وعدم فعله لعادة من عادات الناس أولى بألا يدل على حرمتها ولا كراهتها دينا.
وقد صح أنه نبه الأمة إلى أن بعض أعماله في بعض العبادات لم يقصد بها التشريع كموقفه في عرفات والمزدلفة لئلا يلتزموها تدينا فيكونوا قد شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، على أن زمن توخي اتباعه عليه صلوات الله وسلامه، في العادات، حبا فيه وتذكرا لحياته الشريفة، بدون أن يعتقد أن ذلك من الدين أو يوهم الناس ذلك أو يتحمل ضررا لا يباح التعرض له شرعا.
ومن غير أن يكون سبب شهرة مذمومة شرعا - فجدير بأن يكون اتباعه هذا مزيد كمال في إيمانه من حيث إنه بتحري ذلك يزيد تذكره للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحبه له، وقد انفرد من الصحابة ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ بتتبع أعماله وعاداته وتقلبه في سفره ولا سيما سفر حجة الوداع وتحري اتباعه في ذلك كله، ولم يكن الصحابة يفعلون ذلك، لئلا يعده الناس تشريعا فيكون جناية على الدين، فالزيادة فيه كالنقص منه، وهي تتضمن تكذيب قوله تعالى:
{ { أكملت لكم دينكم } [المائدة: 3].
وجوب تبليغ دعوة الإسلام ورسالة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لجميع البشر:
ومما يدخل في أحكام رسالته ـ صلى الله عليه وسلم ـ للناس كافة أن الله تعالى لا يقبل إيمان أحد بلغته دعوته على وجهها الصحيح إلا بالإيمان به واتباعه، وأنه يجب على أمته - أي أمة الإجابة - وهم الذين اهتدوا بما جاء به من الإيمان والإسلام، أن يبلغوا دعوته لجميع الناس من جميع الأمم، على الوجه الذي يحرك إلى النظر، ويجب أن يكون القائمون بذلك منهم جماعات تتعاون عليه إذ لا يغني الأفراد غناء الجماعات سواء أكانت الدعوة إلى أصل الإيمان الإجمالي - الذي هو بدء الدعوة - أم إلى الشرائع التفصيلية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويشمل ذلك كله قوله تعالى:
{ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } [آل عمران: 104] وقد ذكرنا في تفسيرها ما بسطه شيخنا الأستاذ الإمام من كون الراجح المختار أن قوله تعالى: ولتكن منكم أمة تجريد كقول القائل: ليكن لي منك صديق - أي لتكن صديقا لي، وأنه يجب على جميع المسلمين أن يكونوا دعاة إلى الخير الأعظم الذي هداهم الله إليه، ويأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، كل على قدر حاله واستطاعته كما كان المسلمون في الصدر الأول، وأنه مع ذلك يجب أن يتألف للدعوة جماعات تعد لها عدتها، وأن هذا متعين على الوجه الآخر في الآية وهو جعل " منكم " للتبعيض إلخ. [راجع ص22 - 438 ط الهيئة).
وتبليغ الدعوة إلى الإسلام على الوجه الذي تقوم به الحجة يختلف باختلاف الزمان والمكان والأفراد والأقوام، فقد كان مشركو العرب في عصر البعثة يؤمنون بأن الله تعالى هو رب العالمين، وخالق الخلق ومدبر أموره، وإنما كانوا يشركون بعبادته غيره من الملائكة والجن والأصنام، زاعمين أنهم يقربونهم إليه زلفى، ويشفعون لهم عنده، فيقضي لهم حاجتهم من جلب خير ودفع ضر بوساطتهم، وكانوا ينكرون البعث والحياة بعد هذه الحياة الدنيا وينكرون الرسالة والوحي من الله لبعض البشر، فكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدعوهم أولا إلى التوحيد الذي هو عنوان الإسلام، وباب الدخول فيه؛ لأنه الركن الأعظم، ثم إنه كان يقيم لهم الحجج والبراهين على توحيد الألوهية، وهو إفراد الله وحده بالعبادة، وعلى حقية الرسالة والبعث والجزاء مع دفع ما عندهم من الشبهات على ذلك كما تراه مفصلا في سورة الأنعام التي هي أجمع سورة في القرآن لذلك، وكذا في غيرها من السور المكية، ويلي ذلك دعوتهم إلى أصول الشريعة وقواعدها الكلية في الآداب والفضائل والحلال والحرام، ثم إلى الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد.
وأما أهل الكتاب من اليهود والنصارى فكانوا يؤمنون بالله وبالوحي والرسل والبعث والجزاء، ولكن دخلت على أكثرهم الوثنية القديمة بجميع أصولها وفروعها ولاسيما النصارى الذين أقاموا عقيدتهم على أساس التثليث المعروف عن قدماء المصريين والهنود وغيرهم من الوثنيين، وكان اليهود يزعمون أن النبوة والرسالة محصورة في بني إسرائيل لا يمكن أن يبعث الله رسولا من غيرهم، وكانت التوراة قد فقدت في غزوة البابليين لهم، ثم كتب بعضهم لهم توراة بعد عدة قرون هي عبارة عن تاريخ ديني مشتمل على قصص الأنبياء إلى عهد موسى وهارون، وعلى ما تذكر الكاتب من شريعة التوراة مع تحريف وأغلاط كثيرة، وكان الإنجيل الذي جاء به عيسى عليه السلام من وعظ وتعليم وبشارة قد ادعاه كثيرون فظهر في العصر الأول بعده زهاء سبعين إنجيلا اختار الجمهور الذي جمع شمله الملك قسطنطين - الوثني الذي تنصر سياسة - أربعة منها فيها كثير من الخلاف والتعارض، وذلك بعد المسيح بثلاثة قرون، وفشا فيهم منذ عهد هذا الملك الوثني المتنصر عبادة السيدة مريم عليها السلام وغيرها من الصالحين حتى صارت الكنائس النصرانية كهياكل الأوثان مملوءة بالصور والتماثيل المعبودة - فكانت دعوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إياهم إلى الإسلام وحججه عليهم التي أنزلها الله عليه في القرآن تختلف من بعض الوجوه عن دعوة المشركين الأصليين، كما تراه مبسوطا في السور الطوال الأربع الأولى: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة - ففي الجزء الأول من البقرة من القرآن: يوجه أكثر الكلام إلى اليهود، وذكرت فيه النصارى بالعرض - وأوائل سورة آل عمران نزلت في حجاج نصارى نجران، وفي أواخر النساء كلام في أهل الكتاب أكثره في النصارى. وجل سورة المائدة في أهل الكتاب عامة والنصارى خاصة.
وأما هذا العصر فقد كثرت فيه الملاحدة والمعطلة، وتجددت للكفار على اختلاف فرقهم شبهات جديدة يتوكئون فيها على مسائل من العلوم العصرية لم تكن معروفة عند الأقدمين، وحدثت للناس آراء ومذاهب في الحياة فيها الحسن والقبيح، والنافع والضار، بل منها ما قد يفضي إلى فساد العالم، وتقويض دعائم العمران، ومثار ذلك كله ذيوع التعاليم المادية، وفوضى الآداب، وتدهور الأخلاق، وتغلب الرذائل على الفضائل، وقد ظهر هذا الفساد في أفظع صورة في حرب المدنية الكبرى وما ولدته من تفاقم شره المستعمرين وشرهم وفظائعهم في الشرق، وانتشار البلشفية ومفاسدهم في البلاد الروسية وغيرها، وبث دعوتها في العالم - فصار من الواجب مراعاة ذلك في الدعوة إلى الدين والاحتجاج له، ورد الشبه التي توجه إليه.
وقد ذكرت في تفسير آية سورة آل عمران المشار إليها آنفا [آل عمران: 104] حاجة الداعي إلى الإسلام في هذا الزمان إلى أحد عشر علما منها السياسة ولغات الأقوام الذين توجه إليهم الدعوة، وأشرت هنالك إلى مقالة كنت كتبتها قبل ذلك في المنار في الدعوة وطريقها وآدابها.
اللغة العربية لغة الإسلام
ومما يدخل في بحث اتباعه صلوات الله وسلامه عليه تعلم لغته التي هي لغة الكتاب الإلهي الذي أوحاه الله تعالى إليه، وأمر جميع من اتبعه ودان بدينه أن يتعبده به، وأن يتلوه في الصلاة وغير الصلاة مع التدبر والتأمل في معانيه، وذلك يتوقف على إتقان لغته وهي العربية، فالمسلمون يبلغون الدعوة لكل قوم بلغتهم، حتى إذا ما هدى الله من شاء منهم، ودخل في الإسلام علموه أحكامه ولغته، وكذلك كان يفعل الخلفاء الفاتحون في خير القرون وما بعدها، إلى أن تغلبت الأعاجم على العرب، وسلبوهم الملك فوقفت الدعوة إلى الإسلام، وضعف العلم بالعربية إلى أن قضى عليها الترك وحرمتها حكومتهم عليهم في هذا الزمان، لتقطع كل صلة لهم بدين القرآن، وقد فصلنا هذه المباحث في مجلة المنار تفصيلا.
ومما نشرناه في هذا الموضوع مقال في لغة الإسلام نشرناه أولا في بعض الجرائد اليومية، وفيه تصريح للإمام الشافعي ـ رضي الله عنه ـ بوجوب تعلم اللغة العربية على جميع المسلمين في رسالته في أصول الفقه، ذلك بأنه يبين أن القرآن كله نزل بلسان العرب ليس فيه شيء إلا بلسانهم ثم قال ما نصه: " فإن قال قائل: ما الحجة في أن كتاب الله محض بلسان العرب لا يخلطه فيه غيره؟
فالحجة فيه كتاب الله، قال تبارك وتعالى:
{ وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم } [إبراهيم: 4].
" فإن قال قائل: فإن الرسل قبل محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانوا يرسلون إلى قومهم خاصة، وأن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعث إلى الناس كافة؟ (قيل): فقد يحتمل أن يكون بعث بلسان قومه خاصة، ويكون على الناس كافة أن يتعلموا لسانه، أو ما يطيقونه منه. ويحتمل أن يكون بعث بألسنتهم؟ فإن قال قائل: فهل من دليل على أنه بعث بلسان قومه خاصة دون ألسنة العجم؟؟.
قال الشافعيرحمه الله تعالى: فالدلالة على ذلك بينة من كتاب الله عز وجل في غير موضع، فإذا كانت الألسنة مختلفة بما لا يفهمه بعضهم عن بعض فلا بد أن يكون بعضهم تبعا لبعض، أن يكون الفضل في اللسان المتبع على التابع، وأولى الناس بالفضل في اللسان من لسانه لسان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا يجوز - والله تعالى أعلم - أن يكون أهل لسانه أتباعا لأهل لسان غير لسانه في حرف واحد، بل كل لسان تبع للسانه وكل أهل دين قبله فعليهم اتباع دينه، وقد بين الله تعالى ذلك في غير آية من كتابه. قال الله عز ذكره:
{ { وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين } [الشعراء: 192 - 195] وقال: { { وكذلك أنزلنا حكما عربيا } [الرعد: 37] وقال: { { وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها } [الشورى: 7] وقال تعالى: { { حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون } [الزخرف: 1 - 3].
قال الشافعيرحمه الله تعالى: فأقام حجته بأن كتابه عربي في كل آية ذكرناها، ثم أكد ذلك بأن نفى جل وعز عنه كل لسان غير لسان العرب في آيتين من كتابه فقال تبارك وتعالى ولقد نعلم أنهم يقولون:
{ { إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين } [النحل: 103] وقال: { ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي } [فصلت: 44].
قال الشافعيرحمه الله تعالى: وعرفنا قدر نعمه بما خصنا به من مكانة فقال تعالى:
{ { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه... } [التوبة: 128] الآية، وقال: { { هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم } [الجمعة: 2] الآية وكان مما عرف الله تعالى نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من إنعامه أن قال: { { وإنه لذكر لك ولقومك } [الزخرف: 44] فخص قومه بالذكر معه بكتابه وقال: { { وأنذر عشيرتك الأقربين } [الشعراء: 214] وقال: { { لتنذر أم القرى ومن حولها } [الشورى: 7] وأم القرى مكة وهي بلده وبلد قومه، فجعلهم في كتابه خاصة، وأدخلهم مع المنذرين عامة، وقضى أن ينذروا بلسانهم العربي لسان قومه منهم خاصة.
" فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده حتى يشهد به أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، ويتلو به كتاب الله تعالى، وينطق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير، وأمر به من التسبيح والتشهد وغير ذلك، وما ازداد من العلم باللسان الذي جعله الله لسان من ختم به نبوته، وأنزل به آخر كتبه، كان خيرا له، كما عليه أن يتعلم الصلاة والذكر فيها، ويأتي البيت وما أمر بإتيانه ويتوجه لما وجه له، ويكون تبعا فيما افترض عليه وندب إليه لا متبوعا.
" قال الشافعيرحمه الله : وإنما بدأت بما وصفت من أن القرآن نزل بلسان العرب دون غيرهم؛ لأنه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب وكثرة وجوهه، وجماع معانيه وتفرقها. ومن علمها انتفت عنه الشبه التي دخلت على من جهل لسانها، فكان تنبيه العامة على أن القرآن نزل بلسان العرب خاصة نصيحة للمسلمين، والنصيحة لهم فرض لا ينبغي تركه، أو إدراك نافلة خير لا يدعها إلا من سفه نفسه، وترك موضع حظه، فكان يجمع مع النصيحة لهم قياما بإيضاح حق، وكان القيام بالحق ونصيحة المسلمين طاعة لله، وطاعة الله جامعة للخير " اهـ. ثم ذيلنا هذا النقل بما نذكر هنا ملخصه ببعض تصرف، وهو ما قاله الإمام الشافعي في رسالة الأصول الشهيرة المطبوعة بمصر بنصها، ولا تحسبن أن هذا مذهب له خالفه فيه غيره من أئمة المسلمين، كلا إنه إجماع لا اختلاف فيه، وقد اشتهرت رسالته هذه في جميع أقطار الإسلام إذ كانت هي أول ما كتب في أصول الفقه، وقد خالفه بعض المجتهدين في بعض مسائل الأصول دون هذه المسألة فلم يخالفه ولم يناقشه أحد فيها، ولا فيما أورده من الأدلة عليها، وأوضح الأدلة على هذا إجماع المسلمين سلفا وخلفا على التعبد بتلاوة القرآن العربي وأذكار الصلاة والحج وغيرهما بالعربية، ولم يشذ عن هذا سني ولا شيعي ولا إباضي ولا خارجي ولا معتزلي.
نعم إن المسلمين قد قصروا في دراسة هذه اللغة بعد ضعف الخلافة الإسلامية وتغلب الأعاجم، فعطلوا بذلك بعض ما أمرهم الله تعالى به من تدبر القرآن والعبرة والاتعاظ بآياته وفهم عقائده وفقه أحكامه، ولكن روي قول شاذ عن الإمام أبي حنيفةرحمه الله تعالى بجواز أداء بعض أذكار الصلاة والتلاوة فيها بغير العربية لمن تعذر عليه تعلم ما يجب منهما أي من الأفراد لضعف في نطقه وفهمه، وقد صح عنه أيضا أنه رجع عن هذا القول، على أنه مقيد بالضرورة الشخصية، ولم يقل هو ولا غيره بإطلاق ذلك، وأنه يسع أي شعب أعجمي أن يستغني في دينه عن لغة كتابه وسنته.
والدليل على هذا أن جميع مقلديه من الأعاجم لا يزالون يقرؤون القرآن وأذكار الصلاة والحج وغيرها بالعربية، وكذلك خطبة صلاة الجمعة والعيدين إلا ما شذت به الحكومة الكمالية التركية فأمرت الخطباء بأن يخطبوا بالتركية تمهيدا للصلاة بها لخلع ربقة الإسلام.
وقد بلغنا أن جماعة المصلين من الترك لما سمعوا خطبة الجمعة بالتركية نكروها، ونفروا منها واتخذوا خطباءها سخريا؛ لأن للعربية سلطانا على أرواحهم يخشعون لها، وإن لم يفهموا كل عباراتها؛ ولأنهم اعتادوا أن يسمعوها بنغم خاص وأداء خاص لا تقبله اللغة التركية كالعربية.
وليست عبادات الإسلام وحدها هي التي تتوقف على العربية، بل معرفة أحكام المعاملات تتوقف عليها أيضا فإن أحكام الشريعة بجميع أنواعها حتى المدنية والسياسية متوقفة على الاجتهاد المعبر عنه في عرف هذا العصر بالتشريع، وقد أجمع علماء الأصول من جميع المذاهب الإسلامية على توقف الاجتهاد في الشرع، واستنباط الأحكام على معرفة اللغة العربية معرفة تمكن صاحبها من فهم أحكام القرآن والسنة، وقد وضحنا هذه المسألة، وبينا وجه الحاجة إليها في هذا العصر في كتاب (الخلافة - أو الإمامة العظمى) فتراجع فيه.
وجملة القول: أن إقامة دين الإسلام متوقفة على لغة كتابة المنزل، وسنة نبيه المرسل سواء في ذلك هدايته الروحية، ورابطته الاجتماعية، وحكومته العادلة المدنية، وأن المسلمين لم يكونوا في عصر من العصور أحوج إلى الوحدة المفروضة عليهم المتوقفة على هذه اللغة منهم في هذا العصر الذي تمزقوا فيه كل ممزق فأصبحوا أكلة لمنهومي الاستعمار ومستعبدي الأمم والشعوب وصدق فيهم قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
"يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها" الحديث.
بحث ترجمة القرآن:
سيقول بعض الجاهلين لحقيقة الإسلام وكونه دينا روحانيا مدنيا سياسيا، وبعض أولي العصبية الجنسية الجاهلية: إن مقتضى ما ذكرت أنه لا يمكن إقامة دين الإسلام كما يجب إلا باللغة العربية، فلماذا لا يجوز على شعوب المسلمين ما جاز على شعوب النصارى مثلا من ترجمة كتبهم المقدسة بلغاتهم المختلفة مع بقائهم على دين النصرانية وملة المسيح عليه السلام؟. ونقول:
(أولا) إن المسألة عندنا مسألة نقل واتباع لا مسألة رأي، وقد علمت أن أئمتنا مجمعون على ما ذكرنا.
(وثانيا) إننا نحن المسلمين لا نعتقد أن النصارى على ملة المسيح عليه السلام، ولا يصح أن نزيد على ذكر اعتقادنا هذا في صحيفة عمومية.
وثالثا (إن ترجمة القرآن المعجز للبشر ترجمة تؤدي معانيه تأدية تامة كما أنزلها الله تعالى ويبقى بها معجزا وآية - متعذرة، وقد بينا هذا بالإيضاح في مجلتنا (المنار) ولا محل له هنا.
(ورابعا) إذا فرضنا أن ترجمة الكتاب لا تخل بفهم أصول الدين وفروعه وتشريعه أفلا تخل بما هو موضوع هذا المقال من وجوب وحدتهم وتعارفهم وتعاونهم - وتوقف ذلك على لغة واحدة ضروري فإذا لم تكن لغة جميع أفراد شعوبهم فلتكن مما يتقنه طوائف رجال الدين ودعاة الوحدة والاتفاق منهم؟ بلى بلى اهـ.
(تفصيل القول في ترجمة القرآن)
كتبنا في فاتحة المجلد (26) من المنار مقالا في مسألة ترجمة القرآن نذكر هنا منه ما يلي:
بسم الله الرحمن الرحيم
{ { الر تلك آيات الكتاب المبين إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون } [يوسف: 1 - 2].
{ { وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا } [طه: 113].
{ { ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين } [الأحقاف: 12].
{ { ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون } [الزمر: 27 - 28].
{ { حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون } [فصلت: 1 - 3].
{ { حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم } [الزخرف: 1 - 4].
{ { وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير } [الشورى: 7].
{ { وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين وإنه لفي زبر الأولين أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين } [الشعراء: 192 - 199].
{ { قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين } [النحل: 102 - 103].
{ { ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد } [فصلت: 44].
{ { وكذلك أنزلناه حكما عربيا، ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق } [الرعد: 37].
أما بعد، فهذه آيات محكمات هن أم الكتاب في هذا الباب، تجاوزن جمع القلة إلى جمع الكثرة، وعدون إشارات الإيجاز وحدود المساواة إلى باحة الإطناب، ينطقن بنصوص صريحة لا تحتمل التأويل، ولا تقبل التبديل ولا التحويل، بأن الله تبارك وتعالى هو الذي أنزل هذا الكتاب الذي جعله آخر كتبه، على خاتم أنبيائه ورسله قرآنا عربيا، وأنه هو الذي جعله قرآنا عربيا، وأنه هو الذي أوحاه قرآنا عربيا، وأنه هو الذي فصل آياته قرآنا عربيا، وأن الروح الأمين نزل به على قلب خاتم النبيين بلسان عربي مبين، وأنه ضرب فيه للناس من كل مثل، والمراد بالناس أمة الدعوة من جميع الملل والنحل، حال كونه قرآنا عربيا غير ذي عوج، وأنه أمر خاتم رسله أن ينذر به (أم القرى) ومن حولها من جميع الورى، وأنه على إنزاله إياه قرآنا عربيا للإنذار والذكرى، والوعيد والبشرى، لعلهم يعقلون ولعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا، أنزله حكما عربيا، وأمر من أنزله عليه أن يحكم بين جميع الناس بما أراه الله فيه من الحق والعدل، الذي جعله فيه حقا مشاعا لا هوادة فيه ولا محاباة لقرابة ولا فضل، فقال:
{ { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ليحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما اقرأ الآيات } [النساء: 105 - 114] بطولها، وراجع سبب نزولها فعلم من هذه الآيات المحكمة أن القرآن هداية دينية عربية، وأنه حكومة دينية مدنية عربية، عربية اللسان، عامة لجميع شعوب نوع الإنسان. وصلوات الله وتحياته المباركة الطيبة على محمد النبي العربي الأمين، الذي جعله سيد ولد آدم وفضله على جميع النبيين والمرسلين، بإكمال دينه بلسانه، وعلى لسانه وإرساله لجميع العالمين، وجعل هداية رسالته باقية إلى يوم الدين، بقوله عمت رحمته: { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } [الأنبياء: 107] وقوله تبارك اسمه: { { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا } [الفرقان: 1] وقوله تعالى جده: { وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون } [سبأ: 28] وقوله جل جلاله: { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما } [الأحزاب: 40] وقوله عم نواله فيما أنزله عليه في حجة الوداع يوم الحج الأكبر: { { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } [المائدة: 3].
وقد بلغ صلوات الله وسلامه عليه دعوة ربه كما أمر، فبدأ بأم القرى ثم بما حولها من جزيرة العرب وشعوب العجم، باللسان العربي الذي قضى الله أن يوحد به ألسنة جميع الأمم، فيجعلهم أمة واحدة بالعقائد والعبادات والآداب والشرع واللغة؛ ليكونوا بنعمته إخوانا لا مثار بينهم للعداوات التي تفرق بين الناس بعصبيات الأنساب والأقوام والأوطان والألسنة.
فكتب ـ صلى الله عليه وسلم ـ كتبه إلى قيصر الروم وكسرى الفرس ومقوقس مصر بلغة الإسلام العربية ككتبه إلى ملوك العرب وأمرائهم، وبلغ أصحابه ما أمر الله به أمته من تعميم الدعوة، وبشرهم بأن نورها سينتشر ما بين المشرق والمغرب، فصدع الصحابة والتابعون لهديهم، وجميع دول الإسلام من بعدهم، بما أمروا به من نشر هذا الدين بلغته، في كلا قسمي شريعته عبادته وحكومته.
فكان الإسلام ينتشر في شعوب الأعاجم من قارات الأرض الثلاث (آسية وأفريقية وأوربة) بلغته العربية، فيقبل الداخلون فيه على تعلم هذه اللغة بباعث العقيدة، وضرورة إقامة الفريضة، ولا سيما فريضة الصلاة التي هي عماد الدين، وأعظم أركانه بعد التصريح بالشهادتين، اللتين هما عنوان الدخول فيه، على أنهما من أعمال الصلاة أيضا، فكان تعلم العربية من ضروريات الإسلام، عند جميع تلك الشعوب والأقوام، بالإجماع العلمي العملي التعبدي والسياسي، إلا ما كان من تقصير دولة الترك العثمانيين، بعدم جعل العربية لغة رسمية للدواوين، كسلفهم من السلجوقيين والبويهيين، حتى بعد تنحلهم للخلافة الإسلامية ورفع ألويتهم على مهد الإسلام من البلاد الحجازية.
فآل ذلك إلى التعارض والتعادي بين العصبية التركية اللغوية ورابطة الإسلام، فالتفرق والتقاتل بين الترك والعرب، فإلغاء الخلافة العثمانية، فإسقاط دولة آل عثمان، وتأليف جمهورية، تركية العصبية والتربية والتعليم، أوربية العادات والتقنين والتشريع، وإبطال ما كان في الدولة من المصالح الإسلامية.
كمشيخة الإسلام والأوقاف والمدارس الدينية والمحاكم الشرعية، وصرحوا بأن حكومتهم هذه مدنية غربية لا دينية وأنهم فصلوا بين الدين والدولة فصلا باتا كما فعلت الشعوب الإفرنجية، على أنهم لما وضعوا قانون هذه الجمهورية قبل التجرؤ على كل ما ذكر، وضعوا في مواده أن الدين الرسمي للدولة هو الإسلام مراعاة للشعب التركي المسلم، كما وضعوا فيه موادا أخرى تنافي الإسلام من استقلال المجلس الوطني المنتخب بالتشريع بلا قيد ولا شرط، ومن إباحة الردة واستحلال ما حرم الشرع. وظهر أثر ذلك بالقول والفعل، كالطعن الصريح في الدين والاستهزاء به حتى في الصحف العامة وكإباحة الزنا والسكر للمسلمين والمسلمات، وبروز النساء التركيات في معاهد الفسق ومحافل الرقص كاسيات عاريات، مائلات مميلات إلى غير ذلك من منافيات الدين....
ولكن هذا كله لم يرو غليل العصبية اللغوية التورانية، ولم يذهب بحقدها على الرابطة الإسلامية، وآدابها الدينية العربية، بل كان من كيدها لها السعي لإزالة كل ما هو عربي من نفس الشعب التركي ولسانه، وعقله ووجدانه؛ ليسهل عليهم سله من الإسلام، بمعونة التربية الجديدة والتعليم العام.
بل عمدوا إلى هذه الشجرة الطيبة، الثابت أصلها، الراسخ في أرض الحق والعدل والفضل عرقها، الممتد في أعالي السماء فرعها، التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، عمدوا إليها لاجتثاث أصلها واقتلاع جذرها بعد ما كان من التحاء عودها، وامتلاخ أملودها، وخضد شوكتها وعضد خصلتها، بعد أن نعموا بضعة قرون بثمرتها، وإنما تلك الشجرة الطيبة هي القرآن الكريم الحكيم المجيد العربي المبين، هي الزيتونة المباركة الموصوفة بأنها لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، فإذا مسته نار الإيمان بحرارتها اشتعل نورا على نور
{ { يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم } [النور: 35].
وإنما أعني بقطع هذه الشجرة المباركة من أرض الشعب التركي محاولة حرمانه منه، ذلك بأنهم ترجموا القرآن بالتركية لا ليفهمه الترك، فإن تفاسيره بلغتهم كثيرة، وكان من مقاصد إبطال المدارس الدينية إبطال دراستها (أي التفاسير حتى التركية) وحظر مدارسة كتب السنة وكتب الفقه ونحوها؛ لأنها مشحونة بآيات القرآن العربية، وبالأحاديث النبوية العربية، وبآثار السلف الصالح العربية، وبالحكم والأمثال وشواهد اللغة العربية، وهم يريدون محو كل ما هو عربي من اللغة التركية، ومن أنفس الأمة التركية، حتى إنهم ألفوا جمعية خاصة لما عبروا عنه بتطهير اللغة التركية " من اللغة العربية.
واقتراح بعضهم كتابة لغتهم بالحروف اللاتينية، وإذا طال أمد نفوذ الملاحدة في هذا الشعب الإسلامي الكريم، فإنهم سينفذون هذا الاقتراح قطعا كما نفذوا غيره حتى استبدال قرآن تركي بلغة بعض ملاحدة التورانيين، بالقرآن الذي نزل به الروح الأمين، على قلب خاتم النبيين، بلسان عربي مبين، المتعبد بألفاظه العربية بإجماع المسلمين، والمعجز ببلاغته العربية لجميع العالمين، وكونه حجة الله تعالى عليهم إلى يوم الدين.
أرأيت أيها القارئ هذا الخطب العظيم؟
أرأيت هذا البلاء المبين؟
أرأيت هذه الجرأة على رب العالمين؟
أرأيت هذه الصدمة لدين الله القويم؟
ثم أرأيت هذا الشنآن والاحتقار لإجماع المسلمين؟ ورفض ما جروا عليه مدة ثلاثة عشر قرنا ونصف؟
ثم أرأيت بعد هذا كله ما كان من تأثير ذلك في مصر أعرف بلاد الإسلام في الفنون العربية، والعلوم الإسلامية!.
لقد كان من تأثير ذلك ما هو أقوى البراهين، على فوضى العلم والدين، واختلال المنطق وفساد التعليم، والجهل الفاضح بضروريات الإسلام وشئون المسلمين، ولقد كان أثر ذلك الجدال والمراء، وتعارض الآراء والأهواء وتسويد الصحائف المنشرة، بمثل ما شوهوها به في مسألة الخلافة، وقد كان يجب أن تكون مسألة القرآن أبعد عن أهواء الخلاف، للنصوص الكثيرة الصريحة فيها، وإجماع السلف والخلف بالعلم والعمل عليها، وعدم شذوذ أصحاب المذاهب والفرق حتى المبتدعة عنها.
فقد كثر الخلاف والتفرق في الدين، وتعددت الأحزاب والشيع في المسلمين، على ما ورد في النهي عن ذلك والوعيد عليه في الآيات الصريحة، والأحاديث الصحيحة، وارتد بعض الفرق عن الدين، بضروب من فاسد التأويل، وسخافات من أباطيل التحريف، كما فعل زنادقة الباطنية، وغيرهم، قبل أن يقووا ويصرحوا بكفرهم، ولم تقم فرقة تنتمي إلى الإسلام بترجمة القرآن ولا ضلت طائفة بترجمة أذكار الصلاة والآذان؛ لأجل الاستغناء بها في التعبد لله، عن اللفظ المنزل من عند الله، وإنما قصارى ما وقع من الخلاف فيما حول ذلك من فروع المسألة، ومن تصوير الفقهاء للوقائع النادرة، أنه إذا أسلم أعجمي مثلا، وأردنا تعليمه الصلاة فلم يستطع لسانه أن ينطق بألفاظ الفاتحة فهل يصلي بمعانيها من لغته، أم يستبدل بها بعض الأذكار العربية المأثورة مؤقتا ريثما يتعلم القرآن كما ورد في بعض الأحاديث، أم يصلي بترجمة الفاتحة بلغته؟
نقل القول الأخير عن أبي حنيفة وحده مع مخالفة جميع أصحابه له، ونقل عنه أنه رجع عنه إلى الإجماع، وما ينقل عن أحد من المسلمين أنه عمل به (على أنه لا حجة في عمل أحد ولا في قوله، غير المعصوم)
فكان هذا الإجماع العام المطلق مما يؤيد حفظ الله تعالى للقرآن، وأراد ملاحدة الترك أن يبطلوه في هذا الزمان
{ { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون * هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون } [الصف: 8 - 9].
منشأ فكرة ترجمة القرآن وسببها
لقد كان ضعف الخلافة القرشية بجهل الخلفاء وترفهم وفسقهم سببا لتفرق المسلمين فتخاذلهم فضعفهم، إذ كان سببا لتأسيس عدة دول إسلامية تتنازع السلطة، ولضعف اللغة العربية، وترك الأعاجم، فاضطرارهم إلى ترجمة بعض الكتب الدينية، وتدريس العربية منها بالترجمة، فالشعور بالحاجة إلى ترجمة القرآن نفسه بلغاتهم لأجل فهمه بالإجمال، ثم بالحاجة إلى ترجمته بسائر اللغات لأجل الدعوة بترجمته إلى الإسلام، ولما انفردت دولة الترك العثمانيين دون سائر دول الأعاجم الإسلامية بجعل لغتهم رسمية لها، ثم بادعاء منصب الخلافة لسلطانها اقتضى ذلك تعمد هذه الدولة لإضعاف الأمة العربية ولمعاداتها، ولتفضيل لغة أبناء جنسهم على لغة كتاب ربهم وسنة رسولهم، ثم لتفضيل رابطة جنسهم ولغتهم على رابطة دينهم، ثم للاستغناء عن هذا بتلك، ومن ثم صارت جامعة اللغة والقومية معارضة للجامعة الإسلامية، وسببا لمعاداتها. ثم تجدد لدعاة العصبية الجنسية التركية سبب آخر لترجمة القرآن وهو التمهيد به إلى المروق من الإسلام، ولم يفعل هذا إلا الترك الذين نالوا بالإسلام دون غيره ما نالوا من العز والملك الكبير.
إن ملاحدة الترك ودعاة العصبية الجنسية منهم قد بثوا في قومهم فكرة الاستغناء عن القرآن المنزل من الله تعالى باللسان العربي بترجمته باللسان التركي قبل عهد الحرية الدستورية بسنين.
وقد أنكرنا هذا عليهم قولا وكتابة، وأول من سمعنا منه هذا الرأي محمد عبيد الله أفندي الذي صار بعد الدستور مبعوثا، وأنشأ في الآستانة جريدة عربية باللغة العربية؛ لأجل خداع العرب وإضلالهم.
سمعت هذا الرأي الفاسد منه في مصر، ورددت عليه فيه، ثم سمعته في الآستانة من غيره أيضا وأنكرته عليهم، وقد ذكرته في مواضع من مجلد المنار الثالث عشر.
(منها) قولنا في (الفتوى 27 ص343 ج 5 م13 الذي صدر في سلخ جمادى الأولى سنة 1327) في سياق تخطئة محمد عبيد الله أفندي في ادعائه أن الإسلام نشر بالإكراه عليه بالسيف:.
" ليست هذه المسألة هي التي شذ فيها وحدها هذا الرجل، فإن له شذوذا في مسائل أخرى دينية، وتاريخية كادعائه أن نبوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما تمت ولا تتم إلا بترجمة القرآن إلى جميع اللغات.
وكادعائه أن غير العرب من المسلمين يمكنهم الاستغناء في دينهم عن معرفة اللغة العربية، وعن القرآن العربي المنزل من عند الله تعالى آية للعالمين، معجزا للبشر على مر السنين، بترجمته إلى التركية والفارسية وغيرهما من اللغات، وإن كان المترجم يترجم حسب فهمه فيختلف مع غيره، فيكون لكل أهل لغة قرآن، وإن كانت الترجمة لا يمكن أن يتحقق فيها الإعجاز كالقرآن المنزل من عند الله تعالى، ولا يصح التعبد بتلاوتها، ولا يتحقق فيها غير ذلك من خصائص القرآن، وقد سبق لي مناظرة معه في هذه المسألة بمصر منذ سنين اهـ.
ومنها - ما ذكرته في (ج 7 منه ص 549) في سياق سمر مع طلعت بك (باشا) ناظر الداخلية بداره في الآستانة ذكر لي فيه أن هذا الرجل سينشئ جريدة عربية؛ لأجل التآلف بين العرب والترك.
فذكرت له أنه يخشى أن يكون تأثيرها زيادة الشقاق لما هو معروف به من كراهة العرب، وزعمه إمكان استغناء الترك عن لغتهم وعن قرآنهم العربي بترجمته بالتركية إلخ وكذلك كان.
ومنها - قولنا في مناجاة الله تعالى (في ص384 منه): اللهم إنك تعلم أن من هؤلاء (أي المفسدين) من يفوق سهام كيده ومكره للأمة العربية التي شرفتها وفضلتها بخاتم أنبيائك ورسلك، وخير كتبك المنزلة لهداية خلقك وخاطبت سلفها الصالح بقولك الحق:
{ { كنتم خير أمة أخرجت للناس } [آل عمران: 110] إلخ.
" اللهم إنهم حسدوها أن جعلت كتابك عربيا مبينا، فهم يريدون ترجمته ليكون عرضة لتحريف المحرفين، واختلاف المتفقين، اللهم إنك أنزلته لتجمعهم عليه، وهم يحاولون ترجمته لكل شعب من المسلمين ليتفرقوا فيه.
اللهم إنه حبلك المتين الذي أمرتنا أن نعتصم به ولا نتفرق عنه بقولك:
{ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } [آل عمران: 103] وهو بيناتك التي قلت فيها: { { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } [آل عمران: 105].
" اللهم إنهم يزعمون أن رسالة خاتم رسلك ما تمت إلى الآن. وأنها لا تتم إلا بترجمة القرآن، وأنت قلت وقولك الحق:
{ { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } [المائدة: 3].
ومنها - قولنا في آخر الفتوى 32 منه (ص571) في سياق الدعوة إلى الاهتداء بالكتاب والسنة: ولا يتم هذا الاهتداء إلا بالعناية باللغة العربية، ولا شيء أضر على الإسلام في هذا العصر ممن يدعو إلى ترجمة القرآن إلى اللغات المختلفة؛ ليستغني المسلمون بالترجمة عن القرآن المنزل من عند الله تعالى بلسان عربي مبين.
فالغاية من هذه المفسدة إذا وقعت (لا سمح الله) أن يكون الأعاجم من المسلمين عرضة لترك الدين.
وسنوضح ذلك إن شاء الله تعالى اهـ.
وقد راجت دعوة ملاحدة الترك إلى الاستغناء عن كتاب الله المنزل بعد قبض ملاحدة جمعية الاتحاد والترقي على أعنة الدولة العثمانية، تمهيدا منهم لما نفذه أندادهم الكماليون من بعدهم من نبذ الدولة التركية لأحكام الإسلام، وسعيها لسل الشعب التركي منه أيضا.
وقد كان مما نشر الاتحاديون من الكتب الممهدة لهذا السبيل (كتاب قوم جديد) الذي انتقدناه ونشرنا ترجمة بعض مسائله في المجلد السابع عشر من المنار (سنة 1335) والمراد بكلمة (قوم جديد) إنشاء شعب تركي غير مسلم.
ومما قلناه في آخر مقال طويل منه (ص160 ج2 م17) عنوانه (مفاسد المتفرنجين في أمر الاجتماع والدين) ما نصه:
" يرى هؤلاء العاملون أنه ليس في طريقهم عقبة تحول دون بلوغ المقصد بالسرعة التي يبغون من وراء هذا العمل إلا حاجة الترك إلى اللغة العربية؛ لأجل الدين.
ويرون أن هذا الدين ولغته مما يعيق تكوين أمة تركية محضة على الطراز الإفرنجي الفرنسي، فاجتهدوا في إزالة هذا المانع بمزيلين:
(أحدهما) ترجمة القرآن بالتركية، ودعوة الترك إلى الاستغناء عن القرآن العربي بما سموه القرآن التركي، وإذا استغنوا عن القرآن يستغنون بالأولى عن غيره من كتب الحديث والتفسير والفقه وسائر العلوم والفنون العربية.
(الثاني) نشر الكتب والرسائل التي تجعل الجنسية التركية أعلى وأسمى في النفوس من رابطة الدين تمهيدا للثانية بالأولى....
(وذكرنا من هذه الكتب كتاب " قوم جديد " وأشرنا إلى بعض مفاسده)
ثم نشرنا نموذجا من كتاب (قوم جديد) هذا في (ص539 - 544 منه) أوله قوله في (ص14 منه): يجب تعطيل جميع المساجد والتكايا الموجودة في الآستانة ما عدا الجوامع التي بناها السلاطين وتخصيص نفقاتها بالشئون الحربية والعسكرية، كما ورد في الآيات الكريمة والأعمال النبوية (؟) ويليه قوله في ص15 بفرضية ترجمة القرآن.
ومنه ما ذكره من صفات من سماهم (قوم عتيق) من تمسكهم بالصوم والصلاة والحج والزكاة والعمل بكتب فقه الأئمة الأربعة التي وصفها بأنها مملوءة بالنفاق والشقاق، وزعم أن العمل بها غير جائز - ثم قال في صفات (قوم جديد) ما نصه:
" وأما القوم الجديد فإنهم لا يبالون بمثل هذه الخرافات القديمة، بل استخرجوا من الأحكام القرآنية والحديثية الأركان الدينية الآتية:
1- العقل.
2- كلمة الشهادة.
3- الأخلاق الحسنة.
4- الجهاد مالا وبدنا والحرب.
5- السعي لإعداد لوازم الحرب... إلخ.
ثم بسطنا هذه المسائل من وسائل ومقاصد في المجلد التاسع عشر، وقد صدق كل ما قلناه وارتأيناه من مقاصد ملاحدة الترك ما فعلته الحكومة الكمالية من إلغاء الأحكام الشرعية كلها، وجعل جميع سياستها وأحكامها حتى الشخصية مدنية أوربية، وإلغاء الأحكام الشرعية، والأوقاف الإسلامية والمدارس الدينية - دع إلغاء ما عمل باسم الدين من المبتدعات كتكايا أصحاب الطرق مقلدة المتصوفة إلخ.
صدقوا بالفعل كل ما قلناه من مقاصدهم، وكان بعض المسلمين الجاهلين بحال الدولة التركية، وتأثير التفرنج فيها ينكرون علينا ما نقوله عن علم وخبرة وغيرة على الإسلام ظنا منهم أنه إضعاف للدول حامية الإسلام، وإنما كان حرصا على تقوية الدولة بالإسلام، وتقوية الإسلام بالدولة؛ لأننا نعلم مالا يعلمون من إفضاء هذه الضلالات والعصبية الجنسية إلى إضاعة هؤلاء المتعصبين المفتونين للإسلام وللدولة معا - وكذلك كان.
وقد كان بعض الترك الروسيين استفتانا في مسألة الترجمة قبل أن نعلم بهذا الغرض الفاسد فأفتيناه فيها لذاتها؛ إذ لم يكن يخطر ببالنا أن أحدا من المسلمين يتوسل بذلك إلى إخراج شعب إسلامي من الإسلام - وهذا نص السؤال والجواب:
(فتوى المنار في حظر ترجمة القرآن)
نشرت في ص 268 - 274م 11 ج4 منه المؤرخ 29 ربيع الآخر سنة 1326 (س1) من الشيخ أحسن شاه أفندي أحمد (من روسيا).
حضرة الأستاذ السيد محمد رشيد رضا
نرجو أن تعيروا جانب الالتفات لهذه المسألة المهمة:
ذكر الفاضل أحمد مدحت أفندي من علماء الترك العثمانيين في كتابه " بشائر صدق نبوت " ما ترجمته:
إن ترجمة القرآن مسألة مهمة عند المسلمين وجميع المباحثات التي دارت بشأن ترجمة هذا الكتاب المجيد لم ترس على نتيجة، وذلك لوجوه:
(الأول) أن ترجمته بالتمام غير ممكنة لإعجازه من جهة البلاغة.
(والوجه الثاني) أن فيه كثيرا من الكلمات لا يوجد لها مقابل في اللغة التي يترجم إليها، فيضطر المترجم إلى الإتيان بما يدل عليها مع شيء من التغيير. ثم إذا نقلت هذه الترجمة إلى لغة أخرى يحدث فيها شيء من التغيير أيضا وهلم جرا، فيخشى من هذا أن يفتح طريق لتحريف القرآن وتغييره.
(الوجه الثالث) أن كلمات الكتب السماوية يستخرج منها بعض إشارات وأحكام بطريق الحساب، فإبدالها بالترجمة يسد هذا الطريق.
مثال ذلك أن سعدي جلبي كتب في حاشيته على البيضاوي عند تفسير سورة الفاتحة أنه إذا أخرجت الحروف المكررة من سورة الفاتحة التي هي أول القرآن وسورة الناس التي هي آخر سورة تكون الحروف الباقية ثلاثة وعشرين. قال: وفي ذلك إشارة إلى مدة سني النبوة المحمدية - فإذا ترجم القرآن لا يبقى في الترجمة مثل هذه الفوائد التي هي من جملة معجزاته انتهى " من بشائر صدق نبوت ". أما أدباؤنا معشر الترك الروسيين، فإنهم مصرون على ترجمته ويقولون: لا معنى للقول بأنه لا يجوز ترجمة القرآن إلا إيجاب بقائه غير مفهوم؛ فلذا يذهبون إلى وجوب ترجمته، وهو الآن يترجم في مدينة قزان، وتطبع ترجمته تدريجا، وكذلك تشبث بترجمته إلى اللسان التركي زين العابدين حاجي الباكوي أحد فدائية القفقاز، فنرجو من حضرة الأستاذ التدبر في هذه المسألة. حرره الإمام الحقير أحسن شاه أحمد
الكاتب الديني السماوي
(جواب المنار له) إن من تقصير المسلمين في نشر دينهم ألا يبينوا معاني القرآن لأهل كل لغة بلغتهم، ولو بترجمة بعضه؛ لأجل دعوة من ليس من أهله إليه، وإرشاد من يدخل فيه عند الحاجة بقدر الحاجة.
وإن من زلزل المسلمين في دينهم أن يتفرقوا إلى أمم تكون رابطة كل أمة منها جنسية نسبية أو لغوية أو قانونية ويهجروا القرآن المنزل من الله تعالى على خاتم رسله، المعجز بأسلوبه وبلاغته وهدايته، المتعبد بتلاوته، اكتفاء بأفراد من كل جنس يترجمونه لهم بلغتهم بحسب ما يفهم المترجم.
هذا الزلزال أثر من آثار جهاد أوربا السياسي والمدني للمسلمين. زين لنا أن نتفرق وننقسم إلى أجناس، ظانا كل جنس منا أن في ذلك حياته، وما ذلك إلا موت للجميع.
ولا نطيل في هذه المسألة هنا، ولكننا نذكر شيئا مما يخطر في البال من مفاسد هجر المسلمين للقرآن المنزل (بلسان عربي مبين) - استغناء عنه بترجمة أعجمية يغنيهم عنها تفسيره بلغتهم مع المحافظة على نصه المتواتر المحفوظ من التحريف والتبديل - مع مراعاة الاختصار فنقول:
(1) إن ترجمة القرآن ترجمة حرفية تطابق الأصل متعذرة كما يعلم من المسائل الآتية، والترجمة المعنوية عبارة عن فهم المترجم للقرآن، أو فهم من عساه يعتمد هو على فهمه من المفسرين، وحينئذ لا تكون هذه الترجمة هي القرآن، وإنما هي فهم رجل للقرآن يخطئ في فهمه ويصيب، ولا يحصل بذلك المقصود المراد من الترجمة بالمعنى الذي ننكره.
(2) إن القرآن هو أساس الدين الإسلامي، بل هو الدين كله؛ إذ السنة ليست دينا إلا من حيث إنها مبينة له، فالذين يأخذون بترجمته يكون دينهم ما فهمه مترجم القرآن لهم، لا نفس القرآن المنزل من الله تعالى على رسوله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، والاجتهاد بالقياس إنما هو فرع عن النص، والترجمة ليست نصا من الشارع، والإجماع عند الجمهور لا بد أن يكون له مستند والترجمة ليست مستندا. فعلى هذا لا يسلم لمن يجعلون ترجمة القرآن قرآنا شيء من أصول الإسلام.
(3) إن القرآن منع التقليد في الدين وشنع على المقلدين. فأخذ الدين من ترجمة القرآن هو تقليد لمترجمه، فهو إذا خروج عن هداية القرآن لا اتباع لها.
(4) يلزم من هذا حرمان المقتصرين على هذه الترجمة مما وصف الله به المؤمنين في قوله
{ { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني } [يوسف: 108] وأمثالها من الآيات التي تجعل من مزايا المسلم استعمال عقله وفهمه فيما أنزل الله ".
(5) كما يلزم حرمانهم من هذه الصفات العالية يلزم منع الاجتهاد والاستنباط من عبارة المترجم؛ لأن الاجتهاد فيها مما لا يقول به مسلم.
(6) إن من يعرف لغة القرآن، وما يحتاج إليه في فهمه كالسنة النبوية، وتاريخ الجيل الأول الذي ظهر فيه الإسلام يكون مأجورا بالعمل بما يفهمه من القرآن، وإن أخطأ في فهمه؛ لأنه بذل جهده في الاهتداء بما أنزله الله هداية له، كما يعلم ذلك من معاملة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه فيما فهموه من كيفية التيمم إذ عذر المختلفين في فهمها والعمل بها، ومثله معاملته لهم فيما فهموه من نهيه عن صلاة العصر إلا في بني قريظة؛ ولذلك شواهد أخرى، ولا إخال مسلما يجعل لعبارة مترجم القرآن هذه المزية.
(7) إن القرآن ينبوع للهداية والمعارف الإلهية، لا تخلق جدته، ولا تفتأ تتجدد هدايته وتفيض للقارئ على حسب استعداده حكمته، فربما ظهر للمتأخر من حكمه وأسراره ما لم يظهر لمن قبله، تصديقا لعموم حديث:
" "فرب مبلغ أوعى من سامع" " وترجمته تبطل هذه المزية، إذ تفيد القارئ بالمعنى الذي صوره المترجم بحسب فهمه.
مثال ذلك أن المترجم قد يجعل قوله تعالى:
{ وأرسلنا الرياح لواقح } [الحجر: 22] من المجاز بالاستعارة، أي أن اتصال الريح بالسحاب، وحدوث المطر عقب ذلك يشبه تلقيح الذكر للأنثى، وحدوث الولد بعد ذلك كما فهم بعض المفسرين، فإذا هو جرى على ذلك بأن فرضنا أنه لا يوجد في اللغة التي يترجم بها لفظ يقوم مقام (لواقح) العربي في احتمال حقيقته ومجازه إذا أطلق فإن القارئين يتقيدون بهذا الفهم، ويمتنع عليهم أن يفهموا من العبارة ما هي حقيقة فيه، وهو كون الرياح لواقح بالفعل.
إذ هي تحمل مادة اللقاح من ذكور الشجر إلى إناثه، فإن لم ينطبق هذا المثال على القاعدة لتيسر ترجمة الآية ترجمة حرفية فإن هناك أمثلة أخرى، وحسبنا أن يكون هذا موضحا والترجمة تقف بنا عند حد من الفهم يعوزنا معه الترقي المطلوب.
(8) ذكر الغزالي في كتاب " إلجام العوام عن علم الكلام " أن ترجمة آيات الصفات الإلهية غير جائزة، واستدل على ذلك بما هو واضح جدا. وقد ذكرنا عبارته في تفسير:
{ { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } [آل عمران: 7] وبين أن الخطأ في ذلك مدرجة للكفر.
(9) ذكر الغزالي في الاستدلال على ما تقدم أن من الألفاظ العربية ما لا يوجد لها فارسية تطابقها - أي ومثل الفارسية التركية وغيرها - فما الذي يفعله المترجم في مثل هذه الألفاظ، وهو إن شرحها بحسب فهمه ربما يوقع قارئ ترجمته في اعتقاد ما لم يرده القرآن؟.
(10) قد ذكر ذلك أيضا: أن من الألفاظ العربية مالها فارسية تطابقها " لكن ما جرت عادة الفرس باستعارتها للمعاني التي جرت عادة العرب باستعارتها لها " فإذا أطلق المترجم اللفظ الفارسي يكون هنا مؤديا المعنى الحقيقي للفظ العربي.
وربما كان مراد الله هو المعنى المجازي، ومثل الفرس غيرهم من الأعاجم. وهذا المقام من مزلات الأقدام إذا كان الكلام عن الله عز وجل وصفاته وأفعاله.
(11) ذكر أيضا في هذا المقام: أن من هذه الألفاظ ما يكون مشتركا في العربية، ولا يكون في العجمية كذلك. فقد يختار المترجم غير المراد لله من معنى المشترك، ولا يخفى ما فيه، وقد مر نظيره آنفا.
(12) من المقرر عند العلماء أنه إذا ظهر دليل قطعي على امتناع ظاهر آية من آيات القرآن فإنه يجب تأويلها حتى تتفق مع ذلك الدليل، والفرق بين تأويل ألفاظ القرآن وتأويل ألفاظ ترجمته لا يخفى على عاقل لاسيما في الآيات المتشابهة والألفاظ المشتركة.
(13) إن لنظم القرآن وأسلوبه تأثيرا خاصا في نفس السامع لا يمكن أن ينقل بالترجمة، وإذا فات يفوت بفوته خير كثير، فيا طالما كان جاذبا إلى الإسلام، حتى قال أحد فلاسفة أوربا وهو فرنسي نسيت اسمه: إن محمدا كان يقرأ القرآن بحال مؤثرة تجذب السامع إلى الإيمان به، فكان تأثيره أشد من تأثير ما ينقل عن غيره من الأنبياء من المعجزات.
وحضر الدكتور فارس أفندي نمر مرة الاحتفال السنوي لمدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية بالقاهرة فافتتح الاحتفال تلميذ بقراءة آيات من القرآن، فقال لي الدكتور فارس أفندي: إن لهذه القراءة تأثيرا عميقا في النفس. ثم لما كتب خبر الاحتفال في جريدته (المقطم) كتب ذلك.
فإذا كان لتلاوة القرآن هذا التأثير حتى في نفس غير المؤمن به، فكيف نحرم منها المسلمين بترجمة القرآن لهم.
(14) إذا ترجم التركي والفارسي والهندي والصيني... إلخ. القرآن، فلا بد أن يكون بين هذه التراجم من الخلاف مثل ما بين تراجم كتب العهد العتيق والعهد الجديد عند النصارى، وقد رأينا ما استخرجه لهم صاحب إظهار الحق من الخلافات التي كنا نقرؤها، ونحمد الله تعالى أن حفظ كتابنا من مثلها، فكيف نختارها بعد ذلك لأنفسنا؟.
(15) إن القرآن هو الآية الكبرى على نبوة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، بل هو الآية الباقية من آيات النبيين، وإنما يظهر كونه آية باقية محفوظة من التغيير والتبديل، والتحريف والتصحيف، بالنص الذي نقلناه عمن جاء به من عند الله، والترجمة ليست كذلك.
هذا ما تراءى لنا من الوجوه المانعة من ترجمته للمسلمين؛ ليكون لهم قرآن أعجمي بدل القرآن العربي، وإن كان بعض هذه الوجوه مما يمكن إدخاله في البعض - وإنما ذكر هكذا؛ لزيادة الإيضاح - فإن هناك وجوها أخرى يمكن استنباطها لمن تأمل وفكر في وقت صفاء الذهن وصحة البدن، بل منها ما تركناه مع تذكره.
وأما دعوى القائلين بوجوب ترجمته أن عدم جواز الترجمة يستلزم إيجاب بقائه غير مفهوم فهي ممنوعة، فإننا نقول: إن فهمه سهل، ولكن ليس لأحد أن يجعل فهمه حجة على غيره فكيف يجعله دينا لشعب برمته؟ وإن لاهتداء المسلم الأعجمي بالقرآن درجتين، درجة دنيا بالعوام الذين لا يتيسر لهم طلب العلم فيحفظون الفاتحة وبعض السور القصيرة؛ لأجل قراءتها في الصلاة، ويترجم لهم تفسيرها، وتقرأ أمامهم في مجالس الوعظ بعض الآيات، ويذكر لهم تفسيرها بلغتهم كما جرى عليه كثير من الأعاجم حتى ببلاد الصين، ودرجة عليا للمشتغلين بالعلم، وهؤلاء يجب أن يتقنوا لغته ويستقلوا بفهمه مستعينين بكلام المفسرين غير مقلدين لأحد منهم.
إن الأعاجم الذين دخلوا في الإسلام على أيدي الصحابة الكرام قد فهموا أن للإسلام لغة خاصة به، لا بد أن تكون عامة بين أهله ليفهموا كتابه الذي يدينون به ويهتدون بهديه، ويعبدون الله بتلاوته؛ ولتتحقق بينهم الوحدة المشار إليها بقوله فيه:
{ { إن هذه أمتكم أمة واحدة } [الأنبياء: 92] ويكونوا جديرين بأن يعتصموا به وهو حبل الله فلا يتفرقوا، ولتكمل فيهم أخوة الإسلام التي حتمها عليهم بقوله: { { إنما المؤمنون إخوة } [الحجرات: 10]؛ ولذلك انتشرت اللغة العربية في البلاد التي فتحها الصحابة بسرعة غريبة مع عدم وجود مدارس ولا كتب ولا أساتذة للتعليم، واستمرت الحال على ذلك في زمن الأمويين في الشرق والغرب وفي أول مدة العباسيين حتى صارت العربية لغة الملايين من الأوربيين والبربر والقبط والروم والفرس وغيرهم في ممالك تمتد من المحيط الغربي (الأتلانتيك) إلى بلاد الهند، فهل كان هذا إلا خيرا عظيما تآخت فيه شعوب كثيرة، وتعاونت على مدنية كانت زينة للأرض وضياء ونورا لأهلها.
ثم هفا المأمون في الشرق هفوة سياسية حركت العصبية الجنسية في الفرس فأنشؤوا يتراجعون إلى لغتهم، ويعودون إلى جنسيتهم، وجاء الأتراك ففعلوا بالعصبية الجنسية ما فعلوا، فسقط مقام الخلافة وتمزق شمل الإسلام بقوة ملوك الطوائف، ولكن لم تصل الفتنة بالناس إلى إيجاد قرآن أعجمي للأعاجم، وإبقاء القرآن العربي المنزل خاصا بالعرب، بل بقي الدين والعلم عربيين وراء إمامهما الذي هو القرآن.
فالواجب على دعاة الإصلاح في الإسلام الآن أن يجتهدوا في إعادة الوحدة الإسلامية إلى ما كانت عليه في الصدر الأول خير قرون الإسلام، وأن يستعينوا على ذلك بالطرق الصناعية في التعليم، فيجعلوا تعلم العربية إجباريا في جميع مدارس المسلمين ويحيوا العلم بالإسلام بطريقة استقلالية لا يتقيدون فيها بآراء المؤلفين في القرون الماضية المخالفة لطبيعة هذا العصر في أحوالها المدنية والسياسية.
ولكننا نرى بعض المفتونين منا بسياسة أوربا يعاونونها على تقطيع بقية ما ترك الزمان من الروابط الإسلامية بتقوية العصبيات الجنسية حتى صار بعضهم يحاول إغناء بعض شعوبهم عن القرآن المنزل! ألا إنها فتنة في الأرض وفساد كبير وقى الله المسلمين شرها.
فهذا ما أقوله الآن في ترجمة القرآن للمسلمين دون تفسيره لهم بلغتهم مع بقائه إماما لهم، ودون ترجمته لدعوة غيرهم به إلى الإسلام مع أن المترجم بين المعنى الذي يفهمه هو. انتهت الفتوى.
وملخص هذه الفتوى: أن ترجمة القرآن ترجمة حرفية متعذرة ويترتب عليه مفاسد كثيرة، فهو محظور لا يبيحه الإسلام؛ لأنه جناية عليه وعلى أهله.
ولا يجوز أن تسمى الترجمة قرآنا ولا كتاب الله، ولا أن يسند شيء منها إليه تعالى فيقال قال: الله كذا؛ لأن كتاب الله وقرآنه عربي بالنص القطعي والإجماع الشرعي من سلف أهل الملة كلهم وخلفهم لا الإجماع الأصولي المختلف فيه؛ ولأنها ليس لها شيء من خصائص القرآن اللفظية ولا المعنوية كالإعجاز، وهي لا بد أن تكون مخالفة له في المعنى كمخالفتها في اللفظ، فإسنادها إليه تعالى كذب عليه وكفر بكتابه.
بل أجمع المسلمون على أنه لا يجوز إبدال لفظ من ألفاظ المصحف بلفظ آخر يرادفه من اللغة العربية ككلمتي " شك، وريب " في قوله تعالى:
{ ذلك الكتاب لا ريب فيه } [البقرة: 2] وأما الترجمة المعنوية التي هي عبارة عن تفسير ما يحتاج إلى تفسيره منه بلغة أخرى فغير محرم، وإنما تتبع فيه المصلحة الشرعية بقدرها.
(أقوال الفقهاء في المسألة)
ترجمة القرآن وقراءته وكتابته بغير اللغة العربية
المعول عليه عند الأئمة وسائر العلماء أنه لا تجوز كتابة القرآن ولا قراءته ولا ترجمته بغير العربية مطلقا، إلا فيما نقل عن أبي حنيفة وصاحبه من جواز قراءة القرآن بالفارسية في خصوص الصلاة، وإليك بعض النصوص في ذلك.
قال شيخ الإسلام أبو الحسن المرغيناني الحنفي في التجنيس: ويمنع من كتابة القرآن بالفارسية بالإجماع؛ لأنه يؤدي إلى الإخلال بحفظ القرآن؛ لأنا أمرنا بحفظ اللفظ والمعنى فإنه دلالة على النبوة؛ ولأنه يؤدي إلى التهاون بأمر القرآن اهـ.
وقال في معراج الدراية: من تعمد قراءة القرآن أو كتابته بالفارسية فهو مجنون أو زنديق والمجنون يداوى، والزنديق يقتل، وروي ذلك عن أبي بكر محمد بن الفضل البخاري اهـ.
وفي الدراية: إن القرآن اسم للنظم والمعنى جميعا بالإجماع، وقد أنزل حجة على النبوة وعلما على الهدى، والهدى بمعناه، والحجة بنظمه. وكما أن الإخلال بالمعنى يسقط حكم القراءة كذلك الإخلال بالنظم، ولأن حفظ القرآن واجب في الجملة؛ ليكون حجة على الحكم ولا قراءة تجب إلا في الصلاة، فعلم أنها متعلقة بعين ما أنزل ليقع الحفظ بها اهـ.
وروي عن الإمام أبي حنيفة كما في الهداية وغيرها: جواز قراءة القرآن بالفارسية في الصلاة مطلقا، وعن الصاحبين: إذا كان لا يحسن العربية، أما إذا كان يحسنها فلا يجوز، وتفسد صلاته إذا قرأ بغير العربية.
وروى أبو بكر الرازي: رجوع الإمام إلى قولهما وعليه الاعتماد - وقال الإمام الزاهدي في الجامع الصغير: إن ما نقل عن أبي حنيفة وصاحبيه من أن القراءة بالفارسية تفسد الصلاة لمن قدر على العربية، أما عند العجز فلا فساد إذا قرأ بالفارسية كل لفظ بما هو في معناه من غير أن يزيد فيه شيئا.
أما إذا قرأ على سبيل التفسير فتفسد صلاته بالإجماع اهـ.
وهو تقييد حسن؛ لأنه حينئذ يكون متكلما بكلام غير القرآن من كلام الناس وهو مفسد للصلاة.
وأصل الاختلاف في ذلك كما في بدائع الصنائع وأحكام القرآن لحجة الإسلام الجصاص قوله تعالى
{ { فاقرءوا ما تيسر من القرآن } [المزمل: 20] حيث أمر بالقراءة، والأمر للوجوب، ولا موضع لوجوب القراءة غير الصلاة، فوجب أن يكون المراد القراءة في الصلاة، فذهب الصاحبان إلى أنه إذا قرأ بالفارسية وهو يحسن العربية، فقد قرأ ما ليس بقرآن فقد خرج عن عهدة الأمر؛ لأن الفارسي ليس قرآنا، والقرآن هو المنزل بلغة العرب، قال تعالى: { { إنا أنزلناه قرآنا عربيا } [يوسف: 2] وأيضا فالقرآن هو المعجز، والإعجاز من جهة اللفظ يزول بزوال النظم العربي فلا يكون الفارسي قرآنا لانعدام الإعجاز؛ ولهذا لم تحرم قراءته على الجنب والحائض، غير أنه إذا كان لا يحسن العربية، فقد عجز عن مراعاة لفظه فيجب عليه مراعاة معناه؛ ليكون التكليف بحسب الإمكان اهـ - والمراد مطلق المعنى، وإلا فمعنى النظم المعجز لا تؤديه الترجمة كما هو ظاهر.
ولا يعنينا الآن بيان وجه استدلال الإمام بالآية على ما ذهب إليه بعد أن صح رجوعه إلى قول الصاحبين.
فظهر أن قول الثلاثة بجواز قراءة القرآن بغير العربية في الصلاة لمن لا يحسنها ليس مبناه أن الترجمة تصير قرآنا عند العجز عن أدائه بالعربية، فيفرض عليه ذلك في هذه الحالة، بل المفروض عليه حينئذ تعلم العربية؛ لأنه القرآن المأمور به في الصلاة، وإنما هو مبني على الاكتفاء بالمعنى في حقه لعجزه، ولأنه الميسور له من معنى القرآن الذي هو مجموع النظم والمعنى المأمور به في الصلاة.
ولما كان أداء المفروض موقوفا على النظم العربي، وليس ذلك ميسورا له أتى بالترجمة بدلا عنه؛ لتقوم مقامه في أداء المعنى المفروض، مع أنها ليست قرآنا؛ لأن القرآن هو كلام الله، المنزل بلغة العرب، والترجمة ليست كذلك - وفي الدراية قراءة غير العربي تسمى قرآنا مجازا، ألا ترى أنه يصح نفي القرآن عنه فيقال ليس بقرآن وإنما هو ترجمته، وإنما جوزناه للعاجز إذا لم يخل بالمعنى، لأنه قرآن من وجه باعتبار اشتماله على المعنى، فالإتيان به أولى من الترك مطلقا؛ إذ التكليف بحسب الوسع اهـ.
وظاهر أن مسألة القراءة في الصلاة شيء، ومسألة ترجمة القرآن وقراءته بغير اللغة العربية مطلقا شيء آخر.
والكلام في الثاني دون الأول، ولا يلزم من جواز الأول على فرض تسليمه جواز الثاني، حتى ينسب إلى الإمام وصاحبيه القول بجواز ترجمة القرآن وقراءته خارج الصلاة، وكتابته بغير اللغة العربية، وكيف ذلك وقد أجمعت كتبهم على أن الخلاف في خصوص الصلاة. وأصله أن الأمر بالقراءة إنما هو في الصلاة دون غيرها كما أطبقوا على أنه المراد في قوله تعالى:
{ { فاقرءوا ما تيسر من القرآن } [المزمل: 20] والقرآن المعروف هو اللفظ المنزل بلغة العرب خاصة.
وفي شرح أصول البزدوي للإمام عبد العزيز بن أحمد البخاري الحنفي: القرآن اسم للنظم والمعنى جميعا في قول عامة العلماء، وهو الصحيح من قول أبي حنيفة، إلا أنه لم يجعل النظم ركنا لازما في جواز الصلاة خاصة، وإنما هو لازم فيما سواه من الأحكام الأخرى، كوجوب الاعتقاد، وحرمة كتابة المصحف بالفارسية، وحرمة المداومة والاعتياد على القراءة بها اهـ.
وقد نقل أن الإمام رجع عن هذا القول في الصلاة أيضا إلى القول بعدم جواز الصلاة بالفارسية مطلقا، فيكون النظم ركنا لازما عنده في كل حالة كما ذكره العلامة الآلوسي في تفسيره عند قوله:
{ { وإنه لفي زبر الأولين } [الشعراء: 196] بناء على عود الضمير إلى القرآن باعتبار معناه.
وفي رواية عنه: تخصيص الجواز بالفارسية؛ لأنها أشرف اللغات بعد العربية.
وفي أخرى إنها إنما تجوز بالفارسية في الصلاة للعاجز عن العربية، وقد صحح رجوعه عن القول بجواز القراءة بغير العربية مطلقا جمع من الثقات المحققين؛ لضعف الاستدلال بهذه الآية عليه كما لا يخفى فإن الظاهر عود الضمير في الآية على القرآن بتقديم مضاف، أي وإن ذكر القرآن لفي الكتب المتقدمة، وهذا كما يقال إن فلانا في دفتر الأمير اهـ ملخصا.
ومن هذا يعلم ما في استدلال بعضهم بقول الإمام على جواز ترجمة القرآن بأي لغة خارج الصلاة وداخلها للقادر والعاجز؛ لأنه على رواية التخصيص بالفارسية لا تجوز بغيرها مطلقا، وعلى رواية رجوعه إلى قول صاحبيه لا تجوز خارج الصلاة مطلقا، ولا للقادر في الصلاة، وعلى رواية الثقات عنه: لا تجوز مطلقا بغير العربية في الصلاة وغيرها للقادر والعاجز والمعول عليه رأيه الأخير الذي صح إليه كما هو رأي الجماعة، فكيف يصح الاستدلال بقوله على جواز ترجمة القرآن مطلقا؟ اهـ (ص31 - 36) .
ثم قال في فصل آخر
" ومذهب الشافعية عدم جواز قراءة القرآن بالفارسية في الصلاة مطلقا سواء كان يحسن العربية أو لا يحسنها، وفي فتاوى شيخ الإسلام ابن حجر من أئمة الشافعية - وقد سئل هل تحرم كتابة القرآن بالعجمية كقراءته؟
فأجاب بقوله قضة ما في المجموع عن الأصحاب التحريم، ووجهه بما لا يخرج عما قدمناه فراجعه.
" وقال الإمام الزركشي من أئمة الشافعيةرحمه الله : الأقرب المنع من كتابة القرآن بالفارسية كما تحرم قراءته بغير لغة العرب.
وفي شرح العباب أن كتابة القرآن العظيم بالعجمي تصرف في اللفظ المعجز الذي حصل به التحدي بما لم يرد بل بما يوهم عدم الإعجاز بل الركاكة؛ لأن الألفاظ العجمية فيها تقديم المضاف إليه على المضاف؛ وذلك مما يخل بالنظم ويشوش الفهم، وقد صرحوا بأن الترتيب مناط الإعجاز. وهو ظاهر في حرمة تقديم آية على آية يعني أو كلمة على كلمة كما يحرم ذلك قراءة اهـ.
" بل نصوا على أن في ترتيب حروف الكلمات القرآنية، ومراعاة التناسب فيما بينها من الصفات من وجوه الإعجاز ما لا يقدر أحد من البشر على الإتيان بمثله فضلا عما في ترتيب الكلمات والجمل من اللطائف والأسرار مما لا يحوم حول بيانه لسان أو يدركه جنان.
" ومع اتفاقهم على عدم جواز كتابة القرآن بغير العربية اختلفوا فيما إذا كتب بغيرها: هل يحرم مسه وحمله للحائض والجنب؟
ذهب الجمهور إلى الجواز؛ لأنه ليس بقرآن، ونقل العلامة الشوبري عن الشافعية: أن القرآن إذا كتب بغير العربية يحرم مسه وحمله للحائض والجنب، إذ لا يخرج بذلك عن كونه قرآنا، وإلا لم تحرم كتابته اهـ.
ولعل المراد به أنه لم يخرج بذلك عن كونه متضمنا معنى القرآن بقدر ما تسعه أوضاع اللغة المكتوب بها، وإن خرج عن نظمه وأسلوبه، وإعطاؤها حكم القرآن حملا ومسا عندهم إنما هو احترام لهذا القدر، وإلحاق لنقوش الرسم العجمي بالرسم المخطوط العربي مع مراعاة جانب المعنى في الجملة.
" ولم يلاحظ مثل ذلك في التفسير مع أن نظم القرآن موجود فيه متخلل بين سطوره لم يطرأ عليه تغيير ولا تبديل، نظرا إلى أن المجموع المركب من القرآن وغيره لا يطلق عليه اسم القرآن ولا ترجمته بل يسمى تفسيرا فقط، والغالب أن تكون ألفاظه أكثر من ألفاظ القرآن فروعي جانبه في الحكم كما روعي في التسمية، والكتابة بغير العربية، وإن لم يكن نظم القرآن موجودا فيها بذاته، ولا هي دالة عليه بهيئته، ولكن لوضع نقشه مكان النقش الدال عليه وإقامته مقامه نزل منزلته.
" والحاصل أن الرسوم الكتابية لما كانت كلها من وضع البشر لا فرق بين عربي وغيره أعطيت حكما واحدا حملا ومسا، بخلاف الألفاظ، فإن نظم القرآن من وضع الله تعالى وما عداه من صنع البشر؛ فلذلك لم ينزل غير النظم المعجز منزلته قراءة وتعبدا ونزل الرسم غير العربي منزلة العربي حملا ومسا عند هذه الطائفة.
"ومذهب الحنابلة: أن الصلاة تفسد بالقراءة بالفارسية ونحوها عند العجز وعدمه، وهو يدل على منع قراءة القرآن وكتابته بغير العربية مطلقا.
ومذهب المالكية: أنه لا تجوز قراءة القرآن وكتابته بغير العربية؛ ولذلك أوجبوا تعلم الفاتحة على من لا يحسن قراءتها في الصلاة بالعربية إن أمكن، وإلا ائتم بمن يحسنها، فإن لم يكن فالمختار سقوطها وسقوط القيام لها وقيل: يجب قيامه بقدر ما تيسر من الذكر.
" إذا علمت هذا فالمعول عليه عند جميع الأئمة أنه لا تجوز كتابة القرآن ولا قراءته بغير العربية لعاجز أو قادر، لا في الصلاة ولا خارجها، إلا ما تقدم عن السادة الحنفية في خصوص الصلاة للعاجز عن العربية، وقد علمت ما فيه وتصحيح الثقات رجوع الإمام عنه.
" ومن ذلك تعلم ما في قول صاحب الكافي من علماء الحنفية (إن اعتاد القراءة بالفارسية أو أراد أن يكتب مصحفا بها يمنع، وإن فعل في آية أو آيتين لا فإن كتب القرآن وتفسير كل حرف وترجمته جاز اهـ.
" فإنه إن أراد بالترجمة الترجمة الحرفية للقرآن فقد علمت أنها لا تجوز مطلقا ذكر معها تفسير أو لم يذكر؛ لأنها تحريف وتغيير للنظم لا يدفعه اقتران التفسير به، وإن أراد الترجمة التفسيرية فهذه جائزة مطلقا بالشرط الذي بيناه، وليست ترجمة القرآن، على أن نصوص الفقهاء من الحنفية وغيرهم تخالفه.
ولذلك أفتى صاحب الفضيلة الأستاذ شيخ الجامع الأزهر بمنع ترجمة القرآن، ووجوب مصادرة المصحف المشتمل على الترجمة الحرفية وإن كان معها ترجمة تفسيرية.
" وما يتوهم من جواز الترجمة الحرفية أخذا من ظاهر قوله تعالى:
{ { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } [التوبة: 6] فليس بصحيح؛ لأن المعنى كما ذكره الآلوسي وغيره أن المشرك إذا طلب الأمان بعد انقضاء الأجل المضروب يؤمن حتى يتدبر الأمر ويتعظ بما يدعى إليه من هدي الإسلام، فإن كان من العرب تتلى عليه آيات الله وكلامه؛ لأنه من أعرف الناس بدلالتها وأعلمهم ببراعة أسلوبها وبلاغة نظمها، وكثير منهم كانوا إذا سمعوا القرآن خروا له سجدا وهم صاغرون، وآمنوا به وهم لإعجازه مذعنون. وإن كان من غير العرب الذين لا يعرفون اللغة العربية يبين له ما يرشده للحق ويهديه إلى الصراط المستقيم لا بخصوص كلام الله تعالى.
واقتصر في الآية على ذكر السماع؛ لأنها مسوقة لبيان حال مشركي العرب، وهم من أهل اللسن والبلاغة، وإن كان لفظها يتناولهم وغيرهم من المشركين، والمراد: حتى ينصاعوا لطاعة الله ورسوله.
" وقد علمت مما سلف حكم ترجمة كتبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأن بعثها إلى الكفار مشتملة على بعض الآيات القرآنية لا ينهض دليلا على جواز الترجمة الحرفية للقرآن الكريم؛ لجواز أن يكون ترجمة ما وقع فيها من نحو الآية والآيتين ترجمة تفسيرية لا حرفية، ولو سلم أنها حرفية فهي لم تذكر في الكتب على أنها نظم من القرآن، ولا قصد بها تلاوته بل سيقت الدعوة إلى حكمها ضمن كتبه عليه الصلاة والسلام اهـ.
شبهات من أباح ترجمة القرآن في هذا الزمان
قد كان مما نشكو من فوضى العلم والدين في هذا الزمان، أن بعض الناس كتبوا مقالات في الجرائد خالفوا فيها جماعة المسلمين منذ ظهر الإسلام إلى اليوم فزعموا أن ترجمة القرآن مباحة، وجاءوا بشبهات يحتجون بها على رأيهم، بعضها آراء لهم، وبعضها أقوال من الكتب لم يفهموها، فهي لا تدل على زعمهم، ولو دلت عليها لم تكن حجة؛ لأنها كآرائهم، وما كان لأحد أن ينقض برأيه بناء رفع سمكه القرآن، وأجمعت عليه الأمة قولا وعملا.
(الشبهة الأولى) ما استدل به بعض الحنفية لإمامهم على قوله الذي كان خطر له، ثم رجع عنه لظهور بطلانه له، كما أنه لم يتابعه عليه أصحابه، ولا عمل به أحد من أتباعه.
أعني ما سبقت الإشارة إليه مرارا من جواز قراءة العاجز عن النطق بالعربية لما عجز عنه من القرآن في الصلاة بالفارسية، أعني بما استدل له بقوله تعالى في سورة الشعراء:
{ { وإنه لفي زبر الأولين } [الشعراء: 196] قال الزمخشري في كشافه في تفسيرها: وإن القرآن - يعني ذكره - مثبت في سائر الكتب السماوية. وقيل: إن معانيه فيها، وبه يحتج لأبي حنيفة في جواز القراءة بالفارسية في الصلاة حيث قيل:
{ { وإنه لفي زبر الأولين } [الشعراء: 196] لكون معانيه فيها اهـ. ونقله عنه آخرون كصاحب التفسيرات الأحمدية. وصاحب فتح البيان، ونقله عنهم في هذه الأيام بعض الأزهريين في الجرائد عندما دار الجدال في حكم ترجمة القرآن باللغات الأعجمية وادعى أن الزمخشري فهم هذا من الآية.
ونقول في رد هذه الشبهة: (أولا) إن الزمخشري لم يفهم هذا من الآية، بل فهم غيره، ونقله بصيغة التمريض والتضعيف " قيل " وإنما الذي فهمه واعتمده ما قبله، ولعله لولا عادة المنتمين إلى مذهب مجتهد لحكاية كل ما يؤيد قوله من قوي وضعيف لم ينقله، ولو بصيغة التمريض، وله كثير من النقول الضعيفة التي لا يحمل تبعتها لإشارته إلى ضعفها.
(ثانيا) أن سبب إشارته إلى ضعفه هو أن تفسير المعاني بما ذكروه ظاهر البطلان لا يمكن أن يريده الإمام أبو حنيفة، ولا من دونه في علم اللغة والدين، أعني أن تكون معانيه هي مدلول كلمة القرآن كله أو بعضه، بأن تكون سورة الفاتحة الواجبة في الصلاة - وهي موضوع مسألة أبي حنيفة قبل كل شيء - موجودة في التوراة بهذا النظم والترتيب ولكن بألفاظ عبرانية؛ إذ لو كان الأمر كذلك لكان القرآن ترجمة للتوراة، وصح أن يقال: إنه هو التوراة، ولا نطيل في بيان وجوه فساد هذا القول وبطلانه، وما كان يترتب عليه لو كان مرادا من الأباطيل كاحتجاج اليهود وغيرهم على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأنه لم يأت بكتاب جديد من عند الله بل بترجمة بعض التوراة.
(ثالثا) إن فرضنا أن هذا مراد في بعض القرآن كقصة موسى التي في سورة الشعراء أو مطلقا دون الفاتحة، ومثل قصة بدر وأحد، وأن من قرأ قصة موسى في سورة الشعراء يصح أن يقول: قرأت التوراة مترجمة بالعربية، فإن هذا - على كونه - ليس بصحيح أيضا على حقيقته - لا يدل على جواز ترجمة القرآن كله كما أن الذي يقرأ القصة في سفر الخروج من التوراة لا يصح أن يقول: قرأت القرآن الذي هو موضوع الخلاف. وإنما قصارى ما يدل عليه أن تجوز قراءة عبارة التوراة الموافقة للقرآن في الصلاة، وأن يقاس عليها جواز ترجمتها بالفارسية مثلا، ولم يقل بالأصل أبو حنيفة ولا غيره من علماء المسلمين حتى يصح قياسهم عليه.
وهاهنا مجال واسع للتجهيل والسخرية بمن يتهوكون مثل هذا التهوك الذي نحن بصدده، وينشرونه على الناس في مسألة عظيمة كهذه نتركه عفوا عنهم.
(رابعا) اتفق السلف والخلف من علماء التفسير على أن الكلام في الآية مقدر فيه مضاف قبل ضمير القرآن، ومضاف قبل ضمير القرآن، ومضاف قبل زبر الأولين - كما قال ابن جرير - والمعنى: وإن ذكره أو خبره أو دليل صدقه - مثلا - لثابت في بعض زبر الأولين.
ولهم في الضمير قولان:
(أحدهما): أنه القرآن - وهو المتبادر من السياق قبله.
(والثاني): أنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما قال:
{ { يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل } [الأعراف: 157].
(خامسا) أن الذي يوجد من معاني القرآن في كتب الرسل الأولين قسمان:
(أحدهما) عام يوجد فيها كلها وهو أصول الدين الإلهي المطلق من الإيمان بالله تعالى وعبادته وحده والإيمان باليوم الآخر، والعمل الصالح وما يقابل ذلك من الزجر عن الشرك والمعاصي والرذائل - ويصح حمل الآية عليه على حد قوله تعالى:
{ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا } [الشورى: 13] إلخ:
(والثاني) خاص وهو الأقرب إلى السياق سابقه ولاحقه، وهو أن المراد ما في هذه السورة وأمثالها من قصة موسى وكذا غيره من الرسل عليهم السلام التي كانت مجهولة عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقومه وأهل بلده خاصة؛ ولذلك قال بعدها
{ { أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل } [الشعراء: 197] كما قال عقب قصة موسى في سورة القصص مخاطبا لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ محتجا على صدق ما جاء به: { وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر } [القصص: 44] الآيات.
فهل يصح لذي علم أو فهم أن يقول في الآية إنها تدل على جواز ترجمة القرآن بالفارسية أو غيرها، وإن الترجمة مع هذا تسمى قرآنا، وكلام الله، ويتعبد بها، خلافا لنصوص القرآن القطعية، ولإجماع الأمة منذ وجد الإسلام إلى اليوم؟
لك أن تقول: إن فوضى العلم والدين يصح معها ما هو أبعد من هذا عن العلم والفهم، كما صح لعالم أزهري أن يقول: إن الزمخشري رجح القول الذي رأيت أنه حكاه حكاية بصيغة التضعيف، وأنه ليس في سياق الآية، ولا في قواعد اللغة ما يمنع هذا التفسير، وقد علمت قطعا أن سياق الآية، والمتبادر من اللغة يمنع ذلك!!!.
(الشبهة الثانية) قول هذا الأزهري " وإن رجعنا إلى قول الفقهاء -؛ لأن الجواز وعدمه من مباحثهم - رأينا الإمام الشافعي روي عنه في الأم أن للأعجمي أن ينطق بالقرآن مترجما إلى غير العربية في الصلاة، وأن ما ينطق به إذا أراد القرآن به صحت صلاته، وعندما ينطق به قراءة وقرآنا.
وأنه يجوز وجود جماعة تصلي في مسجد يقرأ الإمام في تلك الصلاة بلسان أعجمي، ويقرأ المؤتمون به بلسان أعجمي، كذلك أم القرآن وغيرها من السور ما داموا لا يحسنون العربية " اهـ.
يا للعجب ويا للفوضى: الإمام الشافعي يجيز للأعجمي أن يقرأ القرآن في الصلاة مترجما إلى غير العربية ويسمي الترجمة قرآنا؟
الإمام الشافعي يجوز إقامة صلاة الجماعة العامة في المسجد بإمام يقرأ بلسان أعجمي، وجماعة يقرؤون بلسان أعجمي سواء في ذلك أم القرآن وغيرها من السور؟
وماذا بقي؟ إذا كان الشافعي يجيز قراءة القرآن في الصلاة باللسان الأعجمي للإمام وللجماعة وللأفراد بمثل هذا الإطلاق الذي حكاه هذا العالم الأزهري عن الأم، فما معنى ذلك البيان المفصل الذي أورده في رسالته في الأصول في إثبات كون القرآن عربيا، وإنه يجب على كل مسلم أن يتعلم العربية ليقرأه بها في الصلاة كما أنزله الله إلخ؟.
(والجواب) عن هذه الشبهة أن صاحبها تقول على الشافعي ما لم يقل، على أنه كان قد نقل بعض عبارته بتصرف، ثم فسرها بما نقلناه عنه، فقصر في النقل، وأخطأ في الفهم، ولا نتهمه بتعمد التقول على الإمام الشافعي، وهذا نص عبارة الأم:
" فإن أم أعجمي أو لحان فأفصح بأم القرآن. أو لحن لا يحيل معنى شيء منها أجزأته وأجزأتهم، وإن لحن فيها لحنا يحيل معنى شيء منها لم تجز من خلفه صلاتهم وأجزأته إذا لم يحسن غيره، كما يجزيه أن يصلي بلا قراءة إذا لم يحسن القراءة.
ومثل هذا إن لفظ منها بشيء بالأعجمية، وهو لا يحسن غيره أجزأته صلاته، ولم تجز من خلفه قرءوا معه أو لم يقرءوا، وإذا ائتموا به فإن أقاما معا أم القرآن أو نطق أحدهما بالأعجمية أو لسان أعجمي في شيء من القرآن غيرها أجزأته، ومن خلفه صلاتهم إذا كان أراد القراءة لما نطق به من عجمة ولحن. فإن أراد به كلاما غير القراءة فسدت صلاته، فإن ائتموا به فسدت صلاتهم " اهـ.
ذكرت هذه الأحكام في الأم في فصل عنوانه (إمامة الأعجمي والأعجمي كالأعجم من في لسانه لكنة وفهاهة، سواء كان عربيا أو عجميا، وضده الفصيح الجيد النطق كما في المصباح وغيره.
وحكم الأعجمي أنه يغتفر له ما ذكر آنفا من اللحن في الصلاة منفردا وإماما أو منفردا فقط، كما يغتفر ترك القراءة فيها مطلقا لمن لا يحسنها.
وقوله الأخير الذي لم يفهمه الناقل فكان محل الشبهة وهو " وإذا ائتموا به " إلخ. معناه أن الأعجمي الذي لا يحسن القراءة إذا أم مثله فأقاما معا أم القرآن، أي أحسن كل من الإمام والمأموم قراءة الفاتحة، أو لحنا جميعا في غير الفاتحة، أو نطق أحدهما بالأعجمية أو لسان أعجمي في شيء من القرآن غير الفاتحة كانت صلاة كل منهما صحيحة؛ لأن اللحن والعجمة والرطانة الأعجمية في غير الفاتحة لا تبطل الإمامة ولا الصلاة، إذ ركن القراءة في الصلاة هو الفاتحة، وما عداه من القرآن فهو مستحب لا فرض ولا واجب - وليس عند الشافعي في الصلاة واجب غير فرض - والمفروض أن ما ذكر من النطق بالأعجمية أو باللسان الأعجمي في غير الفاتحة سببه العجز عن القراءة الفصيحة لا التلاعب ولا قصد غير القراءة، وإلا بطلت صلاتهما.
ولا يدخل في هذا الباب شيء من تعمد ترجمة القرآن والاستغناء بالعجمي المترجم به عن القرآن العربي المنزل من عند الله تعالى، وتسميته قرآنا. كيف وقد صرح الشافعي في الرسالة بوجوب قراءة القرآن في الصلاة وغيرها بالعربية كما أنزله الله تعالى، وبوجوب أداء سائر الأذكار المأمور بها بالعربية أيضا. وبوجوب تعلم العربية على كل مسلم لذلك، وهذا نص عبارته (كما في ص9 من الطبعة الأميرية التي مع كتاب الأم له):.
" فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده، حتى يشهد به أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، ويتلو به كتاب الله تعالى، وينطق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير، وأمر به من التسبيح والتشهد وغير ذلك " إلخ.
هذا نص الشافعي بعد أن أطال في كون كل ما في القرآن عربي، وكتب مذهبه متفقة في المسألة كسائر كتب المسلمين وأتباعه أشدهم فيها - أليس من العجيب مع هذا أن يتجرأ عالم أزهري فيعزوا إلى رواية الأم عن الشافعي ما يأتي على إطلاقه:.
(1) إن للأعجمي أن ينطق بالقرآن مترجما إلى غير العربية في الصلاة.
(2) وإن ما ينطق به إذا أراد القراءة به صحت صلاته، وعد ما ينطق قراءة وقرآنا.
[3، 4] وإنه يجوز وجود جماعة تصلي في مسجد يقرأ الإمام في تلك الصلاة بلسان أعجمي أم القرآن، وغيرها من السور ما داموا لا يحسنون العربية.
أين ذكر الشافعي الترجمة وأباحها للأعجمي؟ اللهم هذا افتراء عليه.
أين أجاز الشافعي إقامة الجماعة في مسجد يقرأ إمامه فيها الفاتحة وغيرها بلسان أعجمي إلخ؟ وعبارته المنقولة عنه آنفا صريحة في كون عجز الأعجمي عن الإفصاح ولو ببعض الفاتحة عذرا له دون من يصلي خلفه، فإنهم لا تصح صلاتهم معه، وعدم الإفصاح بالألفاظ العربية شيء والترجمة بلسان عجمي شيء آخر.
وجملة القول أن عبارة الإمام الشافعي في هذا المقام خاصة بمن لا يحسن النطق بالقرآن، وما يعذر به هو ومن يأتم به.
ومثل هذا العجز معهود في كل زمان نسمعه بآذاننا ممن يتعلمون لغة غير لغتهم ولا يتقنونها من العرب أو العجم، فهم يحرفون ويلحنون ويخلطون ألفاظا من اللغة التي يجيدونها باللغة التي لا يجيدونها بغير اختيار، ونعيد القول ونؤكده بأن تعمد ترجمة القرآن والقراءة به لا تدخل في شيء من كلام الإمام، ولم تخطر ببال أحد من أحد أتباعه في مذهبه عندما شرحوا كلامه، وفصلوا أحكامه، ولا تخطر ببال أي قارئ له يفهم ما يقرأ.
(الشبهة الثالثة) أن الدلائل على وجوب فهم القرآن في الصلاة وتدبره فيها وفي خارجها صريحة، والآيات الواردة فيها محكمة، ولا يتم أداء هذا الواجب إلا بترجمة القرآن بلغات جميع الشعوب العجمية التي تدين بالإسلام.
وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
والجواب عن هذه الشبهة من وجهين:
(أحدهما) أن الفهم والتدبر وما يراد بهما من الخشوع والاعتبار إنما يتم بتعلم المسلمين للغة الكتاب الإلهي لا بتحويل الكتاب الإلهي إلى لغاتهم كلها، كما فصله الإمام الشافعي في رسالة الأصول، وأقره جميع المسلمين لسبق الإجماع وجريان العمل على ذلك في الصدر الأول.
ويؤكده أن ترجمة القرآن ترجمة صحيحة تؤدي ما فيه من المعاني والتأثير كما أراد الله تعالى متعذرة ومستلزمة لتغيير كلام الله، وهذا دليل وسند للإجماع على تحريمها فتعين أن يكون المسلمون تابعين لما أنزل الله تعالى دون أن يكون ما أنزله تعالى تابعا للغاتهم.
ولا يعقل أن يؤثر المؤمن بالله وبكتابه ورسوله لغة قومه على لغة كتاب الله ورسوله؛ ولهذا كان قدماء العجم من المسلمين يزاحمون العرب بالمناكب في تلقي العربية من أعراب البادية، وفي جميع علومها وفنونها وآدابها كعلوم الشريعة نفسها، وذلك أن إيمانهم كان برهانيا وجدانيا، وما أحدث التنافس بين لغة الدين الذي عليه مدار سعادة الدارين ولغة الآباء من العجم إلا بعض زنادقة الفرس الأولين وملاحدة الترك المتأخرين.
وأما قدماء مسلمي الترك الذين أعرضوا عن العربية وفنونها فكانت آفتهم الجهل، فالخوف من عودة السلطان والسيادة إلى العرب - وهذا هو الذي أعدهم لقبول دسائس الإفرنج بالدعوة إلى عصبية الجنس واللغة التي قوضت سلطنتهم (إمبراطوريتهم) العظمى بجهلهم.
(ثانيهما) أن ما لا بد منه من التلاوة في الصلاة وهو الفاتحة وبعض الآيات أو السور القصيرة يمكن أن يفسر لكل مسلم بحفظه تفسيرا يتمكن به من فهم معناه، والاعتبار به فهو لا يتوقف على ترجمته وتسميتها كلام الله كذبا على الله، وخلافا لنص كتاب الله وإجماع المسلمين - فضلا عن ترجمة جميع القرآن كذلك.
(الشبهة الرابعة) مسألة تبليغ الدعوة إلى الإسلام. وقد بينا بطلانها من قبل، ونزيدها هنا بيانا فنقول:
لئن كان اطلاع بعض الأفراد من أعاجم الشرق والغرب على ترجمة القرآن سببا لإسلامهم، فعلته أنهم عرفوا منها أصول الإسلام ومقاصده كلها أو بعضها، وذلك كاف لتفضيله على غيره من الأديان كلها، ولم يكن سببه ترجمته كتأثير أصله المعجز للبشر في إقناع العقول، وهداية القلوب الذي كان سبب اهتداء العرب، وقلب طباعهم، وجمع كلمتهم، وارتفاع رايتهم، وخضوع الأمم والشعوب لهم.
ولو بلغت هذه الأصول والمقاصد للأعاجم بلغاتهم بأسلوب آخر بأن يذكر كل أصل في فصل خاص مع الشواهد عليه من القرآن والسنة، ببيان معاني نصوصهما بالتفسير، وإقامة الأدلة عليه من النقل والعقل - لكان يكون ذلك أقرب إلى الإقناع، وأشد تأثيرا في هداية المستعد للإسلام.
فإن هذه هي الطريقة المثلى للدعوة، وهي التي جرى عليها مسلمو خير القرون، وشهد لهم بذلك أصدق الشهود، وأبعدها عن الجرح والطعن - وهي سيرتهم الفضلى في فتوحهم وعدلهم المطلق في أحكامهم، وصلاحهم وإصلاحهم في أعمالهم، وبذلك انتشر الإسلام في الشرق والغرب، وساد أهله الأمم والشعوب بسرعة لم يعرف لها نظير في التاريخ.
فإسلام الأمة العربية كان بتأثير هداية القرآن وهدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجهاده به كما قال تعالى:
{ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } [الإسراء: 9]، { نهدي به من نشاء من عبادنا } [الشورى: 52] { ويهدي به كثيرا } [البقرة: 26] { { يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام } [المائدة: 16] وقال لنبيه: { { وجاهدهم به جهادا كبيرا } [الفرقان: 52] وقد كان كل ما كان من اضطهاد رؤساء قومه المعاندين له ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأجل صده عن تبليغ القرآن للعرب لجزمهم بما يكون من جذبهم به إلى اتباعه، كما قال لهم عمه أبو لهب في أول العهد بتبليغهم الدعوة: خذوا على يديه، قبل أن تجتمع العرب عليه.
ولم يكن ـ صلى الله عليه وسلم ـ يطلب منهم، ثم من كل من كان يعرض نفسه عليهم في الموسم إلا حمايته ليبلغ دعوة ربه، ولما أسلم من أسلم من الأنصار في موسم الحج سرا، ونشروا الدعوة في عاصمتهم يثرب، وصار لهم قوة يحمونه بها من قريش هاجر إليهم. فما زالت قريش تقاتله إلى أن رضي منهم بعد استكمال قوته أن يصالحهم في الحديبية بالشروط التي يرضونها - مع كراهة أصحابه كلهم لها - في مقابلة الشرط الوحيد الذي كان هو أهم المهمات عنده عليه صلوات الله وسلامه، وهو حرية الاختلاط والاجتماع بينه وبين سائر العرب، لعلمه بأن سماعهم للقرآن - ولاسيما منه - كاف لإسلام السواد الأعظم منهم، وكذلك كان. وكذلك ما فعل خلفاؤه وأصحابه الهادون المهديون من العجائب في نشر الإسلام وفتح الأقطار، وثل عروش أعظم دول الأرض قوة وعظمة ونظاما وتشريعا وحضارة، وتبديل ممالكهم وشعوبها بذلك كله ما هو خير منه - ما فعلوا ذلك كله إلا بتأثير القرآن.
وأما انتشار الإسلام في الأعاجم فقد كان بتبليغ الصحابة ثم من تبعهم في هديهم من العرب فالعجم للدعوة، وكان برهانهم عليها من أحوالهم الصالحة وسيرتهم الحسنى أقوى تأثيرا في تلك الشعوب من أقوالهم التي كانت تنقل إليها بالترجمة، ولم ينتشر الإسلام في شعب منها بترجمة القرآن بلغته، وقراءتهم لترجمته، وإنما كانت درجة الهدى والعلم والعمل ترتفع فيهم بقدر تدبرهم له بعد تعلم لغته، فكان من متقني لغة القرآن من الموالي كبار الأئمة المجتهدين من أهل الحديث وأهل الرأي، وجهابذة علوم اللغة وفنونها، وأفراد العباد، ونوابغ الأدباء، وفحولة الشعراء.
وقد كان إيمانهم الصحيح بتلك الدعوة المثلى هو الذي حملهم على طلب لغة الدين (العربية) من غير إلزام حاكم، ولا نظام تعليم إجباري تؤسس له المدارس. وقد ترجم القرآن في هذه القرون الأخيرة بأشهر لغات الشعوب الكبيرة من غربية وشرقية، فكانت ترجمته مثارا للشبهات وسببا للمطاعن، أكثر مما كانت سببا للاهتداء إلى الإسلام.
(فإن قيل): إن مثار الشبهات لم يكن من الترجمة بل من الخطأ فيها، وذلك يتلافى بالترجمة الصحيحة التي ندعو إليها، وإن سبب الطعن لم يكن إلا سوء قصد من أعداء الإسلام من دعاة النصرانية أو الملاحدة، وهؤلاء يطعنون في القرآن العربي المنزل أيضا.
(قلت): إني على علمي بهذا أقول: إن الترجمة أكبر عون على الأمرين، فإن الذي يطعن في القرآن المنزل إما أن يكون ضعيفا في اللغة العربية أو حاذقا لها راسخا فيها، فالأول شبيه بمن يحاول فهم القرآن من الترجمة أكثر ما يؤتى من جهله باللغة، وأما الثاني فهو يتكلف الطعن تكلفا يكابر به وجدانه، ويغالب ذوقه وبيانه، فيجيء طعنه ضعيفا سخيفا، ويكون الرد عليه سهل المسلك. واضح المنهج، وقلما يكون الدفاع عن الترجمة كذلك، وإن كانت صحيحة، ولن تكون صحيحة إلا في بعض الجمل أو الآيات القصيرة، دون السور والآيات الطويلة. بل بعض المفردات تتعذر ترجمتها بمفردات من اللغات الأخرى تؤدي المراد منها، وإنه ليوجد في كل لغة من هذه المفردات التي لا يوجد لها مرادف في لغة أخرى، وفي كلام بعض العارفين باللغة العربية وغيرها من اللغات المشهورة ما يدل على أن العربية أغناهن بهذه المفردات دع ما لها من الخصائص في فنون المجاز والكنايات.
تعذر ترجمة القرآن
قد تكرر في كلامنا الجزم بتعذر ترجمة القرآن، والمسلم الصحيح الإسلام لا يحتاج إلى دليل على هذا؛ لأنه يؤمن بأن القرآن معجز للبشر بأسلوبه ونظمه العربي المنزل، كما أنه معجز بهدايته وإصلاحه للبشر، وقد تحدى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ العرب بهذا الإعجاز، وتحدى المسلمون به من بعدهم فثبت عجز الجميع عن الإتيان بمثله، وصدق قوله عز وجل:
{ { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } [الإسراء: 88] والترجمة لا تكون صحيحة إلا إذا كانت مثل الأصل، فالآية نص قطعي على عجز الإنس والجن عن الإتيان بمثله، ولو كان بعضهم عونا ومساعدا لبعض، فكيف يمكن أن يأتي بمثله فرد أو جماعة؟!.
وإن الذين يريدون ترجمته من الترك لصرف قومهم بها عن الكتاب المنزل من عند الله ليسوا بمؤمنين به، فتقوم عليهم هذه الحجة، وإن كثيرا من المسلمين المقلدين الذين يجهلون كثيرا من أصول الإسلام وفروعه لينخدعون بشبهات القائلين بترجمة الكلام الإلهي باللغات المختلفة، ولا يدرون أنه غير ممكن، ولا أنه غير جائز، وإذ قد بينا للفريقين عدم جوازه وما يترتب عليها من المفاسد بالأدلة المقنعة وجب أن نبين لهما الدلائل على عدم إمكانها من جهة اللغة، ولا نقتصر على بيانها من جهة الشرع فقط.
وقد علم أننا نعني بالترجمة حقيقة معناها والمراد منها الذي هو محل النزاع، وهو التعبير عن الآيات العربية بما يؤدي معانيها وتأثيرها من لغة أخرى.
وإن توفية هذا الموضوع حقه يقتضي تأليف كتاب مستقل، ولكننا نكتفي بقليل من الشواهد تغني عن الكثير، ونبدأ بالمفردات، ونثني بالجمل ثم نعززهما بكلمة في الأساليب.
أما المفردات: فإما حقيقة وإما مجاز وإما كناية، وكل منها إما لغوي سبق به استعمال العرب، وإما شرعي أو مما انفرد به التنزيل، ومنها المشترك الذي وضع لعدة معان في اللغة تعرف المراد منها بالقرائن.
ومن علماء اللغة والأصول من أثبت أن اللفظ قد يستعمل في حقيقته ومجازه والمشترك في معنييه أو معانيه إذا لم يمنع من ذلك مانع، وقد جرى على هذا الجمع شيخ المفسرين الإمام محمد بن جرير الطبري في تفسيره، وتبعناه فيه، ثم إن هذه المفردات تنقسم إلى أسماء وأفعال وحروف معان، وكل منها أقسام لكل منها مواقع في الاستعمال.
ومن المعلوم بالقطع لدى العارفين باللغات المتعددة أنه لا يمكن أن تتفق لغتان من لغات العالم في جميع مفرداتها، ولا في طرق دلالتها، وإذا فرض اتفاق لغتين في حقيقة لفظ واحد ومجازه وكنايته بحيث يترجم أحدهما بالآخر مهما يكن المراد منه للمتكلم فلن يمكن مثل هذا في الأوضاع الجديدة الشرعية والعرفية، كالألفاظ الموضوعة في القرآن لصفات الله تعالى وغير ذلك من عالم الغيب أو لبعض العبادات.
ولذلك ذهب بعض علماء اللغات وعلماء الاجتماع إلى استحالة قيام لغة مقام أخرى في آدابها ومعارفها ومعانيها العقلية والشعرية.
مثال ذلك: الأسماء الموضوعة ليوم القيامة وهي كثيرة، وكل لفظ منها له معنى تدل عليه مادته العربية، وهذا المعنى مراد لتحققه في ذلك اليوم، كالواقعة والقارعة والطامة والصاخة والحاقة والغاشية إلخ. وقد أقمت الحجة على طبيب تركي في القسطنطينية بهذه الألفاظ، إذ زعم أنه يترجم القرآن المجيد - وهو لا يحسن التعبير عن مراده باللغة العربية كما يجب - قلت له: لكم أن تفسروه بالتركية كما فعل بعض علمائكم من قبل، وأما الترجمة فهي مما يتعذر على أهل اللغات التي هي أغنى من لغتكم وأوسع وإن أتقنوا العربية.. ثم سألته: كيف تترجم هذه المفردات الموضوعة ليوم القيامة؟
قال: إنه يترجمها بيوم القيامة:
قلت: إذا تفوت المعاني الاشتقاقية المقصودة بالذات من هذه الأسماء، وهي بيان صفات ذلك اليوم مبدأ وغاية وما يقع فيهن، وما فيها من الوعظ والنذر المؤثرة في الخوف والرجاء، والرادعة عن المعاصي، وإذا ترجمت بمعناها الاشتقاقي لم يفهم منها أن المراد بها صفة يوم القيامة فإن القارعة اسم فاعل يوصف به في الحقيقة امرأة تقرع أحدا بالمقرعة، وفي المجاز داهية تقرع القلوب بأهوالها، والقرع في أصل اللغة ضرب شيء على شيء - كما قال الراغب - وأخص منها (الصاخة) وهي الضربة ذات الصوت الشديد يصخ المسامع أي يقرعها حتى يصمها أو يكاد، أو الذي يضطرها إلى الإصاخة والإصغاء.
وإذا أنت فسرت الكلمة بيوم القيامة، ووصفته بالقارعة في سورتها وبالصاخة في سورة
{ عبس وتولى } [عبس: 1] تكون قد انفلت من مأزق الترجمة إلى سعة التفسير، وحينئذ قد تكون عرضة لغلط في التفسير يضيع به شيء من مراد الله تعالى من هذه الألفاظ.
وإذا كان قد وقع في هذا بعض المفسرين بالعربية، فالمترجم بلغة غير العربية أولى بالغلط؛ فإن بعض المفسرين قال: إن المراد بالقارعة الداهية التي تقرع القلوب.
وهذا التفسير مردود بدلالة القرآن نفسه، فإن الله تعالى يقول في شرح هذا القرع:
{ { إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة خافضة رافعة إذا رجت الأرض رجا وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا } [الواقعة: 1 - 6] فهذا عين المراد من قوله تعالى: { { القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش } [القارعة: 1 - 5].
ويوضح هذا من نظريات الهيئة الفلكية ما ذهب إليه بعض الفلكيين من أن خراب هذا العالم لا يتصور إلا بدنو بعض النجوم ذوات الأذناب من الأرض وصدمه أو قرعه لها قرعة شديدة على نسبة قوة الجذب، تبس به الجبال أي تتفتت حتى تكون هباء منبثا في الفضاء، وحينئذ يبطل نظام الجاذبية العامة، فتتناثر الكواكب وتتصادم كما قال تعالى في وصف ذلك اليوم:
{ { وإذا الكواكب انتثرت } [الأنفطار: 2] فانطباق الآيات المختلفة الواردة في وصف يوم القيامة من السور المتفرقة على هذه النظرية الفلكية التي لم تكن في عصر التنزيل معروفة للعرب ولا لغيرهم من علماء الفلك على الطريق القديم - قد تعد في هذا العصر من معجزات القرآن وعجائبه، وفاقا لما ورد في وصفه من الأثر (ولا تنتهي عجائبه) ولكنه لا يظهر من ترجمة القرآن الحرفية، فيكون قصورها وعدم موافقتها للأصل من طرق متعددة.
فلما سمع مني ذلك الطبيب التركي المغرور هذا الشرح بهت ولم يحر جوابا - على أننا رأينا في الصحف أن الذين شرعوا يترجمون القرآن في هذه الأيام قد فسروا يوم الدين في الفاتحة بيوم القيامة. والدين الجزاء على الأعمال، وذكره مقصود بالذات، وله من التأثير ما ليس ليوم القيامة، فإنه يذكر التالي للفاتحة في الصلاة وغيرها بأن الله سيحاسبه على أعماله ويجزيه بها " إن خيرا فخير، وإن شرا فشر ".
وأذكر من مفردات الأفعال دلالة صيغها من نحو التكلف والتكثير والمشاركة والمطاوعة إلخ. ومن مفردات حروف المعاني والأدوات الفروق في العطف ونكت وضع بعضها في موضع الآخر كقوله في سورة الأنعام:
{ { قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين } [الأنعام: 11] وقوله في سورة العنكبوت: { قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق } [العنكبوت: 20] فعطف النظر في الأول بـ " ثم " المفيدة للتراخي، وفي الثاني بـ " الفاء " المفيدة للتعقيب.
فهل يوجد في سائر اللغات مثل هذا العطف الذي تقتضيه المعاني، كما بيناه في تفسير الآية الأولى مع مقارنات أخرى (ص268 وما بعدها ج 7 ط الهيئة) وله نظائر أخرى في تفسيرنا.
وأذكر من معاني الأدوات ما حققه الإمام عبد القاهر الجرجاني من الفرق بين الحصر بـ " إنما " والحصر بحرفي النفي والإثبات كقولك: ما هو إلا كذا. وهو أن موضوع " إنما " على أن تجيء لخبر لا يجهله المخاطب ولا يدفع صحته، أو لما نزل هذه المنزلة، وأن الخبر بالنفي والإثبات يكون للأمر ينكره المخاطب ويشك فيه، وقد ذكرنا هذه القاعدة بالأمثلة في تفسير قوله تعالى من سورة الأنعام:
{ قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به } [الأنعام: 145] وبينا سبب حصر هذا المعنى بـ " إنما " في سورتي النحل والبقرة، وأن الجمع بينهما هو أن آية الأنعام هي أول ما نزل في هذا الحصر، فكان لما ينكره المشركون ويجهله المسلمون، وأن آيتي النحل والبقرة نزلتا بعد ذلك فكانت في معنى صار معروفا، فهل يوجد مثل هذا الفرق في الأدوات في اللغة التركية وغيرها؟
وهل يفهم المترجمون هذه الدقائق في الكتاب الإلهي فيراعونها في ترجمتهم، إن كانت لغتهم تساعدهم على ذلك؟!.
ومن هذا الباب: الفرق بين " إن " و " إذا " الشرطيتين ذكرني به قولي الآن " إن كانت لغتهم تساعدهم على ذلك " وهو أن الأصل في شرط " إن " أن يكون مما يجهله المخاطب أو ينكره أو يشك فيه أو ما ينزل هذه المنزلة، وأن شرط " إذا " بخلافه كما هو مقرر في علمي المعاني والنحو بأمثلته.
وأما الجمل فأكتفي منها بإيراد شاهد واحد، وهي الجملة المفيدة بالحال والفرق فيها بين الحال المفردة وجملة الحال، ويترتب على ذلك أحكام شرعية، كما بيناه في تفسير قوله تعالى من سورة النساء:
{ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا } [النساء: 43] فقوله تعالى: { وأنتم سكارى } [النساء: 43] جملة حالية مقيدة للنهي. وقوله: { { جنبا } [النساء: 43] حال مفردة مقيدة له أيضا، ولكن الأولى تفيد النهي عن السكر قبل الصلاة لئلا يأتي وقت الصلاة في حال السكر فيضطر السكران إلى ترك الصلاة أو إلى أدائها وهو سكران وهو المنهي عنه في الآية.
وأما الثانية فلا تدل على ترك أسباب الجنابة قبل وقت الصلاة، ولا في وقتها إلا أن يعلم أنه لا يتمكن من فعل الطهارة وأداء الصلاة قبل ذهاب الوقت.
ومثاله ما قاله الفقهاء في النذور وهو أن من قال: لله علي أن أعتكف صائما وجب عليه أن يصوم؛ لأجل الاعتكاف ولا يجزئه أن يعتكف في رمضان، ومن قال لله علي أن أعتكف وأنا صائم لا يلزمه صوم لأجل الاعتكاف بل يجزئه أن يعتكف في رمضان، ويراجع وجه كل منهما في تفسير الآية (ص94 وما بعدها ج 5 ط الهيئة) فهل يفهم مترجم القرآن بالتركية مثل هذه الدقائق؟ وهل تساعده لغته على مراعاتها إن كان يفهمها؟ أم لا يحتاج إلى شرح وتفسير لبيانها فيكون مفسرا لا مترجما؟!.
هذا شاهد من شواهد دقة التعبير في الأحكام الشرعية العملية. وأما دقة التعبير، وبلاغته في الوصف المفيد للموعظة والتأثير، فمن عجائب شواهده وصف الظالمين يوم القيامة في قوله تعالى من سورة إبراهيم:
{ { إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء } [إبراهيم: 42 - 43].
شخوص الأبصار عبارة عن ارتفاعها، وكون أجفانها مفتوحة ساكنة لا تطرف و
{ مهطعين } [إبراهيم: 43] من أهطع البعير إذا صوب عنقه ومد بصره، وقيل: الإهطاع أن تقبل ببصرك على المرئي تديم النظر إليه لا تلتفت إلى غيره، ويأتي بمعنى الإسراع، و { { مقنعي رءوسهم } [إبراهيم: 43] من أقنع البعير رأسه إلى الحوض ليشرب إذا رفعه، وقيل: إنه يكون رفعا وخفضا فهو من أسماء الاضداد، وقوله: { { لا يرتد إليهم طرفهم } [إبراهيم: 43] معناه أن لهم في شخوص الأبصار وإهطاعها مع امتداد الأعناق وتصويبها إلى ما تنظر إليه شغلا شاغلا لها أن ترجع إليهم فتكون طوع إرادتهم يوجهونها حيث شاءوا بل هم في هول وكرب لا مشيئة ولا سلطان لهم معهما على أبصارهم بل عيونهم ممدودة مفتوحة لا تطرف ولا تتحرك ولا تتوجه إلى شيء آخر بتصويب ولا تصعيد.
ثم بين علة هذا وسببه في النفس فقال: وأفئدتهم هواء أي خلاء خاوية من العقل فاقدة للقوة والإرادة.
لعمر الحق إذا تصور من يفهم هذا الوصف حق الفهم قوما هذه حالهم في ذلك اليوم حتى كأنه يراهم ليأخذن الرعب بمخنقه، وليستحوذن الذعر على شعوره وإدراكه، ولاسيما إذا كان من العرب الخلص أو الأعراب الأقحاح.
وأذكر في الكنايات مثل الرفث وإفضاء الزوج إلى الزوج وقوله تعالى:
{ { فلما تغشاها حملت حملا خفيفا } [الأعراف: 189] وقوله تعالى: { أو لامستم النساء } [النساء: 43] وقوله: { { نساؤكم حرث لكم } [البقرة: 223] وقوله: { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } [البقرة: 237] فإذا فرضنا أن في اللغة التركية وغيرها لفظا بمعنى التغشي الدال على الستر، ولفظا بمعنى الحرث وهو الزرع - لأن معانيهما كالمس والملامسة مشتركة بين الشعوب - فهل تستعمل هذه الألفاظ وما في معناها في لغاتهم كناية عن الوظيفة الزوجية السرية كما تستعمل في العربية؟.
وأما أسلوب القرآن فالكلام فيه هو البحر الخضم، والقاموس المحيط الأعظم، فإنه أظهر وجوه الإعجاز اللفظية، وذلك أن يمزج فنون الكلام. وينظم مقاصد الهداية والإرشاد على اختلاف أنواعها، وتباين موضوعاتها، مزجا متلائما، ونظما متناسبا متناسقا، موافقا للذوق السليم، مطابقا لنكت البلاغة.
فالعقائد الإلهية والدلائل العلمية والعقلية، والأخبار الغيبية، والسنن الكونية والاجتماعية، والمواعظ الأخلاقية والأدبية، وأحكام العبادات والمعاملات القضائية والسياسية، وقصص الأنبياء، ووصف الأرض والسماء، وما فيهما من جمادات وأحياء، وما بينهما من هواء وهباء، تراه كله في السورة الواحدة، وترى الكثير منه في آية واحدة، بعبارة بديعة مؤثرة، ينتقل فيها العقل من فائدة إلى فائدة ويتقلب فيها القلب من موعظة إلى موعظة، مع منتهى الإحكام والمناسبة، بحيث لا تمل تلاوته، ولا تفتأ تتجدد هدايته، حتى إن بعض الأدباء وأهل الذوق في اللغة العربية من غير المسلمين يترددون في ليالي رمضان على بيوت معارفهم من المسلمين؛ ليسمعوا القرآن. ويمتعوا قلوبهم وأذواقهم بسماع ترتيله، بذلك النظم الذي ليس بشعر ولا سجع، ولا كلام مرسل، بل هو نظم خاص، قابل للأداء بالنغمات المختلفة المؤثرة على تفاوت آياته وفواصله في الطول والقصر، فالآية قد تكون كلمة مفردة أو كلمتين وجملة أو جملتين، أو جملا قليلة أو كثيرة، وكلها " مخالفة لسائر أساليب الكلام العربي المنثور والمنظوم، ولكل نوع منها تأثير غريب في ترتيلها وتجويدها، بالأصوات الملائمة لمعانيها.
صليت الفجر مرة في أهل بيتي بسورة القمر، وتلوتها بصوت خاشع صادع مناسب لزواجرها ونذرها، فقالت لي الوالدة: إن هذه النذر تقصم الظهر، وصارت تسميها سورة النذر.
وقالت مثل هذا القول مرة أخرى في سورة (ق) فهل يتصور مثل هذا التأثير للترجمة التركية أو غيرها من لغات الأعاجم في أنفس أهلها كما يؤثر في أنفسهم ما دون القرآن من كلام بلغائهم؟ كلا.
نموذج من ترجمة تركية
إنني بعد كتابة ما ذكر تذكرت أن عند بعض معارفي ترجمة تركية للقرآن فاستعرتها منه، فإذا هي ترجمة جميل بن سعيد، وسيأتي ذكرها - وإذا فيها من النقص والحذف والخطأ فوق ما كنت أظن، ويظن أنه أخذها من الترجمة الفرنسية؛ لأنه هو لا يعرف العربية، وهذه جرأة قبيحة لا تصدر عن رجل يؤمن بالله وكتابه ورسوله، وتدل على سوء نية هؤلاء الناس في الترجمة، وكون غرضهم منها العبث بدين الإسلام وتنفير الترك منه. وفتح أبواب الطعن لهم فيه.
وقد راجعنا فيها ما ذكرنا من أسماء يوم القيامة فوجدناه يذكر ألفاظها العربية ويفسرها بيوم القيامة. وأما كنايات الوقاع فحذف منها قوله تعالى:
{ { فلما تغشاها } [الأعراف: 189] واكتفى بكلمة بما يدل على الحمل.
وترجم الملامسة بما معناه وإذا وجدتم بالمناسبات الجنسية مع النساء فتنظفوا.
وفيه ما فيه. وأما الحرث فترجمه بكلمة " تارلا " وهي الأرض المعدة لزرع الحبوب دون المشجرة، ومن المعلوم أن الكناية تجامع الحقيقة، فإحلال الرفث إلى النساء في ليالي رمضان يدل بمفهومه على حظر الرفث بالقول على الصائم، وهو المعنى الحقيقي للكلمة كما يدل على تحريم الفعل المكنى عنه. والترجمة التركية لا تفيد الدلالتين.
وترجم قوله تعالى:
{ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } [النساء: 43] إلخ. بما معناه: لا تصلوا في حال سكركم بل انتظروا أن تجيئوا إلى حال يمكنكم أن تفهموا فيها ما تقولون - ولا تعبدوا في حال كونكم جنبا بل انتظروا الغسل.
وهذه ترجمة تفسيرية باطلة من وجوه كما يرى القارئ وليس فيها تفريق بين الحالين ولا بين الحكمين.
وأما قوله تعالى في الظالمين:
{ { إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء } [إبراهيم: 42 - 43] فقد ترجمه بما معناه الحرفي: يمهلهم الله إلى يوم يعطفون فيه أنظارهم إلى السماء بصورة كاملة، وستبقى قلوبهم فارغة وأنظارهم ثابتة، وهم يسرعون بعجلة رفعت رؤوسهم اهـ. فزاد على الأصل توجيه النظر إلى السماء وقوله: " بصورة كاملة " أراد به تفسير شخوص البصر، وهو لا يؤدي معناه ولا يصور ذلك الوصف البليغ المؤثر للأبصار الشاخصة، والرءوس المقنعة، والأعناق المهطعة، بل لم يذكر الرؤوس والأعناق ألبتة. وإذا كان بهذه الدركة من العجز مع استعانته بالألفاظ العربية، فكيف تكون ترجمتهم لكتاب الله تعالى إذا حاولوا أن تكون تركية خالصة خالية من الألفاظ العربية كما يطلب غلاة غواتهم؟!.
هذا وإن في هذه الترجمة من الغلط وتحريف المعاني والزيادة والنقصان ما لا يعقل له المطلع عليه سببا إلا تعمد الإضلال؛ لأن الجهل وحده لا يهبط بهذا المترجم إلى هذا الدرك الأسفل مع ادعائه الوقوف عند حدود التعبير عن مدلول اللفظ العربي بلفظ تركي، كوظيفة مترجمي المحاكم القضائية.
فمن التحريف المخل الدال على سوء النية ترجمة قوله تعالى:
{ وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة } [يونس: 87].
اتفق مفسروا السلف والخلف على أن معنى اتخاذ بيوتهم قبلة أن يصلوا فيها، فكأنه قال: اجعلوها مساجد، وهو الصحيح - أو أن يوجهوها إلى القبلة - قيل: هي الكعبة. وقيل بيت المقدس، إلا ما ذكره بعضهم من احتمال جعلها متقابلة متقاربة ولكن المترجم التركي ترجمها بقوله:
" قومكزا يجون مصرده خانه لر إنشا ايديكز. ويوتلريني قبلة طرفنه توجيه ايديكز " أي أنشئوا في مصر بيوتا لقومكم ووجهوا أصنامها لجهة القبلة (؟؟) فما قول العالم الإسلامي في ترجمته للقرآن، تعلم الترك أن الله تعالى أجاز لبني إسرائيل اتخاذ الأصنام. والعياذ بالله تعالى!!.
وليس هذا هو الغلط الوحيد في ترجمة هذه الآية الكريمة بل هو الأفحش، وفيها أيضا أنه ترجم تبوأ البيوت وهو غلط، وإنما معناه سكناها.
ومن الحذف والإسقاط أنه أسقط من ترجمة سورة البقرة قوله تعالى:
{ ثم استوى إلى السماء } [البقرة: 29] وأسقط ذكر المن والسلوى من الآية 57 منها - وأسقط وصف القرآن بالقيم من أول سورة الكهف، والأمر بالسجود والاقتراب من آخر سورة العلق.. وغير ذلك مما يشق إحصاؤه.
نعم قد بلغنا أن رئيس الأمور الدينية في الجمهورية التركية قد أعلن أن هذه الترجمة مملوءة بالأغلاط فلا يجوز الاعتماد عليها، ولكن هذه الحكومة لم تجمع نسخها وتمنع استعمالها وطبعها فهي منتشرة.
وبلغنا أنها ألفت لجنة لترجمة القرآن. أي مسلم يعتمد عليها وعلى لجنتها في علم يعده المسلمون العارفون بالإسلام جناية عليه وهدما له؟.
صفة ترجمات القرآن التركية
وقد نشرت جريدة الأخبار المصرية رسالة لمراسلها من الآستانة في هذا الموضوع جاء فيها: بعد الموافقة على ترجمة الترك للقرآن وتحبيذها ما نصه:
" كان أول مترجم للقرآن الكريم زكي أفندي مغامز، وهو مسيحي سوري، وقد اطلعنا على ترجمته صدفة قبل طبعها، فأبدينا رأينا في الحال، وكنا السبب في عدم طبعها ثم قام على أثر ذلك الشيخ محسن فاني (هو حسين كاظم بك) أحد أعلام تركيا في الأدب والفضل، وتصدى لترجمة القرآن الكريم مع جماعة من زملائه، وقد رأيناه لا يؤدي المعاني حقها، لا يؤديها في أحسن صورة يمكن أن تؤدى بها في اللغة التركية؛ ولذلك فإننا انتقدناه مرارا.
"ثم قام بعدهما جميل سعيد بك حفيد كمال باشا ناظر المعارف الأسبق، فترجم القرآن لقد كان المنتظر أن تكون الترجمة الثانية أحسن وأكمل من الأول إنما لم يتحقق ذلك الأمل، ولذلك فإننا قد انتقدنا جميل بك أمر انتقاد، ولم نترك له أي منفذ للتخلص، وقد أراد حضرته أن يجيبنا على انتقاداتنا بتخفيف أهمية أخطائه فلم يفلح في ذلك، بل كان جوابه أعدل شاهد على أنه غير كفء للعمل الذي أراد أن يقوم به، والأدهى من ذلك أننا عند انتقادنا له ظننا أنه ترجم القرآن من لغة من لغات أوربا، لا من أصله العربي، واستدللنا على ذلك ببعض الدلائل، فلم يستطع أن يجيبنا على ذلك ببنت شفة؛ ولذلك فإننا في مقالتنا الثانية شددنا عليه الحملة لآخر درجة، وقلنا له:
إنه فضح الشعب التركي باقتراف هذه الجريرة المدهشة؛ لأن الشعب التركي شعب مسلم منذ عشرات القرون، شعب يخدم المدنية الإسلامية ويتولى زعامة الأمم الإسلامية منذ قرون، شعب يفهم القرآن الكريم من أصله العربي منذ قرون شعب أنجب المئات من العلماء الذين فسروا القرآن، وتبحروا في جميع العلوم المستفادة منه. فعار أن يقرأ ترجمة القرآن في هذا القرن من لغة مبشر متعصب. وقد أخرجنا لذلك المترجم كثيرا من أخطائه التي لم يستطع أن يرد عليها.
وعدا هذا فإن رياسة الأمور الدينية في أنقرة لم تتأخر مطلقا في القيام بواجبها، بل إنها عند انتشار كل ترجمة من هذه التراجم حذرت الناس منها، ونبهتهم إلى ما فيها من التحريفات. وبذلك قضت على تلك الكتب بما تستحقها انتهى المراد منه.
وجاء في جريدة الأهرام في 29 من رمضان سنة 1342 هـ ما نصه:
ترجمة القرآن بالتركية
أقدم فريق من الترك أخيرا على تنفيذ الفكرة التي طالما تمنوا تنفيذها، وهي أن يترجموا القرآن بالتركية، ويستغنوا به عن النظم العربي المبين، فشرع مصطفى أفندي العينتابي وزير الحقانية السابق، والشيخ محسن فاني، ومصطفى بك، وسيف الدين بك في نشر الترجمة التركية بأقلامهم.
وقد أنشأت مجلة (سبيل الرشاد) التركية مقالة علمية في انتقاد هذه الترجمة، وبيان مواطن الخلل فيها، وقدمت لذلك نموذجا من الغلطات الموجودة في ترجمة (سورة الفاتحة) فقط فبلغت ست غلطات لا يجوز التسامح في واحدة منها. فمن ذلك خطؤهم في وضع لفظ يدل على المعنى المندمج في حرف (أل) من (الحمد) وحشوهم لفظا زائدا في ترجمة الرحمن الرحيم وتقول المجلة التركية: إنهم قطعوا بذلك نظم الكلمات القدسية بل سحقوا ما فيها من الدرر، وترجموا وغيروا لفظ يوم الدين بلفظ يوم القيامة. وقد أبانت المجلة التركية الفروق العظيمة بين اللفظين وزادوا في الفاتحة نداء " يا الله " مرتين بلا لزوم. وبذلك حولوا بلاغة القرآن وإيجازه إلى شكل غير لطيف. وترجموا كلمة (اهدنا) بلفظ " أرنا " قالت المجلة: وبذلك نحوا نحو مذهب المعتزلة، ولا ندري أقصدوا ذلك أم هي رمية من غير رام؟
وحرفوا نظم صراط الذين أنعمت عليهم فجعلوا " الصراط " في الترجمة مفعول الإنعام، وهو مفعول الهداية، فجاءت ترجمتهم هكذا: " الصراط الذي أنعمته على غير المغضوب عليهم ولا الضالين ".
قالت مجلة سبيل الرشاد: والحق أن جرأة أناس هذا مبلغ علمهم بلغة القرآن، على أن يترجموا القرآن لمما يدعو إلى الأسف، وإنه لإثم عظيم. قالت: ورجاؤنا إليهم أن يستغفروا الله مما ارتكبوا من الإثم العظيم، وأن يتوبوا إليه ويتحولوا عن هذا العمل السقيم الذي حاولوه اهـ. وتقول: بلغنا أنهم لم يتوبوا، وأنهم مأمورون بذلك من حكومة أنقرة، وأن ترجمتهم ستكون الرسمية والله أعلم.
قد علم مما تقدم أن كل ترجمة حاولها الترك قاصرة عن أداء معاني القرآن الظاهرة التي يفهمها كل قارئ، ويسهل التعبير عنها بكل لغة، دع ما أشرنا إليه من المعاني الدقيقة، والأوصاف الممتازة في البلاغة، وأسماء الله تعالى وصفاته وعالم الغيب، والتعبير عنها بالمفردات والجمل والأساليب الخاصة باللغة العربية دون لغات العجم ولاسيما التركية الفقيرة، وهذا يفتح أبوابا واسعة للشبهات والمطاعن فيه، ويسد أبوابا واسعة لضروب من التفسير والتأمل الدافعة لها، وضروب من المعارف هي من أعظم الآيات البينات له. وقد علمنا أن الترك حظروا تعليم اللغة العربية وفنونها والعلوم الشرعية في بلادهم. فعلى هذا لا يجد قارئ ترجمتهم التركية للقرآن في الأجيال الآتية مرجعا لتفسير هذه الترجمة إذا هو استشكل أو طعن له أحد في شيء منها.
وأضرب لذلك من المثل قوله تعالى:
{ { والتين والزيتون } [التين: 1] الذي سأل عنه مصطفى كمال باشا بعض علمائهم، فأجابه بأن الجواب لا يمكن بيانه في أقل من نصف ساعة، فهزأ به الباشا، وأراد أن يجعله مثلا في الجهل، وهو أجدر بهذا الوصف في هذا المقام لتوهمه أنه يكفي في الجواب أن يذكر له مرادف التين بالتركية وهو " انجير "، وذلك العالم يعذر إذا اعتقد أن هذا الرجل الكبير في مقامه وفي معارفه العسكرية لا يعقل أن يسأل عن تفسير بعض المفردات العربية بما يقابلها في التركية.
واعتقد أنه إنما يريد بالسؤال معنى إقسام الله تعالى ببعض الشجر والبقاع والبلاد وحكمته، كما إذا سأل هذا الفقيه من الباشا عما يسميه رجال الحرب " خط الرجعة " مثلا، فإنه لا يمكن أن يريد بذلك تفسير كلمة خطوكلمة الرجعة لغة.
ولعل ذلك العالم كان يعتقد أن الباشا لم يسأل هذا السؤال إلا وهو منكر لورود القسم بالتين والزيتون، كما يؤخذ من كلام له كثر نقله عنه، وهو احتقار التعاليم والنظم التي وضعت في صدر الإسلام، وزعمه أنها وضعت لقوم منحطين في الحضارة والفنون، فلا يليق اتباعها في هذا العصر الذي ارتقت فيه الصناعات والفنون والمعارف المادية، واستباح المترفون فيه الرذائل باسم المدنية، فأراد أن يزيل من فكره هذه الشبهات الجهلية، ويبين له معنى صيغة القسم عند العرب، وهو تأكيد الكلام وحكمة ما في القرآن من الإقسام بالمخلوقات كالتذكير بما فيها من الآيات، ومناسبة كل قسم منه أقسم به عليه لتوكيده، كالإقسام بالنجم على هداية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورشاده؛ لأن كلا منهما يهتدى به، ثم الانتقال من ذلك إلى ما ورد في التفسير المأثور مناسبا لذلك.
ولا بأس ببيان ذلك وإن طال الاستطراد؛ إزالة لشبهة مصطفى كمال باشا وأمثاله لئلا يكون تأخيرا للبيان عن وقت الحاجة فنقول:.
إن الجمع في قوله تعالى:
{ والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين } [التين: 1 - 3] بين نوعين من الشجر وموقعين من بقاع الأرض لم يكن إلا لمناسبة جامعة بينهما كما هو المعهود في التنزيل، وفيما دونه من كلام البلغاء أيضا، ولما كان من المعلوم قطعا أن طور سينين (أي سيناء) مهبط الوحي على موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومظهر نبوته - وأن البلد الأمين (مكة) مهبط الوحي على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومظهر نبوته - ترجح أن يكون المراد بالتين والزيتون الكناية عن مظهرين من مظاهر النبوة والدين، كما يكنى بالأهرام أو أبي الهول عن حضارة الفراعنة، وبشجر الأرز عن جبل لبنان مثلا.
وإذا رجعنا للتفسير المأثور عن السلف في ذلك نرى فيه عن ترجمان القرآن وحبر الأمة ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قولين:
(أحدهما) ما رواه عنه ابن جرير، وابن أبي حاتم وابن مردويه في تفاسيرهم، وهو أن المراد بالتين مسجد نوح (عليه السلام) الذي بناه على الجودي - أي حيث استوت سفينته بعد الطوفان، والزيتون بيت المقدس، وطور سينين مسجد الطور، والبلد الأمين مكة.
(ثانيهما) ما رواه عنه الأخير من أن المراد بالتين والزيتون المسجد الحرام والمسجد الأقصى حيث أسري بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلخ.
ويقوي الأول تعدد رواته وموافقة التاريخ له كما بينه شيخنا الأستاذ الإمام من وجه آخر في تفسير السورة من جزء " عم "، فإنه قال بعد حكاية أشهر أقوال المفسرين ما نصه:.
" وقال قليل من المفسرين إن الإقسام هو بالنوعين لذاتهما التين والزيتون. قالوا: لكثرة فوائدهما، ولكن تبقى المناسبة بينهما وبين طور سينين والبلد الأمين وحكمة جمعهما معهما في نسق واحد غير مفهومة؛ ولهذا رجح أنهما موضعان، وقد يرجح أنهما النوعان من الشجر، ولكن لا لفوائدهما كما ذكروا، بل لما يذكر أن به من الحوادث العظيمة التي لها الآثار الباقية في أحوال البشر.
قال صاحب هذا القول: إن الله تعالى أراد أن يذكرنا بأربعة فصول من كتاب الإنسان الطويل من أول نشأته إلى يوم بعثة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فالتين إشارة إلى عهد الإنسان الأول، فإنه كان يستظل في تلك الجنة التي كان فيها يورق التين، وعندما بدت له ولزوجه سوآتهما طفقا يخصفان عليهما من ورق التين.
والزيتون إشارة إلى عهد نوح عليه السلام وذريته، وذلك؛ لأنه بعد أن فسد البشر، وأهلك الله من أهلك منه بالطوفان، ونجى نوحا في سفينته واستقرت السفينة، نظر نوح إلى ما حوله فرأى المياه لا تزال تغطي وجه الأرض فأرسل بعض الطيور لعله يأتي إليه بخبر انكشاف الماء عن بعض الأرض فغاب ولم يأت بخبر، فأرسل طيرا آخر فرجع إليه يحمل ورقة من شجر الزيتون فاستبشر وسر وعرف أن غضب الله قد سكن، وقد أذن للأرض أن تعمر. ثم كان منه ومن أولاده تجديد القبائل البشرية العظيمة في الأرض التي محي عمرانها بالطوفان، فعبر عن ذلك الزمن بزمن الزيتون. والإقسام هنا بالزيتون للتذكير بتلك الحادثة، وهي من أكبر ما يذكر به من الحوادث.
وطور سينين إشارة إلى عهد الشريعة الموسوية، وظهور نور التوحيد في العالم بعد ما تدنست جوانب الأرض بالوثنية، وقد استمر الأنبياء بعد موسى يدعون قومهم إلى التمسك بتلك الشريعة إلى أن كان آخرهم عيسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ جاء مخلصا لروحها مما عرض عليه من البدع، ثم طال الأمد على قومه فأصابه ما أصاب من قبلهم من الاختلاف في الدين، وحجب نوره بالبدع، وإخفاء معناه بالتأويل، وإحداث ما ليس منه بسبيل، فمن الله على البشر ببداية تاريخ ينسخ جميع تلك التواريخ، ويفصل بين ما سبق من أطوار الإنسانية وبين ما يلحق، وهو عهد ظهور النور المحمدي من مكة المكرمة، وإليه أشار بذكر البلد الأمين. وعلى هذا القول الذي فصلنا بيانه يتناسب القسم والمقسم عليه كما سترى " انتهى المراد منه.
ومن هذا الشرح تعلم أن ذلك العالم التركي على علم لا يشاركه مصطفى كمال باشا في شيء منه، وأنه مصيب في تقدير زمن الجواب بنصف ساعة، كما تعلم أن الترجمة التركية لن تكون إلا قاصرة عن احتمال مثل هذا التفسير، وأنها تمهيد للإضلال والتكفير.
سبحان الله! أنشك في كون مراد ملاحدة الترك بترجمة القرآن التوسل بها إلى الطعن فيه، والتشكيك في كونه كلام الله عز وجل، وإقامة الشبهات على بطلان دين الإسلام، وترك المسلم منهم في ظلمات لا يبصر فيها بصيصا من النور يهتدي به إلى الدفاع عن دينه؟
أنشك في هذا بعد إقدامهم على إبطال التشريع الإسلامي من حكومتهم حتى في الأحكام الشخصية من زواج وطلاق وإرث، تفضيلا للتشريع الأوربي عليه على اختلافه، وإبطال التعليم الإسلامي من بلادهم، واضطهاد علماء الدين حتى في ملابسهم، فقد أكرهوهم على لبس الزي الخاص بغير المسلمين كغيرهم، ولم يبالوا بمراعاة وجدان أحد ولا اعتقاده في أن ذلك معصية لله تعالى بل هو آية الردة عن دينه - فعلوا هذا والسواد الأعظم من الشعب التركي يدين لله بالإسلام وجدانا وتسليما يحمله على الفضائل، ويزعه عن الرذائل، ولعلماء الدين احترام عنده، ثم لم يستطع أحد منهم أن يدافع عن دين الشعب بكلمة مع كون مادة القانون الأساسي للجمهورية التركية الناطقة بأن دين الدولة هو الإسلام لما تنسخ - كما نسخت أحكام الإسلام نفسها، ذلك بأن من عارض الحكومة في عمل من أعمالها هذه يساق إلى محكمة خاصة تسمى محكمة الاستقلال، مفوضة بأن تحكم بالقتل للدفاع عن هذه الحكومة اللادينية من غير استناد إلى شرع منزل، ولا قانون مدون، ويكون حكمها نهائيا لا استئناف له، ولا مراجعة فيه، وقد قتل كثير من العلماء والأتقياء للمعارضة في وضع القلنسوة الإفرنجية (البرنيطة) موضع العمامة واستبدالها بها؟!.
هذا ما يجري اليوم فماذا يكون في الغد إذا لم يجد المسلم التركي بين يديه في بلاده من كتب دينه إلا ترجمة للقرآن بالصفة التي عرفت أغلاطها وقصورها؟
نعم إن هؤلاء الملاحدة أنفسهم سيفسرونها له بما يزيده بعدا عن الإسلام، ويعده للكفر به وعداوته وعداوة أهله، إن طال أمر استبدادهم فيه.
لا تقل: وما يمنع بقية أهل الدين منهم أن يفسروها بالتركية تفسيرا يصحح الأغلاط ويدفع الشبهات؟ فإن الذين منعوا ما علمت يمنعون هذا أيضا، وينشرون تفاسير ملاحدتهم المؤيدة لغرضهم، وهم يستمدونها من خصوم الإسلام كدعاة النصرانية، وشياطين السياسة الأوربية، وملاحدة المادية، دع ما يمليه عليهم الجهل أو الكفر.
أذكر مثالا واحدا من ذلك قوله تعالى:
{ { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } [الحجر: 99] بلغني من عالم عربي أقام في الآستانة سنين كثيرة يخالط علماءهم عن عالم تركي أعرفه، وكنت أعده من أفضل علمائها الجامعين بين العلم والتدين ومعرفة حال العصر أنه يشتغل بترجمة القرآن، وأنه يقول بقول الباطنية الأولين في هذه الآية وهو: أن العبادة من صلاة وصيام لم تفرض إلا على من لم يصلوا في العلم إلى درجة اليقين، ومن وصل إلى هذه الدرجة ترتفع عنه العبادة بنص هذه الآية من القرآن.
ويكفي هذا التأويل لإبطال جميع عبادات الإسلام. فإن اليقين أمر يمكن لكل أحد أن يدعيه، ويمكن إضلال جماهير الناس بالوصول إليه، وفي التحكم فيما يطلب اليقين فيه.
ونقول في إبطال هذه الضلالة (أولا): إنها طعن صريح في النبي الأعظم صلوات الله وسلامه عليه بأنه لم يكن على يقين في دينه وعلمه بالله عز وجل، فإن الخطاب له ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الآية، وهو المعني به أولا وبالذات وإن كان الحكم عاما، وذلك بالتبع لما قبله من الامتنان عليه بإيتائه السبع المثان والقرآن العظيم، وأمره بالتبليغ والصدع به، وتهوين أمر المشركين عليه، وإنبائه بكفايته تعالى أمر المستهزئين منهم.
بعد هذا قال:
{ { ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } [الحجر: 97 - 99].
وقد ورد في التفسير المأثور أن المراد باليقين الموت، وأن المعنى: واعبد ربك ما دمت حيا. ونقلوا شواهد له من الاستعمال. وفسروا به قوله تعالى حكاية عن أهل النار:
{ { وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين } [المدثر: 46 - 47].
(ثانيا) إن أصل اليقين شرط في صحة الإيمان، والإيمان الصحيح شرط في صحة العبادة فاليقين في الإسلام مبدأ لا غاية، والحنفية الذين تلقى هذا التركي الدين على مذهبهم يقولون: إن الإيمان لا يقبل الزيادة ولا النقصان؛ لأن التصديق إذا لم يكن يقينا لا يكون إيمانا، وليس فوق اليقين غاية تكون هي الزيادة، وفي هذا البحث نظر ليس هذا محله.
(ثالثا) إن اليقين الذي ينتهي إليه تصديق الإنسان في الدين أو غيره لا يصح التعبير عنه بالإتيان ونحوه كالمجيء؛ لأنه يكون في نفسه وعقله، وإنما يعبر به عما يرد على الإنسان من الخارج بذاته أو بأسبابه كالموت والعلم الخبري، أو المنتزع من المعلوم الخارجي، دون نتيجة القياس العقلي.
فقوله تعالى:
{ حتى يأتيك اليقين } [الحجر: 99] كقوله: { { ويأتيه الموت من كل مكان } [إبراهيم: 17] وقوله: { { من قبل أن يأتي أحدكم الموت } [المنافقون: 10] وقوله: { حتى إذا جاء أحدكم الموت } [الأنعام: 61].
ونكتفي بهذا القدر من الاستطراد للدفاع عن القرآن في تفسيره، فهو أفضل ما يدافع به عنه، بل هو من مقاصد التفسير لا من الاستطراد الأجنبي عنه. وما ضعف اهتداء الناس بالقرآن إلا بخلو تفسيره من تطبيق عقائده وأحكامه على أحوال الناس، ودفع الشبهات التي تصدهم عنه.