خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ
١٨١
وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ
١٨٢
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ
١٨٣
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
١٨٤
أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىۤ أَن يَكُونَ قَدِ ٱقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ
١٨٥
مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
١٨٦
-الأعراف

تفسير المنار

بعد الانتهاء من قصة موسى مع قومه التي ختمت بها قصص الرسل من هذه السورة بين الله تعالى لنا في بعض آيات منها شيئا من شئون البشر العامة في الإيمان والشرك والهدى والضلال، وما لفساد الفطرة، وإهمال مواهبها من العقل والحواس من سوء المآل، وأرشدنا في آخرها إلى ما يصلح فساد الفطرة من دعائه بأسمائه الحسنى، وإلى ما للإلحاد فيها من سوء الجزاء في العقبى.
ثم قفى على هذه البضع الآيات ببضع آيات أخرى في شأن الأمة المحمدية بدأها بوصف أمة الإجابة وثنى بذكر المكذبين من أمة الدعوة، وثلث بتفنيد ما عرض لهم من الشبهة، فالإرشاد إلى التفكر الموصل إلى فقه الأمور، وما في حقائقها من العبرة، وإلى النظر الهادي إلى مأخذ البرهان والحجة، لمعرفة صدق الرسول، وما في القرآن من الهداية والعلم والحكمة، فالموعظة الحسنة المؤثرة في النفس المستعدة بالتذكير بقرب الأجل، والاحتياط للقاء الله عز وجل، وختمها ببيان عدم الطمع في هداية من قضت سنة الله بضلاله، وتركه يعمه في طغيانه. قال تعالى:
{ وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } هذه الجملة معطوفة على جملة
{ { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس } [الأعراف: 179] وكلتاهما تفصيل لإجمال قوله تعالى: { { من يهد الله فهو المهتدي } [الأعراف: 178] إلخ بدأه ببيان حال من أضلهم، وهم الذين أهملوا استعمال قلوبهم، وأبصارهم وأسماعهم في فقه آيات الله، وأنهم كثيرون، ولكنه ما سماهم أمة؛ لأنهم لا تجمعهم في الضلال جامعة، ولأن الباطل كثير وسبله متفرقة.
ثم ذكر هنا حال من هداهم الله تعالى، وهو أنهم أمة، أي جماعة كبيرة مؤلفة من شعوب وقبائل كثيرة، يهدون بالحق وبه دون غيره يعدلون، فسبلهم واحدة; لأن الحق واحد لا يتعدد، هؤلاء هم أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد تقدم تفسير هذا التركيب في قوله تعالى من هذه السورة
{ ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } [الأعراف: 159] فليراجع فهو قريب، فهاتان الآيتان متقابلتان لقرب الشبه بين أمة موسى وأمة محمد عليهما الصلاة والسلام كقرب الشبه بينهما، وقد تقدم بيانه أيضا وإنما قال: { وممن خلقنا } إلخ لمناسبة قوله في مقابلة: { ولقد ذرأنا } أي: خلقنا فهنالك يقول ذرأنا لجهنم من صفتهم كذا، وهنا يقول: وممن خلقنا أي: للجنة أمة صفتهم كذا وكذا.
أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج في قوله تعالى: { وممن خلقنا أمة يهدون بالحق } قال: ذكر لنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"هذه أمتي، بالحق يحكمون ويقضون، ويأخذون ويعطون" وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة فيها قال: بلغنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول إذا قرأها: " هذه لكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها" { { ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } [159] وأخرج أبو الشيخ عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: لتفترقن هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة، يقول الله: { وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } فهذه هي التي تنجو من هذه الأمة اهـ.
ومعلوم أن الشق الأول من هذا الأثر مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكره علي - رضي الله عنه -؛ ليفسر به الفرقة الناجية، وقد فسرها النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض الروايات بأنها هي التي تستقيم على ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - هو وأصحابه، ومعنى التفسيرين واحد في مآلهما، والمراد منه أمة الإجابة لدعوته - صلى الله عليه وسلم -.
ثم ذكر حال المكذبين من أمة الدعوة فقال:
{ والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون } الاستدراج مأخوذ من الدرج مصدر درج، أو من الدرجة وهي المرقاة، يقال: درج الكتاب والثوب وأدرجه إذا طواه، ويعبر بالدرج - وهو المصدر - عن المدرج أي المطوي، ويقال: درج فلان بمعنى مات، وهذه آثار قوم درجوا أي انقرضوا، جعله الراغب مجازا بالاستعارة، ولكن الزمخشري ذكره في حقيقة الأساس وقال واستدرجه: رقاه من درجة إلى درجة، وقيل: استدعى هلكته من درج إذا مات.
وقال الراغب في " سنستدرجهم " من الآية: قيل معناه سنطويهم طي الكتاب، عبارة عن إغفالهم نحو:
{ { ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا } [الكهف: 28] وقيل معناه: سنأخذهم درجة بعد درجة، وذلك إدناؤهم من الشيء شيئا فشيئا كالمراقي والمنازل في ارتقائها ونزولها اهـ.
أقول: والمراد على هذا أنهم يسترسلون في غيهم وضلالهم من حيث لا يدرون شيئا من عاقبة أمرهم؛ لجهلهم سنن الله تعالى في المنازعة بين الحق والباطل والمصارعة بين الضار والنافع، وكون الحق يدمغ الباطل، وما ينفع الناس يصرع ما يضرهم، كما قال تعالى:
{ { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق } [الأنبياء: 18] وقوله تعالى: { { فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض } [الرعد: 17].
وأما المعنى على القول الأول فهو إنذارهم بهذه العاقبة، وهو أن الله تعالى سيأخذهم بالعقاب وينصر رسوله عليهم، ولكن بالتدريج وكذلك كان.
والجمع بين معنيي الاستدراج جائز هنا لظهوره فيمن نزل فيهم أولا، وبالذات وهم كفار قريش الجاحدون والمبالغون في عداوة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد كانوا مغترين بكثرتهم وثروتهم لا يعتدون به ولا بغيره ممن آمن به أولا، وأكثرهم من الضعفاء الفقراء فما زالوا يتدرجون في عداوتهم له وقتالهم إياه حتى أظهره الله تعالى عليهم في غزوة بدر فلم يعتبروا، ثم زادهم غرورا ظهورهم في آخر معركة أحد وقال قائدهم أبو سفيان " يوم بيوم بدر " - إلى أن كان الفتح الأعظم، فهذا كله استدراج بمعنى التنقل في مدارج الغرور، وبمعنى أخذ الله إياهم، وإظهار رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومن اتبعه عليهم من حيث لا يعلمون سننه تعالى في هذا ولا ذاك.
وقد فسر السدي الاستدراج بالمعنى الثاني، فجعله خاصا بأخذهم في غزوة بدر. وفسر بعض المتقدمين الاستدراج بمعناه العام في اللغة، كاغترار العصاة بالنعم التي تنسيهم التوبة، وتلهيهم عن شكر النعم، واقتصارهم عليه غفلة عن سبب النزول، ومن أنزل فيهم فهو كقوله تعالى في سورة القلم:
{ { فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون } [القلم: 44] وقفى عليها بمثل ما هنا - والسورتان مكيتان - وهو قوله تعالى:
{ وأملي لهم إن كيدي متين } الإملاء: الإمداد في الزمن والإمهال والتأخير، مشتق من الملوة والملاوة، وهي الطائفة الطويلة من الزمن، والملوان: الليل والنهار. قال الراغب: وحقيقته تكررهما وامتدادهما، يقال: أملى له إذا أمهله طويلا، وأملى للبعير إذا أرخى له الزمام، ووسع له في القيد; ليتسع له المرعى.
{ واهجرني مليا } [مريم: 46] أي زمنا طويلا والملا بالقصر المفازة الواسعة الممتدة، وأما الإملاء للكاتب بمعنى تلقينه ما يكتب فأصله أملل، فهو ليس من هذه المادة.
والكيد كالمكر هو التدبير الذي يقصد به غير ظاهره، بحيث ينخدع المكيد له بمظهره فلا يفطن له حتى ينتهي إلى ما يسوءه من مخبره وغايته، وأكثره احتيال مذموم، ومنه المحمود الذي يقصد به المصلحة، ككيد يوسف لأخذ أخيه الشقيق من إخوته لأبيه برضاهم ومقتضى شريعتهم؛ ولذلك أسند وأضيف إلى الله عز وجل في مثل هذين الموضعين، والجمهور على أن إضافة الكيد والمكر أو إسنادهما إليه تعالى في القرآن من باب المشاكلة، أو متأول بمعنى العقاب والجزاء، وما بيناه أدق. والمتين القوي الشديد.
ومعنى الآية: وأمهل هؤلاء المكذبين المستدرجين في العمر، وأمد لهم في أسباب المعيشة، والقدرة على الحرب بمقتضى سنتي في نظام الاجتماع للبشر كيدا لهم ومكرا بهم لا حبا فيهم ونصرا لهم
{ { فذرهم في غمرتهم حتى حين أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون } [المؤمنون: 54 - 56] وإن تسأل عن كيدي فهو قوي متين. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الشيخان وغيرهما من حديث أبي موسى: "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته" فمعنى هذا الإملاء أن سنة الله تعالى في الأمم والأفراد قد مضت بألا يكون عقابهم بمقتضى الأسباب التي قام بها نظام الخلق، فالمخذول إذا بغى وظلم ولم ينزل به العقاب الإلهي عقب ظلمه يزداد بغيا وظلما، ولا يحسب للعواقب حسابا، فيسترسل في ظلمه إلى أن تحيق به عاقبة ذلك، بأخذ الحكام له أو بتورطه في مهلكة أخرى، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.
وقد نقلنا في أوائل هذا التفسير عن شيخنا الأستاذ الإمام أن عذاب الأمم في الدنيا مطرد، وأما عذاب الأفراد فقد يتخلف ويرجأ إلى الآخرة. وحققنا في مواضع أخرى أن عقاب الأمم وبعض عقاب الأفراد أثر طبيعي لذنوبهم، فالأمم والشعوب الباغية الظالمة لا بد أن يزول سلطانها وتدول دولتها، والسكير والزناء لا يسلمان من الأمراض التي سببها السكر والزنا.
والمقامر قلما يموت إلا فقيرا معدما إلخ.
وقد سردنا الشواهد في مواضع أخرى على عقاب الأمم من الآيات التي صدقتها شواهد التاريخ الماضي والحاضر، وستصدقها في المستقبل، وما كانت الحرب الأخيرة العظمى إلا بعض عقاب الله تعالى للذين صلوا نارها ببغيهم وفسوقهم، وسيرون ما هو شر منها إذا لم يرجعوا عن غيهم.
بعد هذا أرشدهم إلى المخرج من أكبر شبهة لهم على الرسالة فقال عز وجل:
{ أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة } الجنة بالكسر النوع الخاص من الجنون، فهو اسم هيئة، واسم للجن أيضا، ولا يصح هنا إلا بتقدير مضاف، أي من مس جنة - وقد حكى الله تعالى عن قوم نوح أول رسله إلى قوم مشركين أنهم اتهموه بالجنون فقالوا بعد قولهم إنه بشر مثلهم يريد أن يتفضل عليهم:
{ { إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين } [المؤمنون: 25] وفي سورة القمر عنهم: { كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر } [القمر: 9] وفي سورة الشعراء حكاية عن فرعون - لعنه الله - في موسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم { قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون } [الشعراء: 27] وقال تعالى عنه في سورة الذاريات: { { فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون } [الذاريات: 39] ثم بين تعالى في هذه السورة أن جميع الكفار كانوا يقولون هذا القول في رسلهم فقال: { { كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون } [الذاريات: 52 - 53].
وفي معنى آية الأعراف في خاتم النبيين والمرسلين عدة آيات (منها) قوله تعالى في كفار مكة من سورة المؤمنين:
{ { أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون } [المؤمنون: 68 - 70] ومثله في سورة سبأ: { { وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد أافترى على الله كذبا أم به جنة بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد } [سبأ: 7 - 8] ثم قال فيها: { { قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد } [سبأ: 46] وهذه شبيهة بآية الأعراف. وفي أول سورة الحجر: { { وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين } [الحجر: 6 - 7] وفي سورة الصافات: { { ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون } [الصافات: 36] وفي سورة الطور من الرد عليهم: { فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون } [الطور: 29] ومثله: { ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون } [القلم: 1 - 2] وفي آخرها: { ويقولون إنه لمجنون وما هو إلا ذكر للعالمين } [القلم: 51 - 52] وفي سورة التكوير بعد وصف ملك الوحي: { وما صاحبكم بمجنون } [التكوير: 22]. روى أبناء حميد وجرير والمنذر وأبو حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال: "ذكر لنا: أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قام على الصفا فدعا قريشا فخذا فخذا: يا بني فلان يا بني فلان يحذرهم بأس الله ووقائع الله إلى الصباح حتى قال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون بات يهون (أي يصيح) حتى أصبح، فأنزل الله: { أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة }" .
قد علمنا بما سبق أن جميع الكفار كانوا يرمون رسلهم بالجنون؛ لأنهم ادعوا أن الله تعالى خصهم برسالته ووحيه على كونهم بشرا كغيرهم لا يمتازون على سائر الناس بما يفوق أفق الإنسانية، كما علم من نشأتهم ومعيشتهم؛ ولأنهم ادعوا ما لا يعهد له عندهم نظير، وليس مما تصل إليه عقولهم بالتفكير، وهو أن الناس يبعثون بعد الموت والبلى خلقا جديدا؛ ولأن كلا منهم كان يدعي أن الناس مخطئون وهو المصيب، وضالون وهو المهتدي، وخاسرون وهو المفلح، إلا من اتبعه منهم -؛ ولأنهم نهوا عن عبادة الآلهة، وأنكروا أنها بالدعاء والتعظيم والنذور لها تقرب المتوسلين بها إلى الله زلفى، وتشفع لهم عنده، وأثبتوا أن الشفاعة لله وحده لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، من رضي له لمن رضي عنه فلا استقلال لهؤلاء الآلهة بالشفاعة عنده لمن توسل بهم - وشرعوا أنه لا يدعى مع الله أحد من ملك كريم، ولا صالح عظيم، فضلا عن صورهم وتماثيلهم المذكرة بهم وقبورهم المشرفة برفاتهم مع أن المذنب العاصي لا يليق به في رأي المشركين أن يدعو الله تعالى بغير واسطة ولا وسيلة لتدنسه بالذنوب، فيحتاج إلى من يقربه إليه من أولئك الطاهرين، وشبهتهم أن الملوك العظام في الدنيا لا يدخل أحد عليهم إلا بإذن وزرائهم وحجابهم، ومن الغريب أن هذه الشبهة الشركية لا تزال متسلسلة في جميع المشركين، حتى من أشرك من أهل الكتاب والمسلمين، الذين خالفوا نصوص الكتب الإلهية وسنة الرسل، إلى أعمال الوثنيين، ولا يرون بأسا في تشبيه رب العالمين وأرحم الراحمين، بالملوك الظالمين المستبدين.
وأما معنى الآية فالاستفهام فيه للإنكار والتوبيخ، وهو داخل على فعل حذف للعلم به من سياق القول كما تقدم في أمثاله، والتقدير: أكذبوا الرسول ولم يتفكروا في حاله من أول نشأته، وفي حقيقة دعوته، ودلائل رسالته، وآيات وحدانية ربه، وقدرته على إعادة الخلق كما بدأهم وحكمته في ذلك - فإن حذف معمول التفكر يؤذن بعموم ما يدل عليه المقام مما تقتضيه الحال كما هي القاعدة المعروفة في علم المعاني.
ألا فليتفكروا؛ فالمقام مقام تفكر وتأمل إنهم إن تفكروا أوشك أن يعرفوا الحق، وما الحق ما بصاحبهم من جنة جملة مستأنفة لبيان الحق في أمر الرسول نفيا وإثباتا، فهي نافية لما رموه به من الجنون، كقوله تعالى:
{ { ما أنت بنعمة ربك بمجنون } [القلم: 2] وقوله: { { وما صاحبكم بمجنون } [التكوير: 22] ومثلها آية سبأ: { ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة } [سبأ: 46]؛ ولذلك ختمتا بنفي كل صفة عنه في موضوع رسالته إلا كونه منذرا مبلغا عن ربه، فقال هنا: { إن هو إلا نذير مبين } الإنذار تعليم وإرشاد مقترن بالتخويف من مخالفته، أي ليس بمجنون، ليس إلا منذرا ناصحا، ومبلغا عن الله مبينا، ينذركم ما يحل بكم من عذاب الدنيا والآخرة إذا لم تستجيبوا له، وقد دعاكم لما يحييكم في الدنيا بجمع كلمتكم، وإصلاح أفرادكم ومجتمعكم، والسيادة على غيركم، ويحييكم في الآخرة بلقاء ربكم. وقال هنالك: { { إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد } [سبأ: 46].
وقد عبر عنه في هاتين الآيتين، وفي آية التكوير بالصاحب لهم؛ لتذكيرهم بأنهم يعرفونه من أول نشأته إلى أن تجاوز الأربعين من عمره، فما عليهم إلا أن يتفكروا حق التفكر في سيرته الشريفة المعقولة; ليعلموا أن الشذوذ ومجافاة المعقول ليس من دأبه، ولا مما عهد عنه، وكذلك الكذب كما قال بعض زعمائهم من أهل مكة: إن محمدا لم يكذب قط على أحد من الناس أفيكذب على الله؟ وقد قال تعالى في أولئك الزعماء:
{ { فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } [الأنعام: 33].
وقد بينا في تفسيرنا هذا شبهة المشركين على الرسل بكونهم بشرا مع الرد عليها كذلك شبهاتهم على البعث مع الرد عليها.
ولو تفكر مشركو مكة في نشأة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخلاقه وآدابه، وما جربوا من أمانته وصدقه من صبوته إلى أن اكتهل، ثم تفكروا فيما قام يدعوهم إليه من توحيد الله بعبادته وحده، ومن كون حكمته في خلقه السماوات والأرض بالحق تقتضي تنزهه عن العبث (ومنه) أن يكون هذا الإنسان السميع البصير العاقل الباحث عن حقائق الأشياء من ماض وحاضر وآت، وينتهي وجوده بالعدم المحض الذي هو في نفسه محال ثم لو تفكروا في سوء حالهم الدينية (كعبادة الأصنام) والأدبية والمدنية والاجتماعية وما دعاهم إليه من إصلاحها كلها، لعلموا أن هذا الإصلاح الديني والأدبي والاجتماعي والسياسي لا يثمر إلا السيادة والسعادة، وأنه لا يمكن أن يكون مصدره جنون من دعا إليه، بل إذا كان فيه شيء غير معقول، فهو أنه لا يمكن أن يكون هذا العلم العالي والإصلاح الكامل من رأي محمد بن عبد الله الأمي الناشئ بين الأميين، ولا أن تكون هذه البلاغة المعجزة للبشر في أسلوب القرآن ونظمه من كسب محمد الذي بلغ الأربعين، ولم ينظم قصيدة، ولا ارتجل خطبة، وأن هذه الحجج البالغة على كل ما يدعو إليه القرآن، والبراهين العقلية والعلمية الكونية، لا يتأتى أن تأتي فجأة من ذي عزلة لم يناظر ولم يفاخر ولم يجادل أحدا فيما مضى من عمره كمحمد بن عبد الله - فإذا تفكروا في هذا كله جزموا بأن هذا كله وحي من الله تعالى ألقاه في روعه، ونزل من لدنه على روحه، وعلموا أن استبعادهم لذلك جهل منهم، فالله تعالى القادر على كل شيء يختص برحمته من يشاء؛ لهذا حثهم على التفكر في هذا المقام من هذه السورة وغيرها، وذكر بعدها كونه نذيرا مبينا، ونذيرا بين يدي عذاب شديد.
ثم إنه دعاهم بعد هذا إلى النظر والاستدلال العقلي فقال:
{ أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم } الملكوت: الملك العظيم كما تدل عليه صيغة (فعلوت) والمراد بملكوت السماوات والأرض مجموع العالم؛ لأن الاستدلال به على قدرة الله تعالى وصفاته ووحدانيته أظهر في العالم في جملته لا يمكن أن يكون قديما أزليا، ولا نزاع بين علماء الكون في إمكانه، ولا في حدوث كل شيء منه، وإنما يختلفون في مصدره ومم وجد، وهو لا يمكن أن يكون من عدم محض؛ لأن العدم المحض لا حقيقة له في الخارج بل هو أمر فرضي، فلا يعقل أن يصدر عنه وجود، ولا يمكن أن يكون بعضه قد أوجد البعض الآخر، وهذا بديهي; ولذلك لم يقل به أحد، فلا بد إذا من أن يكون صادرا عن وجود آخر غيره، وهو الله واجب الوجود. ثم إن هذا النظام العام في الملكوت الأعظم يدل على أن مصدره واحد، وتدبيره راجع إلى علم عليم واحد، وحكمة حكيم واحد، سبحانه وتعالى
{ أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون } [الطور: 35 - 36].
ومعنى الآية: أكذبوا الرسول المشهور بالأمانة والصدق، وقالوا: إنه لمجنون. وهو المعروف عندهم بالرواية والعقل، حتى جعلوا تحكيمه في تنازعهم على رفع الحجر الأسود هو الحكم الفصل - ولم ينظروا نظر تأمل واستدلال في مجموع ملكوت السماوات والأرض على عظمته، والنظام العام الذي قام بجملته، وما خلق الله من شيء في كل منهما، وإن دق وصغر، وخفي واستتر، ففي كل شيء من خلقه له آية تدل على علمه وقدرته، ومشيئته وحكمته، وفضله ورحمته، وكونه لم يخلق شيئا عبثا، ولا يترك الناس سدى، تدل على ذلك بوجود ذلك الشيء بعد أن لم يكن، وبترجيح كل وصف من أوصافه على ما يقابله، وبما فيها من فائدة ومنفعة، فكيف بالملكوت الأعظم في جملته، والنظام البديع الذي قام هو به؟ أكذبوا وقالوا ما قالوا، ولم ينظروا في العالم الأكبر، ولا في ذرات العالم الأصغر، نظر تأمل واعتبار، وتفكر واستدلال، ولا فيما عسى أن يكون عليه الشأن من اقتراب أجلهم، وقدومهم على الله تعالى بسوء عملهم، فأجل الأفراد مهما يطل فهو قصير، ومهما يبعد أملهم فيه فهو في الحق الواقع قريب، ولو نظروا في الملكوت أو في شيء ما منه، واعتبروا بخلق الله تعالى إياه، لاهتدوا بدلائله إلى تصديق الرسول صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، ولو نظروا في توقع قرب أجلهم لاحتاطوا لأنفسهم، ورأوا أن من العقل والروية أن يقبلوا إنذاره - صلى الله عليه وسلم - لهم؛ لأن خيريته لهم في الدنيا ظاهرة لم يكونوا ينكرونها، وأما خيريته في الآخرة فهي أعظم إذا صدق ما يقرره من أمر البعث والجزاء، وهو صدق وحق، وإن صح إنكارهم له - وما هو بصحيح - فلا ضرر عليهم من الاحتياط له، كما قال الشاعر:

قال المنجم والطبيب كلاهما لا تبعث الأموات، قلت: إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر أو صح قولي فالخسار عليكما

فالمجنون إذا من يترك ما فيه سعادة الدنيا باعترافه، وسعادة الآخرة ولو على احتمال لا ضرر في تخلفه، لا من يدعو إلى السعادتين، أو إلى شيئين يجزمون بأن أحدهما نافع قطعا والآخر إما نافع وإما غير ضار. هذا ما دعاهم إليه صاحبهم بكتاب ربهم مؤيدا بالبراهين العقلية والعلمية، لعلهم يعقلون ويعلمون.
{ فبأي حديث بعده يؤمنون } وردت هذه الآية بنصها في آخر سورة المرسلات، الآية رقم " 50 " التي أقيمت فيها الدلائل على البعث والجزاء، وتهديد المكذبين بالويل والهلاك بعد تقرير كل نوع منها. وورد في الآية السادسة من سورة الجاثية [45] بعد التذكير بآيات الله للمؤمنين، وآياته لقوم يوقنون، وآياته لقوم يعقلون، قوله:
{ تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون } [الجاثية: 6] والحديث في الجميع كلام الله الذي هو القرآن، يدل عليه هنا قوله تعالى في رسوله: { إن هو إلا نذير مبين } [الأعراف: 184] وفي آية المرسلات القرينة في تهديد المكذبين له، وفي آية الجاثية افتتاح السورة بذكر الكتاب، فيكون معناها: فبأي حديث بعد كتاب الله المذكور في الآية الأولى وآياته المشار إليها بعدها يؤمنون؟
والمراد أن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نذير مبين عن الله تعالى، وإنما أنذر الناس بهذا الحديث أي القرآن. كما أمره أن يقول:
{ وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ } [الأنعام: 19] وهو أكمل كتب الله بيانا، وأقواها برهانا، وأقهرها سلطانا، فمن لم يؤمن به فلا مطمع في إيمانه بغيره، ومن لم يرو ظمأه الماء النقاخ المبرد فأي شيء يرويه؟ ومن لم يبصر في نور النهار ففي أي نور يبصر؟ ثم قال تعالى: من يضلل الله فلا هادي له هذا استئناف بياني مقرر لجملة هذا السياق، ومعنى الجملة المراد أن الله تعالى قد جعل هذا القرآن أعظم أسباب الهداية، وإنما جعله هدى للمتقين لا للجاحدين المعاندين، وجعل الرسول المبلغ له أكمل الرسل، وأقواهم برهانا في حاله وعقله وأخلاقه وكونه أميا - فمن فقد الاستعداد للإيمان والهدى بهذا الكتاب، على ظهور آياته وقوة بيناته، وبهذا الرسول المتحدى به، فهو الذي أضله الله، أي قضت سنته في نظام خلق الإنسان، وارتباط المسببات في أعماله بالأسباب، بأن يكون ضالا راسخا في الضلال، وإذا كان ضلاله بمقتضى سنن الله، فمن يهديه من بعد الله؟ ولا قدرة لأحد من خلقه على تغيير سننه ولا تبديلها.
{ ويذرهم في طغيانهم يعمهون } أي: وهو تعالى يترك هؤلاء الضالين في طغيانهم، كالشيء اللقا الذي لا يبالى به، حالة كونهم يعمهون فيه أي يترددون تردد الحيرة والغمة لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، وفي هذا بيان لسبب ضلالهم من كسبهم، وهو الطغيان، أي تجاوز الحد في الباطل والشر من الكفر والظلم والفجور الذي ينتهي بالعمه، وهو التردد في الحيرة والارتكاس في الغمة، وقد روعي في إفراد الضمير أولا لفظ من " يضلل " وفي جمعه آخرا معناها وهو الجمع، ونظائره كثيرة..
وقد علم مما قررناه أن إسناد الإضلال إلى الله تعالى ليس معناه أنه أجبرهم على الضلال إجبارا، وأعجزهم بقدرته عن الهدى فكان ضلالهم اضطرارا لا اختيارا، بل معناه أنهم مارسوا الكفر والضلال، وأسرفوا فيهما حتى وصلوا إلى حد العمه في الطغيان، ففقدوا بهذه الأعمال الاختيارية ما يضادها من الهدى والإيمان.
وقرأ حمزة والكسائي " يذرهم " بإسكان الراء، فقيل: هو للتخفيف. وقيل: للإعراب بالعطف على جواب الشرط، وقرأه بعض القراء بـ " النون " على الالتفات.
(تحقيق معنى الفكر والتفكر والنظر العقلي)
من تحقيق المباحث اللفظية في الآيات كلمتا التفكر والنظر العقلي، وقد عبر هنا بالتفكر في موضوع استبانة كون النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس بمجنون كما زعم بعض غواتهم، وبالنظر في جملة الملكوت وجزئياته في موضوع الإيمان بما جاءهم به الرسول من كتاب الله تعالى، فنبين ذلك بما تظهر به نكتة الفرق بين التعبيرين، ويتجلى تفسير الآيتين:
الفكر بالكسر عبارة عن التأمل في المعاني وتدبرها، وهو اسم من فكر يفكر فكرا (من باب ضرب) وفكر بالتشديد وتفكر، ومثله الفكرة والفكرى. وفسروه أيضا بإعمال الخاطر وإجالته في الأمور، وقال الراغب: الفكرة مطرقة للعلم إلى المعلوم - والتفكر جولان تلك القوة بحسب نظر العقل... ولا يقال إلا فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب، ولهذا روي" تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله " إذ كان منزها أن يوصف بصورة. ثم أورد الشواهد من الآيات، ومنها آية الأعراف هذه. ثم نقل عن بعض الأدباء أن الفكر مقلوب عن الفرك لكنه يستعمل في المعاني، وهو فرك الأمور وبحثها طلبا للوصول إلى حقيقتها اهـ.
وقال علماء المنطق: الفكر ترتيب أمور معلومة للتوصل إلى مجهول تصوري أو تصديقي، وهو ينافي الحكم على ظواهر الأشياء أو فيها بادي الرأي من غير تمحيص ولا تقدير.
واستعمال القرآن للتفكر والتفكير يدل على أنهما في العقليات المحضة أو في العقليات التي مبادئها حسيات، فالإنسان يفكر فيما ينبغي أن يقوله في المواقف التي تميز الأقوال، وفيما ينبغي أن يفعله حيث تنتقد الأفعال، ويفكر في أقوال الناس وأفعالهم، ويفكر في الأمور الاجتماعية والأدبية والدينية والسياسية، ويفكر أيضا في المبصرات كالمسموعات والمعقولات، وأكثر ما استعمله التنزيل في آيات الله ودلائل وجوده ووحدانيته وحكمته ورحمته.
وأما النظر فقد قال الراغب في تعريفه: هو تقليب البصر أو البصيرة في إدراك الشيء ورؤيته، وقد يراد به التأمل والفحص، وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص وهو الروية، يقال: نظرت فلم تنظر، أي لم تتأمل ولم تترو.
وقوله تعالى:
{ { قل انظروا ماذا في السماوات والأرض } [يونس: 101] أي تأملوا. واستعمال النظر في البصر أكثر عند العامة، وفي البصيرة أكثر عند الخاصة. اهـ. وقد اختلف علماء المعقول من المناطقة والمتكلمين في الفكر والنظر، هل هما مترادفان أو أحدهما أخص من الآخر؟ ولهم كلام طويل في ذلك أكثره اصطلاحي غير مقيد باستعمال اللغة.
واستعمال القرآن يدل على أن النظر العقلي مبدأ من مبادئ الفكر والتفكير، كما أن مبتدأه هو النظر الحسي في الغالب كقوله تعالى:
{ { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت } [الغاشية: 17] إلخ وقوله: { أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها } [ق: 6]؟ إلخ. ومنه النظر في عاقبة الأمم برؤية آثارها في عدة آيات، والشواهد على ذلك في التنزيل معروفة فلا نطيل في سردها.
والآيات التي نحن بصدد تفسيرها جمعت بين المبدأ الحسي، وهو ملكوت السماوات والأرض، والمبدأ الفكري وهو اقتراب الأجل، وهما وما في معناهما يدلان على بناء الدين الإسلامي على قاعدتي: النظر العقلي، والتفكر، اللذين يمتاز بهما الأفراد والأمم بعضها على بعض والله أعلم وأحكم.