خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٦٧
لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ ٱللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
٦٨
فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٦٩
-الأنفال

تفسير المنار

ختم الله تعالى سياق القتال في هذه السورة بأحكام تتعلق بالأسرى؛ لأن أمورها يفصل فيها بعد القتال في الغالب، كما وقع في غزوة بدر وكما يقع في كل زمان، وفصله عما قبله؛ لأنه بيان مستأنف لما شأنه أن يسأل عنه ولا سيما ما في قصة غزوة بدر وأهلها، والأسرى جمع أسير كالقتلى والجرحى جمع قتيل وجريح.
وقال الزجاج: إن هذا الجمع خاص بمن أصيب في بدنه أو عقله كمريض ومرضى، وأحمق وحمقى، والأسير مأخوذ من الأسر وهو الشد بالإسار بالكسر أي السير وهو القد من الجلد، وكان من يؤخذ من العسكر في الحرب يشد لئلا يهرب، ثم صار لفظ الأسير يطلق على أخيذ الحرب وإن لم يشد، ويجمع لغة على أسارى وقرئ به في الشواذ، وقال بعضهم: إنه جمع أسرى أي جمع الجمع، وعلى أسراء كضعيف وضعفاء وعليم وعلماء.
وقرأ أبو عمرو ويعقوب " تكون " بالفوقية بناء على تأنيث لفظ الجمع أسرى (والثخانة من الثخن بكسر ففتح، والثخانة وهي الغلظ والكثافة، وثوب ثخين ضد رقيق، والعامة تجعل الثاء المثلثة من هذه المادة مثناة.
ومعنى { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } ما كان من شأن نبي من الأنبياء ولا من سنته في الحرب أن يكون له أسرى يتردد أمره فيهم بين المن والفداء إلا بعد أن يثخن في الأرض، أي حتى يعظم شأنه فيها ويغلظ ويكثف بأن تتم له القوة والغلب، فلا يكون اتخاذه الأسرى سببا لضعفه أو قوة أعدائه، وهو في معنى قول ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ: حتى يظهر على الأرض وقول البخاري: حتى يغلب في الأرض.
وفسره أكثر المفسرين بالمبالغة في القتل، وروي عن مجاهد وهو تفسير بالسبب لا بمدلول اللفظ.
وفي التفسير الكبير للرازي: قال الواحدي: الإثخان في كل شيء عبارة عن قوته وشدته، يقال: قد أثخنه المرض إذا اشتدت قوة المرض عليه، وكذلك أثخنه الجراح، والثخانة الغلظة. فكل شيء غليظ فهو ثخين. فقوله: حتى يثخن في الأرض معناه: حتى يقوى ويشتد ويغلب ويبالغ ويقهر. ثم إن كثيرا من المفسرين قالوا: المراد منه حتى يبالغ في قتل أعدائه. قالوا: وإنما حملنا اللفظ عليه؛ لأن الملك والدولة إنما تقوى وتشتد بالقتل. قال الشاعر:

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم

ولأن كثرة القتل توجب الرعب وشدة المهابة، وذلك يمنع من الجرأة ومن الإقدام على ما لا ينبغي فلهذا السبب أمر الله بذلك اهـ.
وأقول: إن من المجربات التي لا شك فيها أن الإثخان في قتل الأعداء في الحرب سبب من أسباب الإثخان في الأرض، أي التمكن والقوة وعظمة السلطان فيها، وقد يحصل هذا الإثخان بدون ذلك أيضا، يحصل بإعداد كل ما يستطاع من القوى الحربية، ومرابطة الفرسان، والاستعداد التام للقتال الذي يرهب الأعداء كما تقدم في تفسير:
{ { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم } [الأنفال: 60] وما هو ببعيد. وقد يجتمع السببان، فيكمل بهما إثخان العزة والسلطان. كما أن الإسراف في القتل قد يكون سببا لجمع كلمة الأعداء واستبسالهم.
وأما قوله تعالى في سورة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي تسمى سورة القتال أيضاً
{ { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض } [محمد: 4] الآية، فهو في إثخان القتلى الذي يطلب في معركة القتال بعد الإثخان في الأرض، فإذا التقى الجيشان فالواجب علينا بذل الجهد في قتل الأعداء دون أخذهم أسرى لئلا يفضي ذلك إلى ضعفنا ورجحانهم علينا، إذا كان هذا القتل قبل أن نثخن في الأرض بالعزة والقوة التي ترهب أعداءنا، حتى إذا أثخناهم في المعركة جرحا وقتلا، وتم لنا الرجحان عليهم فعلا، رجحنا الأسر المعبر عنه بشد الوثاق؛ لأنه يكون حينئذ من الرحمة الاختيارية، وجعل الحرب ضرورة تقدر بقدرها، لا ضراوة بسفك الدماء، ولا تلذذا بالقهر والانتقام، ولذلك خيرنا الله تعالى فيهم بين المن عليهم وإعتاقهم بفك وثاقهم وإطلاق حريتهم، وإما بفداء أسرانا عند قومهم ودولتهم إن كان لنا أسرى عندهم بمال نأخذه منهم، ولم يأذن لنا في هذه الحال بقتلهم، فقد وضع الشدة في موضعها والرحمة في موضعها. وإذا كان بيننا وبين دولة عهد يتضمن اتفاقا على الأسرى وجب الوفاء به وبطل التخيير بينه وبين غيره.
وأما قوله تعالى بعد هذا التخيير الذي يختار الإمام منه في غير حال العهد الخاص معهم ما فيه المصلحة العامة { حتى تضع الحرب أوزارها } أي: أثقالها، وقيل: آثامها. فهو غاية لما قبله. قالوا: أي إلى أن تنقضي الحرب، ولم يبق إلا مسلم أو مسالم، أي بألا يعتدى على المسلمين ذلك الاعتداء الذي يكون به القتال فرض عين عليهم، وقيل: حتى تزول الحرب من الأرض ويعم السلم، وهي الغاية العليا التي يتمناها فضلاء البشر من جميع الأمم الراقية، ولكن الله تعالى بين بعد هذا أن الحرب سنة اجتماعية اقتضتها الحكمة الإلهية في ابتلاء البشر بعضهم ببعض، ليظهر استعداد كل فريق منهم فقال:
{ { ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض } [محمد: 4] أي: الأمر ذلك الذي ذكر لكم، ولو شاء الله لانتصر لكم بإهلاكهم بعذاب من عنده لا جهاد لكم فيه ولا عمل، ولكن مضت سنته بأن يجعل سعادة الدنيا والآخرة للناس بأعمالهم ليبلو ويختبر بعضكم ببعض - وسنبين ذلك بالتفصيل في تفسير هذه الآية من سورتها إذا أحيانا الله تعالى.
وجملة القول في تفسير الآيتين أن اتخاذ الأسرى إنما يحسن ويكون خيرا ورحمة ومصلحة للبشر إذا كان الظهور والغلب لأهل الحق والعدل، أما في المعركة الواحدة فبإثخانهم لأعدائهم من المشركين والمعتدين، وأما في الحالة العامة التي تعم كل معركة وكل قتال فبإثخانهم في الأرض بالقوة العامة والسلطان الذي يرهب الأعداء. ثم قال تعالى بعد هذه القاعدة العامة التي تقرها ولا تنكرها علوم الحرب وفنونها في هذا العصر: { تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة } وهو إنكار على عمل وقع من الجمهور على خلاف تلك القاعدة التي تقتضيها الحكمة والرحمة معا بقصد دنيوي وهو فداء الأسرى بالمال، ليس من شأن الأنبياء، ولا مما ينبغي لهم مخالفتها ولو بإقرار مثل ذلك العمل، وهو أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل من أسرى بدر الفداء برأي أكثر المؤمنين بعد استشارتهم، فتوجه العتاب إليهم بعد بيان سنة النبيين في المسألة الدال بالإيماء على شمول الإنكار والعتاب له صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، وسنذكر حكمة ذلك وحكمة هذا الاجتهاد منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد بيان ما ورد في الواقعة.
والمعنى: تريدون أيها المؤمنون عرض الدنيا الفاني الزائل وهو المال الذي تأخذونه من الأسرى فداء لهم - والعرض في الأصل ما يعرض ولا يدوم ولا يثبت، واستعاره علماء المعقول لما يقوم بغيره لا بنفسه كالصفات وهو يقابل الجوهر - وهو عندهم ما يقوم بنفسه كالأجسام. والله يريد لكم ثواب الآخرة الباقي بما يشرعه لكم من الأحكام الموصلة إليه ما عملتم بها، ومنه الاستعداد للقتال بقدر الاستطاعة بقصد الإثخان في الأرض، والسيادة فيها لإعلاء كلمة الحق وإقامة العدل، فهو كقوله في رخصة ترك الصيام في السفر والمرض:
{ { يريد الله بكم اليسر } [البقرة: 185] وليس المراد به إرادة الخلق والتكوين فإن هذا لا يظهر هاهنا ولا هناك، ولذلك لجأ من لم يفطن من المفسرين لما ذكرنا في تفسير الإرادة إلى قول المعتزلة فقالوا: أي يحبه ويرضاه لكم، بإعزاز الحق والإيمان، وإزالة قوة الشرك والطغيان.
{ والله عزيز حكيم } فيحب للمؤمنين أن يكونوا أعزة غالبين
{ { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } [المنافقون: 8] كما يحب لهم أن يكونوا حكماء ربانيين، يضعون كل شيء في موضعه. وإنما يكون هذا بتقديم الإثخان في الأرض والسيادة فيها على المنافع العرضية بمثل فداء أسرى المشركين وهم في عنفوان قوتهم وكثرتهم، وهذه القاعدة تعدها دول المدنية العسكرية من أسس السياسة الاستعمارية، فإذا رأوا من البلاد التي يحتلونها أدنى بادرة من أعمال المقاومة بالقوة ينكلون بأهلها أشد تنكيل فيخربون البيوت ويقتلون الأبرياء مع المقاومين، بل لا يتعففون عن قتل النساء والأطفال بما يمطرون البلاد من نيران المدافع وقذائف الطيارات، والإسلام لا يبيح شيئا من هذه القسوة، فإنه دين العدل والرحمة.
لأصحاب التفسير المأثور في هذه النازلة عدة روايات عن علماء الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ نذكر أهمها وأكثرها فائدة: روى ابن أبي شيبة والترمذي وحسنه وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: لما كان يوم بدر جيء بالأسارى فقال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ: يا رسول الله قومك وأهلك استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم، وقال عمر ـ رضي الله عنه ـ: يا رسول الله كذبوك وأخرجوك وقاتلوك قدمهم فاضرب أعناقهم، وقال عبد الله بن رواحة ـ رضي الله عنه ـ: انظروا واديا كثير الحطب فأضرمه عليهم نارا. فقال العباس ـ رضي الله عنه ـ وهو يسمع ما يقول: قطعت رحمك.
فدخل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يرد عليهم شيئا. فقال أناس: يأخذ بقول أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ وقال أناس: يأخذ برأي عمر ـ رضي الله عنه ـ فخرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة. مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم عليه السلام قال:
{ { فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم } [إبراهيم: 36] ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى عليه السلام: قال: { { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } [المائدة: 118] ومثلك يا عمر كمثل نوح إذ قال: { { رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا } [نوح: 26] ومثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام إذ قال: { { ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم } [يونس: 88] - أنتم عالة فلا ينفلتن أحد منكم إلا بفداء أو ضرب عنق ".
فقال عبد الله ـ رضي الله عنه ـ: يا رسول الله إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام، فسكت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع علي الحجارة مني في ذلك اليوم حتى قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: إلا سهيل بن بيضاء. فأنزل الله تعالى: { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } إلى آخر الآيتين.
وروى أحمد ومسلم من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ والتفصيل لأحمد قال: لما أسروا الأسارى - يعني يوم بدر - قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأبي بكر وعمر: " ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ " فقال أبو بكر: يا رسول الله هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون قوة لنا على الكفار، وعسى الله أن يهديهم للإسلام. فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " ما ترى يا ابن الخطاب؟ " فقال: لا والله، لا أرى الذي رأى أبو بكر، ولكنني أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم، فتمكن عليا من عقيل (أي أخيه) فيضرب عنقه، وتمكنني من فلان - نسيبا لعمر - فأضرب عنقه، ومكن فلانا من فلان قرابته، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. فهوي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت.
فلما كان الغد جئت فإذا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبو بكر قاعدين يبكيان. قلت: يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
" أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة " - شجرة قريبة منه - وأنزل الله عز وجل: { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض }.
وفي هذا الحديث أن الذين طلبوا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ اختيار الفداء كثيرون، وإنما ذكر في أكثر الروايات أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ لأنه أول من أشار بذلك، ولأنه أول من استشارهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما أنه أكبرهم مقاما. ويوضحه ما رواه ابن المنذر عن قتادة ـ رضي الله عنه ـ قال في تفسير الآية: أراد أصحاب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم بدر الفداء ففادوهم بأربعة آلاف أربعة آلاف.
ومثله ما رواه الترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم بإسناد صحيح، كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح من حديث علي كرم الله وجهه قال: جاء جبريل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم بدر فقال: " خير أصحابك في الأسرى إن شاءوا القتل وإن شاءوا الفداء على أن يقتل منهم عاما مقبلا - وفي الترمذي قابل - مثلهم " قالوا: الفداء ويقتل منا. وقال الترمذي حديث حسن صحيح من حديث سفيان الثوري لا تعرفه إلا من حديث ابن أبي زائدة. ورواه أبو أسامة عن هشام عن ابن سيرين عن عبيدة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نحوه مرسلا.
أقول: ابن أبي زائدة هو يحيى بن زكريا، روى عنه الجماعة ووثقه أساطين الجرح والتعديل، والمراد بقوله: مثلهم. أنهم إذا أخذوا الفداء يكون عقابهم أن يقتل منهم مثل عدد أولئك الأسرى وهو سبعون على المشهور في الروايات الصحيحة (منها) ما رواه البخاري في حديث البراء بن عازب ـ رضي الله عنه ـ الثاني من أحاديث (باب غزوة أحد). فأصيب منا سبعون قتيلا.
قال الحافظ في شرحه بعد أن أورد خلاف الرواة في عدد هؤلاء القتلى [ص271 ج 8] ومنه أن الفتح اليعمري سرد أسماءهم فبلغوا: 96 - من المهاجرين أحد عشر وسائرهم من الأنصار، وذكر أنهم بلغوا في بعض الروايات مائة. ثم قال الحافظ: قال اليعمري: وقد ورد في تفسير قوله تعالى:
{ { أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها } [آل عمران: 165] أنها نزلت تسلية للمؤمنين عما أصيب منهم يوم أحد، فإنهم أصابوا من المشركين يوم بدر سبعين قتيلا وسبعين أسيرا في عدد من قتل. قال اليعمري: إن ثبتت فهذه الزيادة بقوله: أولما أصابتكم للأنصار خاصة، ويؤيده قول أنس: أصيب منا يوم أحد سبعون. وهو في الصحيح بمعناه. انتهى هذا الحديث، وأقول: إن ما ذكره لتصحيح رواية كون السبعين من الأنصار من جعل الخطاب لهم في قوله تعالى: { { أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا } [آل عمران: 165] الآية. خلاف المتبادر الذي يقتضيه جعل الخطاب لجميع المؤمنين فيما قبلها وبعدها، وقد قال الحافظ نفسه في شرح حديث البراء بن عازب في أبواب غزوة بدر [239 ج 7] واتفق أهل العلم بالتفسير على أن المخاطبين بذلك أهل أحد، وأن المراد بـ أصبتم مثليها يوم بدر وعلى أن عدة من استشهد بأحد سبعون نفسا إلخ.
أقول: وقد استشكل بعض العلماء حديث علي كرم الله وجهه بأنه " مخالف لمضمون الآية وقوله تعالى بعدها: { لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم } قالوا: لو خيرهم بين الأمرين لما آخذهم على اختيار أحدهما.
وأجيب عن ذلك بأن لله تعالى أن يمتحن عباده بما شاء، ليظهر بالعمل من أحسن ومن أساء، فيترتب على كل منهما ما يستحقه من الجزاء. قال تعالى في أول سورة العنكبوت
{ { الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين } [العنكبوت: 1 - 3] وقال تعالى في سياق الكلام على غزوة أحد من سورة آل عمران: { { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } [آل عمران: 142] وقال في أول سورة الكهف: { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا } [الكهف: 7].
وفي القرآن آيات كثيرة بهذا المعنى، وإن الذي يعنينا من هذا البحث وتحقيق الروايات فيه هو تحقيق الموضوع، ومنه كون الذين رجحوا مفاداة الأسرى كثيرون - وبحث اجتهاد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وشمول العتاب في الآيتين له، وقد حاول بعض المفسرين أن يجعل إنكار القرآن خاصا بالمؤمنين دونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال بعضهم: إن أخذ الفداء هو أرجح الرأيين، وأفضل الخطتين، ووجهه ابن القيم في الهدي بما يأتي من براعته، وسعة مجال أدلته، كما يأتي قريبا مع تحقيق الحق فيه بفضل الله ومشيئته.
ومعنى الآية: لولا كتاب من الله سبق في علمه الأزلي، أو في أم الكتاب أو في القرآن يقتضي ألا يعذبكم في هذا الذنب، أو ألا يعذبكم عذابا عاما، والرسول فيكم، وأنتم تستغفرونه من ذنوبكم، لمسكم فيما أخذتم من الفداء عذاب عظيم، أي بسببه، كحديث الصحيحين دخلت النار امرأة في هرة إلخ. أي بسببها إذ حبستها حتى ماتت. وورد في معنى الآية والكتاب الذي سبق روايات وآراء على أنه مما أبهم، لتذهب الأفهام إلى كل ما يحتمله اللفظ ويدل عليه المقام منها.
أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه من طريق نافع عن ابن عمر قال: اختلف الناس في أسارى بدر فاستشار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبا بكر وعمر فقال أبو بكر: فادهم، وقال عمر: اقتلهم، قال قائل: أرادوا قتل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهدم الإسلام، ويأمره أبو بكر بالفداء، وقال قائل: لو كان فيهم أبو عمر أو أخوه ما أمر بقتلهم فأخذ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقول أبي بكر ففاداهم، فأنزل الله: { لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم } فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
" إن كاد ليمسنا في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم، ولو نزل العذاب ما أفلت إلا عمر " .
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: لم يكن من المؤمنين أحد ممن نصر إلا أحب الغنائم إلا عمر بن الخطاب، جعل لا يلقى أسيرا إلا ضرب عنقه، وقال: يا رسول الله ما لنا وللغنائم، نحن قوم نجاهد في دين الله حتى يعبد الله. فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: " لو عذبنا في هذا الأمر يا عمر ما نجا غيرك، قال الله: لا تعودوا تستحلون قبل أن أحل لكم " وأخرج عن ابن إسحاق: لما نزلت لولا كتاب من الله سبق قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: لو نزل عذاب من السماء لم ينج منه إلا سعد بن معاذ لقوله: يا نبي الله كان الإثخان في القتل أحب إلي من استبقاء الرجال.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه، وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ في قوله: { ما كان لنبي أن يكون له أسرى } قال: ذلك يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل، فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل الله في الأسارى:
{ { فإما منا بعد وإما فداء } [محمد: 4] فجعل الله النبي والمؤمنين في أمر الأسرى بالخيار: إن شاءوا قتلوهم، وإن شاءوا استعبدوهم وإن شاءوا فادوهم (أقول: ولم يذكر الثالثة وهي المن عليهم بإعتاقهم وإطلاق أسرهم).
وفي قوله: { لولا كتاب من الله سبق } يعني في الكتاب الأول أن المغانم والأسارى حلال لكم { لمسكم فيما أخذتم } من الأسارى { عذاب عظيم } { فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا } قال: وكان الله قد كتب في أم الكتاب: المغانم والأسارى حلال لمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمته ولم يكن أحله لأمة قبلهم، وأخذوا المغانم وأسروا الأسارى قبل أن ينزل إليهم في ذلك.
وروى ابن المنذر وأبو الشيخ عنه { لولا كتاب من الله سبق } قال: سبقت لهم من الله الرحمة قبل أن يعلموا بالمعصية، اهـ. والظاهر أن المراد بذلك أهل بدر خاصة، فقد ورد في الصحيحين وغيرهما ما يثبت أن الله تعالى قد غفر لأهل بدر كقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعمر حين استأذنه بقتل حاطب بن أبي بلتعة: " أليس من أهل بدر؟ لعل الله اطلع على أهل بدر. فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة - أو فقد غفرت لكم " وفي رواية: " وما يدريك؟ لعل الله اطلع على أهل بدر " إلخ. وهذا تمثيل وتصوير لمغفرة الله لهم، وليس أمرا إباحيا أمر الله رسوله أن يبلغهم إياه، بل هو أشبه بأمر التكوين والتقدير منه بأمر التكليف، وقال بعض العلماء: إنه للتشريف والتكريم. واتفقوا على أن البشارة المذكورة خاصة بأحكام الآخرة لا بأحكام الدنيا من إقامة الحدود ونحوها. وقد ورد أن واحدا منهم شرب الخمر فحده عمر ـ رضي الله عنه ـ.
وروى ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: لولا كتاب من الله سبق قال: في أنه لا يعذب أحدا حتى يبين له ويتقدم إليه.
وقال ابن جرير في الآية: لولا قضاء من الله سبق لكم أهل بدر في اللوح المحفوظ بأنه محل لكم الغنيمة، وأن الله قضى فيما قضى أنه لا يضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون - وأنه لا يعذب أحدا شهد المشهد الذي شهدتموه ببدر مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ناصرا دين الله - لنالكم من الله بأخذكم الغنيمة والفداء عذاب عظيم اهـ. ثم ذكر رواياته في هذه الوجوه وصوب إرادتها كلها.
وهذا خلط بين الغنائم وفداء الأسرى، وإشراك بين تفسير هذه الآية وتفسير الآية التي بعدها. واختار ابن كثير الجمع بينهما وفاقا لابن جرير. والأظهر المختار أن مسألة الفداء غير مسألة الغنائم. فإن الغنائم أحلت في أول هذه السورة وفي أول هذا الجزء منها.
وقال بعض العلماء: إن الذي سبق في كتاب الله، أي في حكمه أو في علمه، هو أن المجتهد إذا أخطأ لا يعاقب بل يثاب على اجتهاده وإذا كان نبيا لا يقره الله على خطأ بل يبينه له ويبين له ما كان من شأنه أن يترتب عليه من العقاب لولا الاجتهاد وحسن النية.
وقد فند الرازي جميع الروايات المأثورة في الكتاب الذي سبق، بعضها بحق وبعضها بغير حق، واختار على مذهب أصحابه الأشعرية في جواز العفو عن الكبائر أن المعنى: لولا أنه تعالى حكم في الأزل بالعفو عن هذه الواقعة لمسهم عذاب عظيم. (قال): وهذا هو المراد من قوله تعالى:
{ { كتب ربكم على نفسه الرحمة } [الأنعام: 54] ومن قوله: " سبقت رحمتي غضبي " (قال): وأما على قول المعتزلة، فهم لا يجوزون العفو عن الكبائر، فكان معناه لولا كتاب من الله سبق في أن من احترز عن الكبائر صارت كبائره مغفورة، وإلا لمسهم عذاب عظيم.
وهذا الحكم وإن كان ثابتا في جميع المسلمين إلا أن طاعات أهل بدر كانت عظيمة، وهو قبولهم الإسلام، وانقيادهم لمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإقدامهم على مقاتلة الكفار من غير سلاح وأهبة. فلا يبعد أن يقال: إن الثواب الذي استحقوه على هذه الطاعات كان أزيد من العقاب الذي استحقوه على هذا الذنب، فلا جرم صار هذا الذنب مغفورا، ولو قدرنا صدور هذا الذنب من سائر المسلمين لما صار مغفورا، فبسبب هذا القدر من التفاوت حصل لأهل بدر هذا الاختصاص اهـ.
وأقول: إن هذا الذي ذكره الرازي على طريقة المعتزلة تعليل حسن لمغفرة الله تعالى لأهل بدر ما يحتمل أن يقع منهم من الذنوب، وهو موافق لمذهب أهل السنة، ونصوص القرآن في تغليب الحسنات على السيئات، ولكنه لا يتجه في تفسير الآية وما ذكره على مذهب الأشعرية مثله في هذا فما اعتمده أضعف مما رده وأبطله.
وقد أشرنا آنفاً إلى احتمال تفسير الكتاب الذي سبق بقوله تعالى في هذه السورة:
{ { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } [الأنفال: 33] وقد تقدم تفسيره وهو - وإن كان قد نزل في المشركين - أولى أن يكون للمؤمنين، أو هم أحق به وأولى، وهل يصح أن يمتنع نزول العذاب بالمشركين وفيهم نبي الرحمة ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهم يؤذونه ويصدون عنه، ولا يمتنع نزوله بالمؤمنين به الناصرين له وهو فيهم، وهم يستغفرونه تعالى حق الاستغفار، لتوحيدهم إياه وعدم إشراكهم أحدا، ولا شيئا في عبادته؟! ولا أذكر أنني رأيته لأحد على شدة ظهوره وتألق نوره، ولكنه خاص بعذاب الاستئصال، ومن البعيد جدا أن يكون هو المراد أو يشمل كل عذاب عام كما تشير إليه روايات استثناء عمر وسعد ـ رضي الله عنهما ـ ويصح تسمية هذا كتاب بمعنى كونه قضاء سبق وكتب في أم الكتاب، أو بمعنى أنه تعالى كتب على نفسه كما قال: { { كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم } [الأنعام: 54].
وقد فسر بعضهم الكتاب الذي سبق بهذه الرحمة، بناء على أنهم يتوبون مما ذكر بعد إنكاره عليهم، ويصلحون عملهم بما يذهب بتأثيره من أنفسهم وكذلك كان.
ويجوز أن يكون المراد بالكتاب الذي سبق ما قضاه الله تعالى وقدره من أعمار هؤلاء الأسرى وإيمان أكثرهم، والمختار عندنا وفاقا لما ذهب إليه ابن جرير، هو جواز إرادة كل ما يحتمله اللفظ من المعاني التي ذكر بعضها في رواياته، وأن هذا سبب تنكيره وإبهامه.
ثم إنه تعالى أباح لهم أكل ما أخذوه من الفداء، وعده من جملة الغنائم التي أباحها لهم في أول هذه السورة، وفي قوله في أول هذا الجزء:
{ { واعلموا أنما غنمتم من شيء } [الأنفال: 41] إلخ، فقال: { فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا } [الأنفال: 69] أي: وإذا كان الله تعالى قد سبق منه كتاب في أنه لا يعذبكم، أو يقتضي ألا يعذبكم بهذا الذنب الذي خالفتم به سنته وهدي أنبيائه فكلوا مما غنمتم من الفدية حالة كونه حلالا بإحلاله لكم الآن طيبا في نفسه، لا خبث فيه مما حرم لذاته كالميتة ولحم الخنزير - واجعلوا باقيه في المصالح التي بينت لكم في قسمة الغنائم واتقوا الله في العود إلى أكل شيء من أموال الناس كفارا كانوا أو مؤمنين من قبل أن يحله الله لكم، وقال جرير في تفسير هذه الجملة، وخافوا الله أن تعودوا، أن تفعلوا في دينكم شيئا من هذا، قبل أن يحل لكم.
{ إن الله غفور رحيم } قال: غفور لذنوب أهل الإيمان من عباده، رحيم بهم أن يعاقبهم بعد توبتهم منها اهـ. وفسر بعضهم الاسمين الكريمين هنا بما يقتضيه المقام من مغفرته تعالى لذنبهم بأخذ الفداء، وإيثار جمهورهم لعرض الدنيا على ما يقتضيه إيثار الآخرة من طلب الإثخان في الأرض أولا، لإعزاز الحق وأهله، بإذلال الشرك وكبت حزبه - ومن رحمته بهم بإباحة ما أخذوا والانتفاع به، والأقرب تفسيره بأنه غفور للمتقي رحيم بهم.
وجملة القول في تفسير الآيات الثلاث أنه ليس من سنة الأنبياء، ولا مما ينبغي لأحد منهم أن يكون له أسرى يفاديهم أو يمن عليهم، إلا بعد أن يكون له الغلب والسلطان على أعدائه وأعداء الله الكافرين، لئلا يفضي أخذه الأسرى إلى ضعف المؤمنين وقوة أعدائهم وجرأتهم وعدوانهم عليهم - وأن ما فعله المؤمنون من مفاداة أسرى بدر بالمال كان ذنبا سببه إرادة جمهورهم عرض الحياة الدنيا، على ما كان من ذنب أخذهم لهم قبل الإثخان الذي تقتضيه الحكمة بإعلاء كلمة الله تعالى، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، ولولا ذلك لسألوا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عنه، كما سألوه عن الأنفال من قبله - وأنه لولا كتاب من الله سبق مقتضاه عدم عقابهم على ذنب أخذ الفداء قبل إذنه تعالى، وعلى خلاف سنته، وبالغ حكمته لمسهم عذاب عظيم في أخذهم ذلك - وأنه تعالى أحل لهم ما أخذوا وغفر لهم ذنبهم بأخذه قبل إحلاله لهم والله غفور رحيم.
فإن قيل: تبين بعد نزول هذه الآيات أن ما حصل من أخذ الفداء لم يكن مضعفا للمؤمنين، ولا مزيدا من شوكة المشركين، بل كان خيرا ترتب عليه فوائد كثيرة بينها المحقق ابن القيم من بضعة وجوه - وسيأتي سردها.
قلنا: ما يدرينا ماذا كان يكون لو عمل المسلمون بما دلت الآية الأولى من قتل أولئك الأسرى أو من عدم أخذ الأسرى يومئذ؟ على أنه هو الذي تقتضيه الحكمة، وسنة أنبياء الرحمة، أليس من المعقول أن يكون ذلك مرهبا للمشركين، وصادا لهم عن الزحف بعد سنة على المؤمنين، وأخذ الثأر منهم في أحد، ثم اعتداؤهم في غيرها من الغزوات؟
فإن قيل: وما حكمة الله تعالى في ترجيح رسوله لرأي الجمهور المرجوح بحسب القاعدة أو السنة الإلهية التي كان عليها الأنبياء قبله، وهو أرحجهم ميزانا وأقواهم برهانا، ثم إنكاره تعالى ذلك عليهم؟ (قلت): إن لله تعالى في ذلك لحكما أذكر ما ظهر لي منها:
الحكمة الأولى: عمل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ برأي الجمهور الأعظم فيما لا نص فيه من الله تعالى، وهو ركن من أركان الإصلاح السياسي والمدني الذي عليه أكثر أمم البشر في دولها القوية في هذا العصر، كما عمل ـ صلى الله عليه وسلم ـ برأيهم الذي صرح به الحباب بن المنذر في منزل المسلمين يوم بدر وتقدم [في ص 508 وما بعدها ج9 ط الهيئة] وقد كان هذا من فضائله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم فرضه الله عليه في غزوة أحد بقوله:
{ { وشاورهم في الأمر } [آل عمران: 159] [ص 163 وما بعدها ج 4 ط الهيئة].
الحكمة الثانية: بيان أن الجمهور قد يخطئون ولا سيما في الأمر الذي لهم فيه هوى ومنفعة، ومنه يعلم أن ما شرعه تعالى من العمل برأي الأكثرين فسببه أنه هو الأمثل في الأمور العامة، لا أنهم معصومون فيها.
الحكمة الثالثة: أن النبي نفسه قد يخطئ في اجتهاده، ولكن الله تعالى يبين له ذلك، ولا يقره عليه كما صرح به العلماء فهو معصوم من الخطأ في التبليغ عن الله تعالى لا في الرأي والاجتهاد، ومنه ما سبق من اجتهاده صلوات الله وسلامه عليه بمكة في الإعراض عن الأعمى الفقير الضعيف عبد الله بن أم مكتوم ـ رضي الله عنه ـ حين جاءه يسأله وهو يدعو كبراء أغنياء المشركين المتكبرين إلى الإسلام، لئلا يعرضوا عن سماع دعوته، فعاتبه الله على ذلك بقوله:
{ { عبس وتولى أن جاءه الأعمى } [عبس: 1-2] إلى قوله تعالى: { { كلا } [عبس: 11].
الحكمة الرابعة: أن الله تعالى يعاتب رسوله على الخطأ في الاجتهاد مع حسن نيته فيه، ويعده ذنبا له، ويمن عليه بعفوه عنه ومغفرته له على كون الخطأ في الاجتهاد معفوا عنه في شريعته؛ لأنه في علو مقامه وسعة عرفانه يعد عليه من " مخالفة الأولى والأفضل والأكمل ما لا يعد على من دونه من المؤمنين، على قاعدة: " حسنات الأبرار سيئات المقربين " ومثال ذلك قوله تعالى له لما أذن بالتخلف عن غزوة تبوك لبعض المنافقين:
{ { عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين } [التوبة: 43] فهذه أمثلة ذنوبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ تسليما، والمغفورة بنص قوله تعالى: { { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما } [الفتح: 2] والذنب ما له عاقبة ضارة أو مخالفة للمصلحة تكون وراءه كذنب الدابة وإن لم يكن معصية.
الحكمة الخامسة: بيان مؤاخذة الله تعالى الناس على الأعمال النفسية وإرادة السوء بعد تنفيذها بالعمل بقوله تعالى: { تريدون عرض الدنيا } وإنما كانت إرادة هذا ذنبا؛ لأنه كان باستشراف أشد من استشرافهم أولا لإيثار عير أبي سفيان على الجهاد، ولذلك لم يسألوا عن حكمه كما سألوا من قبل عن الأنفال، ولم يبالوا في سبيله بأن يقتل المشركون منهم بعد عام مثل عدد من قتلوهم ببدر، كما ورد في بعض الروايات، وما قاله بعض المفسرين من أن سبب هذا حبهم للشهادة فلا دليل عليه من نص ولا قرينة حال، ويرده أنه ليس للمؤمنين أن يحبوا أو يختاروا قتل المشركين لكثير منهم ولا قليل، ويكفي من حب الشهادة الإقدام على القتال، وعدم الفرار من الزحف خوفا من القتل.
الحكمة السادسة: الإيذان بأنهم استحقوا العذاب على أخذ الفداء، ولم يذكر معه مخالفة المصلحة المذكورة؛ لأنها لم تكن قد بينت لهم، وإنما كان من شأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يعلم هذه المصلحة ويعمل بمقتضاها، والظاهر أنه علمها ولكنه رجح عليها العمل بالمشاورة، والأخذ برأي الجمهور الذي فرضه الله تعالى عليه فرضا في غزوة أحد بعد أن ألهمه إياه إلهاما في غزوة بدر، ولهذا لم يمن عليه عنها بالعفو عنه خاصة، كما من عليه بعد ذلك في الإذن للمنافقين بالتخلف عن غزوة تبوك الذي هو مخالف للمصلحة أيضا.
الحكمة السابعة: بيان منة الله تعالى على أهل بدر أنه لم يعذبهم فيما أخذوا بسوء الإرادة، أو بغير حق وتقدم وجهه، وفي هذه المنة بعد الإنذار الشديد خير تربية لأمثالهم من الكاملين تربأ بأنفسهم عن مثل ذلك الاستشراف، لا أنها تجرئهم عليه كما توهم بعض الناس.
الحكمة الثامنة: علمه تعالى بأن أولئك الأسرى ممن كتب لهم طول العمر وتوفيق أكثرهم للإيمان.
الحكمة التاسعة: أن يكون من قواعد التشريع أن ما نفذه الإمام من الأعمال السياسية والحربية بعد الشورى لا ينقض، وإن ظهر أنه كان خطأ، ومن ذلك أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما شرع في تنفيذ رأي الجمهور في الخروج إلى أحد على خلاف رأيه ثم راجعوه فيه، وفوضوا إليه الأمر في الرجوع فلم يرجع، وقال في ذلك كلمته العظيمة التي تعمل بها دول السياسة الكبرى إلى هذه العصر لحسنها، لا لاتباعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتراجع في [ص78 - 82 ج 4 ط الهيئة].
هذا ما فتح الله تعالى به، وهو مخالف لما ذهب إليه العلامة ابن القيم في الهدي، وأشار إليه الحافظ في الفتح، وتارة معزوا إليه، وتارة بغير عزو، وإننا ننقله بنصه، ونقفي عليه بما نراه ناقضا له مع الاعتراف لأستاذنا ابن القيم بالإمامة والتحقيق (لا العصمة) في أكثر ما وجه إلى تحقيقه فكره الوقاد، ذلك أنه عقد في كتابه (زاد المعاد) فصلا لهديه صلى الله عليه وسلم في الأسارى، ذكر فيه حديث الاستشارة في أسرى بدر ورأي الشيخين ـ رضي الله عنهما ـ والترجيح بينهما قال فيه ما نصه - والعنوان لنا -
الترجيح بين رأي الصديق والفاروق في أسرى بدر
وقد تكلم الناس في أي الرأيين كان أصوب، فرجحت طائفة قول عمر لهذا الحديث: ورجحت طائفة قول أبي بكر لاستقرار الأمر عليه، وموافقته الكتاب الذي سبق من الله بإحلال ذلك لهم، ولموافقته الرحمة التي غلبت الغضب، ولتشبيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ له في ذلك بإبراهيم وعيسى، وتشبيهه لعمر بنوح وموسى، ولحصول الخير العظيم الذي حصل بإسلام أكثر أولئك الأسرى، ولخروج من خرج من أصلابهم من المسلمين، ولحصول القوة التي حصلت للمسلمين بالفداء، ولموافقة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأبي بكر أولا، ولموافقة الله له آخرا حيث استقر الأمر على رأيه، ولكمال نظر الصديق فإنه رأى ما يستقر عليه حكم الله آخرا، وغلبة جانب الرحمة على جانب العقوبة.
قالوا: وأما بكاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنما كان رحمة لنزول العذاب لمن أراد بذلك عرض الدنيا، ولم يرد ذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ وإن أراده بعض الصحابة، فالفتنة كانت تعم ولا تصيب من أراد ذلك خاصة، كما هزم العسكر يوم حنين بقول أحدهم: لن نغلب اليوم من قلة، وبإعجاب كثرتهم لمن أعجبته منهم، فهزم الجيش بذلك فتنة ومحنة، ثم استقر الأمر على النصر والظفر والله أعلم " اهـ.
أقول: إن في هذا الكلام على حسنه وكثرة فوائده مغالطات غير مقصودة، وبعدا عن معنى الآيتين يجب بيانه لتحرير الموضوع، وإظهار علو أحكام القرآن وحكمه، وكونها فوق اجتهاد جميع المجتهدين؛ لأنها كلام رب العالمين، وما صرف المحقق ابن القيم عن فقهها وبيان علوها وفوقيتها إلا توجيه ذكائه ومعارفه إلى تفضيل اجتهاد أبي بكر على اجتهاد عمر لإجماع أهل السنة على كونه أفضل منه، وإن كانوا لم يختلفوا في أنه يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل أو الأفضل، فكيف وقد اختاره الرسول بعد العلم بموافقة جمهور الصحابة له ما عدا عمر وكذا عبد الله بن رواحة، وسعد بن أبي وقاص في بعض الروايات، وهذا الجمهور هو الذي كان يريد من الفداء عرض الدنيا لفقرهم، وحاشا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصديقه الأكبر من إرادة ذلك لذاته، ولا يقدح في مقامهما إرادتهما لمواساة الجمهور، وتعويض شيء مما فاتهم من عير أبي سفيان، بعد ما كان من بلائهم في القتال على جوعهم، وعدم استعدادهم له، وليس هذا الذنب من الفتن التي يعم بها العذاب كما أشار إليه ابن القيم، وهو مما يمكن وقوعه مع وجوده صلى الله عليه وسلم.
والتحقيق في المسألة الذي تدل عليه الآيتان دلالة واضحة تؤيدها الروايات الواردة في موضوعها وكذا آية سورة محمد عليه الصلاة والسلام، أن رأي عمر هو الصواب الذي كان ينبغي العمل به في مثل الحال التي كان عليها المسلمون مع أعدائهم في وقت غزوة بدر، وأما رأي الصديق، فهو الذي تقتضي الحكمة والرحمة العمل به بعد الإثخان في الأرض بالغلب والسلطان، ولكن كان من قدر الله تعالى أن نفذ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأي أبي بكر؛ لأنه رأى أن جمهور المسلمين يوافقه فيه، وإن كان للكثيرين منهم قصد دون قصده الذي بنى عليه رأيه، وهو إرادتهم للمال لحاجتهم الدنيوية إليه كما صرحت به الآية الكريمة، وفي الحديث الذي تقدم أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ هوي رأي أبي بكر، ولم يهو رأي عمر، وعندي أن أسباب هواه لرأي أبي بكر:
1- حرصه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على إرضاء الجمهور لعذرهم الذي بيناه آنفا في إرادتهم لعرض الدنيا.
2- تغليبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ للرحمة على العقوبة إذا لم يكن في الرحمة إضاعة لحد من حدود الله، ولا مخالفة لأمره تعالى.
3- رجاء إيمانهم كلهم أو بعضهم، وكان من حكمة الله تعالى ورحمته في هذا القدر أن بين لرسوله وللمؤمنين سنته تعالى في التغالب بين الأمم، وما ينبغي لأنبيائه وأتباعهم في حالتي الضعف والإثخان في الأرض، وسائر ما دلت عليه الآيات من الأحكام الحربية والسياسية والتشريعية.
بيان ما في كلام ابن القيم من الأغلاط التي تشبه المغالطات الجدلية
1- ذكر أن المرجح الأول لرأي أبي بكر: استقرار الأمر عليه، فإذا كان يريد به ترجيحه، والعمل به في تلك الحال فهو غلط ظاهر، فإن العمل به هو الذي أنكره القرآن، فكيف يكون دليلا على أنه الأصوب أو أنه صواب؟ وأما عدم نقضه بأمر الله بقتل الأسرى بعد مفاداتهم فقد بينا ما فيه من الحكم وجعله قاعدة في التشريع.
وإن أراد به استقرار الأمر عليه آخرا فيجاب عنه بأن هذا قد كان سببه تغير الحال، والتخيير بين المن والفداء بعد إثخان الأعداء في القتال، فمن ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أهل مكة بإطلاقهم من أسر الرق، إذا كان قد أثخن في الأرض، وأعتق المسلمون أسرى بني المصطلق بعد قسمتهم فآمنوا كلهم، وتقدم عن ابن عباس ما يصرح به، بأن ما هنا نسخ بآية سورة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ما في تسمية ذلك نسخا من بحث تقدم.
2- المرجح الثاني: موافقة الكتاب الذي سبق بإحلال ذلك لهم إلخ، وهو مبني على قول من قال: إن المراد به ذلك، فيكون خطأ عند من فسره بغيره مما تقدم بل هو خطأ مطلقا، فإنه استدلال على استحلال الشيء قبل ورود الشرع بإحلاله وهو ظاهر البطلان.
3- المرجح الثالث: موافقته الرحمة التي سبقت الغضب وهو خطأ أيضا، فإن سبق رحمة الله تعالى لغضبه لا يقتضي أن ترجح الرحمة على الغضب من عباده ولا منه وهو أرحم الراحمين في كل شيء، وإلا لما كانت المسألة مسألة سبق للرحمة على الغضب، بل كانت تكون مسألة رحمة بلا غضب، فالذي أفادته الآيتان الأوليان أن رحمة الكفار بأسر مقاتليهم ثم المن عليهم أو مفاداتهم في حال ضعف المؤمنين ليست من شأن أنبياء الله تعالى وسنتهم، ولا مما ينبغي أن يقع منهم، ولا من أتباعهم الصادقين قبل الإثخان في الأرض، وقد وصف الله أتباع رسوله بقوله:
{ { أشداء على الكفار رحماء بينهم } [الفتح: 29] وقال لرسوله: { { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } [التوبة: 73] ومن المعقول المجرب أن وضع الرحمة في غير موضعها، وغير وقتها المناسب لها ضار كما قال أبو الطيب المتنبي:

ووضع الندى في موضع السيف بالعلى مضر كوضع السيف في موضع الندى

ومن المثلات والعبر في هذا أن المسلمين أباحوا في حال عزتهم وسلطانهم لأهل الملل الأخرى حرية واسعة في دينهم ومعاملاتهم في بلاد الإسلام، عادت على المسلمين ودولهم بأشد المضار والمصائب في طور ضعفهم، كامتيازات الكنائس، ورؤساء الأديان، التي جعلت كل طائفة منهم ذات حكومة مستقلة في داخل الحكومة الإسلامية، ومن ذلك ما يسمونه في هذا العصر بالامتيازات الأجنبية التي كانت فضلا وإحسانا من ملوك المسلمين، فصارت امتيازات عليهم مذلة لهم مفضلة للأجنبي عليهم في عقر دارهم، حتى إن الصعلوك من أولئك الأجانب صار أعز فيها من أكابر أمرائهم وعلمائهم.
4- المرجح الرابع: تشبيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكل من صاحبيه ووزيريه ـ رضي الله عنهما ـ بنبيين من المرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم - وهذا التشبيه لا يدل على الترجيح بحال من الأحوال، فإن ما ذكره ـ صلى الله عليه وسلم ـ من وجهي الشبه لكل منهما إنما كان يدل عليه لو كان عندنا دليل على أن ما قاله إبراهيم وعيسى في أقوامهما في محله، وأن ما قاله نوح في قومه وموسى في فرعون وقومه في غير محله، ولكن ثبت أن الله تعالى استجاب لنوح دعاءه على قومه:
{ { رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا } [نوح: 26] ولموسى دعاءه على فرعون وقومه: { { ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم } [يونس: 88].
ورأينا المفسرين يعدون من المشكل على قواعد العقائد الإسلامية قول إبراهيم:
{ { فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم } [إبراهيم: 36] وتأوله بعضهم بأنه قاله قبل إعلام الله تعالى له بأنه لا يغفر أن يشرك به وقالوا: إنه كاستغفاره لأبيه الذي قال الله فيه: { { وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه } [التوبة: 114] وقال بعضهم في تأويله: إنه في العصاة لا الكفار، وغير ذلك.
ومثله استشكالهم لقول عيسى في الذين اتخذوه وأمه إلهين من دون الله:
{ { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } [المائدة: 118] وقد أطالوا في تفسيره الكلام، ولا سيما وصفه تعالى بالعزيز الحكيم في مقام احتمال المغفرة دون الغفور الرحيم، وقد بينا في تفسيرنا أن قوله هذا عليه السلام تفويض للأمر إلى الله عز وجل لا طلب ودعاء بالمغفرة لهم، ولا يتسع هذا المقام لبسط الكلام في الآيتين.
وأما استنباط الترجيح مما تقرر عند علمائنا من كون إبراهيم أفضل الرسل بعد خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليهم ويليهما موسى فعيسى فنوح فلا وجه له في هذا المقام، فإن كان إبراهيم في الطرف الأول أفضل ممن في الطرف الثاني، فإن موسى في الثاني أفضل من عيسى في الأول، ففي كل من النبيين اللذين شبه بهما كل من الصاحبين من هو أفضل من أحد الآخرين، ولكن المقام ليس مقام المفاضلة فإنه لا خلاف بين المسلمين في تفضيل الصديق على الفاروق رضي الله تعالى عنهما.
5و6- المرجحان الخامس والسادس: ما حصل من الخير العظيم بإسلام أكثر أولئك الأسرى، وخروج من خرج من أصلابهم من المسلمين، وهذان إنما يدلان على أن الخير في الذي وقع كان حكمة من حكم الله في قوعه كما بيناه، ولكنه ليس دليلا على أن حكمه الشرعي الذي نزلت الآيتان فيه هو مفاداة الأسرى وترجيحها على قتلهم بل نصهما صريح في ضده.
7- المرجح السابع، حصول القوة للمسلمين بالفداء وفيه نظر، إذ ما يدرينا أن قتلهم كان يكون مضعفا للمشركين، وصادا لهم عن الجراءة على قتال المؤمنين في أحد وفي الخندق مثلا، كما هو المعقول الذي يقتضيه ما دلت عليه الآيتان من وجوب جعل المفاداة بعد الإثخان في الأرض لا قبله، وعلى تقدير التسليم يقال في هذا المرحج ما قلناه فيما قبله.
8- المرجح الثامن: موافقة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأبي بكر ـ رضي الله عنه ـ وهو بمعنى المرجح الأول ويقال فيه ما قلناه فيه.
9- المرجح التاسع: قوله: ولموافقة الله له آخرا حيث استقر الأمر على رأيه اهـ. ويا ليت شيخنا وقدوتنا في أدبه ودينه وعلمه لم يقل هذا فإنه على بطلانه غير لائق، وكان ينبغي أن يقتصر على ما قاله بعده في معناه وهو: ولكمال نظر الصديق فإنه رأى ما يستقر عليه حكم الله آخرا، وأما كونه باطلا فقد علم مما قبله؛ لأنه من التكرار الذي يقع مثله في كلامه كثيرا.
وجملة القول: أن الآيتين الأوليين صريحتان في أن رأي عمر ـ رضي الله عنه ـ هو الصواب، ووردت الآثار بأنه مما وافق عليه رأيه كلام الله تعالى، وقد ذكر ابن القيم هذا في إعلام الموقعين وأقره، وأن جعله مرجوحا يستلزم كون حكم الآيتين مرجوحا وهو محال، ومن اللوازم التي لم تخطر بالبال، بل غفلوا عنه، هذا وجل من لا يغفل.
وقد علمت أن حكم الله تعالى لم يتغير أولا ولا آخرا - وخلاصته: أن اتخاذ الأسرى ومفاداتهم مقيد بالإثخان كما تقرر بالبيان التام، وأنه لما كان أخذ الفداء من أسرى بدر قبل الإثخان أنكر تعالى على المؤمنين، بما تضمن عتاب خاتم النبيين، صلوات الله عليه وآله وصحبه أجمعين، وما من الله به علينا من الحكم التسع أقوى، من هذه المرجحات التسعة والحمد لله رب العالمين.