خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوۤاْ أُوْلَـٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ وَإِنِ ٱسْتَنصَرُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ فَعَلَيْكُمُ ٱلنَّصْرُ إِلاَّ عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
٧٢
وَٱلَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي ٱلأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ
٧٣
وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوۤاْ أُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
٧٤
وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـٰئِكَ مِنكُمْ وَأْوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
٧٥
-الأنفال

تفسير المنار

كان المؤمنون في عصر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أربعة أصناف: (الأول) المهاجرون الأولون أصحاب الهجرة الأولى قبل غزوة بدر، وربما تمتد أو يمتد حكمها إلى صلح الحديبية سنة ست، (الثاني) الأنصار (الثالث) المؤمنون الذين لم يهاجروا (الرابع) المؤمنون الذين هاجروا بعد صلح الحديبية.
وقد بين في هذه الآيات حكم كل منها ومكانتها فقال: إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله هذا الصنف الأول، وهو الأفضل الأكمل، وقد وصفهم بالإيمان، والمراد به الإيمان بكل ما جاء به محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من توحيد الله تعالى وتنزيهه ووصفه بما وصف به نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن عالم الغيب كالملائكة والبعث والجزاء، ومن الوحي والكتب المنزلة وغير ذلك من العقائد والعبادات والآداب والحلال والحرام، والأحكام السياسية والمدنية، وناهيك بسبق هؤلاء إلى هذا الإيمان ومعاداة الأهل والولد والأقربين والأولياء لأجله.
ووصفهم بالمهاجرة من ديارهم وأوطانهم فرارا بدينهم من فتنة المشركين، إرضاء لله تعالى ونصرا لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ووصفهم بالجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فالجهاد بذل الجهد بقدر الوسع ومصارعة المشاق.
فأما ما كان منه بالأموال فهو قسمان: إيجابي: وهو إنفاقها في التعاون والهجرة، ثم في الدفاع عن دين الله ونصر رسوله وحمايته، وسلبي: وهو سخاء النفس بترك ما تركوه في وطنهم عند خروجهم منه -.
وأما ما كان منه بالنفس فهو قسمان أيضا: قتال الأعداء، وعدم المبالاة بكثرة عددهم وعددهم، وما كان قبل إيجاب القتال من احتمال المشاق ومغالبة الشدائد والصبر على الاضطهاد، والهجرة من البلاد، وما في ذلك من سغب وتعب وغير ذلك.
قال: { والذين آووا ونصروا } وهذا هو الصنف الثاني في الفضل كالذكر، وصفهم بأنهم الذين آووا الرسول ومن هاجر إليهم من أصحابه الذين سبقوهم بالإيمان ونصروهم ولولا ذلك لم تحصل فائدة الهجرة ولم تكن مبدأ القوة والسيادة.
فالإيواء يتضمن معنى التأمين من المخافة، إذ المأوى هو الملجأ والمأمن، ومنه:
{ { إذ أوى الفتية إلى الكهف } [الكهف: 10]، { { فأووا إلى الكهف } [الكهف: 16] { { ألم يجدك يتيما فآوى } [الضحى: 6]، { { وفصيلته التي تؤويه } [المعارج: 13]، { { آوى إليه أخاه } [يوسف: 69] وقد أطلق المأوى في التنزيل على الجنة وهو على الأصل في استعماله، وعلى نار الجحيم، وهو من باب التهكم، ونكتته بيان أن من كانت النار مأواه لا يكون له ملجأ ينضوي إليه، ولا مأمن يعتصم به.
وقد كانت (يثرب) مأوى وملجأ للمهاجرين شاركهم أهلها في أموالهم، وآثروهم على أنفسهم، وكانوا أنصار الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقاتلون من قاتله ويعادون من عاداه، ولذلك جعل الله حكمهم وحكم المهاجرين واحدا في قوله:
{ أولئك بعضهم أولياء بعض } أي: يتولى بعضهم من أمر الآخرين أفرادا أو جماعات ما يتولونه من أمر أنفسهم عند الحاجة من تعاون وتناصر في القتال وما يتعلق به من الغنائم وغير ذلك؛ لأن حقوقهم ومرافقهم ومصالحهم مشتركة، حتى إن المسلمين يرثون من لا وارث له من الأقارب، ويجب عليهم إغاثة المضطر، وكفاية المحتاج منهم: كما أنه يشترط فيمن يتولى أمورهم العامة أن يكون منهم.
فالأولياء جمع ولي وهو كالمولى مشتق من الولاية - بفتح الواو - وبه قرأ الجمهور في الجملة الآتية، وكسرها وبه قرأ حمزة فيها، سواء قيل: إن معناهما واحد كالدلالة والدلالة أو قيل: إن لفظ الولاية بالفتح خاص بالنصرة والمعونة وكذا النسب والدين، وبالكسر خاص بالإمارة وتولي الأمور العامة؛ لأنها من قبيل الصناعات والحرف كالتجارة والنجارة والكتابة والزراعة، واستعمال الأولياء في المعاني الأولى أكثر.
وقال بعض المفسرين: إن الولاية هنا خاصة بولاية الإرث؛ لأن المسلمين كانوا يتوارثون في أول الأمر بالإسلام والهجرة دون القرابة، بمعنى أن المسلم المقيم في البادية أو في مكة أو غيرها من بلاد الشرك، لم يكن يرث المسلم الذي في المدينة وما في حكمها إلا إذا هاجر إليها، واستمر ذلك إلى أن فتحت مكة، وزال وجوب الهجرة، وغلب حكم الإسلام في بدو العرب وحضرها، فنسخ التوارث بالإسلام وهذا التخصيص باطل.
والمتعين أن يكون لفظ الأولياء عاما يشمل كل معنى يحتمله، والمقام الذي نزلت فيه هذه الآية بل السورة كلها يأبى أن يكون المراد به حكما مدنيا من أحكام الأموال فقط، فهي في الحرب وعلاقة المؤمنين بعضهم ببعض وعلاقتهم بالكفار، وكل ما يصح أن يقال في مسألة التوارث أنها داخلة في عموم هذه الولاية سواء كان بالإسلام أم بالقرابة، ولا بأس بذكر صفوة ما ورد وما قيل في المؤاخاة بين الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ليعلم بالتفصيل بطلان ما قيل في حمل هذه الولاية على الإرث بها.
جاء في الصحيحين من حديث أنس قال قد حالف رسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين المهاجرين والأنصار في داري، قاله لمن سأله عن حديث: لا حلف في الإسلام، وقد ذكر البخاري في صحيحه مؤاخاتة ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع الأنصاري ـ رضي الله عنهما ـ وأسنده في عدة أبواب وكذلك المؤاخاة بين سليمان وأبي الدرداء رضي الله عنهما، وأسند مسلم في صحيحه مؤاخاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين أبي عبيدة بن الجراح وأبي طلحة ـ رضي الله عنهما.
وقال الحافظ في الفتح: قال ابن عبد البر: كانت المؤاخاة مرتين: مرة بين المهاجرين خاصة، وذلك بمكة، ومرة بين المهاجرين والأنصار على المواساة، وكانوا يتوارثون، كانوا تسعين نفسا بعضهم من المهاجرين وبعضهم من الأنصار، وقيل: وكانوا مائة: فلما نزل: { وأولو الأرحام } [الأنفال: 75] بطلت المواريث بينهم بتلك المؤاخاة ا هـ.
وأقول: الظاهر أن المراد بآية { وأولو الأرحام } آية [6] من سورة الأحزاب، كما علم مما تقدم، ثم اشتبه الأمر على بعض المفسرين وغيرهم فظنوا أنها آية [75] من الأنفال، وكل منهما مشكل، ولكن القول بأنها آية الأنفال أظهر إشكالا، بل لا يبقى معها لذلك التوارث فائدة ولا لنسخه حكمة لقرب الزمن بين هذا الإرث وبين نسخه، فإن سورة الأنفال نزلت عقب غزوة بدر في السنة الثانية من الهجرة ولم تكن الحاجة إلى ذلك الإرث قد تغير منها شيء، ولا سيما على القول بأن المؤاخاة كانت بعد الهجرة بسنة وثلاثة أشهر، وكذلك لم تكن الحال قد تغيرت عند نزول سورة الأحزاب عقب وقعتها وكانت سنة أربع على الأرجح، وقال ابن إسحاق: كانت في شوال سنة خمس، وإنما تظهر حكمة النسخ بعد فتح مكة سنة ثمان لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
"لا هجرة بعد الفتح" رواه البخاري، وكذا بعد صلح الحديبية سنة ست بإباحة الهجرة بها.
وقال الحافظ: قال السهيلي: آخى بين أصحابه ليذهب عنهم وحشة الغربة، ويتأنسوا من مفارقة الأهل والعشيرة، ويشد بعضهم أزر بعض، فلما عز الإسلام، واجتمع الشمل وذهبت الوحشة أبطلت المواريث وجعل المؤمنين كلهم إخوة، وأنزل:
{ { إنما المؤمنون إخوة } [الحجرات: 10] يعني في التوادد وشمول الدعوة، واختلفوا في ابتدائها فقيل: بعد الهجرة بخمسة أشهر، وقيل: بتسعة أشهر، وقيل: وهو يبني المسجد، وقيل: قبل بنائه، وقيل بسنة وثلاثة أشهر قبل بدر اهـ.
أقول: فهل يعقل أن يكون التوارث بالمؤاخاة حصل قبل غزوة بدر بقليل أو كثير ونسخ بعدها في سنتها؟ وهل تظهر الحكمة التي ذكرها السهيلي في هذه المدة؟ كلا إن الإسلام قد عز بغزوة بدر ولكن الشمل لم يجتمع، والوحشة لم تذهب، والسعة في الرزق لم تحصل، وكان لا يزال أكثر أولي القربى مشركين.
ثم قال: وذكر محمد بن إسحاق المؤاخاة فقال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه بعد أن هاجر: " تآخوا أخوين أخوين " فكان هو وعلي أخوين، وحمزة وزيد بن حارثة أخوين، وجعفر بن أبي طالب ومعاذ بن جبل أخوين، وتعقبه ابن هشام بأن جعفرا كان يومئذ بالحبشة إلخ.
أقول: وقد تكلفوا الجواب عن هذا ولكن في بقية الرواية تعقبات أخرى مثلها، وابن إسحاق غير ثقة في الحديث عند الجمهور، ومن وثقه لم ينكر أنه كان مدلسا، فكيف إذا لم يذكر سندا كما هو المتبادر هنا، إذ لو ذكر سندا لما سكت عنه الحافظ ابن حجر هنا، وفيه أيضا أن بعض هذه المؤاخاة بين المهاجرين وحدهم، فإن عليا وحمزة وزيد بن حارثة ـ رضي الله عنهم ـ من المهاجرين، وهذا مناف لقول من قالوا: إن المؤاخاة بين المهاجرين كانت بمكة.
ثم قال الحافظ: محاولا حل إشكال بعض التعقبات: وكان ابتداء المؤاخاة أوائل قدومه المدينة، واستمر يجددها بحسب من يدخل في الإسلام أو يحضر إلى المدينة، والإخاء بين سلمان وأبي الدرداء صحيح كما في الباب، وعند ابن سعد، وآخى بين أبي الدرداء وعوف بن مالك وسنده ضعيف، والمعتمد ما في الصحيح، وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع مذكور في هذا الباب، وسمى ابن عبد البر جماعة آخرين. "وأنكر ابن تيمية في الرد على ابن المطهر الرافضي المؤاخاة بين المهاجرين وخصوصا مؤاخاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعلي قال: لأن المؤاخاة شرعت لإرفاق بعضهم بعضا، وليتآلف قلوب بعضهم على بعض، فلا معنى لمؤاخاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأحد منهم ولا لمؤاخاة مهاجري لمهاجري".
"وهذا رد للنص بالقياس وغفلة عن حكمة المؤاخاة؛ لأن بعض المهاجرين كان أقوى من بعض بالمال والعشيرة والقوى، فآخى بين الأعلى والأدنى، ليرتفق الأدنى بالأعلى، ويستعين الأعلى بالأدنى. وبهذا تظهر مؤاخاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعلي؛ لأنه هو الذي كان يقوم به من عهد الصبا من قبل البعثة واستمر. وكذا مؤاخاة حمزة وزيد بن حارثة؛ لأن زيدا مولاهم فقد ثبت أخوتهما وهما من المهاجرين " إلخ. وما ذكره لا يؤيد تعليله، فإنه بين النبي صلى الله عليه وسلم وعلي ـ رضي الله عنه ـ من قبيل تحصيل الحاصل.
واحتج الحافظ على ابن تيمية بالمؤاخاة بين ابن الزبير وابن مسعود المروية بسند حسن عند الحاكم وابن عبد البر وعند الضياء في المختارة التي يصرح ابن تيمية بأن أحاديثها أقوى من أحاديث المستدرك، ثم قال:
"وقصة المؤاخاة الأولى أخرجها الحاكم من طريق جميع بن عمير عن ابن عمر: آخى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين أبي بكر وعمر، وبين طلحة والزبير، وبين عبد الرحمن بن عوف وعثمان - وذكر جماعة - قال، فقال علي: يا رسول الله إنك آخيت بين أصحابك فمن أخي؟ قال: " أنا أخوك " (قال الحافظ): وإذا انضم هذا إلى ما تقدم تقوى به اهـ.
وأقول: إنما احتاج هذا الحديث إلى التقوية بما روي من المؤاخاة بين بعض المهاجرين؛ لأن راويه جميع بن عمير التيمي مجروح، أهون ما طعنوه به قول البخاري: في أحاديثه نظر، ووافقه ابن عدي. وأشدها قول ابن نمير: كان من أكذب الناس، وقول ابن حبان: كان رافضيا يضع الحديث. والظاهر أن الحافظ لم يطلع على رواية تؤيده في موضوعه ولو إجمالا، ومنه إسناد ابن عبد البر في الاستيعاب.
وقد صرح الحافظ العراقي شيخ الحافظ ابن حجر بأن روايات مؤاخاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعلي ـ رضي الله عنه ـ ضعيفة، فهو موافق لابن تيمية في ذلك، وقد ذكر ابن تيمية المؤاخاة بين بعض المهاجرين، فهو إذا ينكر ما قيل من تلك المؤاخاة العامة، وتحقيق هذا ليس من موضوعنا هنا، وإنما ذكرناه استطرادا للحاجة إليه في إيضاح هذا البحث، وسنذكر ما يتعلق بذلك من الإرث في تفسير: { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض } [الأنفال: 75].
{ والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا } وهذا هو الصنف الثالث من أصناف المؤمنين، وهم المقيمون في أرض الشرك تحت سلطان المشركين وحكمهم وهي دار الحرب والشرك بخلاف من يأسره الكفار من أهل دار الإسلام، فله حكم أهل هذه الدار، ويجب على المسلمين السعي في فكاكهم بما يستطيعون من حول وقوة باتفاق العلماء، بل يجب مثل هذه الحماية لأهل الذمة أيضا، وكان حكم غير المهاجرين أنهم لا يثبت لهم شيء من ولاية المؤمنين الذين في دار الإسلام، إذ لا سبيل إلى نصر أولئك لهم، ولا إلى تنفيذ هؤلاء لأحكام الإسلام فيهم، والولاية حق مشترك على سبيل التبادل.
ولكن الله خص من عموم الولاية المنفية الشاملة لما ذكرنا من الأحكام شيئا واحدا فقال: { وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر } فأثبت لهم من ولاية أهل دار الإسلام حق نصرهم على الكفار إذا قاتلوهم أو اضطهدوهم لأجل دينهم، وإن كانوا هم لا ينصرون أهل دار الإسلام لعجزهم. ثم استثنى من هذا الحكم حالة واحدة فقال: { إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق } يعني إنما يجب عليكم أن تنصروهم إذا استنصروكم في الدين على الكفار الحربيين دون المعاهدين، فهؤلاء يجب الوفاء بعهدهم؛ لأن الإسلام لا يبيح الغدر والخيانة بنقض العهود والمواثيق كما تقدم في تفسير آية:
{ { وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين } [الأنفال: 58].
وهذا الحكم من أركان سياسة الإسلام الخارجية العادلة، ومن المعلوم بالبداهة أن العهد الذي يكون بين المسلمين الذين في دار الإسلام وبين الكفار لا ينتقض بتعديهم على المسلمين الخارجين من دار الإسلام التي يسمى رئيسها خليفة الإسلام، والإمام الأعظم والإمام الحق (وهو الذي يقيم أحكام الإسلام وحدوده ويحمي دعوته) وإن ألف هؤلاء المسلمون غير الخاضعين للإمام الحق حكومة أو حكومات لهم، وإنما ينتقض عهدهم بتعديهم على حكومة الإمام أو أحد البلاد الداخلة في حدود حكمه، ولكن إذا تضمن العهد بينه وبين بعض دول الكفار أن لا يقاتلوا أحدا من المسلمين غير الخاضعين لأحكامه، فإنه ينتقض بقتالهم المخالف لنص العهد، وحينئذ يجب نصر أولئك المسلمين على المعتدين عليهم لأجل دينهم، وكذا لأجل دنياهم إن تضمن العهد ذلك، كما يجب نصرهم على من لا عهد بين حكومة الإمام وحكومتهم؛ لأنه حامي الإيمان وناشر دعوته.
وقد أخذ أعظم دول الإفرنج هذا الحكم عن الإسلام، ومن ألقاب ملك الإنكليز الرسمية " حامي الإيمان " ولكن المسلمين تركوه ثم طفقوا يتركون أصل الإسلام والإيمان.
{ والله بما تعملون بصير } لا يخفى عليه شيء منه، فعليكم أن تقفوا عند حدوده فيه لئلا تقعوا في عقاب المخالفة له، وأن تراقبوه وتتذكروا اطلاعه على أعمالكم وتتوخوا فيها الحق والعدل والمصلحة وتتقوا الهوى الصاد عن ذلك. وبمثل هذا الإنذار الإلهي تمتاز الأحكام السياسية الإسلامية على الأحكام القانونية المدنية بما يجعل المسلمين أصدق في إقامة شريعتهم، وأجدر بالوفاء بعهودهم، وأبعد عن الخيانة فيها سرا وجهرا، وفي هذا من المصلحة لخصومهم من الكفار ما هو ظاهر فكيف بأهل ذمتهم؟ وإننا نرى أعظم دول المدنية العصرية تنقض عهودها جهرا عند الإمكان، ولا سيما عهودها للضعفاء، وتتخذها دخلا وخداعا مع الأقوياء، وتنقضها بالتأويل لها إذا رأت أن هذا في منفعتها. وقد قال أعظم رجال سياستهم البرنس بسمارك معبرا عن حالهم: المعاهدات حجة القوي على الضعيف. (وقال) في الدولة البريطانية: إنها أبرع الدول في التفصي في المعاهدات بالتأويل.
ثم قال عز وجل: { والذين كفروا بعضهم أولياء بعض } أي: في النصرة والتعاون على قتال المسلمين، فهم في جملتهم فريق واحد تجاه المسلمين وإن كانوا مللا كثيرة يعادي بعضها بعضا، ولما نزلت هذه الآية، بل السورة لم يكن في الحجاز منهم إلا المشركون واليهود، وكان اليهود يتولون المشركين وينصرونهم على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمؤمنين بعد ما تقدم تفصيله من عقده ـ صلى الله عليه وسلم ـ العهود معهم، وما كان من نقضهم لها، ثم ظهرت بوادر عداوة نصارى الروم له في الشام، وسيأتي بيان ذلك في الكلام على غزوة تبوك من سورة التوبة وهي المتمة لما هنا من أحكام القتال مع المشركين وأهل الكتاب.
وقيل: إن الولاية هنا ولاية الإرث كما قيل بذلك في ولاية المؤمنين فيما قبلها، وجعلوه الأصل في عدم التوارث بين المسلمين والكفار، وبإرث ملل الكفر بعضهم لبعض. وقال بعض المفسرين: إن هذه الجملة تدل بمفهومها على نفي المؤازرة والمناصرة بين جميع الكفار وبين المسلمين، وإيجاب المباعدة والمصارمة وإن كانوا أقارب، وتراهم يقلد بعضهم بعضا في هذا القول. وقولهم: إنه مفهوم الآية أو هو المراد منها غير مسلم، وقد تقدم النقل بأن صلة الرحم عامة في الإسلام للمسلم والكافر كتحريم الخيانة. ولا بأس أن نذكر هنا الخلاف في مسألة التوارث بين المختلفين في الدين وما ورد فيها:
روى أحمد والشيخان وأصحاب السنن الأربعة من حديث أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:
"لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" قال الحافظ في الفتح وأخرجه النسائي من رواية هشيم عن الزهري بلفظ " لا يتوارث أهل ملتين " وجاءت رواية شاذة عن ابن عيينة عن الزهري مثلها، وله شاهد عند الترمذي من حديث جابر، وآخر من حديث عائشة عند أبي يعلى، وثالث من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في السنن الأربعة، وسند أبي داود فيه إلى عمرو صحيح اهـ.
وأقول: إن في كل رواية من الروايات لهذا اللفظ علة ولكن يؤيد بعضها بعضا، فهشيم مدلس كثير التدليس وأعدل الأقوال فيه قول ابن سعد: إذا قال: أخبرنا فهو ثقة وإلا فلا. وهاهنا قال عن الزهري ولم يصرح بالسماع منه، وقد كان كتب عنه صحيفة فقدت منه فكان يحدث بما فيها من حفظه، ونقلوا عنه أنه كان يحدث من حفظه فيحتمل أيضا أنه سمع الحديث بلفظ أسامة فذكره بهذا اللفظ كما رواه به الحاكم عن أسامة، وخالف فيه نص الصحيحين وسائر الجماعة، ولذلك ذكر عنه ابن كثير، وقفى عليه بذكر لفظ الصحيحين، إشارة إلى ما فيه من علة مخالفة الثقات، أو مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه النافية للصحة، وليس فيه أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قرأ آية الأنفال { والذين كفروا بعضهم أولياء بعض } كما روى الحاكم. وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فيه خلاف مشهور والأكثرون يحتجون به.
ثم قال الحافظ بعد ذكر هذه الرواية وشواهدها: وتمسك بها من قال: لا يرث أهل ملة كافرة أهل ملة أخرى كافرة، وحملها الجمهور على أن المراد بإحدى الملتين الإسلام، وبالأخرى الكفر، فيكون مساويا للرواية التي بلفظ الباب وهو أولى من حملها على ظاهر عمومها، حتى يمتنع عن اليهودي مثلا أن يرث من النصراني.
والأصح عند الشافعية أن الكافر يرث الكافر وهو قول الحنفية والأكثر، ومقابله عن مالك وأحمد، وعنه التفرقة بين الذمي والحربي، وكذا عند الشافعية.
وعن أبي حنيفة: لا يتوارث حربي من ذمي، فإن كانا حربيين شرط أن يكونا من دار واحدة، وعند الشافعية: لا فرق، وعندهم وجه كالحنفية. وعن الثوري وربيعة وطائفة: الكفر ثلاث: يهودية ونصرانية وغيرهم، فلا ترث ملة من هذه من ملة من الملتين.
وعن طائفة من أهل المدينة والبصرة كل فريق من الكفار ملة فلم يورثوا مجوسيا من وثني ولا يهوديا من نصراني، وهو قول الأوزاعي وبالغ فقال: ولا يرث أهل نحلة من دين أحد أهل نحلة أخرى منه كاليعقوبية والملكية من النصارى اهـ. وأقرب هذه الأقوال إلى ما عليه تلك الملل قول الأوزاعي ومن وافقهم هو ممن قبله.
ثم قال الحافظ: واختلف في المرتد، فقال الشافعي وأحمد: " يصير ماله فيئا للمسلمين. وقال مالك: يكون فيئا إلا إن قصد بردته أن يحرم ورثته المسلمين فيكون لهم. وكذا قال في الزنديق، وعن أبي يوسف ومحمد: لورثته المسلمين، وعن أبي حنيفة: ما كسبه قبل الردة لورثته المسلمين، وبعد الردة لبيت المال " إلخ.
وذكر الحافظ قبل ذلك ما روي عن معاذ ـ رضي الله عنه ـ أنه كان يورث المسلم من الكافر ولا عكس، ومنه أن أخوين اختصما إليه، مسلم ويهودي مات أبوهما يهوديا فحاز ابنه اليهودي ماله فنازعه المسلم فورث معاذ المسلم. وروى ابن أبي شيبة مثل هذا عن معاوية قال: نرث أهل الكتاب ولا يرثونا، كما يحل لنا النكاح منهم، ولا يحل لهم منا، وبه قال مسروق وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وإسحاق اهـ. وعليه الإمامية وبعض الزيدية.
{ إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير } أي: إن لم تفعلوا ما ذكر وهو ما شرع لكم من ولاية بعضكم لبعض، وتناصركم وتعاونكم تجاه ولاية الكفار بعضهم لبعض عليكم.
ومن الوفاء بالعهود والمواثيق مع الكفار إلى أن ينقضي عهدهم أو ينبذ على سواء - يقع من الفتنة والفساد الكبير في الأرض ما فيه أعظم الخطر عليكم، بتخاذلكم وفشلكم المفضي إلى ظفر الكفار بكم واضطهادكم في دينكم لصدكم عنه كما كانوا يفتنون ضعفاءكم بمكة قبل الهجرة، وقيل: إن لم تفعلوا ما أمرتم به في الميراث، وهو قول ابن عباس وتقدم ما فيه، وقد ذكره عنه البغوي هنا ثم قال: وقال ابن جرير: إلا تعاونوا وتناصروا، وقال ابن إسحاق: جعل الله المهاجرين والأنصار أهل ولاية في الدين دون من سواهم، وجعل الكافرين بعضهم أولياء بعض، ثم قال: إلا تفعلوه وهو أن يتولى المؤمن الكافر دون المؤمن { تكن فتنة في الأرض وفساد كبير } فالفتنة في الأرض: قوة الكفر، والفساد الكبير: ضعف الإسلام اهـ.
وأقول: الأظهر أن الفتنة في الأرض ما ذكرنا من اضطهادهم المسلمين وصدهم عن دينهم، كما يدل عليه ما سبق في هذه السورة، وفي سورة البقرة، وهي من لوازم قوة الكفر وسلطان أهله الذي كانوا عليه، ولا يزال الذين يدعون حرية الدين منهم في هذا العصر يفتنون المسلمين عن دينهم حتى في بلاد المسلمين أنفسهم، بما يلقيه دعاة النصرانية منهم من المطاعن فيه وفي الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبما يغرون به الفقراء من العوام الجاهلين من المال وأسباب المعيشة.
كذلك الفساد الكبير من لوازم ضعف الإسلام الذي يوجب على أهله تولي بعضهم لبعض في التعاون والنصرة وعدم تولي غيرهم من دونهم، ويوجب على حكومته القوية العدل المطلق والمساواة فيه بين المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والقوي والضعيف، والغني والفقير، والقريب والبعيد - كما تقدم شرحه مرارا - والذي يحرم الخيانة ونقض العهود حتى مع الكفار كما تقدم في هذه السورة أيضا مفصلا وذكرنا به آنفا.
ومن وقف على تاريخ الدول الإسلامية التي سقطت وبادت والتي ضعفت بعد قوة، يرى أن السبب الأعظم لفساد أمرها ترك تلك الولاية أو استبدال غيرها بها، ومن الظاهر الجلي أن مسألة التوارث لا تقتضي هذه الفتنة العظيمة، ولا هذا الفساد الكبير.
وقال ابن كثير في تفسير هذه الشرطية: أي: إن لم تجانبوا المشركين، وتوالوا المؤمنين وقعت فتنة في الناس، وهو التباس الأمر واختلاط المؤمنين بالكافرين، يقع بين الناس فساد منتشر عريض طويل. اهـ.
وأقول: إن اختلاط المؤمنين الأقوياء في إيمانهم بالكافرين سبب قوي لانتشار الإسلام وظهور حقيته وفضائله كما وقع بعد صلح الحديبية، ولذلك سماه الله تعالى فتحا مبينا. وكذلك كان انتشار المسلمين في كثير من بلاد الكفر بقصد التجارة سببا لإسلام أهلها كلهم أو بعضهم كما وقع في جزائر الهند الشرقية (جاوه وما جاورها) وفي أواسط إفريقية. فهذا القول على إطلاقه ضعيف بل مردود، وإنما يصح في حال ضعف المسلمين في الدين والعلم، واختلاطهم بمن هم أعلم منهم بالجدل، وإيراد الشبهات في صورة الحجج مع تعصبهم في كفرهم ودعوتهم إليه، كحال هذا الزمان في بلاد كثيرة، ولولا هذا التنبيه لما نقلت هذا القول.
ورجح ابن جرير بعد نقل الخلاف قول من قال: إن هذا في ولاية التناصر والتعاون ووجوب الهجرة في ذلك العهد، وتحريم المقام في دار الحرب، وعلله بأن المعروف المشهور في كلام العرب من معنى الولي أنه النصير والمعين، أو ابن العم والنسيب، فأما الوارث فغير معروف ذلك من معانيه. ثم قال ما نصه: وإذا كان ذلك كذلك تبين أن أولى التأويلين بقوله:
{ إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير } تأويل من قال: إلا تفعلوا ما أمرتكم به من التعاون والنصرة على الدين " إلخ.
{ والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا } هذا تفضيل للصنفين الأولين من المؤمنين على غيرهم، وشهادة من الله تعالى للمهاجرين الأولين والأنصار بأنهم هم المؤمنون حق الإيمان وأكمله، دون من لم يهاجر من المؤمنين وأقام بدار الشرك مع حاجة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمؤمنين إلى هجرته إليهم، وأعاد وصفهم الأول؛ لأنهم به كانوا أهلا لهذه الشهادة وما يليها من الجزاء في قوله: { لهم مغفرة ورزق كريم } الجملة استئناف بياني، وتنكير " مغفرة " لتعظيم شأنها، بدليل ما ذكر من أسبابها قبلها.
ومن وصف الرزق بعدها بكونه كريما: أي لهم مغفرة من ربهم تامة ماحية لما فرط منهم كأخذ الفداء من الأسرى يوم بدر، ورزق كريم في دار الجزاء، أي رزق حسن شريف بالغ درجة الكمال في نفسه وفي عاقبته، وهذه الشهادة المقرونة بهذا الجزاء العظيم ترغم أنوف الروافض، وتلقم كل نابح بالطعن في أصحاب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الحجر، ولا سيما زعمهم بأن أكثرهم قد ارتدوا بعده ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
قال ابن جرير: وهذه الآية تنبئ عن صحة ما قلناه: إن معنى قول الله { بعضهم أولياء بعض } في هذه الآية، وقوله: { ما لكم من ولايتهم من شيء } إنما هو النصرة والمعونة دون الميراث؛ لأنه جل ثناؤه عقب ذلك بالثناء على المهاجرين والأنصار والخبر عما لهم عنده دون من لم يهاجر بقوله: { والذين آمنوا وهاجروا... } الآية. ولو كان المراد بالآيات قبل ذلك الدلالة على حكم ميراثهم لم يكن عقيب ذلك إلا الحث على مضي الميراث على ما أمر وفي صحة ذلك، كذلك الدليل الواضح على أنه لا ناسخ في هذه الآيات لشيء ولا منسوخ اهـ.
{ والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم } هذا هو الصنف الرابع من المؤمنين في ذلك العهد، وهم من تأخر إيمانهم وهجرتهم عن الهجرة الأولى أو عن نزول هذه الآيات، فيكون الفعل الماضي آمنوا وما بعده بمعنى المستقبل، وقيل: عن صلح الحديبية وكان في ذي القعدة سنة ست، والسورة كلها نزلت عقب غزوة بدر، وحكمها على كل حال أنهم يلتحقون بالمهاجرين الأولين والأنصار فيما تقدم بيانه من أحكام ولايتهم وجزائهم. قال ابن جرير: { فأولئك منكم } في الولاية، يجب لكم عليهم من الحق والنصرة في الدين والموارثة مثل الذي يجب لكم عليهم ولبعضكم على بعض، وروي ذلك عن ابن إسحاق ولا خلاف فيه على ما أعلم.
وأقول: إن جعلهم تبعا لهم وعدهم منهم دليل على فضل السابقين على اللاحقين ولا سيما بعد اختلاف الحالين من قوة وضعف وغنى وفقر، قال تعالى:
{ { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى } [الحديد: 10] وقال تعالى: { { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم } [التوبة: 100] وقد بين في سياق قسمة الفيء من سورة الحشر هذه الدرجات الثلاث فقال عز من قائل: { { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم } [الحشر: 8 - 10] وفضيلة السبق معلومة بالنقل والعقل { { والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم } [الواقعة: 10 - 12] والروافض يكفرون بهذه الآيات كلها بما يطعنون به على جمهور الصحابة وعلى السابقين الأولين خاصة، ومن المعلوم بالتواتر أن أول أولئك السابقين بالإيمان والهجرة معا الذين شهد الله تعالى بصدقهم هو: أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وسخط على أعدائه والطاعنين فيه المكذبين بهذه الآيات ضمنا.
{ وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } أولو الأرحام هم أصحاب القرابة جمع رحم (ككتف وقفل) وأصله رحم المرأة الذي هو موضع تكوين الولد من بطنها، ويسمى به الأقارب؛ لأنهم في الغالب من رحم واحد، وفي اصطلاح علماء الفرائض: هم الذين لا يرثون بفرض ولا تعصيب وهم عشرة أصناف: الخال والخالة، والجد للأم، وولد البنت، وولد الأخت، وبنت الأخ، وبنت العم، والعمة، والعم للأم، وابن الأخ للأم، ومن أدلى بأحد منهم.
وقد اختلف علماء السلف والخلف في إرثهم لمن لا وارث له بما ذكر، واستدل المثبتون بعموم هذه الآية فإنه يشملهم، وكذا عموم قوله تعالى:
{ { للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون } [النساء: 7] وبأحاديث آحادية في إرث الخال فيها مقال، وبحديث " ابن أخت القوم منهم " وهو في الصحيحين وغيرهما وعليه أكثر العلماء.
وممن قال بتوريثهم من الصحابة: علي وابن مسعود وأبو الدرداء. ومن التابعين وأئمة الأمصار: مسروق ومحمد ابن الحنفية والنخعي والثوري وبعض أئمة العترة وأبو حنيفة وغيرهم، وهو المختار عندي ولا سيما في هذا الزمان. وترى في كتب الفرائض ما يستحقه كل وارث منهم، وروي عن ابن عباس أن هذه الآية وما قبلها نزلت في نسخ هذا الإرث وهذا مشهور عنه، وهو من أضعف التفسير المروي عنه ـ رضي الله عنه ـ.
وروى البخاري وأبو داود والنسائي عنه في تفسير
{ { ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون } [النساء: 33] أنه فسر الموالي بالورثة. ثم قال في تفسير { { والذين عقدت أيمانكم } [النساء: 33]: كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بينهم، فلما نزلت: { { ولكل جعلنا موالي } [النساء: 33] نسخت. ثم قال: والذين عقدت أيمانكم من النصر والرفادة والنصيحة وقد ذهب الميراث فيوصى له اهـ. هذا لفظ البخاري في كتاب التفسير، وهو أوضح من لفظه في كتاب الفرائض، وفي كل منهما غموض وإشكال في إعرابه ومعناه. والمراد لنا منه أنه فسر المعاقدة بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وبأن الناسخ لها هذه الآية.
قال الحافظ في هذه الرواية: وحملها غيره على أعم من ذلك أي مما كانوا يتعاقدون عليه من الإرث، ثم ذكر عنه مثل هذا وأن الناسخ له آية الأحزاب:
{ { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا } [الأحزاب: 6] وهي مفصلة وسورتها قد نزلت بعد سورة الأنفال، وفيها الكلام على غزوة الأحزاب التي كانت بعد غزوة بدر بسنتين وقيل بثلاث سنين، فالتحقيق أن آية الأنفال وسورتها نزلت قبل آيات الإرث وقبل سورتي النساء والأحزاب فهي مطلقة عامة.
والمعنى المتبادر من نص الآية وقرينة السياق أنها: في ولاية الرحم والقرابة، بعد بيان ولاية الإيمان والهجرة، فهو عز شأنه يقول: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض وأحق من المهاجرين والأنصار الأجانب بالتناصر والتعاون - وكذا التوارث في دار الهجرة في عهد وجوب الهجرة ثم في كل عهد - هم أولى بذلك في كتاب الله أي في حكمه الذي كتبه على عباده المؤمنين، وأوجب به عليهم صلة الأرحام والوصية بالوالدين وذي القربى في هذه الآية وغيرها مما نزل قبلها وأكده فيما نزل بعدها كآية الأحزاب في معناها، وكقوله بعد محرمات النكاح
{ { كتاب الله عليكم } [آل عمران: 24] فهو قد أوجبه في دين الفطرة، كما جعله من مقتضى غرائز الفطرة، فالقريب ذو الرحم أولى من غيره من المؤمنين بولاء قريبه وبره، ومقدم عليهم في جميع أنواع الولايات المتعلقة بأمره كولاية النكاح وصلاة الجنازة وغير ذلك.
وهذه الأولوية لا تقتضي عدم التوارث العارض بين المهاجرين والأنصار والمتعاقدين على أن يرث كل منهما الآخر كما كانت تفعل العرب، وإذا وجد قريب وبعيد يستحقان البر والصلة فالقريب مقدم كما قال تعالى:
{ { وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين } [آل عمران: 36] وقال رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه النسائي من حديث جابر بسند صحيح: ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا أي فللمستحق من كل جانب. وهذا موافق لقوله تعالى في وصف أولي الألباب من المؤمنين بالقرآن من سورة الرعد المكية: { { الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل } [الرعد: 20، 21] الآية. وعهد الله هنا يشمل جميع ما عهده إلى البشر من التكاليف سواء كانت بلفظ العهد كقوله: { { ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان } [يس: 60] الآيتين أو بلفظ آخر - ومنه { { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان } [الأعراف: 27] وأمثاله من النداء في هذه السورة - ومن الوصايا في السورة التي قبلها (الأنعام) كما يشمل ما عاهدوا الله عليه بلفظ العهد أو بدونه، وما يعاهد بعضهم بعضا عليه بشروطه، ومنها ألا يكون على شيء محرم.
ويدخل في العهد العام ما أوجبه من موالاة المؤمنين وحقوقهم، ثم ذكر بعد صفة هؤلاء ما يقابلها من صفات الكافرين الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل، وهو ما ذكر هنا. وقفى عليه بالأمر بصلة الرحم، وهو أهم ما أمر الله به أن يوصل، ثم قال تعالى في صفة من يصلون عن هداية القرآن من سورة البقرة المدنية:
{ { الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون } [البقرة: 27] وقد سبق في تفسيرها أن العهد الإلهي قسمان: فطري خلقي، وديني شرعي.
وجملة القول: أن أولوية أولي الأرحام بعضهم ببعض هو تفضيل لولايتهم على ما هو أعم منها من ولاية الإيمان وولاية الهجرة في عهدها، ولكن في ضمان دائرتهما، فالقريب أولى بقريبه ذي رحمه المؤمن المهاجري والأنصاري من المؤمن الأجنبي، وأما قريبه الكافر فإن كان محاربا للمؤمنين فالكفر مع القتال يقطعان له حقوق الرحم، كما قال تعالى في سورة الممتحنة:
{ { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } [الممتحنة: 1] الآيات، وإن كان معاهدا أو ذميا فله من حق البر وحسن العشرة ما ليس لغيره. قال تعالى في الوالدين المشركين: { { وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا } [لقمان: 15] ثم قال في الكفار عامة: { { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين } [الممتحنة: 8] فالبر والعدل مشروعان عامان في حدود الشرع، ومحل تفصيل هذا البحث تفسير سورة الممتحنة.
ثم ختم الله تعالى هذه السورة بقوله: { إن الله بكل شيء عليم } فهو تذييل استئنافي لأحكام هذا السياق الأخير بل لجميع أحكام السورة وحكمها، مبين أنها محكمة لا وجه لنسخها ولا نقضها، فالمعنى أنه تعالى شرع لكم هذه الأحكام في الولاية العامة والخاصة والعهود وصلة الأرحام، وما قبلها مما سبق من أحكام القتال والغنائم، وقواعد التشريع، وسنن التكوين والاجتماع، وأصول الحكم المتعلقة بالأنفس ومكارم الأخلاق والآداب، عن علم واسع محيط بكل شيء من مصالحكم الدينية والدنيوية. كما قال في السورة السابقة لهذه: { ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم } [الأعراف: 52] الآية.
فنسأله تعالى في خاتمة تفسير هذه السورة أن يزيدنا علما وفقها بأحكام كتابه وحكمه، وأن يزيدنا هداية بعلومه وآدابه، وأن يوفقنا لإتمام تفسيره على ما يحب ويرضى، والصلاة والسلام على من أنزله عليه هدى للمتقين، وأرسله به رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
خلاصة سورة الأنفال
(أي ما فيها من الأصول الاعتقادية، والسنن الاجتماعية، وقواعد الشرع العملية، من سياسية وحربية، ونجمل ذلك في سبعة أبواب قد يدخل بعض أصولها ومسائلها في بعض فيذكر في كل باب بما يناسبه)
مقدمة للتنبيه والتذكير
ينبغي أن يتذكر القارئ أن جل السور المكية في أصول الإيمان الاعتقادية من الإلهيات والوحي والرسالة والبعث والجزاء وغيرهما من عالم الغيب وقصص الرسل مع أقوامهم. ويلي ذلك فيها أصول التشريع الإجمالية العامة، والآداب والفضائل الثابتة، كما بيناه في خلاصة كل من سورتي الأنعام، والأعراف، ويتخلل هذا وذاك محاجة المشركين ودعوتهم إلى الإيمان بتلك الأصول ودحض شبهاتهم، وإبطال ضلالتهم، وتشويه خرافاتهم.
وأما السور المدنية فتكثر فيها قواعد الشرع التفصيلية، وأحكام الفروع العملية، بدلا من أصول العقائد الإيمانية، وقواعد التشريع العامة المجملة، كما تكثر في بعضها محاجة أهل الكتاب، وبيان ما ضلوا فيه عن هداية كتبهم ورسلهم، ودعوتهم إلى الإيمان بخاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين - وفي بعضها بيان ضلالة المنافقين ومفاسدهم كما يرى القارئ للسور المدنية الطوال الأربع المتقدمة، وكل من هذا وذاك يقابل ما في السور المكية من بيان بطلان الشرك وغواية أهله.
في سورة البقرة تكثر محاجة اليهود، وفي سورة آل عمران تكثر محاجة النصارى، وفي سورة المائدة تكثر محاجة الفريقين، وفي سورة النساء تكثر الأحكام المتعلقة بالمنافقين، ويليها في فضائح المنافقين سورة التوبة الآتية. وتكثر في هذه السور الثلاث أحكام القتال، كما تكثر في هذه السورة (سورة الأنفال).
الباب الأول
(في صفات الله تعالى وشئونه في خلقه وحقوقه وحكمه في عباده. وفيه ثلاثة فصول)
الفصل الأول
في الأسماء والصفات الإلهية
1- الأسماء والصفات:
في هذه السورة من أسماء الله الحسنى وصفاته: العلي العزيز الحكيم، والعليم الحكيم، والسميع العليم، والغفور الرحيم، والمولى والنصير، والبصير، والقدير، والعليم بذات الصدور، وختمت السورة بقوله تعالى: { إن الله بكل شيء عليم } وكل اسم من هذه الأسماء وغيرها يذكر في القرآن مفردا أو مقترنا بغيره في المكان المناسب للموضوع الذي ورد فيه ويفسر في موضعه، ومفسروا المذاهب الكلامية وغيرها يتأولون بعضها كما تقدم في تفسير سورة الفاتحة من تأويلهم لصفة الرحمة، وبينا فيه وفي مذهب السلف في إمرار هذه الصفات، كما وردت من غير تكلف تأويل لها يخرجها عن الظاهر المتبادر من السياق مع الجزم بتنزيهه تعالى فيها عن شبه أحد من خلقه، وما للخلف من التأويلات التي حملهم عليها محاولة التقصي من التشبيه، وتحقيق الحق في كل مقام بما يناسبه مع الجمع بين إثبات النصوص والتنزيه. وقد تذكر بعض التأويلات للضرورة.
2- المعية الإلهية والعندية:
مما تكرر ذكره في هذه السورة إثبات إضافة المعية إليه تعالى، أي كونه مع من يشاء من عباده - وهي مما ورد تأويله عن بعض علماء السلف واتفق عليه متكلموا الخلف، وقد بينا هنا كما بينا من قبل تحقيق قاعدة السلف فيها وتراها في آيات من هذه السورة - أولها -
{ { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا } [الأنفال: 12] أي: إني أعينكم على تنفيذ ما آمركم به من تثبيتهم على قلوبهم، حتى لا يفروا من أعدائهم على كونهم يفوقونهم عددا وعددا ومددا - إعانة حاضر معكم لا يخفى عليه ولا يعجزه شيء من إعانتكم، والوعد بالإعانة وحده لا يفيد هذا المعنى كله، ففي المعية معنى زائد على أصل الإعانة نعقل منه ما ذكر ولا نعقل كنهه وصفته.
وفي معناها قوله تعالى في بيان أن كثرة العدد وحدها لا تقتضي النصر في الحرب بل هنالك قوة معنوية إلهية قد ينصر بها الفئة القليلة على الكثيرة:
{ { ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين } [الأنفال: 19] - وقوله عز وجل بعد الأمر بأسباب النصر المعنوية كالثبات في القتال وذكره وطاعته وطاعة رسوله والنهي عن التنازع: { { واصبروا إن الله مع الصابرين } [الأنفال: 46] ومثله قوله بعد جعل المؤمنين حقيقين بالنصر على عشرة أضعافهم من المشركين في حال القوة والعزيمة، وعلى مثليهم في حال الضعف والرخصة بشروطه: { { واصبروا إن الله مع الصابرين } [الأنفال: 46] وهذه المعية يعبر عنها في هذا المقام بمعية النصر. وقد بينا ما تسمى به في مقامات أخرى من الصبر في غير القتال يطلب كل منها في محله.
ويناسب المعية ما ورد في العندية كقوله تعالى:
{ { لهم درجات عند ربهم } [الأنفال: 4] وهي: إما عندية مكان. كهذه الآية والمراد بالمكان هنا الجنة كقوله تعالى حكاية عن امرأة فرعون: { { إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة } [التحريم: 11] وإضافته إلى الرب تعالى للتشريف والتكريم كما قال المفسرون، وإما عندية تدبير وتصرف. كقوله تعالى في هذه السورة: { { وما النصر إلا من عند الله } [الأنفال: 10] وإما عندية حكم. كقوله تعالى في أهل الإفك من سورة النور: { { فأولئك عند الله هم الكاذبون } [النور: 13] أي في حكم شرعه.
3- ولايته تعالى للمؤمنين:
وهي بمعنى معيته لهم. قال:
{ { وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير } [الأنفال: 40] فتسمى هنا ولاية النصرة وهي أعم. وتقدم تفصيل القول في الولاية العامة والخاصة في تفسير { { الله ولي الذين آمنوا } [البقرة: 257] فتراجع في (ص34 ج 3 ط الهيئة).
الفصل الثاني
في أفعاله وتصرفه في عباده وتدبيره لأمور البشر وفي تشريعه لهم
1- تصرفه في عباده:
يدخل في هذا الباب أفعاله التي لا كسب للناس فيها، وتصرفه فيهم بالأسباب والمسببات والمقدمات والنتائج وإرادته في تسخيرهم في أعمالهم. قال عز وجل:
{ { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق } [الأنفال: 5]، { { ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين } [الأنفال: 7] { { ليحق الحق ويبطل الباطل } [الأنفال: 8] إلى آخره { { وما النصر إلا من عند الله } [الأنفال: 10]، { { وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام } [الأنفال: 11] { { سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب } [الأنفال: 12] { { فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } [الأنفال: 17] - إلى قوله: { { وأن الله مع المؤمنين } [الأنفال: 19]، { { ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم } [الأنفال: 23]، { { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } [الأنفال: 24]، { { فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون } [الأنفال: 26]، { { إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا } [الأنفال: 29]، { { ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } [الأنفال: 30]، { { ليميز الله الخبيث من الطيب } [الأنفال: 37] - الآية - { { إذ يريكهم الله في منامك قليلا } [الأنفال: 43] - الآية - { { وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم } [الأنفال: 44] - الآية: { { ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } [الأنفال: 53] و { { الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم } [الأنفال: 62، 63] إلخ.
وقد بينا في تفسير كل آية من هذه الآيات ما للعبد مما أسند إليه، وما للرب مما أسند إليه عز وجل، وما في بعضها من شبهة يحتج بها على عقيدة الجبر ووجه إبطالها بما لا يجد القارئ له نظيرا في شيء من كتب التفسير وشروح الأحاديث، ولا في كتب الكلام فيما رأيناه منها وما يقاس عليه من أمثالها.
2- التشريع الديني:
هو حقه ومقتضى ربوبيته عز وجل، ففي الآية الأولى من هذه السورة: يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول ومعناه أن الحكم فيها هو حق الله تعالى، وأما الذي لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهو تنفيذ الحكم وقسمة الغنائم، ودليله أن الله تعالى بين حكمها في قوله:
{ { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول } [الأنفال: 41] إلخ. وتفسيره في أول الجزء العاشر، وما ورد من مؤاخذة المؤمنين على أخذ الفدية من أسرى بدر قبل إذن الله تعالى لهم بذلك في قوله تعالى: { { ما كان لنبي أن يكون له أسرى } [الأنفال: 67] إلخ. مع أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وافقهم على ذلك، وقد ثبت في الصحيحين أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إنما أنا قاسم وخازن والله يعطي" وفي أثناء حديث للبخاري "والله المعطي وأنا القاسم" .
وقسمته ـ صلى الله عليه وسلم ـ للغنائم مفوضة إلى اجتهاده فيما لا نص فيه من كتاب الله تعالى مع فرض العدل عليه. فالتشريع الديني الذي لا يتغير فيها هو حق الخمس وقد بينا تفصيله في أول الجزء العاشر. وما عدا ذلك من أموال الحرب فهو اجتهادي يقسمه الإمام الأعظم بمشاورة أهل الحل والعقد، على وفق المصلحة وأساس العدل، كما فعل عمر ـ رضي الله عنه ـ في تدوين الدواوين.
الفصل الثالث
في تعليل أفعاله وأحكامه تعالى بمصالح الخلق
ورد في هذه السورة تعليل وعده تعالى للمؤمنين إحدى الطائفتين من المشركين بقوله:
{ { ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل } [الأنفال: 7، 8].
وتعليله وعده للمؤمنين بإمداده إياهم بالملائكة بقوله:
{ { وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم } [الأنفال: 10].
وتعليله تغشيتهم النعاس، وإنزال المطر عليهم بقوله:
{ { إذ يغشيكم النعاس أمنة منه } [الأنفال: 11] إلخ.
وتعليله تمكينهم من قتل المشركين ببدر وإيصاله تعالى ما رمى به الرسول الكافرين إلى أعينهم بقوله:
{ { وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا } [الأنفال: 17] إلى قوله: { { موهن كيد الكافرين } [الأنفال: 18].
وتعليله ما كتبه من النصر لأتباع الرسل من المؤمنين الصادقين والخذلان لأعدائهم الكافرين بقوله:
{ { ليميز الله الخبيث من الطيب } [الأنفال: 37] الآية.
وتعليله لما قدره وأنفذه من لقائهم المشركين على غير موعد بقوله:
{ { ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة } [الأنفال: 42] ثم تعليله لإراءته تعالى رسوله المشركين في منامه قليلا بقوله: { { ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر } [الأنفال: 43].
ثم تعليله لإراءته تعالى المؤمنين عند التقائهم بالمشركين أنهم قليل، وتقليله إياهم في أعين المشركين بقوله: { ليقضي الله أمرا كان مفعولا } [الأنفال: 44].
ثم تعليله لمؤاخذة قريش على كفرها لنعمه ببيان سنته العامة في أمثالهم وهي قوله:
{ { ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } [الأنفال: 53].
وكذا تعليله لما أوجبه من ولاية المؤمنين بعضهم لبعض في النصرة في مقابلة ولاية الكافرين بعضهم لبعض بقوله:
{ { إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير } [الأنفال: 73].
2- الباب الثاني
في الحقوق والأحكام والكرامة الخاصة برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفيه فصلان
تنبيه: لما كان موضوع سورتي الأنعام، والأعراف المكيتين - كأمثالهما من السور المكية الطويلة - تبليغ الدعوة العامة للمشركين المنكرين للرسالة والوحي أولا وبالذات، كثرت فيهما الآيات في الرسالة العامة ووظائف الرسل وإثبات الوحي ودفع شبهات المشركين عليه وعلى الرسل، وفي رسالة خاتم النبيين خاصة وعموم بعثته وما هو دين وتشريع من أقواله وأفعاله وما ليس كذلك. [راجع ص255 - 269 ج 9 ط الهيئة].
ولما كان الخطاب في هذه السورة المدنية موجها إلى المؤمنين كثر فيها ما هو خاص به ـ صلى الله عليه وسلم ـ من إيجاب طاعته في كل ما يأمر به من أمر الدين والتشريع، والنهي عن عصيانه وخيانته وغير ذلك من حقوقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن عنايته تعالى به وتكريما له.
الفصل الأول
في عناية الله تعالى برسوله من كفايته وتشريفه إياه
واستعماله فيما تتم به حكمته وفيه تسعة أصول
الأصل الأول: كفايته تعالى إياه مكر مشركي قريش به في مكة وائتمارهم لحبسه إلى آخر حياته، أو نفيه من بلده، أو قتله بتقطيع فتيان من جميع بطون قريش له لإضاعة دمه، وكان ذلك سبب هجرته ـ صلى الله عليه وسلم ـ. وذلك قوله عز وجل:
{ { وإذ يمكر بك الذين كفروا } [الأنفال: 30] إلى قوله تعالى: { { والله خير الماكرين } [الأنفال: 30].
الأصل الثاني: إحساب الله تعالى له - أي كفايته التامة حتى يقول " حسبي " - في موقعين: (أحدهما) مقيد بحال " مخصوصة، وهي كفايته خداع من يريدون خداعه من الكفار بإظهارهم الجنوح للسلم وتأييده بنصره وبالمؤمنين في الآية 62. (والثاني) مطلق وهو كفايته إياه هو ومن اتبعه من المؤمنين الذين ذكر أنه أيده بهم - وهو نص الآية 64.
الأصل الثالث: عنايته تعالى به وتوفيقه إياه لتربية المؤمنين في قوله: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون [5] وهذه هي التي ترتب عليها ما في الفصل الثاني من الأحكام التكليفية المناسبة لما قبلها من وجوب الطاعة وحظر العصيان والخيانة له ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
الأصل الرابع: استعماله تعالى إياه برميه لوجوه الكفار ببدر بقبضة من التراب والرمل أصاب الله تعالى بها وجوههم كلهم وفيها قال تعالى:
{ { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } [الأنفال: 17] فراجع تفسيرها في [ص516 وما بعدها ج 9 ط الهيئة] وكان هذا من آيات الله الكونية له ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهذه الآيات كانت كثيرة، وهي من جنس آيات الله تعالى لموسى وعيسى وغيرهما من الرسل عليهم السلام، وفائدتها تقوية إيمان المؤمنين الذين شاهدوها، ومن يصح عندهم نقلها من بعدهم، وأما التحدي لإقامة حجة رسالته ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكانت خاصة بالقرآن وهو مشتمل على آيات تقدم بيانها في تفسير آية التحدي من سورة البقرة [ص159 - 191 ج 1 ط الهيئة] وفي غيرها.
الأصل الخامس: امتناع تعذيب الله المشركين ما دام الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيهم كما في الآية 33 وتفسيرها [ص545 وما بعدها ج 9 ط الهيئة].
الأصل السادس: استغاثته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ربه مع المؤمنين وإمداده تعالى إياهم بالملائكة وتغشيته إياهم النعاس وإنزاله عليهم المطر. وذلك في الآيات 9 - 12 وتفسيرها في (ص501 وما بعده ج 9 ط الهيئة) إلخ. وفيه بحث كمال توكله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وثقته بربه، وإعطائه كل مقام من التوكل والأخذ بالأسباب حقه، واختلاف حال الخروج في الهجرة وحال الحرب ببدر.
الأصل السابع: أنه ليس من شأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا مما يصح منه - إذ ليس من شأن الأنبياء، ولا من سنتهم في الحرب - أخذ الأسرى ومفاداتهم قبل الإثخان في الأرض بتمكين أهل الحق والعدل فيها وهو الآية 67.
الأصل الثامن: عتابه تعالى له في ضمن المؤمنين لعمله برأيهم في أخذ الفداء من أسارى بدر في الآيتين 68 و69 فيراجع تفسيرهما، وما فيه من التحقيق وما فيهما من الحكم والأحكام في هذا الجزء.
الأصل التاسع: تكريمه وتشريفه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما قرن الله عز وجل من طاعته بطاعته والاستجابة له بالاستجابة له ومشاقته بمشاقته والنهي عن خيانتهما معا، ومثله جعل الأنفال لله ولرسوله فيما يبين في موضعه من الفصل الآتي، ويا له من شرف عظيم، وتكريم لا يعلوه تكريم.
الفصل الثاني
في حقوقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الأمة وفيه 6 أصول تتمة 15 أصلا
الأصل العاشر: إيجاب طاعته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالأمر بها تكرارا، وجعلها مقارنة لطاعة الله تعالى في الآيات 1 و20 و46، وفي معناه الأمر بالاستجابة له ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الآية 24 مقارنة للاستجابة لله تعالى.
الأصل الحادي عشر:
حظر مشاقته ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجعلها كمشاقة الله عز وجل في الوعيد عليهما معا في الآية 13، وأصل المشاقة الخلاف والانفصال الذي يكون به كل واحد من المنفصلين في شق وجانب غير الذي فيه الآخر، فكل من يرغب عن هديه وسنته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويفضل عليهما غيرهما مما يسمى دينا أو تشريعا أو ثقافة وتهذيبا فهو داخل في هذا الوعيد.
الأصل الثاني عشر: حظر خيانتهم له ـ صلى الله عليه وسلم ـ مقارنا لخيانة الله تعالى في الآية 27.
الأصل الثالث عشر: كراهة مجادلته ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما يأمر به ويحاوله ويرغب فيه من أمور الدين أو مصالح المسلمين، ولكن يشترط في هذه أن تكون المجادلة بعد تبين الحق للمسلمين في المسألة. وذلك قوله تعالى:
{ { يجادلونك في الحق بعدما تبين } [الأنفال: 6] وهي في أمر الخروج إلى بدر، ووعد الله تعالى للمؤمنين على لسانه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإحدى الطائفتين من المشركين - طائفة العير وطائفة النفير أي الحرب - على الإبهام، ثم زوال الإبهام بتعين لقاء الثانية. وأما المجادلة والمراجعة في المصالح الحربية والسياسية قبل أن يتبين الحق فيها فهو محمود مع الأدب اللائق، إذ هي مقتضى المشاورة التي عمل بها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزوة بدر، وفي غيرها كما ترى في (ص257 وص508 وما بعدها ج 9 ط الهيئة) ثم فرضها الله تعالى عليه في غزوة أحد (راجع ص 163 وما بعدها ج 4 ط الهيئة).
وفي الآية الدالة على هذا الأصل آية أي حجة على حسن تربيته ـ صلى الله عليه وسلم ـ للمؤمنين وصبره على ضعفاء الإيمان منهم حتى يكمل.
الأصل الرابع عشر: كون الأنفال لله والرسول في الآية، وفيها شرف المقارنة أيضا.
الأصل الخامس عشر: جعل خمس الغنائم لله وللرسول كما في آية 41 وفيها ما تقدم.
الباب الثالث
في عالم الغيب كالبعث والجزاء والملائكة والشياطين
أصول هذا الباب ومسائله قليلة في هذه السورة لما تقدم بيانه في التمهيد وهي:
1- ما ورد في جزاء المؤمنين الكاملين بعد بيان صفاتهم في أولها وهو قوله تعالى:
{ { لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم } [الأنفال: 4] وهو مبطل لقاعدة الوثنية في التماس النفع ودفع الضرر ودرجات الآخرة بالتوسل بأشخاص الصالحين.
2- ما ورد في جزاء الكافرين من قوله تعالى بعد إنذار المشاقين له ولرسوله شديد عقابه
{ { ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار } [الأنفال: 14] أي عذاب الدار التي تسمى النار.
3- ما ورد في جزاء الفاسقين المرتكبين لكبائر الإثم والفواحش من قوله في المتولي عن الزحف:
{ { ومأواه جهنم وبئس المصير } [الأنفال: 16] وهو ناقض لبناء الوثنية في كون الاعتماد على بعض أشخاص الصالحين كافيا للنجاة من عقاب النار جزاء على الفسق، فإن هذا الاعتماد عليهم الذي أطلق عليهم المتأخرون اسم التوسل لو كان نافعا لما عوقب أحد؛ لأنه سهل على كل أحد.
4- ما ورد من ذكر الملائكة في وعده تعالى لرسوله والمؤمنين في غزوة بدر بإمدادهم بألف من الملائكة يثبتونهم بوجودهم فيهم وذلك في الآيات 9، 10، 12 وقد بينا معناه بما يقربه من العقل، على أن الواجب فيه هو الإيمان به مع تفويض صفته وكيفيته إلى الله تعالى كسائر أمور الغيب، فراجع تفسيره (ص510 وما بعدها ج 9 ط الهيئة).
5- ما ورد من ذكر الشيطان في الآية 11 وهو إذهاب رجزه ووسوسته عن المؤمنين في غزوة بدر، وبينا وجهه في تفسيره (ص 508 وما بعدها ج 9 ط الهيئة) وفي الآية 48 من تزيينه أعمال المشركين في عداوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقتاله ووعده لهم بالنصر والجوار فبراءته منهم، وبينا وجهه المعقول في تفسيرها في أول هذا الجزء.
الباب الرابع
في الإيمان وآياته وصفات أهله وفيه فصلان
الفصل الأول
في المؤمنين الكاملين وفيه 18 أصلا
الأصل الأول: أن الإيمان الصادق يقتضي العمل الصالح من تقوى الله، وإصلاح ذات البين، وطاعة الله ورسوله. فمن كان قلبه مطمئنا بالإيمان بالله تعالى وبوحيه إلى رسوله، وباليوم الآخر الذي يبعث فيه الموتى ويجزيهم بأعمالهم. يجد في نفسه داعية لما ذكر، وهي مجامع الخير والهدى له في نفسه وفيمن يعيش معهم، وفي النظام العام للأمة والدولة، وهو الشرع الذي شرعه الله وبينه رسوله بالقول والفعل والحكم. سواء أكان حكمه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالاجتهاد أو النص. وهذا ما تدل عليه الشرطية في قوله تعالى من الآية الأولى:
{ { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين } [الأنفال: 1] كما بيناه في تفسيرها. ومنه أن طاعة إمام المسلمين وقواد عسكره وأمرائه واجب بالتبع لطاعة الله وطاعة رسوله، بشرط أن يكون بالمعروف، كما قال في آية أخرى: { { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } [النساء: 59].
وأما غير المؤمن فلا يجد من الوازع والباعث في نفسه ما يجده المؤمن، ولا يرجو ويخاف ما يرجوه المؤمن ويخافه من ربه، وإنما يرجو من الناس أن يمدحوه أو يعينوه، ويخافهم أن يذموه أو يعيبوه، ويخشى الحكام أن يحتقروه أو يعاقبوه.
ثم بين لنا تعالى أن المؤمنين الصادقين الذين يكون لإيمانهم مثل هذه الثمرات الثلاث هم الذين يتحققون بالصفات الخمس التي قصروا أنفسهم عليها. أو قصرهم الإيمان في خيامها، إذ قال في الآية الثانية: { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } إلى قوله: { يتوكلون } وكل منها أصل مستقل في هذا الباب فنذكرها بترتيبها.
الأصل الثاني: أن من شأن المؤمن الصادق أن يوجل قلبه عند ذكر الله تعالى والوجل استشعار المهابة والجلال، أو الخوف والفزع، وهو أنواع يبعث كل نوع من الذكر نوعا منها، وتختلف باختلاف درجات المؤمنين، وأعلى أنواعه شعور المهابة والعظمة والإجلال لربهم الرحمن الرحيم الخالق الرازق المدبر المسخر القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير، ويليه الوجل من جهل العاقبة، ومن العقوبة بالحجاب أو العذاب. وهذا الشعور بأنواعه آية الإيمان الوجداني وثمرته.
الأصل الثالث: أن من شأن المؤمن الصادق أن يزداد إيمانا إذا تلا أو تليت عليه آيات الله عز وجل، بأن يربو شعوره في قلبه فيكون وجدانا لا يحوم حوله شك ولا ريب، ولا يؤثر فيه مغالطة ولا جدل - وبأن يعطى فهما في القرآن، بما يفتح عليه من معاني الآيات آنا بعد آن، من مدلولات نصوصها وفحوى عباراتها، ودقائق إشاراتها - وبما يؤتى من العبرة والموعظة بتدبره، فيكون مزجيا له للعمل به، فالإيمان يزيد بالكيف وبالكم جميعا، ومن ذاق عرف، وهذه آية الإيمان المشترك بين العقل والوجدان، وهما الباعثان على الأعمال.
الأصل الرابع: أن من شأن المؤمن الصادق أن يتوكل على الله تعالى، أي يكل أموره إليه وحده كما أفاده الحصر بقوله في هذه الآية:
{ { وعلى ربهم يتوكلون } [الأنفال: 2] وفي معناها آيات في هذه السورة وغيرها، بعضها بصيغة الحصر كهذه الآية، وبعضها بصيغ أخرى اقتضتها الحال، ولكل مقام مقال.
التوكل على الله تعالى أعلى مقامات التوحيد. فالمؤمن الموحد الكامل لا يتوكل على مخلوق مربوب لخالقه مثله، بل مشهده في المخلوقات أنها أسباب سخر الله بعضها لبعض في نظام التقدير العام، الذي أقام به أمور العالم المختار منها وغير المختار، فكلها سواء في الخضوع لسننه في الأسباب والمسببات، والسجود له في الانفعال بتقديره في نظام الكائنات، وهي فيما وراء تسخيره إياها سواء في العجز عن النفع والضر إيجابا وسلباً.
فشأن المؤمن المتوكل في دائرة الأسباب أن يطلب كل شيء من سببه، خضوعا لسننه تعالى في نظام خلقه، وهو بذلك يطلبها من حيث أمره أن يطلبها أمرا تكوينيا قدريا، وتشريعيا تكليفيا، فإذا جهل الأسباب أو عجز عنها، وكل أمره فيها إلى ربه تعالى، داعيا إياه أن يعلمه ما جهل بما سنه من أسباب العلم، ومنها الإلهام في بعض الأحيان - وأن يسخر له ما عجز عنه من جماد أو حيوان أو إنسان.
وقد بين تعالى فائدته في قوله من هذه السورة:
{ { ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم } [الأنفال: 49] وقد بينا موقعه في تفسيرها (ص493 وما بعدها ج 9 ط الهيئة) وفي آية: { { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله } [الأنفال: 61] وبينا موقعها في تفسيرها في أول هذا الجزء، وتقدم قبلها في معناها، وهو متمم له قوله: { { وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله } [الأنفال: 62] ومثله قوله بعدها: { { يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } [الأنفال: 64] فالإحساب جزاء التقوى، كما ورد في آيات أخرى.
التوكل مؤلف من الإيمان الاستفادي الوجداني، ومن العمل الإيجابي والسلبي، فكم من عمل يقدم عليه المؤمن المتوكل، ويحجم عنه غيره لعظمته، أو ما يخشى من عاقبته، وكم من عمل يتركه المتوكل ولا تطيب نفس غيره بتركه، لما يحرص عليه من فائدته، أو يتوقعه من سوء مغبته. وليس من التوكل ترك الأسباب الصحيحة في المعيشة والكسب والتداوي والحرب وغيرها، بل هو لا يتحقق بدونها، ولكن ينافيه الأخذ بالأمور الوهمية كالرقية والطيرة، وقد فصلنا هذا في مواضع (من أوسعها ما في ص168 - 175 ج 4 ط الهيئة).
الأصل الخامس: أن من شأن المؤمن الصادق إقامة الصلاة، أي أداؤها على أتم وجه وأكمله في أركانها وآدابها وسننها والخشوع والتدبر فيها. والصلاة عماد الدين، وأكمل العبادات الروحية البدنية الاجتماعية، وعبر عنها بالإيمان في قوله تعالى من آيات القبلة: وما كان الله ليضيع إيمانكم [2: 143] كما قال جمهور المفسرين بقرينة السياق، وقد وجهناه بأنه أثر الإيمان الراسخ في القلب، المصلح للنفس (ص9 وما بعدها ج 2 ط الهيئة) وبينا أسرارها وحكمتها وفوائدها ومفاسد تركها في مواضع من ذلك الجزء والجزء الأول الذي قبله بإسهاب تام، ولذلك اختصرنا الكلام عليها في تفسير آية هذه السورة من الجزء التاسع.
الأصل السادس: أن من شأن المؤمن الصادق الإنفاق في سبيل الله مما رزق الله، وهو يشمل الزكاة المفروضة، وغيرها من النفقات الواجبة والمستحبة. ولعل بذل المال في سبيل الله أقوى آيات الإيمان، وقد بينا القول فيه حيث وقع الأمر به من سورة البقرة بالتفصيل، ومن غيرها بالاختصار، فهو العبادة المالية التي يتوقف عليها أهم الأعمال الدينية والدنيوية، من منزلية (عائلية) ومدنية وعسكرية، وبمجموع هذه الصفات يكمل الإيمان، ويستحق صاحبه وعد الله المؤمنين سعادة الدنيا والآخرة، وما ذكره تعالى من الجزاء في الأصل الآتي.
الأصل السابع: أن جزاء هؤلاء الكاملين ما بينه تعالى بقوله:
{ { أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم } [الأنفال: 4] فراجع تفسيره في (ص494 ج 9 ط الهيئة).
الأصل الثامن: من آيات الإيمان الكامل بالتوكل على الله استغاثة الرب وحده، ولا سيما في الشدائد، كما فعل جمهور المؤمنين مع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بدر وذكرهم به بعدها، وبما من عليهم من الاستجابة لهم بها، في قوله:
{ { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم } [الأنفال: 9] الآية. وتجد في تفسيرها تحقيق الكلام في كمال توكل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكون توكل صاحبه أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ دونه، وما كان من خوفه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ببدر وسكينته في الغار، وإعطائه كل مقام حقه، كما ذكرناه في الفصل الأول من الباب الثاني من هذه الخلاصة.
الأصل التاسع: عناية الله تعالى بعباده المؤمنين الكاملين من أهل بدر التي أثنى عليهم بها في الآيات 9 - 12 (أصل 6 فصل 1 باب 2] وقد أشرنا إليه آنفا في الكلام على عنايته تعالى برسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
(الأصل العاشر) أن الله تعالى يبلو المؤمنين بلاء حسنا بمثل النصر والغنيمة، كما يبلوهم أحيانا بلاء شديدا بالبؤس والهزيمة تربية لهم، وبيانه في تفسير قوله تعالى من الآية:
{ { وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا } [الأنفال: 17] وبكلا البلاءين يتم تمحيص المؤمنين " راجع ص518 وما بعدها ج 9. ط الهيئة ".
الأصل الحادي عشر: إرشاده المؤمنين إلى ما يغفل عنه الجاهلون من الانتفاع بنعمة الله عليهم في سماع العلم والحكمة، واتقاء ما يصرف عنه من الإعراض والغفلة، وذلك في الآيتين 20 و21 وتدبر ما فسرناهما به في (ص520 - 525 ج 9 ط الهيئة).
الأصل الثاني عشر: إرشاده تعالى إياهم إلى الحياة المعنوية، التي يرتقون بها عن أنواع الحياة الحيوانية، وهو ما يدعوهم إليه الرسول بكتاب الله تعالى فتدبر فيه الآية 24 وتفسيرها في (ص525 وما بعدها ج 9 ط الهيئة).
الأصل الثالث عشر: إرشاده إياهم إلى سنته في جعل الأموال والأولاد فتنة للناس، أي امتحانا شديد الوقع في النفس، وتحذيرا لهم من الخروج في أموالهم ومصالح أولادهم عن الحق والعدل، بقوله:
{ { واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة } [الأنفال: 28] وهذا أصل عظيم في تربية المؤمن نفسه على التزام الحق، وكسب الحلال، واجتناب الحرام، واتقاء الطمع والدناءة في سبيل جمع المال والادخار للأولاد. وقد كان أكثر أولاد المؤمنين عند نزول هذه الآية مشركين، وفيهم نزل قوله تعالى: { { إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم } [التغابن: 14 و15] وإننا نرى كثيرا من المسلمين، حتى اللابسين منهم لباس الدين يرتكبون المعاصي والدنايا في هاتين الفتنتين، ومنهم من يحرم بعض أزواجه وأولاده من إرثه بالهبة للآخرين منهم، أو وقف العقار وحبسه عليهم.
الأصل الرابع عشر: تذكير المؤمنين بماضيهم، وما كان من ضعف أمتهم، واستضعاف الشعوب لهم، وخوفهم من تخطف الناس إياهم، ليعلموا ما أفادهم الإسلام من عزة وقوة ومنعة قبل إثخانه في الأرض، وتمكن سلطانه فيها، ومعرفة تاريخ الأمة في ماضيها أكبر عون لها على إصلاح حالها واستعدادها لاستقبالها، فراجع الآية 26 وتفسيرها في (ص531 ج 9 ط الهيئة).
الأصل الخامس عشر: جعل الألف منهم يغلب ألفين من الذين كفروا في حال الضعف على سبيل الرخصة - وجعل الألف منهم يغلب عشرة آلاف من الكافرين في حال القوة على سبيل العزيمة، كما نص في الآيتين 65 و66 ويذكر مفصلا في باب قواعد الأحكام الحربية.
الأصل السادس عشر: إرشاد المؤمنين إلى ما يكتسبون به ملكة الفرقان العلمي الوجداني الذي يفرق به صاحبه بين الحق والباطل، والخير والشر، والمصلحة والمفسدة. وتجد هذا في الآية 29 وتفسيرها في ص [538 - 540 ج 9 ط. الهيئة وبذكر هذا الأصل في السنة السادسة من سنن الاجتماع.
الأصل السابع عشر: امتنان الله على رسوله الأعظم بتأييده وبنصره وبالمؤمنين، وبتأليفه بين قلوبهم، ويا لها من منة عظيمة من مننه تعالى عليهم، ومنقبة هي أعظم مناقبهم، " راجع تفسير الآية 63 في أول هذا الجزء ".
الأصل الثامن عشر: منة الله تعالى وفضله على أصحاب رسوله، ولا سيما أهل بدر بمشاركتهم إياه في كفاية الله تعالى إياه وإحسابه له ولهم في قوله عز وجل:
{ { يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } [الأنفال: 64] وتجد تفسيرها في أول هذا الجزء.
وهذا أشرف ما شرفهم الله تعالى به، وتقدم ذكره في عنايته تعالى برسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
إيقاظ واعتبار
من تدبر هذه الأصول يعلم كنه الإيمان وثمراته، وأنه ليس جنسية سياسية، ولا دعوة لسانية، بل هو أعلى المراتب البشرية، والكمالات الإنسانية، المطهرة لأهله من الخرافات والدناءات، فليزن القارئ إيمانه بميزان القرآن، وليكن له أسوة حسنة في الذين سبقونا بالإيمان.
الفصل الثاني
في حالة ضعفاء المؤمنين إيمانا أو حالا ونفسا وقرب بعضهم من المنافقين
بعد أن بين صفات المؤمنين الكاملين في أول السورة، ومنهم أكثر أهل بدر، بين حال غير كاملي الإيمان منهم بقوله:
{ { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون } [الأنفال: 5 و6].
وقال في تعجب المنافقين وضعفاء الإيمان من إقدام كملة المؤمنين على قتال المشركين في بدر على ما بين الفريقين من التفاوت:
{ { إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم } [الأنفال: 49].
وقال في تعزير الذين أخذوا الفداء من أسرى بدر قبل إذنه تعالى لهم به
{ { تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة } [الأنفال: 67] إلى قوله: { { عذاب عظيم } [الأنفال: 68].
فمن أقام قسطاس الموازنة المستقيم بين ضعفاء الإيمان من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وأقوى مؤمني هذا العصر إيمانا يعلم مقدار بعد المسافة بين الفريقين. وأما كملة الإيمان منهم وهم الأكثرون، فهم الذين قال فيهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري والنصيف مكيال أو نصف المد.
الباب الخامس
في بيان حال الكفار من المشركين وأهل الكتاب وذلك في آيات
1و 2و 3- وقوله تعالى:
{ { سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب } [الأنفال: 12] أي: عند لقاء المؤمنين في القتال، وما علله به بعده من مشاقتهم لله ولرسوله، وتوعدهم بعذاب النار، فهذه ثلاث آيات في حالهم ومآلهم، وقد ثبت أنه كان من خصائصه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه ينصر بالرعب، ثبت هذا نصا، وثبت فعلا، وكان للمسلمين حظ من إرثه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقدر ما كان من إرثهم لهدايته.
4- قوله تعالى للمؤمنين:
{ { إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار } [الأنفال: 15] إلخ. ففيه تحقير لشأنهم.
5- قوله تعالى:
{ { فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم } [الأنفال: 17] الآية. ففيها بيان لخذلانه تعالى لهم، وتمكين المؤمنين من قتلهم في بدر بتأييده، ونصره الذي تقدم في بيان عناية الله تعالى بهم، وقبله في عنايته برسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
6- قوله في تعليل ما ذكر:
{ { ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين } [الأنفال: 18] وكذلك كان.
7- قوله في أهل الكتاب منهم:
{ { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح } [الأنفال: 19] الآية، بناء على ما حكاه تعالى عنهم في سورة البقرة: { { ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا } [البقرة: 89] فيراجع تفسيره في (ص 319 وما بعدها ج 1 ط الهيئة).
8- قوله تعالى في نقائصهم:
{ { إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون } [الأنفال: 22] فوصفهم بتعطيل مشاعرهم ومداركهم الحسية والعقلية كما قال في وصف أهل جهنم: { { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون } [الأعراف: 179] وبمثل هذا يدرك العاقل أن ما يذمه الكتاب العزيز من الكفار ليس هجاء شعريا، ولا تنقيصا تعصبيا، بل هو بيان لما جنوه على أنفسهم من تعطيلهم لمداركهم العلمية، وإفسادهم بذلك لفطرتهم السليمة - ومنه يعلم أن المؤمنين يجب أن يكونوا منهم على طرفي نقيض، ويظهر له التفاوت العظيم بين هجاء أهل الجاهلية بعضهم لبعض، وبين هذا الذم للكفار، وما فيه من الإصلاح العلمي والأدبي، وأكبر العبرة فيه أن المسلمين إذا صاروا متصفين بهذه الصفات لا ينفعهم لقب الإسلام، ولا الانتماء إلى خاتم النبيين عليهم الصلاة والسلام، فإنما الإسلام هداية، ووظيفة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الدعاية.
9- قوله تعالى:
{ { وإذ يمكر بك الذين كفروا } [الأنفال: 30] الآية. وهي في المشركين، وأكبر العبرة فيها أنهم كانوا يعادونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ اعتزازا بالقوة، لا بالمصلحة ولا بالحجة.
10- قوله:
{ { وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا } [الأنفال: 31] الآية. ولو قدروا على مثله لشاءوا، ولو شاءوا ما هو في استطاعتهم لفعلوا، ولو فعلوا لعرف عنهم، ولرجع كل من آمن به ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الكفر معهم؛ لأنهم آمنوا بالحجة، ولم يكن لأحد منهم في الإسلام أدنى مصلحة، بل كانوا عرضة للأذى والفتنة.
11- قوله:
{ { وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } [الأنفال: 32] وهو برهان على أنهم كانوا يجحدون جحود كبرياء وعناد، لا تكذيب علم واعتقاد، فهو دليل فعلي على الأمرين اللذين قبله.
12- قوله:
{ { وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون } [الأنفال: 34] أي لا يعلمون أن الحق في الولاية على بيت الله تعالى المؤسس لعبادته وحده للذين يتقون الشرك والرذائل، وهذا الحق تكويني وتشريعي كما ثبت بالفعل.
13- قوله:
{ { وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية } [الأنفال: 35] وهو بيان لقبح عبادتهم وبطلانها؛ لأنها لهو ولعب، ولذلك رتب عليها جزاءها العاجل بقوله عطفا بفاء التعقيب: { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون }.
14- قوله:
{ { إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون } [الأنفال: 36] وهذا إنذار يتضمن الإخبار بالغيب عن عاقبة بذلهم للمال في مقاومة الإسلام، وقد ظهر صدقه للخاص والعام، فهو من معجزات القرآن.
15، 16- قوله تعالى في تتمة الآية - ومنهم من عده آية مستقلة:
{ { والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون } [الأنفال: 36 و37] وفيه تتمة للإنذار، وجملته أنهم يغلبون في الدنيا ثم يصيرون في الآخرة إلى عذاب النار.
17- قوله:
{ { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين } [الأنفال: 38]: وهذه دعوة لهم إلى الإيمان، ليكون وقوع ما أنذروا عن حجة وبرهان، وقد وقع ما أنذرهم فكان تصديقا لإعجاز القرآن، واطرادا لسنته تعالى في معاندي الرسل عليهم السلام.
18- قوله تعالى للمؤمنين محذرا من صفات الكافرين:
{ { ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله } [الأنفال: 47] وهو بيان لصفة المشركين، وحالهم ومقصدهم من خروجهم إلى قتال المؤمنين، وهو البطر وإظهار الكبرياء والعظمة ومراءاة الناس، وهي مقاصد سافلة إفسادية حذر الله المؤمنين منها، فهم إنما يقاتلون لإعلاء كلمة الله وهي: التوحيد، والحق، والعدل، وتقرير الفضيلة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، كما بيناه في محله بشواهد القرآن.
19- قوله تعالى:
{ { وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس } [الأنفال: 48] الآية. وهو نص في أنهم كانوا مغرورين باستعدادهم الظاهر، وكثرتهم العددية، وأنه غرور لا يستند إلا إلى وسوسة الشيطان، التي يروجها عندهم الجهل بقوة الحق المعنوية لدى أهل الإيمان، ولذلك لم تلبث أن زالت عندما التقى الجيشان، بل عندما تراءت الفئتان، كما قال تعالى: { { فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم } [الأنفال: 48] إلخ.
20- قوله تعالى في المنافقين وضعفاء الإيمان:
{ { إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم } [الأنفال: 49] وإنما قالوا هذا لمشاركتهم للمشركين المجاهرين بالكفر في الجهل بقوة الإيمان بالله وبما يستلزمه من القوى المعنوية، فلم يجدوا تعليلا لإقدام المؤمنين القليلين العادمين للقوى المادية على قتال المشركين المعتزين بكثرتهم وقواهم إلا الغرور بدينهم، وما كانوا مغرورين بأنفسهم، بل واثقين بوعد ربهم، متوكلين عليه في أمرهم، وقد بين الله ذلك في الرد على أولئك المنافقين، بقوله: { { ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم } [الأنفال: 49].
21- قوله تعالى:
{ { ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم } [الأنفال: 50] الآيات. وهذا بيان لأول ما يعرض لهم من العذاب في أول مرحلة من مراحل عالم الغيب، بعد بيان ما يكون من عذابهم وخذلانهم في الأرض. وضرب له المثل بآل فرعون، وما كان من عذابهم في الدنيا، وقد صدق خبر الله الذي أوحاه إلى رسوله في سوء عاقبة المشركين في الدنيا، وسيصدق خبره عنهم في الأخرى { فلله الآخرة والأولى }.
22- قوله تعالى في أهل الكتاب من اليهود الذين عاهدهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فنقضوا عهده المرة بعد المرة
{ { إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون } [الأنفال: 55 - 56] إلى قوله: { { ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون } [الأنفال: 59] وفيه بيان لفساد إيمانهم، المقتضي لنقض أيمانهم المعقب لقتالهم. ويراجع تفصيل ذلك في تفسير هذه الآيات بأول هذا الجزء.
23- تهوين شأن الكفار في القتال، الذي هو مقتضى تلك الصفات والأحوال، بجعل المؤمنين المستكملي صفات الإيمان، يغلبون ضعفيهم إلى عشرة أضعافهم من الكفار، كما ترى في الآيات 64 - 66 وبيانه الذي لا يرد في تفسيرها بأول هذا الجزء.
24- ولاية الكفار بعضهم لبعض في الآية 73 وأما الأحكام المتعلقة بقتالهم فبيانها في الباب السابع.
الباب السادس
في السنن الإلهية في أفراد البشر وأممهم
وهي تدخل في علم النفس وعلم الاجتماع
السنة الأولى: ما ثبت بالمشاهدة والاختبار من تفاوت البشر في الاستعداد للإيمان والكفر وفيهما، وفي الاستعداد للخير والشر وفيهما، وجزاء الله تعالى لهم على أعمالهم في الدنيا والآخرة يجري بمقتضى هذا التفاوت. ومن شواهدها في هذه السورة ما وصف به المؤمنين الكاملين في الآيات 2 - 4 وما ذكره في الرابعة من درجاتهم عند ربهم في الآخرة، وهي تابعة لدرجاتهم في الدنيا " راجع تفسيرها في ص495 وما بعدها ج 9 ط الهيئة ".
ومنها ما يقابل ذلك عن قرب وهو وصفه في الآيتين " 5 و6 " اللتين بعدهن من حال ضعفاء المؤمنين، ومجادلتهم للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحق بعد ما تبين (فراجع تفسيرهما في ص497 وما بعدها ج 9 ط الهيئة).
السنة الثانية: ما ثبت بالاستقراء من كون الظلم في الأمم يقتضي عقابها في الدنيا بالضعف والاختلال، الذي قد يفضي إلى الزوال، أو فقد الاستقلال. وكون هذا العقاب على الأمة بأسرها، لا على مقترفي الظلم وحدهم منها، قال تعالى:
{ { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } [الأنفال: : 25] وذلك أن الفتن في الأمم والظلم الذي ينتشر فيها، ولا يقوم من أفرادها وجماعاتها من يقاومه يعم فساده، بخلاف ذنوب الأفراد غير العامة المنتشرة، فالأمة في تكافلها كأعضاء الجسد الواحد، فكما أن الجسد يتداعى ويتألم كله لما يصيب بعضه كذلك الأمم.
وقد بينا في تفسير الآية أن الأصل في الفتنة هنا ما شأنه أن يقع بين الأمم من التنازع في مصالحها العامة من السيادة والملك أو الدين والشريعة (ص530 وما بعدها ج 9 ط الهيئة) ومثله كل ما له تأثير في تفرقها وضعفها كفشو الفسق والإسراف في الترف والنعيم المفسد للأخلاق، وهو لا يصل إلى هذا الحد إلا بترك إنكار المنكر الذي تأثم به الأمة كلها، وكل من هذا وذاك ثابت في وقائع التاريخ، ومن الشواهد عليه في هذه السورة قوله تعالى:
{ { كدأب آل فرعون } [الأنفال: 54] إلى قوله: { { وكل كانوا ظالمين } [الأنفال: 54] وهو قد ورد شاهدا لسنة أخرى سيأتي بيانها.
السنتان: الثالثة والرابعة: كون الافتتان بالأموال والأولاد مدعاة لضروب من الفساد، فإن حب المال والولد من الغرائز التي يعرض للناس فيها الإسراف والإفراط إذا لم تهذب بهداية الدين، ولم تشذب بحسن التربية والتعليم، قال تعالى:
{ { واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم } [الأنفال: : 28] وقد بينا وجوه ذلك في تفسير الآية (ص536 وما بعدها ج 9 ط الهيئة).
السنة الخامسة: ما ثبت في الكتاب العزيز، وأخبار التاريخ من عقاب كفار الأمم الجاحدين الذين عاندوا الرسل وهو قسمان: عقاب الذين عاجزوهم بما اقترحوا عليهم من الآيات الكونية فلم يؤمنوا بها على توعدهم بالهلاك، فأهلكهم الله تعالى بعذاب الاستئصال كما أوعدهم على ألسنة رسلهم، وعقاب الذين عادوهم وقاتلوهم فأخزاهم الله، ونصر رسله عليهم. وقد كان هذا مطردا وسماه الله تعالى سنة في قوله:
{ { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين } [الأنفال: 38].
وليعلم أن النوع الأول من هذين العقابين هو غير الذي بيناه في السنة الثانية، فإن الذنب في تلك سبب طبيعي اجتماعي للعقاب، وفي هذه ليس سببا طبيعيا بل وضعيا تشريعيا بمقتضى وعيد الله تعالى، وقد كان الذنب واحدا - وهو تكذيب الرسل ومعاندتهم - والعقاب عليه مختلفا
{ { فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا } [العنكبوت: 40].
والفرق بين النوعين كالفرق بين الأمراض البدنية، والمصائب الدنيوية، وبين العقوبات الحكومية، فإن الأولى: تحدث بسبب مخالفة نظام الفطرة، وسنن حفظ الصحة فهي علة وسبب طبيعي لها، وأما الثانية: وهي العقوبات المقررة في الشرائع والقوانين على جرائم الأفراد - كالحدود الشرعية والتعزير بالحبس أو الضرب أو التغريم بالمال على من قتل أو زنى أو سرق أو ضرب أو غصب - فهي وضعية تكليفية تقع بفعل منفذ الشرط والقانون، ولو كانت أسبابا تكوينية طبيعية للعقاب الذي يحكم به القاضي، وينفذه السلطان لوقع بدون حكم، ولا تنفيذ منفذ، وقد تكون سببا لعقاب طبيعي آخر غير عقاب الشرع والقانون، بما تحدثه من الضرر في الصحة والفساد في الأمة، فإن الله تعالى لم يحرم على الناس شيئا إلا لضرره، حتى إذا ما كثرت وفشت فصارت ذنبا للأمة ترتب عليها ما تقدم بيانه في السنة الثانية من عقاب الأمة بفشو الفسق، وترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
وقد بينا هذا الفرق وهذه السنن مرارا في هذا التفسير، وقررنا أن عذاب الآخرة ينقسم إلى هذين القسمين أيضا. (فيراجع في مواضعه بدلالة فهارس الأجزاء كلفظ جزاء وعذاب وعقاب وأمم).
وأما النوع الثاني من عقاب معاندي الرسل، فهو يشبه عذاب الأمم على ظلمها وفسوقها من وجه واحد، ويخالفه من وجهين: يشبهه من حيث إن أعداء الرسل ومقاتليهم كانوا دائما ظالمين لهم ولأنفسهم؛ لأن الرسل ما جاءوهم إلا بالحق والعدل، وما تنازع أهل الحق والعدل، مع أهل الباطل والظلم، إلا وكانت العاقبة للمتقين وهم القسم الأول، فنصر الله تعالى لرسله والمؤمنين القائمين بحقوق الإيمان التي بيناها في مواضع من تفسير هذه السورة، وغيرها كان الأصل الأصيل فيه أنه داخل في باب الأسباب الطبيعية الاجتماعية، وسنة تنازع البقاء ورجحان الأمثل.
ويخالفه من حيث إن وجود الرسول في المؤمنين ضامن لالتزامهم الحق والعدل، ومراعاة السنن العامة، حتى إذا ما خالفوا وشذوا بنكوب السبيل مرة تابوا وآنابوا، كما وقع من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزوتي أحد وحنين، ووقع ما هو أشد منه لبني إسرائيل مع موسى وغيره من أنبيائهم عليهم السلام.
ويخالفه أيضا من حيث إن وجوده فيهم كان يكون سببا لتأييده تعالى إياهم بشيء من آياته كما وقع في غزوة بدر بإمدادهم بالملائكة يثبتون قلوبهم، وبإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم، وبما كان من رميه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إياهم بقبضة من التراب أصابت كل واحد منهم فأضعفت قلبه، بل أطارت لبه، وما كان من عناية الله تعالى برسوله والمؤمنين في خروجه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى بدر، وفي وعده إياهم إحدى الطائفتين أنها لهم على الإبهام، وفي إنزاله المطر عليهم حيث انتفعوا به من دون الكفار - فإن هذه الأمور بجملتها كانت توفيق أقدار لأقدار في مصلحة المؤمنين فكانت عناية منه تعالى بهم، أكثرها من طريق الأسباب الظاهرة التي لا يملكونها بكسبهم.
وزد على ذلك ما ورد من الأخبار الصحيحة في بعض الخوارج الكونية له ـ صلى الله عليه وسلم ـ كإطعام الجيش الكثير من طعام قليل أعد لعدد قليل فبارك الله تعالى فيه، وكنبع الماء من بين أصابعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما أمده الله تعالى به من مادة الماء الموجودة في الهواء على خلاف السنة العامة في تكوين الماء المبينة في قوله تعالى:
{ { ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله } [النور: 43] ومثله آية [الروم: 48].
السنة السادسة: كون التقوى والحذر في الأعمال من فعل وترك في الشئون العامة والخاصة من اجتماعية وشخصية دينية أو دنيوية، تكسب صاحبها ملكة يفرق بها بين الحق والباطل والخير والشر والمصلحة والمفسدة، فيجري في أعماله على مراعاة ذلك في ترجيح الحق والخير والمصلحة على ما يقابلهن، إلا فيما عساه يعرض له من جهالة أو سهو أو نسيان لا يلبث أن يرجع عنه إذا ذكر أو تذكر. قال تعالى:
{ { يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا } [الأنفال: 29] فراجع تفسيرها وتحقيق ما تكون فيه التقوى من أنواعها، وأنواع الفرقان الذي هو ثمرتها في (ص537 - 540 ج 9 ط الهيئة).
السنة السابعة: التمييز بين الخبيث والطيب من الأشخاص والأعمال كما نص في الآية 37، وفي معناها آيات أخرى تقدمت، وذكرنا أرقامها وأرقام سورها في تفسيرها وقلنا فيه: إن هذا التميز بين الأمرين يوافق ما يسمى في هذا العصر بسنة الانتخاب الطبيعي، ورجحان أمثل الأمرين المتقابلين وغلب أفضل الفريقين المتنازعين أو بقاؤه.
السنة الثامنة: كون تغير أحوال الأمم، وتنقلها في الأطوار من نعم ونقم، أثرا طبيعيا فطريا لتغييرها ما بأنفسها من العقائد والأخلاق والملكات التي تطبعها في الأنفس العادات، وتترتب عليها الأعمال، والنص القطعي فيها قوله: { ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } [الأنفال: 53]. وقد فصلنا القول في بيانها تفصيلا (في أول هذا الجزء).
السنة التاسعة كون الإثخان في الأرض، واستقرار السلطان فيها بالقوة الكافية يقتضي اجتناب ما يعارضه، ويحول دون حصوله وتحققه، كاتخاذ الأسرى من الأعداء ومفاداتهم بالمال في حال الضعف. كما يأتي في القاعدة 22 من الباب السابع.
السنة العاشرة: كون ولاية الأعداء من دون الأولياء من أعظم مثارات الفتنة والفساد في الأمة، والاختلال والانحلال في الدولة، كولاية المؤمنين في النصرة والقتال للكافرين الذي يوالي بعضهم بعضا على المؤمنين في الحروب، ولا سيما التي مثارها الخلاف الديني، وشواهد هذه السنة في التاريخ الإسلامي وغيره كثيرة جدا، وهي التي أزالت الدول الإسلامية الكثيرة، وآخرها الدولة العثمانية الجاهلة التي كانت تتداعى عليها الأمم الأوربية النصرانية فيتفقون على قتالها إلا عند تعارض مصالحهن فيها. فراجع أحكام الولاية في آخر هذه السورة من آية 72 - 75 والنص فيها قوله تعالى: إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير وتجد تفسيرها خاصة فيما سبق من هذا الجزء.
السنة الحادية عشرة: ما ثبت بالقرآن والوجدان من كون الإنسان ذا قدرة وإرادة واختيار في أفعاله من إيمان وكفر وخير وشر وصلاح وفساد، وكل ما ذكر في هذا الباب من سننه تعالى في جزاء الناس على أعمالهم، وما ذكر في البابين اللذين قبله، والباب الذي بعده من إسناد أفعالهم إليهم فهو مبني على هذه السنة، وأما ما تقدم في الباب الأول من إسناد بعض أعمالهم إلى الله تعالى وتصرفه فيهم فهو بيان لسنته في خلقهم كذلك، وعلى هذه القاعدة جرينا في إبطال عقيدة الجبر التي فتن بها أكثر الأشعرية، وشواهده في هذه السورة وغيرها كثيرة، راجع منه فيها تفسير: فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم [17] (الآية. في ص515 وما بعدها ج 9 ط الهيئة). وتفسير: واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه [24] في ص527 وما بعدها ج 9 ط الهيئة).
الباب السابع
في القواعد الحربية العسكرية والسياسية وفيه 28 قاعدة
تنبيه: ورد في هذا الموضوع عدة قواعد في سياق الأوامر والنواهي المناسبة لنظم الكلام، الذي تقتضيه البلاغة والتأثير في التلاوة لغرض الهداية التي هي المقصد الأول للدين، نذكرها في ترتيب آخر تقدم فيه الأهم في الموضوع فالأهم بحسب الشئون الحربية فنقول:
القاعدة الأولى: وجوب إعداد الأمة كل ما تستطيعه من قوة لقتال أعدائها فيدخل في ذلك عدد المقاتلة، والواجب أن يستعد كل مكلف للقتال؛ لأنه قد يكون فرضا عينيا في بعض الأحوال، يستدعي ما يسمى بالنفير العام، ولا يمكن هذا في أمم الحضارة إلا بمقتضى نظام عام، ويدخل فيه السلاح، وهو يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال، وقد كثرت أجناسه وأنواعه وأصنافه في هذا الزمان، فمنه البري والبحري والهوائي ولكل منها مراكب وسفائن لمباشرة القتال، ولنقل العسكر والأدوات والزاد والسلاح، ويدخل فيه الزاد ونظام سوق الجيش وغير ذلك من العلوم والفنون الكثيرة.
القاعدة الثانية: وجوب رباط الخيل، فإن من أهم القوى الحربية مرابطة الفرسان في ثغور البلاد، وخصه بالذكر للحاجة إليه وعدم الاستغناء عنه، حتى في هذا العصر الذي كثرت فيه مراكب النقل البخارية والكهربائية بأنواعها، والنص العام الصريح في هاتين القاعدتين قوله تعالى:
{ { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل } [الأنفال: 60].
القاعدة الثالثة: أن يكون القصد الأول من إعداد هذه القوى والمرابطة إرهاب الأعداء وإخافتهم من عاقبة التعدي على بلاد الأمة أو مصالحها أو على أفراد منها أو متاع لها حتى في غير بلادها، لأجل أن تكون آمنة في عقر دارها، مطمئنة على أهلها ومصالحها وأموالها، وهذا ما يسمى في عرف هذا العصر بالسلم المسلح، وتدعيه الدول العسكرية فيه زورا وخداعا، ولكن الإسلام امتاز على الشرائع كلها بأن جعله دينا مفروضا، فقيد الأمر بإعداد القوى والمرابطة بقوله:
{ { ترهبون به عدو الله وعدوكم } [الأنفال: 60].
القاعدة الرابعة: إنفاق المال في سبيل الله، لإعداد ما ذكر إذ لا يتم بدون المال شيء منه، ولذلك قال بعد ما ذكر من هذه الآية:
{ { وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون } [الأنفال: 60] وقد كان هذا الإنفاق في العصر الأول موكولا إلى إيمان المؤمنين في يسرهم وعسرهم، كما ترى في أخبار غزوة تبوك المجملة في السورة الآتية (التوبة) والمفصلة في السيرة النبوية، ولا بد له من نظام في هذا العصر يدخل في ميزانية الدولة كما تفعل جميع الدول ذات النظام الثابت، وسيأتي في سورة التوبة أن له سهما من مال الزكاة، وهي قد نزلت بعد الأنفال مفصلة لكثير من إجمالها، ومنه هذا الترغيب الصريح في الإنفاق لإعداد القوى العسكرية، وفيه إشارة إلى الترهيب، وإنذار على التقصير، وقد صرح بمثله في قوله تعالى بعد آيات في شرع القتال من سورة البقرة: { { وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } [البقرة: 195].
القاعدة الخامسة: تفضيل السلم على الحرب إذا جنح العدو لها، إيثارا لها على الحرب التي لا تقصد لذاتها، بل هي ضرورة من ضرورات الاجتماع تقدر بقدرها. وذلك قوله تعالى عقب الأمر بإعداد كل ما تستطيعه الأمة من قوة ومرابطة لإرهاب عدوه وعدوها:
{ { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها } [الأنفال: 61].
ولما كان جنوح العدو للسلم قد يكون خديعة لنا لنكف عن القتال، ريثما يستعدون هم له أو لغير ذلك من ضروب الخداع، وكان من المصلحة في هذه الحال أن لا نقبل الصلح منهم، ما لم نستفد كل ما يمكننا منه تفوقنا عليهم - لم يعد الشارع احتمال ذلك مانعا من ترجيح السلم، بل قال عز وجل:
{ { وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين } [الأنفال: 62] وهو برهان على أن الإسلام دين السلام، لكن عن قدرة وعزة، لا عن ضعف وذلة.
فراجع تفسير الآيتين في أول هذا الجزء.
القاعدتان السادسة والسابعة: المحافظة على الوفاء بالعهد والميثاق في الحرب والسلم، وتحريم الخيانة فيه سرا أو جهرا، لتحريم الخيانة في كل أمانة مادية أو معنوية أو غيرها مطلقا ومقيدا، والآيات في ذلك متعددة محكمة لا تدع مجالا لإباحة نقض العهد بالخيانة فيه وقت القوة، وعده قصاصة ورق عند إمكان نقضه بالحيلة، حتى إن الله تعالى لم يبح لنا أن ننصر إخواننا المسلمين غير الخاضعين لحكمنا على المعاهدين من الكفار كما قال في آية: { وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق } [الأنفال: 72] فراجع تفسيرها فيما سبق لهذا الجزء.
وقال تعالى في النهي عن الخيانة على وجه الإطلاق:
{ { يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم } [الأنفال: 27] وتفسيره في (ص533 وما بعدها ج 9 ط الهيئة). وفاتنا أن نذكر من أمثلة نقض عهود الأعداء فهو من أهم الأمانات فذكرناه فيما يلي.
القاعدة الثامنة: نبذ العهد بشرطه إذا خيف من العدو المعاهد لنا أن يخون في عهده، وظهرت آية ذلك في قوله أو عمله، فحينئذ يجب على الإمام أن ينبذ إليه عهده على طريق عادل سوي صريح لا خداع فيه ولا خيانة. وذلك قوله:
{ { وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين } [الأنفال: 58]، وهذا من الفضائل التي يمتاز بها التشريع الإسلامي على جميع شرائع الأمم وقوانينها. راجع تفسير الآية وبعض الشواهد على أخذ مسلمي العصر الأول بها عملا بالكتاب العزيز وهدي الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها بأول هذا الجزء.
القاعدة التاسعة: وجوب معاملة ناقضي العهد بالشدة التي يكونون بها عبرة ونكالا لغيرهم، تمنعهم من الجرأة والإقدام على مثل خيانتهم بنقضهم، وذلك قوله تعالى فيمن نقضوا عهد رسوله المرة بعد المرة وكانوا من اليهود:
{ { فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون } [الأنفال: 57] فراجع تفسيرها في أول هذا الجزء ثم راجع ما كان من معاهدة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لليهود، ونقضهم لها وعاقبة ذلك فيهم بأول هذا الجزء.
ومنه يظهر الفرق بين تعاليم الإسلام الجامعة بين الحزم والعدل، والشدة والفضل، وبين ما عليه دول المدنية الإفرنجية من القسوة والظلم.
فإن قيل: إن اتباع المسلمين وحدهم لهذه الفضائل في الحرب يمكن أعداءهم من خيانتهم، والظهور عليهم بعدم التزامهم لها. قلنا: إن أعداءهم في العصور الأولى كانوا أبعد من أعدائهم في هذا العصر عن هذه الفضائل، إذ لم يكونوا مقيدين في الحرب بنظام مثل قوانينها الحاضرة، التي تراعى ويحتج بها، فإن القوي يتركها تأولا، وكان تفوقهم بالقوة والكثرة عظيما، وقد غلبهم المسلمون، وإنما غلبوهم بهذه الفضائل وأمثالها.
القاعدة العاشرة: جعل الغاية من القتال الديني حرية الدين ومنع فتون أحد واضطهاده، لأجل إرجاعه عن دينه، وذلك قوله تعالى:
{ { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير } [الأنفال: 39] وقد كان المشركون يضطهدون المسلمين بكل ما قدروا عليه من الإيذاء والتعذيب لأجل دينهم. وأما المسلمون فلم يفعلوا ذلك، ومن عساه شذ عن ذلك فقد خالف دين الإسلام الذي حرم الفتنة وحرم الإكراه في الدين، وشرع فيه الاختيار [راجع ص463 و464 وتفسير الآية في ص552 وما بعدها ج 9 ط الهيئة] وتجد في هذا البحث حكم القتال بين المسلمين في حال الفتنة كحرب الجمل وصفين.
القاعدة الحادية عشرة: كون الثبات في القتال من أسباب النصر المعنوية، التي يحصل بها ما يعبر عنه في عرف العصر بالقوة الروحية، وفي هذه السورة منه بضعة أسباب أخرى إيجابية وسلبية، نذكرها منظومة في سلك هذه القواعد.
القاعدة الثانية عشرة: ذكر الله تعالى عند لقاء العدو، والنص في هاتين القاعدتين قوله تعالى:
{ { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون } [الأنفال: 45] وقد بينا في تفسير هذه الآية الوجه المعقول في كون هذين الأمرين من أسباب الفلاح والقوة والنصر، وأوردنا بعض الشواهد على صحة ذلك من وقائع الحرب في هذا العصر، وأقوال علماء هذا الفن في أول هذا الجزء.
القاعدة الثالثة عشرة: طاعة الله ورسوله، وهي من أسباب النصر المعنوية بنص قوله تعالى عطفا على السببين السابقين:
{ { وأطيعوا الله ورسوله } [الأنفال: 46] إلخ. ويدخل في حكم طاعة الرسول طاعة الإمام الذي يحارب المسلم تحت لوائه، وطاعة قواده. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني" رواه الشيخان من حديث أبي هريرة، وفي رواية لهما بلفظ (الأمير) وفيها زيادة عند البخاري: "وإنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به، فإن أمر بتقوى الله وعدل فإن له بذلك أجرا، وإن قال بغيره فإن عليه منه" .
الجنة بضم الجيم الترس والوقاية، ومن المعروف الشائع من النظام العسكري في عصرنا أن الطاعة المطلقة ركن من أركانه، فيعاقبون من يخالف أوامر القواد من الجند أفراده وضباطه أشد العقاب من ضرب شديد، وقتل فظيع، ولولا هذا لما ثبت في العالم المدني سلطان ولا حكم، لكثرة تنازع الأحزاب السياسية واختلاف زعمائها حتى في وقت السلم، وكثرة دسائس الأعداء وبذلهم الرشوة، ولا سيما زمن الحرب.
القاعدة الرابعة عشرة: وجوب الصبر، وكونه أعظم أسباب النصر، ولذلك عظم الله تعالى شأنه بقوله بعد الأمر بطاعته وطاعة رسوله وبذكره:
{ { واصبروا إن الله مع الصابرين } [الأنفال: 46] وأي بيان لفائدة الصبر أبلغ من إثبات معية الله تعالى لأهله.
القاعدة الخامسة عشرة: التوكل على الله تعالى، وكونه أمر الله تعالى به في هذه السورة في مقام توطين النفس على إيثار السلم على الحرب، وثبوت الصلح من الأعداء مع احتمال إرادتهم به الخداع (آية 61 و62] فانظر تفسيرها في الجزء العاشر، وقال قبلها في الرد على المنافقين ومرضى القلوب:
{ { إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم } [الأنفال: 49] فراجع تفسيرها في الجزء العاشر. وقد وصف الله المؤمنين بالتوكل فيها وفي " الآية الثانية ". وقد بينا معناه وفائدته في الأصل الرابع من الباب الرابع لهذه الخلاصة، وإن شئت زيادة البيان في هذا فراجع [ص168 - 175 ج 4 ط الهيئة].
القاعدة السادسة عشرة: اتقاء التنازع، واختلاق التفرق في حال القتال وما يتعلق به، وتعليله بأنه سبب للفشل، وذهاب القوة، وذلك قوله تعالى:
{ { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم } [الأنفال: 46] وهذا ما تجري عليه الدول القوية ذات النظام المبني على الشورى في تنازع الأحزاب، فإنها تبطل هذا التنازع، وتوقف عمل مجالس الشورى النيابية في زمن الحرب، وتكتفي بالشورى العسكرية، وهي مشروعة في الإسلام، عمل بها ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزوة بدر، وفرضها الله تعالى في غزوة أحد، وهي واجبة على من دونه من الأئمة والأمراء بالأولى [راجع تفسير: { { وشاورهم في الأمر } [آل عمران: 159] في ص163 - 168 ج 4 ط الهيئة].
القاعدة السابعة عشرة: اتقاء البطر ومراءاة الناس في الحرب كالمشركين كما في الآية 47.
القاعدة الثامنة عشرة: تحريم التولي من الزحف، والوعيد عليه في قوله تعالى:
{ { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار } [الأنفال: 15] إلخ. وتفسيرها [في ص512 - 516 ج 9 ط الهيئة] وهو آكد من إيجاب الثبات في القتال.
القاعدتان التاسعة عشرة والعشرون: تشريع قتال المؤمنين في حال القوة لعشرة أمثالهم من الكفار، وتوطين النفس على الفوز والنصر عليهم من باب العزيمة، وقتالهم لمثليهم في حال الضعف من باب الرخصة، وتعليل ذلك بما يقتضيه الإسلام من كون المؤمنين أكمل صبرا من المشركين، ويفقهون من علم الحرب وأسباب النصر فيها ما لا يفقه المشركون، وذلك نص الآيتين 65، 66 وبيانه في تفسيرهما السابق بهذا الجزء.
القاعدة الحادية والعشرون: منع اتخاذ الأسرى ومفاداتهم بالمال في حال الضعف، وتقييد جواز ذلك بالإثخان في الأرض بالقوة والعزة والسيادة. فيراجع في تفسير الآيتين 67 و68 بموضعيهما السابقين في هذا الجزء، وتجد فيه أحكام الأسر والمن والفداء.
القاعدة الثانية والعشرون: ترغيب الأسرى في الإيمان وإنذارهم خيانة المسلمين بعد إطلاقهم بمن أو فداء. [راجع تفسير الآيتين 70، 71] في هذا الجزء " العاشر " ورجال الحرب في هذا العصر يأخذون عليهم عهودا أخرى.
القاعدة الثالثة والعشرون: إباحة أكل غنائم الحرب، ومنه فداء الأسرى في الآية 69.
القاعدة الرابعة والعشرون: قسمة الغنائم ومستحقوها في الآية 41 وتفسيرها (فيما سبق بأول هذا الجزء).
القاعدة الخامسة والعشرون: ولاية النصرة بين المؤمنين في دار الإسلام، وأصله ما كان بين المهاجرين والأنصار - وهو في الآية 72 وتفسيره في موضعه السابق في هذا الجزء.
القاعدة السادسة والعشرون: عدم ثبوت ولاية النصرة بين المؤمنين الذين في دار الإسلام والمؤمنين في دار الحرب أو خارج دار الإسلام إلا على من يقاتلهم، لأجل دينهم، فيجب نصرهم عليه إذا لم يكن بيننا وبينه ميثاق صلح وسلام، بحيث يكون نصرهم عليه نقضا لميثاقه. وبيانه في تفسير تتمة الآية 72 بموضعه السابق في هذا الجزء.
القاعدة السابعة والعشرون: ولاية الكفار بعضهم لبعض كما في الآية 73 وفي تفسيرها أحكام توارثهم معنا، وبعضهم مع بعض وهو فيما سبق بهذا الجزء.
(انتهى تلخيص أصول السورة وسننها وقواعدها وأحكامها ولله الحمد).