خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ وَقَالَتْ ٱلنَّصَارَى ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ ذٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ
٣٠
ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُوۤاْ إِلَـٰهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
٣١
يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَيَأْبَىٰ ٱللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَٰفِرُونَ
٣٢
هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ
٣٣
-التوبة

تفسير المنار

تقدم في الآية [29] السابقة لهذه الآيات أن أهل الكتاب المراد بهم اليهود والنصارى لا يؤمنون بالله تعالى على الوجه الحق الذي جاءت به رسله من توحيد وتنزيه لذاته وصفاته، ولا باليوم الآخر - على الوجه الصحيح من أن الناس يبعثون بشرا كما كانوا في الدنيا، أي أجسادا وأرواحا، وأنهم يجزون بإيمانهم وأعمالهم، وعليها مدار سعادتهم وشقائهم، لا على أشخاص الأنبياء والصديقين - ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله إلى كل منهم إيمانا وإذعانا، وعملا، ولا يدينون دين الحق أي: إنما يتبعون تقاليد وجدوا عليها آباءهم وأحبارهم ورهبانهم. فلما بين تعالى هذا في سياق قتالهم وما ينتهى به إذا لم يؤمنوا بما جاء به رسول الله وخاتم النبيين ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو أداء الجزية بشرطها - عطف عليه ما يبين مبهمه، ويفصل مجمله، ويبين غايته، وهو هذه الآيات الأربع فقال عز وجل:
{ وقالت اليهود عزير ابن الله } إلخ نبدأ في تفسير هذه الآية بذكر شيء من تاريخ عزير هذا، ومكانته عند القوم ثم ببيان من سموه ابن الله من اليهود، ونقفي على ذلك بذكر قول النصارى: المسيح ابن الله وتفنيده، ثم من قال بمثل هذا القول من الوثنيين القدماء، وهو من معجزات القرآن: وقد تقدم هذا مفصلا في تفسير سورتي النساء والمائدة.
عزير هذا هو الذي يسميه أهل الكتاب (عزرا) والظاهر أن يهود العرب هم الذين صغروا بالصيغة العربية للتحبيب وصرفوه، وعنهم أخذ المسلمون، والتصرف في أسماء الأعلام المنقولة من لغة إلى أخرى معروف عند جميع الأمم، حتى إن اسم " يسوع " قلبته العرب فقالت " عيسى " وهو كما في أول الفصل السابع من السفر المعروف باسمه عزرا بن سرايا بن عزريا بن حلقيا - وساق نسبه إلى العازار بن هارون (عليه السلام).
جاء في دائرة المعارف اليهودية الإنكليزية (طبعة 1903) أن عصر عزرا هو ربيع التاريخ الملي لليهودية الذي تفتحت فيه أزهاره وعبق شذا ورده. وأنه جدير بأن يكون هو نشر الشريعة (وفي الأصل عربة أو مركبة الشريعة) لو لم يكن جاء بها موسى (التلمود، 21 ب) فقد كانت نسيت ولكن عزرا أعادها أو أحياها، ولولا خطايا بني إسرائيل لاستطاعوا رؤية الآيات (المعجزات) كما رأوها في عهد موسى اهـ. وذكر فيها أنه كتب الشريعة بالحروف الأشورية وكان يضع علامة على الكلمات التي يشك فيها - وأن مبدأ التاريخ اليهودي يرجع إلى عهده.
وقال الدكتور جورج بوست في قاموس الكتاب المقدس: عزرا (عون) كاهن يهودي وكاتب شهير سكن بابل مدة ملك (ارتحششتا) الطويل الباع، وفي السنة السابعة لملكه أباح لعزرا بأن يأخذ عددا وافرا من الشعب إلى أورشليم نحو سنة 457 ق. م (عزرا ) وكانت مدة السفر أربعة أشهر.
ثم قال: وفي تقليد اليهود يشغل عزرا موضعا مهما يقابل بموضع موسى وإيليا ويقولون: إنه أسس المجمع الكبير، وأنه جمع أسفار الكتاب المقدس، وأدخل الأحرف الكلدانية عوض العبرانية القديمة، وأنه ألف أسفار الأيام وعزرا ونحميا.
ثم قال: ولغة سفر عزرا من ص4: 8 - 6: 19 كلدانية، وكذلك ص7: 1 - 27 وكان الشعب بعد رجوعهم من السبي يفهمون الكلدانية أكثر من العبرانية اهـ.
وأقول: إن المشهور عند مؤرخي الأمم حتى أهل الكتاب منهم أن التوراة التي كتبها موسى عليه السلام ووضعها في تابوت العهد أو بجانبه (تث 31: 25، 26) قد فقدت قبل عهد سليمان عليه السلام، فإنه لما فتح التابوت في عهده لم يوجد فيه غير اللوحين الذين كتبت فيهما الوصايا العشر كما تراه في سفر الملوك الأول، وأن (عزرا) هذا هو الذي كتب التوراة وغيرها بعد السبي بالحروف الكلدانية واللغة الكلدانية الممزوجة ببقايا اللغة العبرية التي نسي اليهود معظمها.
ويقول أهل الكتاب: إن (عزرا) كتبها كما كانت بوحي أو بإلهام من الله. وهذا ما لا يسلمه لهم غيرهم وعليه اعتراضات كثيرة مذكورة في مواضعها من الكتب الخاصة بهذا الشأن حتى من تآليفهم كذخيرة الألباب للكاثوليك وأصله فرنسي، وقد عقد الفصلين الحادي عشر والثاني عشر لذكر بعض الاعتراضات على كون الأسفار الخمسة لموسى، ومنها قوله: [7 - جاء في سفر عزرا 4 ف 14 عد 21] أن جميع الأسفار المقدسة حرقت بالنار في عهد نبوخذ نصر حيث قال: " إن النار أبطلت شريعتك فلم يعد سبيل لأي امرئ أن يعرف ما صنعت " اهـ.
ويزاد على ذلك أن عزرا أعاد بوحي الروح القدسي تأليف الأسفار المقدسة التي أبادتها النار وعضده فيها كتبة خمسة معاصرون. ولذلك ترى ثرثوليانوس، والقديس ايريناوس، والقديس ايرونيموس، والقديس يوحنا الذهبي، والقديس باسيليوس وغيرهم يدعون عزرا مرمم الأسفار المقدسة المعروفة عند اليهود اهـ.
ثم أجاب المؤلف عن هذا الاعتراض بأن السفر الرابع من سفر عزرا (كذا) ليس بقانوني، وأن نسخ الكتاب المقدس لم تكن كلها " محفوظة في الهيكل أو في أورشليم، وأن الآباء القديسين الذين استشهد المعترضون بأقوالهم إنما يؤخذ بتعليمهم لا برأيهم، قال " يستحيل أن يكون رأيهم غير التعليمي غير مصيب ; إلا أن الأظهر أنهم إذ سموا عزرا مرمم الأسفار المقدسة إنما أرادوا أن هذا النبي بعد السبي البابلي جمع كل ما تمكن من جمعه من نسخ الكتاب المقدس، وقابلها وجعل منها مجموعا منقحا مجردا عن الأغلاط التي كانت قد اندست فيه اهـ. ونقول: إن هذه الأجوبة تأويل لأقوال القديسين المذكورين لا تدل عليه، ولا نسلم أن تعليمهم كان مخالفا لرأيهم، واحتمالات ودعاوى في أصل المسألة، دليل عليها ; إذ لم ينقل أحد أنه كان يوجد قبل عزرا كتاب اسمه الكتاب المقدس، ولا أن أسفار موسى كان يوجد منها نسخ متعددة، وفي التاريخ أن ما كتبه عزرا منها قد فقد أيضا، وكان يوجد فيه الألوف من الألفاظ البابلية - وعبارات كان عزرا يشك فيها - وأغلاط كثيرة متفق عليها عند أهل الكتاب، يتمحلون في الأجوبة عنها، فنسخة عزرا ليست عين الشريعة التي كان كتبها موسى قطعاً.
وقد جاء في ص167 من الجزء الأول من إظهار الحق (طبعة الآستانة) بعد نقل نحو مما ذكر عن سفر عزرا وإحراق التوراة وجمع عزرا لها بإعانة روح القدس - ما نصه:
"وقال كليمنس اسكندر يانوس: إن الكتب السماوية ضاعت فألهم عزرا أن يكتبها مرة أخرى اهـ. وقال ترتولين: المشهور أن عزرا كتب مجموع الكتب بعد ما أغار أهل بابل بروشالم (؟) اهـ. وقال تهيوفلكت: إن الكتب الإلهية انعدمت رأسا، فأوجدها عزرا مرة أخرى بإلهام اهـ. وقال جان ملنر كاتلك في الصفحة 115 من كتابه الذي طبع في بلدة دربي سنة 1843: " اتفق أهل العلم على أن نسخة التوراة الأصلية وكذا نسخ كتب العهد العتيق ضاعت من أيدي عسكر بخت نصر، ولما ظهرت نقولها الصحيحة بواسطة عزرا ضاعت تلك النقول أيضا في حادثة أنتيوكس، انتهى كلامه بقدر الحاجة اهـ.
ثم إن صاحب إظهار الحق ذكر في بحث إثبات تحريف كتبهم (ص235 - 39) ما في تواريخهم المقدسة (سفر الملوك وسفر الأيام) من خبر ارتداد أكثر بني إسرائيل من آخر مدة سليمان، الذي كان أول من ارتد وعبد الأوثان وبنى لها المعابد بزعمهم، وولديه اللذين اقتسما ملكه فكان مملكتين، مملكة إسرائيل المؤلفة من عشرة أسباط، ومملكة يهوذا المؤلفة من السبطين الآخرين، وغلبة الوثنية وعبادة الأصنام عليهما معا، وإن كانت على الأولى أغلب. وامتد ذلك زهاء أربعة قرون، لم يعد للمملكتين فيها حاجة إلى التوراة، إلى أن جلس (يوشيا) بن (آمون) على سرير السلطنة فتاب من الشرك، وأراد إعادة دين موسى إلى الشعب، ولكنه لم يجد نسخة من التوراة إلى سبع عشرة سنة من ملكه ; إذ ادعى حلقيا الكاهن في السنة الثامنة عشرة أنه وجد نسخة من شريعة موسى في بيت الرب (ويقول صاحب قاموس الكتاب المقدس في هذه النسخة ربما كانت " سفر التثنية " وحده) ويدعون أن العمل جرى على تلك النسخة مدة الثلاث عشرة سنة التي بقيت من ملكه، وقد ارتد من بعده من الملوك، وسلط الله على أولهم ملك مصر، وعلى ثالثهم بخت نصر، ولم تذكر نسخة الشريعة من بعده فلا يعلم أحد ما أصابها.
وأما ما كتبه عزرا فقد أيضا في أثناء استيلاء انطويوكس ملك سورية على أورشليم كما تقدم وقد وضحه بقوله في (ص238 ج 1) فقال:
" لما كتب عزرا عليه السلام كتب العهد العتيق مرة أخرى على زعمهم وقعت حادثة أخرى جاء ذكرها في الباب الأول للمكابيين هكذا ":
" لما فتح انتيوكس ملك ملوك الإفرنج (كذا) أورشليم، أحرق جميع نسخ العهد العتيق التي حصلت له من أي مكان بعدما قطعها، وأمر أن من يوجد عنده نسخة من نسخ كتب العهد العتيق أو يؤدي رسم الشريعة يقتل، وكان تحقيق هذا الأمر في كل شهر، فكان يقتل كل من وجد عنده نسخة من كتب العهد العتيق، أو ثبت أنه أدى رسما من رسوم الشريعة، وتعدم تلك النسخة " انتهى ملخصا.
وذكر أن هذه الحادثة كانت سنة 161 ق. م، وامتدت إلى ثلاث سنين ونصف كما فصلت في تواريخهم وتاريخ يوسيفوس. (قال) فانعدمت في هذه الحادثة جميع النسخ التي كتبها عزرا كما عرفت في الشاهد 16 من المقصد الأول من كلام جان ملنر كاتلك. ثم ذكر أنه في حادثة استيلاء الإمبراطور تيطس الرومي على أورشليم وبلاد اليهود، أتلفت نسخ كثيرة كانت عندهم وذلك بعد المسيح كما بينه يوسيفوس وغيره من المؤرخين.
نكتفي بهذا البيان هنا ولنا فيه غرضان: أحدهما: أن جميع أهل الكتاب مدينون لعزير هذا في مستند دينهم، وأصل كتبهم المقدسة عندهم وثانيهما: أن هذا المستند واهي البيان متداعي الأركان. وهذا هو الذي حققه علماء أوربة الأحرار، فقد جاء في ترجمته من دائرة المعارف البريطانية بعد ذكر ما في سفره وسفر نحميا من كتابته للشريعة: أنه جاء في روايات أخرى متأخرة عنها أنه لم يعد إليهم الشريعة التي أحرقت فقط، بل أعاد جميع الأسفار العبرية التي كانت أتلفت، وأعاد سبعين سفرا غير قانونية [أبو كريف] ثم قال كاتب الترجمة فيها: وإذا كانت الأسطورة الخاصة بعزرا هذا قد كتبها من كتبها المؤرخين بأقلامهم من تلقاء أنفسهم، ولم يستندوا في شيء منها إلى كتاب آخر - فكتاب هذا العصر يرون أن أسطورة عزرا قد اختلقها أولئك الرواة اختلاقا [انظر ص14 ج 9 من الطبعة الرابعة عشرة سنة 1929].
وجملة القول: أن اليهود كانوا وما زالوا يقدسون عزيرا هذا حتى إن بعضهم أطلق عليه لقب ابن الله، ولا ندري أكان إطلاقه عليه بمعنى التكريم الذي أطلق على إسرائيل وداود وغيرهما، أم بالمعنى الذي سيأتي قريبا عن فيلسوفهم (فيلو) وهو قريب من فلسفة وثني الهند التي هي أصل عقيدة النصارى.
وقد اتفق المفسرون على أن إسناد هذا القول إليهم يراد به بعضهم لا كلهم، وهو مبني على القاعدة التي بيناها في تفسير بعض آيات سورة البقرة التي تحكي عنهم أقوالا وأفعالا مسندة إليهم في جملتهم، وهي مما صدر عن بعضهم، وهي أن المراد من هذا الأسلوب تقرير أن الأمة تعد متكافلة في شئونها العامة، وأن ما يفعله بعض الفرق أو الجماعات أو الزعماء منها يكون له تأثير في جملتها، وأن المنكر الذي يفعله بعضهم إذا لم ينكره عليه جمهورهم ويزيلوه يؤاخذون به كلهم، وبينا في تفسير قوله تعالى:
{ { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } [الأنفال: 25] أن من سنن الاجتماع البشري أن المصائب والرزايا التي تحل بالأمم بفشو المفاسد والرذائل فيها لا تختص الذين تلبسوا بتلك المفاسد وحدهم، كما أن الأوبئة التي تحدث بكثرة الأقذار في الشعب وغير ذلك من الإسراف في الشهوات تكون عامة أيضا.
وأما الذين قالوا هذا القول من اليهود فهم بعض يهود المدينة، كالذين قال الله فيهم:
{ { وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم } [المائدة: 64] الآية، والذين قال فيهم: { { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } [آل عمران: 181] ردا على قوله تعالى: { { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا } [البقرة: 245]؟ ويحتمل أن يكون قد سبقهم إليه غيرهم، ولم ينقل إلينا.
روى ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: أتى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وأبو أنس وشاس بن قيس ومالك بن الصيف فقالوا: كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا، وأنت لا تزعم أن عزيرا ابن الله؟ وإنما قالوا هو ابن الله من أجل أن عزيرا كان في أهل الكتاب وكانت التوراة عندهم يعملون بها ما شاء الله تعالى أن يعملوا، ثم أضاعوها وعملوا بغير الحق، وكان التابوت فيهم، فلما رأى الله تعالى أنهم قد أضاعوا التوراة، وعملوا بالأهواء رفع عنهم التابوت وأنساهم التوراة ونسخها من صدورهم.
وذكر الراوي حكاية إسرائيلية قال في آخرها: إن عزيرا صلى ودعا الله أن يرد إليه الذي كان ذهب من جوفه من التوراة فاستجاب له فصار يعلمهم إياها، ثم نزل التابوت عليهم فعرضوا عليه ما علمهم عزير فوجدوه مثله.
فنحن نأخذ بما قاله ابن عباس رواية عمن جاءوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من اليهود وقالوا ما قالوا، فإنه رواية عن شيء وقع في زمنه فأخبر عما رأى وسمع، وأما ما حكاه من سبب قولهم فما هو إلا رواية عن بعضهم كذبوا فيه عليه أو على من حدثه به، والظاهر أنه مما سمعه من كعب الأحبار إذ روى عنه كثيرا من الإسرائيليات، فقد أخرج أبو الشيخ عن كعب أنه قال: دعا عزير ربه عز وجل أن يلقي التوراة كما أنزل على موسى عليه السلام في قلبه، فأنزلها الله تعالى عليه فبعد ذلك قالوا: عزير ابن الله.
وقد ذكر السيوطي في الدر المنثور روايات أخرى إسرائيلية خرافية في هذا المعنى، منها ما رواه ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن عباس، وملخصه أن الله سلط بخت نصر على بني إسرائيل فحرق التوراة، وخرب بيت المقدس وعزير يومئذ غلام فلحق بالجبال يتعبد فيها، وأن الدنيا تمثلت له في صورة امرأة فأخبرته بأنه سينبع في مصلاه عين ماء، وتنبت فيه شجرة فإذا شرب من العين، وأكل من الثمرة جاءه ملكان - (إلى أن قال) فجاء الملكان ومعهما قارورة فيها نور فأوجراه ما فيها فألهمه الله التوراة. وروى ابن أبي حاتم هذه الخرافة عن السدي بأطول مما روي عن ابن عباس، وما ذكرنا هذا إلا لنبين للناس أنه من شر الخرافات الإسرائيلية التي كان يغش الناس المسلمين بها كعب الأحبار وأمثاله مما ليس في كتب اليهود، وقد راجت على أكثر المفسرين لعدم اطلاعهم على كتب العهد العتيق، ولا سيما سفر الأيام الثاني، وسفري عزير ونحميا، ولا على غيرهما من كتبهم، ولا على تاريخ يوسيفوس اليهودي وغيره من التواريخ، دع كتب أحرار الإفرنج ومؤرخيهم مما لم يكن في زمنهم.
ومن المعلوم أن بعض النصارى الذين قالوا إن المسيح ابن الله كانوا من اليهود، وقد كان (فيلو) الفيلسوف اليهودي الإسكندري المعاصر للمسيح يقول: إن لله ابنا هو كلمته التي خلق بها الأشياء - فعلى هذا لا يبعد أن يكون بعض المتقدمين على عصر البعثة المحمدية قد قالوا إن عزيرا ابن الله بهذا المعنى.
{ وقالت النصارى المسيح ابن الله } هذا القول كان يقوله القدماء منهم، ويقصدون به معنى مجازيا كالمحبوب والمكرم، ثم سرت إليهم فلسفة الهنود في (كرشنا) وغيرهم من قدماء الوثنيين، ثم اتفقت عليه فرقهم المعروفة في هذه الأزمنة، وعلى أنه حقيقة لا مجاز، وعلى أن (ابن الله) بمعنى (الله) وبمعنى (روح القدس) ; لأن هؤلاء الثلاثة عندهم واحد حقيقة لا مجازا، هذا تعليم الكنائس الذي قربته المجامع الرسمية، بتأثير الفلسفة الرومية، ولكن بعد المسيح وتلاميذه بثلاثة قرون، ويخالفه خلق كثير منهم أعظمهم شأنا الموحدون والعقليون. والكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية والبروتستانتية لا تعتد بنصرانيتهم ولا بدينهم، وهاك خلاصة تاريخية في أطوار هذه العقيدة، وهي ما في دائرة المعارف العربية للبستاني، قال:
ثالوث trinite - y
كلمة تطلق عند النصارى على وجود ثلاثة أقانيم معا في اللاهوت تعرف (بالآب والابن والروح القدس) وهذا التعليم هو من تعاليم الكنيسة الكاثوليكية والشرقية وعموم البروتستانت إلا ما ندر، والذين يتمسكون بهذا التعليم يذهبون إلى أنه مطابق لنصوص الكتاب المقدس، وقد أضاف اللاهوتيون إليه شروحا وإيضاحات اتخذوها من تعاليم المجامع القديمة وكتابات آباء الكنيسة العظام، وهي تبحث عن طريقة ولادة الأقنوم الثاني، وانبثاق الأقنوم الثالث، وما بين الأقانيم الثلاثة من النسبة وصفاتهم المميزة وألقابهم.
ومع أن لفظة ثالوث لا توجد في الكتاب المقدس، ولا يمكن أن يؤتى بآية من العهد القديم تصرح بتعليم الثالوث، قد اقتبس المؤلفون المسيحيون القدماء آيات كثيرة تشير إلى وجود صورة جمعية في اللاهوت، ولكن إذ كانت تلك الآيات قابلة لتفاسير مختلفة، كانت لا يؤتى بها كبرهان قاطع على تعليم الثالوث، بل كرموز إلى الوحي الواضح الصريح الذي يعتقدون أنه مذكور في العهد الجديد، وقد اقتبس منه مجموعان كبيران من الآيات كحجج لإثبات هذا التعليم (أحدهما) الآيات التي ذكر فيها الآب والابن والروح القدس معا. (والآخر) التي ذكر فيها كل منهم على حدة، والتي تحتوي على نوع أخص صفاتهم ونسبة أحدهم إلى الآخر.
والجدال عن الأقانيم في اللاهوت ابتدأ في العصر الرسولي، وقد نشأ على الأكثر عن تعاليم الفلاسفة الهيلانيين والغنوسطيين، فإن ثيوفيلوس أسقف أنطاكية في القرن الثاني استعمل كلمة ثرياس باليونانية، ثم كان ترتليانوس أول من استعمل كلمة ترينيتاس المرادفة لها ومعناها الثالوث، وفي الأيام السابقة للمجمع النيقاوي حصل جدال مستمر في هذا التعليم، وعلى الخصوص في الشرق، وحكمت الكنيسة على كثير من الآراء بأنها أراتيكية ومن جملتها آراء الأبيونيين الذين كانوا يعتقدون أن المسيح إنسان محض، والسابليين الذين كانوا يعتقدون أن الآب والابن والروح القدس إنما هي صورة مختلفة أعلن بها الله نفسه للناس، والآريوسيين الذين كانوا يعتقدون أن الابن ليس أزليا كالآب بل هو مخلوق منه قبل العالم؛ ولذلك هو دون الأب وخاضع له، والمكدونيين الذين أنكروا كون الروح القدس أقنوما.
وأما تعليم الكنيسة فقد قرره المجمع النيقاوي سنة 325 للميلاد، ومجمع القسطنطينية سنة 381 وقد حكما بأن الابن والروح القدس مساويان للآب في وحدة اللاهوت، وأن الابن قد ولد منذ الأزل من الآب، وأن الروح القدس منبثق من الآب، ومجمع طليطلة المنعقد سنة 589 حكم بأن الروح القدس منبثق من الابن أيضا. وقد قبلت الكنيسة اللاتينية بأسرها هذه الزيادة وتمسكت بها، وأما الكنيسة اليونانية فمع أنها كانت في أول الأمر ساكتة لا تقاوم قد أقامت الحجة فيما بعد على تغيير القانون حاسبة ذلك بدعة.
وعبارة (ومن الابن أيضا) لا تزال من جملة الموانع الكبرى للاتحاد بين الكنيسة اليونانية والكاثوليكية، وكتب اللوثيريين والكنائس المصلحة أبقت تعليم الكنيسة الكاثوليكية للثالوث على ما كان عليه من دون تغيير، ولكن قد ضاد ذلك منذ القرن الثالث عشر جمهور كبير من اللاهوتيين وعدة طوائف جديدة كالسوسينيانيين والجرمانيين والموحدين والعموميين وغيرهم حاسبين ذلك مضادا، للكتاب المقدس والعقل، وقد أطلق سويد نبرغ الثالوث على أقنوم المسيح معلما بثالوث، ولكن لا ثالوث الأقانيم بل ثالوث الأقنوم، وكان يفهم بذلك أن ما هو إلهي في طبيعة المسيح هو الآب، وأن الإلهي الذي اتحد بناسوت المسيح هو الابن، وأن الإلهي الذي انبثق منه هو الروح القدس، وانتشار مذهب العقليين في الكنائس اللوثيرية والمصلحة أضعف مدة من الزمان اعتقاد الثالوث بين عدد كبير من اللاهوتيين الجرمانيين.
وقد ذهب (كنت) إلى أن الآب والابن والروح القدس إنما تدل على ثلاث صفات أساسية في اللاهوت وهي القدرة والحكمة والمحبة، أو على ثلاثة فواعل عليا: وهي الخلق والحفظ والضبط، وقد حاول كل من هيجن وشلنغ أن يجعلا لتعليم الثالوث أساسا تخيليا، وقد اقتدى بهما اللاهوتيون الجرمانيون المتأخرون، وحاولوا المحاماة عن تعليم الثالوث بطرق مبنية على أسس تخيلية ولاهوتية، وبعض اللاهوتيين الذي يعتمدون على الوحي لا يتمسكون بتعليم استقامة الرأي الكنائسية بالتدقيق كما هي مقررة في مجمعي نيقية والقسطنطينية المسكونين، وقد قام محامون كثيرون في الأيام المتأخرة لعضد آراء السابليين على الخصوص اهـ.
وأقول: قد حدثت في هذا العصر مذاهب جديدة في النصرانية في أوربة وأمريكة قرب ببعضها كثيرون من إصلاح الإسلام لها، سيفضي هذا إلى رجوع السواد الأعظم إليه بعد تنظيم الدعاية الصحيحة له وتعميمها، ونحن نبين هذه الأطوار في المنار في أوقاتها، ونعود الآن إلى الرد على قولهم المسيح ابن الله ; لأن هذا آخر موضع له في التفسير فنقول:
كنا بينا في تفسير سورة المائدة
{ { وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه } [المائدة: 18] أن لقب " ابن الله " أطلق في كتب اليهود والنصارى على آدم، كما تراه في نسب المسيح في آخر الفصل الثالث من إنجيل لوقا وهو: " ابن شيث بن آدم بن الله " وعلى يعقوب كما في الفصل الرابع من سفر الخروج [4: 22] هكذا يقول الرب: إسرائيل ابني البكر وعلى أفرايم كما في سفر أرميا: [31: 9] لأني صرت أبا وأفرايم هو بكري وعلى داود: من [89: 26] هو يدعوني أبي أنت إلهي وصخرة خلاصي 270 أنا أيضا أجعله بكرا أعلى من كل ملوك الأرض، وأنه أطلق أيضا على الملائكة وعلى المؤمنين الصالحين وسمى الله أبا لهم في مواضع كثيرة من كتب العهدين، ويقابله إطلاق المسيح لقب " أولاد إبليس " على غير الصالحين، وتسمية إبليس أباهم كما ترى في إنجيل يوحنا: [8: 41] أنتم تعملون أعمال أبيكم، قالوا: إننا لم نولد من زنا لنا أب واحد وهو الله 42 فقال لهم يسوع: لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني - إلى أن قال - أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا، وهنالك شواهد أخرى من استعمال كلمة ابن الله في الأفراد كسليمان عليه السلام، وفي المؤمنين الصالحين، وتسميتهم مولودين من الله تعالى، وتسميته سبحانه أبا لهم.
وبينا أيضا أن هذا الاستعمال مجازي قطعا لا يحتمل المعنى الحقيقي بحال من الأحوال، ولكن النصارى قد خرجوا عن قوانين العقل واللغات بجعل إطلاق لفظ " ابن الله " على المسيح وحده حقيقيا وعلى غيره مجازيا، ووعدنا بتوضيح ذلك في تفسير هذه الآية: { وقالت النصارى المسيح ابن الله } على أننا كنا قد بيناه ووضحناه قبل ذلك في تفسير:
{ { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد } [النساء: 171] الآية من سورة النساء.
وكذا في مواضع من التفسير (المنار) ولعلنا ما وعدنا بإيضاحه إلا ونحن ذاهلون عن هذا وكثرة الكلام في المحال لا تزيده إلا غموضا وإشكالا، فالنصارى قد تحكموا في تفسير (ابن الله) وتفسير (الكلمة) وتفسير (روح القدس) وتفسير اسم الجلالة (الله) بما ينافي العقل ونصوص العهد القديم والعهد الجديد، فجعلوها متعارضة متناقضة.
كل ذلك لإدخال عقيدة قدماء الوثنيين من الهنود والمصريين واليونان على دين أنبياء بني إسرائيل المبني على أساس التوحيد المطلق. ولكننا نأتي بخلاصة أخرى في الموضوع نرجو أن تكون أوضح وأظهر مما سبق، وأدل على نوع من أنواع إعجاز القرآن، وهو تحديد الحقائق فيما اختلف فيه أهل الكتاب من أمر دينهم، مما كان مجهولا لهم ولغيرهم من البشر، كما وعد الله عز وجل في آيات منه كاختلافهم في المسيح نفسه وفي معنى اسم الله وكلمته، وروحه أو روح القدس فنقول:
قال جورج بوست في قاموس الكتاب المقدس:
(الله) اسم خالق جميع الكائنات والحاكم الأعظم على جميع العوالم، والمعطي كل المواهب الحسنة، والله " روح غير محدود، أزلي غير متغير في وجوده وحكمته وقدرته وقداسته وعدله، وجودته وحقه " وهو يظهر لنا بطرق متنوعة وأحوال مختلفة في أعماله وتدبير عنايته (رو 1: 20) ولا سيما في الكتب المقدسة حيث يتجلى غاية التجلي في شخصيته وأعمال ابنه الوحيد المخلص يسوع المسيح (ثم قال):
طبيعة الله: عبارة عن ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر (مت 28: 19 و2 كو 13: 14] الله الآب، والله الابن، والله الروح القدس، فإلى الآب ينتمي الخلق بواسطة الابن (مز 33: 6 وكو 1: 16 وعب 201] وإلى الابن الفدى، وإلى الروح القدس التطهير، غير أن الثلاثة أقانيم تتقاسم جميع الأعمال الإلهية على السواء. أما مسألة التثليث فغير واضحة في العهد القديم كما هي في العهد الجديد، وقد أشير إلى هذا الأمر في تك ص1 حيث ذكر " الله " وروح الله " (قابل مز 33: 6 ويو 1: 1 و3] والحكمة الإلهية المشخصة أم ص8 تقابل الكلمة " (في يو ص 1] وربما تشير إلى الأقنوم الثاني، وتطلق نعوت القدير على كل أقنوم من هذه الأقانيم الثلاثة على حدته. (ثم قال):
وحدة الله: ظاهرة في العهد القديم أكثر منها في العهد الجديد، والتثليث بين في العهد الجديد خفي في العهد القديم، والداعي الأعظم لهذا الأمر إنما هو إظهار لخطأ الشرك بالله ومنع عبادة الأوثان التي كانت كثيرة الشيوع في الأزمنة الأولى قديما ففي تث 6: 4 يدعى الله " ربا واحدا " وكان يدعى الإله الحي " تمييزا له عن آلهة الوثنيين الكاذبة، والاعتقاد بأن الله واحد بين جدا في ديانة اليهود (ثم قال):
ابن الله - د 31: 25 ابن الآلهة - لقب من ألقاب الفادي ولا يطلق على شخص آخر سواه إلا حيث يستفاد من القرينة أن المقصود بالملقب غير ابن الله الحقيقي، وقد تسمت الملائكة بني الله (أي 38: 7] وأطلق هذا الاسم على آدم (لو 3: 38] إذ أنه هو الشخص الأول المخلوق من الباري رأسا. وقد تسمى المؤمنون أبناء الله (رو 8: 14 و2 كو 6: 18] وذلك لأنهم أعضاء في عائلة الله الروحية، وأما إذا أريد بهذا اللقب المسيح فيذكر مع التفخيم والعظمة حتى إن القارئ يعرف القصد بكل سهولة.
وهذا اللقب يدل على طبيعة المسيح الإلهية، كما أن القول بأنه " ابن الإنسان " يدل على طبيعته البشرية، والمسيح هو ابن الله الأزلي والابن الوحيد (قابل يو 1: 18 و5: 19 - 26 و9: 35: 38 ومت 11: 27 و16: 16 و21: 37 وآيات أخرى غير هذه في الرسائل) ومع أن المسيح يأمرنا بأن ندعو الله " أبانا " فهو لا يدعوه كذلك، إنما يدعوه " أبي " وذلك إيماء لما هنالك من الألفة العظيمة، والعلاقة الشديدة الكائنة بينهما مما تفوق علاقته كل علاقة بشرية. وإشارة إلى أننا نحن أولاده ليس على سبيل البنوة التي للمسيح ربنا، بل من قبيل البنوة التي أنعم علينا بها بواسطة التبني والتجديد اهـ. بحروفه.
أقول: إن ما لخصه صاحب هذا القاموس من عقيدة النصارى، هو أوضح ما تعرف به هذه العقيدة بالاختصار المتوخى في هذا القاموس، على غموضه وضعفه في نفسه، وما يذكرونه في عامة كتبهم قلما يفهم المراد منه لما في عباراتها من التعقيد اللفظي والمعنوي في موضوع غير معقول في نفسه. وفيما ذكره مؤاخذات كثيرة نذكر أهم ما يتعلق بموضوعنا هنا منها، ولذلك نغض الطرف عما قاله في بيان المراد من اسم الجلالة ; لأننا نقلناه تمهيدا لما بعده فنقول:
1- ما ذكره فيما سماه " طبيعة الله " لا يدل عليه لفظ الاسم الكريم، ولا شيء من كتب الأنبياء في العهد القديم، ولا مما جاء عن متقدميهم في سفر التكوين. فثبت بهذا أن هذه الطبيعة المدعاة لم تكن معروفة عند أنبياء أهل الكتاب قبل النصرانية التقليدية، وهي أصل الدين فيها، ونتيجة هذا أن هذه العقيدة مبتدعة بعدهم وهم برآء منها.
2- إن ما أشار إليه من نص الإنجيل فيها لا يدل عليها، وهو ما في إنجيل متى من قوله في آخره رواية عن المسيح عليه السلام [28: 19] " وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس " فهذا اللفظ لا يدل على أن هذه الأسماء الثلاثة عبارة عن ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر، وأن كلا منها عين الآخر، وأنه يطلق عليه اسم (الله) الخالق لجميع الكائنات إلى آخر ما ذكره في معنى اسمه عز وجل، ولا على أنها تتقاسم الأعمال الإلهية على السواء كما ادعاه فيما سماه طبيعة الله.
وكذلك ما أشار إليه من رسالة بولس الثانية إلى كورنثوس وهو قوله في آخرها [13: 14] نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله وشركة الروح القدس مع جميعهم) على أننا نعتقد أن بولس هو واضع أساس الديانة النصرانية الحاضرة، وجاء فيها بما لم يؤثر عن المسيح عليه السلام، ولا عن تلاميذه الحواريين ـ رضي الله عنهم ـ.
3- إن ما ذكر في كتب العهدين من استعمال ابن الله والروح القدس ينافي هذا المعنى ولا يتفق معه بوجه من الوجوه كما بيناه في تفسيرنا عند ذكرها في الآيات من سورتي آل عمران والنساء. وقد أشرنا إلى أهمها آنفا.
4- إن ما أشار إليه من عبارة المزمور [33: 6] ليس فيه أدنى إشارة إلى هذه الطبيعة المبتدعة في هذا التثليث وهذا نصها (بكلمة الرب صنعت السماوات، وبنسمة فيه كل جنودها) وهو يزعم هنا أن المراد (بكلمة " الرب " المسيح، تفسيرا لها برأي يوحنا في أول إنجيله، وهذا المعنى للكلمة لم يكن معروفا لداود عليه السلام ولا لغيره من أنبياء اليهود، بل هو معنى اخترعه الذي كتب إنجيل يوحنا، والمرجح عند بعض المحققين أنه أحد تلاميذ بولس. وكان الدكتور جورج بوست كتب هذا الشاهد هنا قبل أن يكتب تفسير " الكلمة " في قاموسه، وكأنه لما كتبه نسي ما كان كتبه هنا، فإنه قال في الجزء الثاني منه ما نصه: يقصد بالكلمة السيد يسوع المسيح، ولم ترد هذه الكلمة بهذا المعنى إلا في مؤلفات يوحنا اهـ. فكيف فسر بها عبارة المزمور إذا؟
وكذلك ما نقله عن رسالتي بولس إلى كولوسي، وإلى العبرانيين لا يدل على ما ذكره، ولو دل عليها لكان أحد دلائلنا على أن هذه العقيدة قد وضع بولس أساسها، إذ لم يعرفها أحد من أنبياء التوراة قبله عليهم السلام ولا المسيح.
5- قوله: إن مسألة التثليث غير واضحة في العهد القديم، صوابه: غير موجودة فيه ألبتة لا بالنص ولا بالظاهر ولا بالفحوى والإشارة الواضحة. وعلى أن هذه العقيدة عند النصارى هي أساس الدين أو ركنه الأعظم، فلو كانت عقيدة إلهية موحى بها إلى الأنبياء لصرحوا كلهم بها تصريحا لا يقبل التأويل كما صرحوا بالتوحيد الذي اعترف هو وغيره بأنه ظاهر (وبين جدا) في العهد القديم، وهاتان العقيدتان على أتم التناقض. وما ذكره من الإشارة إليها في أول سفر التكوين بذكر الله ولفظ (روح الله) غير مسلم ; فإنه لم يفهم ذلك منهما أحد من اليهود، ولا غيرهم قبل ابتداع هذه العقيدة، ولا يجوز بل لا يعقل أن يكون أساس العقيدة في كتاب الله مبهما لا يفهمه المخاطبون منه، كما علمت آنفا من استشهاده بالمزمار [33: 6] وهذان اللفظان موجودان في القرآن المجيد الذي يصرح بكفر القائلين بالتثليث.
6- ما ذكره في مسألة (وحدة الله) من سبب التصريح بتوحيد الله تعالى بأقوى النصوص في العهد القديم، وهو سد ذريعة الوثنية التي كانت كثيرة الشيوع في الأزمنة الأولى هو حجة عليه، فإن تلك الوثنية التي أراد الله تعالى سد ذرائعها بنصوص التوحيد القطعية لموسى وغيره من الأنبياء عليهم السلام، كان من أركانها عقيدة التثليث الهندية المصرية اليونانية، فما وقع فيه النصارى من الوثنية هو الذي أريد وقاية أتباع الأنبياء منه بتلك النصوص الإلهية في كتبهم، ولا سيما الوصية الأولى من وصايا التوراة، وإنما أوقعهم فيه هذه الألفاظ المجملة في رسائل بولس وأناجيل تلاميذه، وعدم تأويلهم لها بها يوافق توحيد جميع الأنبياء ونصوص التنزيه فيها وفي الإنجيل أيضا.
7- إن استشهاده على " كلمة ابن الله " بما جاء في الفصل 3 من سفر دانيال غريب جدا جدا، فإن عادته في قاموسه أن يذكر بجانب كل كلمة تفسيرا لها وشاهدا عليها من كلام الله أو كلام الأنبياء، والعبارة التي ذكرها هنا هي كلمة الملك بابل نبوخذ نصر الوثني قالها في أحد الأفراد الذين ألقاهم في أتون النار ولم يحترقوا، وهي " ومنظر الرابع شبيه بابن الآلهة " فلينظر المسلمون وغيرهم من العقلاء بم يؤيد هؤلاء النصارى تسميتهم المسيح ابن الله؟! وبم يثبتون أن لله ابنا حقيقيا؟ إنهم يحاولون إثبات هذا أو يؤيدونه بكلام الوثنيين في عقائدهم، ثم ينكرون أنهم وثنيون.
8- إنه حاول أن يفرق بين ما أمر المسيح به المؤمنين من خطابهم لله تعالى في الصلوات بقوله في أول الصلاة الربانية " أبانا الذي في السماوات " إلخ وما في معناه كقوله " أبي وأبيكم " وبين روايتهم عنه في بعض المواضع من قوله " أبي " فهو يزعم تقليدا لرؤساء ملته أن إضافة الأب إلى ضمير المتكلم منه عليه السلام، وإضافته إلى ضمير الجميع فيما أمرهم به من قول " أبانا " دليل على أن أبوته تعالى له حقيقية وأبوته للمؤمنين على سبيل التبني.
وهذا من أغرب ما يؤثر عنهم من التحكم والابتداع المخالف للغة وللعقل وللنقل المأثور عن الأنبياء، فأبوة الله الحقيقية لبعض البشر أو غيرهم من الخلق لا تعقل، وأبوة التبني تزوير يجل الله عنه كما يتنزه عن مجانسة الخلق بالأبوة الحقيقية، والأظهر في هذه الأبوة في كل موضع إن صح النقل أنها مجاز عن الرحمة والرأفة والتكريم، ولا ننكر أن حظ المسيح عليه السلام منها جدير بأن يكون أعلى من حظ يعقوب وأفرايم وداود وسليمان ممن أطلق عليهم هذا اللقب في أسفار العهد القديم، ومن الكفر الصريح، والطعن في تنزيه الله عز وجل عندنا وعند كل عاقل مستقل الفكر أن يقال: إن له سبحانه ابنا حقيقيا، وأبناء بالتبني، أي أدعياء، وهو عز وجل يقول في أبناء التبني الذي كان معهودا عند العرب وأبطله بالإسلام
{ { وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم } [الأحزاب: 4 و5].
وأما الفرق بين ضمير الجمع وضمير المفرد فيما نقلوه فسببه يعرفه العوام كالخواص، وهو أن الجمع للجماعة والمفرد للمفرد، ولو نقلوه عن المسيح عليه السلام أنه كان يقول في صلاته: " أبي الذي في السماوات " لكان لهم شبهة في هذه التفرقة. على أنه معارض بقول
الرب في داود (مز 89: 26 هو يدعوني أنت أبي) فإذا كانت إضافة لفظ أب إلى ضمير المفرد المتكلم تقتضي أن يكون المضاف إليه ابنا حقيقيا لله تعالى، فقد كان هذا الفخر لداود قبل المسيح، وأن لإضافة ابن إلى ضمير الرب المفرد من الاختصاص ما يساوي بل يفوق إضافة لفظ الأب إلى ضمير العبد.
وقد تقدم ما في سفر الخروج من قول الرب "4: 22 ابني بكري إسرائيل) ومثله قوله في سفر أرميا [31: 9 إني صرت أبا لإسرائيل وإفرايم هو بكري" ووصف الأب الابن بكونه بكرا له يقرب به من الحقيقة أو الاختصاص ما لا يقرب مثله بإضافة الابن اسم أبيه إلى ضمير نفسه، إذ من المعلوم أن المتبنى يخاطب متبنيه ويخبر عنه بقوله " أبي " كالابن من الصلب، ولكن الرجل لا يصف من تبناه ولا يخبر عنه بقوله ابني البكر.
9- قوله: إن المؤمنين أعضاء في عائلة الله الروحية - ما أملاه عليه إلا أن عقله لا يفهم من لفظ " ابن الله وأبناء الله " إلا المعنى المجازي. ومقتضاه أن كل ما يعقل من نصوص العهد الجديد في إطلاق اللفظ على المسيح بكثرة أو نوع امتياز، إنما يراد به أنه عليه السلام كان أفضل من غيره من أعضاء هذه العائلة الروحية المدعاة، والمسلمون لا ينكرون هذا الامتياز فإنهم يفضلونه - عليه السلام - على أجداده إسرائيل وداود وغيرهما ممن أطلق عليه لقب (ابن الله) في العهد القديم بل يفضلونه على جميع الأنبياء ما عدا إبراهيم وموسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
10- إننا على بحثنا هذا في كلامه لإقامة الحجة على النصارى كلهم ننكر لفظ " عائلة الله " وأمثاله مما يخل بتنزيه الله رب العالمين عما تقتضيه من المجانسة، فهو عز وجل ليس له جنس مادي ولا روحي
{ { ليس كمثله شيء } [الشورى: 11] { { سبحان ربك رب العزة عما يصفون } [الصافات: 180] { { قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد } [الإخلاص: 1 - 4].
وأما معنى " روح القدس " وبطلان ما زعموه من كونه هو الله فقد تقدم بيانه مفصلا في تفسير آية:
{ { وأيدناه بروح القدس } [البقرة: 87] وآية: { { وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه } [النساء: 171] المشار إليها فيما تقدم قريبا.
11- إنه من أجل عداوته للتوحيد، ولتنزيه الخالق عز وجل عن الجنس والولد والشريك، لم يذكر في صفاته عز وجل ما ورد في العهدين القديم والجديد، من تنزهه تعالى عن الند والنظير والشبيه، الذي يجب بحكم العقل أن تئول لأجله أو تحمل عليه وتقيد به جميع النصوص الدالة على التشبيه، كما جعل المسلمون قوله عز وجل:
{ { ليس كمثله شيء } [الشورى: 11] وقوله: { { سبحان ربك رب العزة عما يصفون } [الصافات: 180] أصل عقيدة التنزيه وقيدوا بها معاني الآيات الموهمة للتشبيه. وقد جاء في سفر الاستثناء من أسفار التوراة [4: 12] فكلمكم الرب من جوف النار فسمعتم صوت كلامه، ولم تروا الشبه ألبتة [15] فاحفظوا أنفسكم بحرص فإنكم لم تروا شبها يوم كلمكم الرب في حوريب من جوف النار) والعقلاء من اليهود يردون جميع العبارات التي ظاهرها التشبيه والأعضاء للرب تعالى إلى هذا النص النافي للتشبيه.
وقد جاء في إنجيل يوحنا الذي تفرد بأقوى الشبهات على التثليث ما يدل على التنزيه قال [1: 18] الله لم يره أحد قط. الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو الذي خبر ومثله في الرسالة الأولى ليوحنا (4: 12 الله لم ينظره أحد) قط بل قال مثل ذلك أستاذه بولس في رسالته الأولى إلى نيموتادس، فإنه وصاه بحفظ الوصية إلى ظهور المسيح، وقال عن هذا الظهور: [15 الذي سيبينه في أوقاته المبارك الوحيد ملك الملوك ورب الأرباب 16 الذي وحده له عدم الموت ساكنا في نور لا يدنى منه، الذي لم يره أحد من الناس ولا يقدر أن يراه أحد الذي له الكرامة والقدرة الأبدية).
فتبين بما تقدم أن هذه عقيدة التثليث، وألوهية المسيح المخالفة لحكم العقل، ليس لها أصل في كتب الأنبياء عليهم السلام لا قطعي ولا ظني، وأن شبهاتها في العهد الجديد ضعيفة ليست نصا ولا ظاهرة فيها. على أن كتب العهد الجديد لا يوثق بها، فإن النصارى قد أضاعوا أكثر ما كتب من إنجيل المسيح في عصره ثم رفضت مجامعهم المسكونية الرسمية بعد دخول التعاليم الوثنية فيهم من قبل الرومانيين أكثر ما وجد عندهم من الأناجيل التي كانت تعد بالعشرات، وقيل بالمئات، واعتمدت أربعا منها ليس فيها إلا قليلا مما رواه من أقوال المسيح وأفعاله، كما قال يوحنا في آخر إنجيله: " وأشياء أخرى كثيرة صنعها يسوع إن كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة آمين " اهـ. ومن المعلوم بالبداهة أنه كان يقول عندما كان يفعل، فلم تكتب أقواله ولا أفعاله الكثيرة.
وقد تكرر في كتب العهد الجديد ومنها الأناجيل الأربعة ذكر إنجيل المسيح، وفي بعضها يسمى " إنجيل الله " ومن المعلوم بالبداهة أنه لا يراد بهذا الإنجيل أحد هذه التواريخ الأربعة التي تحدث عنه، وفي هذه الكتب أيضا أنه كان يوجد أناجيل كاذبة وأناجيل محرفة ورسل كذبة، وقد فصلنا القول في مسألة إنجيل المسيح وهذه الأناجيل، وأثبتنا عدم الثقة بها، وأن مجموعها يثبت ما نطق به كتاب الله المنزل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو أن النصارى كاليهود نسوا حظا عظيما مما ذكروا به وأنهم أوتوا نصيبا منه، وأنهم انتحلوا عقائد وثني الهند وغيرهم من القدماء في الثالوث [فراجعه في ص239 - 25 ج 6 ط الهيئة].
قال الله تعالى { ذلك قولهم بأفواههم } أي: ذلك الذي قالوه في عزير والمسيح هو قولهم الذي تلوكه ألسنتهم في أفواههم، ما أنزل به الله من سلطانه، ولا يتجاوز حركة اللسان، إذ ليس له مدلول في الوجود، ولا حقيقة في مدارك العقول، فهو كقوله تعالى:
{ { وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا } [الكهف: 4، 5] وفي معناه قوله في التبني { { وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل } [الأحزاب: 4] وقوله في أهل الإفك { { إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم } [النور: 15] فذكر الأفواه - وكذا الألسنة - مع العلم بها بالحس لبيان ما ذكر، أي أنه قول لا يعدوها ولا يتجاوزها إلى شيء في الوجود فهو كما يقول العوام: " كلام فارغ ".
{ يضاهئون قول الذين كفروا من قبل } أي: يشابهون ويحاكون فيه قول الذين كفروا من قبلهم فقالوا هذا القول أو مثله، قيل: إن المراد بهم مشركو العرب الذين قالوا: إن الملائكة بنات الله. وقيل: إن المراد سلفهم الذين قالوا هذا القول قبلهم، وهذا مبني على أن الكلام في اليهود والنصارى الذين كانوا في عصر نزول القرآن، إذ لم يصل إلينا أن أحدا من سلف أولئك اليهود في بلاد العرب أو غيرها قالوا عزير ابن الله، وإن كان غير بعيد في نفسه، ولو كانت الآية نصا فيه لجزمنا به ; لأنه عدم وصول نقل إلينا فيه لا يقتضي عدم وقوعه.
والراجح المختار أن المراد بكل من اليهود والنصارى في الآية الجنس، وهو يصدق بوقوع ذلك من بعضهم في أي عصر كان، والمختار في مضاهأتهم للذين كفروا من قبلهم يصدق في كل من وقع ذلك منهم والله أعلم بهم، وقد علمنا من تاريخ قدماء الوثنيين في الشرق والغرب أن عقيدة الابن الله، والحلول، والتثليث، كانت معروفة عند البراهمة في الهند والبوذيين فيها وفي الصين واليابان وقدماء الفرس والمصريين واليونان والرومان، وقد بينا هذا في تفسير آية: [النساء: 171] التي تقدمت الإشارة إليها آنفا وهذا البيان لهذه الحقيقة من معجزات القرآن، فإنه لم يكن يعرفها أحد من العرب، ولا ممن حولهم، بل لم تظهر إلا في هذا الزمان، كما يقال مثل هذا فيما بينه من حقيقة أمر كتبهم، وسيأتي بيانه قريبا في فصل خاص.
{ قاتلهم الله } هذه الجملة تستعمل في اللسان العربي للتعجب، فهو المراد بها لا ظاهر معناها. قال في مجاز الأساس: وقاتله الله ما أفصحه اهـ. وحكى النقاش أن أصل " قاتله الله " الدعاء، ثم كثر في استعمالهم حتى قالوه على التعجب في الخير والشر وهم لا يريدون الدعاء اهـ. وفسره بعضهم بالدعاء على أن المراد به اللعنة أو الهلاك. والأول أظهر.
{ أنى يؤفكون } تقدم مثل هذه الجملة في الرد على قول الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة من سورة المائدة إذ قال تعالى:
{ { ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون } [المائدة: 75] ومثله في سورة الأنعام بعد الاستدلال على الخالق عز وجل: { { ذلكم الله فأنى تؤفكون } [الأنعام: 95] والإفك صرف الشيء عن وجهه (وبابه من وزن ضرب) ويقال: أفك بالبناء للمفعول بمعنى صرف عقله عن إدراك الحقيقة، ورجل مأفوك العقل، فمادة أفك تستعمل في صرف العقل والنفس عن الحق إلى الباطل ونحوه. والمعنى هنا: كيف يصرفون عن حقيقة التوحيد والتنزيه للخالق عز وجل، وهو الذي تجزم به العقول والذي بلغه عن الله تعالى كل رسول، فهو جمع بين المعقول والمنقول، ويقولون هذا القول الذي لا يقبله عقل، ولم يصح به عن أنبياء الله ورسله نقل؟ فأين عزير والمسيح من رب العالمين، الخالق لهذا الكون العظيم، الذي وصل من عجائب سعته إلى عالم البشر القليل أن بعض شموسه لا يصل نورها إلى الأرض إلا بعد قطع الملايين من السنين النورية - فهل يليق بعاقل من هذه الدواب التي تعيش على هذه الذرة الصغيرة منه (وهي الأرض) أن يجعل لخالقه كله ومدبر أمره، ولدا وعائلة من جنسه، وأن يرتقي به الغرور إلى أن يجعل واحدا منهم هو الخالق له والمدبر لأمره، مع العلم بأنه ولد من امرأة وكان يأكل ويشرب ويتعب ويتألم إلخ..!؟ { { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } [الزمر: 67] { { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين } [الأنبياء: 26 - 29].
وفي الآية من القراءات تنوين (عزير) بناء على أنه عربي بما تصرفت به العرب فجعلته بصيغة اسم التصغير، وأن (ابن الله) خبر عنه لا وصف له، وهو المروي عن عاصم والكسائي ويعقوب، وقرأه الباقون بغير تنوين بناء على أنه اسم أعجمي فاجتمع فيه علتا العلمية والعجمة. وفيه وجه آخر في الإعراب. وقرأ عاصم ومن أخذ عنه (يضاهئون) بالهمز والباقون (يضاهون) من الناقص وهما لغتان.
فصل استطرادي
في هيمنة القرآن على التوراة والإنجيل وشهادته لهما وعليهما
إن قيل: إن ما ذكرت يبطل الثقة بالكتب التي بها سمى الله اليهود والنصارى أهل الكتاب حتى التوراة والإنجيل، وقد شهد القرآن المجيد لليهود بأن عندهم التوراة فيها حكم الله، وأمرهم بأن يحكموا بما أنزل الله فيها على سبيل الاحتجاج عليهم، كما أمر أهل الإنجيل بمثل ذلك، وقال في نبيه صلى الله عليه وسلم ووصف الناجين منهم بقوله: { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل } [الإنجيل: 157] وهم يحتجون على المسلمين بهذه الآيات، ومن دعاة النصارى (المبشرين) من ألف كتابا في ذلك سماه (شهادة القرآن لكتب أنبياء الرحمن) فبطلان الثقة بما عندهم من التوراة والإنجيل يستلزم بطلان الثقة بالقرآن، ويكون حجة لملاحدة التعطيل على بطلان جميع الأديان، فما جوابك عن هذا؟.
قلت: قد سبق الجواب عن هذه الشبهة في هذا التفسير وفي (المنار) ونعيده الآن بأسلوب آخر لزيادة البيان، فأما أهل الكتاب فحجتهم علينا بما قالوا إلزامية لا حقيقية ; لأنهم لا يؤمنون بالقرآن فلا تنفعهم فيما ذكر من الطعن في ثبوت كتبهم، وهم يكتفون من إغواء المسلمين بتشكيكهم في دينهم، ظنا منهم أنهم إذا كفروا بدينهم يسهل إدخالهم في النصرانية ولو نفاقا كالكثير من أهلها ; لأنها أدنى إلى استباحة جميع شهوات الدنيا:
{ { ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء } [النساء: 89] ولكن هذا الإلزام لا يتم لهم علينا إلا إذا أخذت شهادة القرآن على هذه الكتب مع شهادته لها، وقبول حكمه فيها ; لأنه نص على أنه مهيمن رقيب له السيطرة عليها، إذ قال بعد ذكر التوراة والإنجيل من سورة المائدة: { { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق } [المائدة: 48] ومما حكم به على اليهود والنصارى جميعا أنهم نسوا حظا عظيما مما ذكروا به فيما أنزل الله عليهم، وأنهم أوتوا نصيبا من الكتاب لا الكتاب المنزل كله، وأنهم مع هذا حرفوه وبدلوه، وقد بينا هذا كله في مواضعه من تفسير الآيات الناطقة به، وفي الرد على المبشرين ومواضع أخرى من المنار.
وأما الملاحدة الذين استدلوا بنصوص التواريخ مع دلائل العقل على فقد تلك الكتب، وعدم الثقة بشيء من الموجود منها، فجوابنا لهم أن حكم الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قريب من حكمهم عليها من ناحية فقد الثقة بها، ولكن في جملتها لا في كل جملة منها. فحكمه أدق وأصح في نظر العقل، مع صرف النظر عن كونه لا يعقل أن يكون إلا بوحي الله عز وجل. ذلك بأن قوله في اليهود:
{ { يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به } [المائدة: 13] مع قوله: أوتوا نصيبا من الكتاب هو المعقول، فإن العقل لا يتصور أن تنسى أمة كبيرة جميع شريعتها بفقد نسخة الكتاب المدونة فيه، وقد عملت به في عدة قرون.
وكذا قوله إنهم حرفوا الكلم عن مواضعه، وذلك ثابت بالشواهد الكثيرة من زيادة ونقصان وتغيير وتبديل كما بينه الشيخرحمه الله في كتابه (إظهار الحق) وغيره. واليهود يعترفون بأن عزيرا (عزرا) كتب ما كتب من الشريعة بعد فقدها باللغة الكلدانية لا بلغة موسى عليه السلام، وكان يضع خطوطا على ما يشك فيه، فالمعقول أنه كتب ما ذكره وتذكره هو ومن معه دون ما نسوه، وكان منه الصحيح قطعا، ومنه المشكوك فيه، ومنه الغلط، ومن ثم وجد التحريف، ولا محل هنا للإتيان بالشواهد على هذا.
وبناء على هذا قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
"لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم و قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا" الآية. رواه البخاري في صحيحه، وسببه أن عمر ـ رضي الله عنه ـ كان قد نسخ شيئا من التوراة بالعربية، وجاء به إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأنكره ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما رواه أحمد والبزار من حديث جابر وقال: لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، وأنكم إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل، والله لو كان موسى بين أظهركم ما حل له إلا اتباعي فعلم من ذلك أن فيما عندهم ما هو حق وهو ما أوتوه، وما هو باطل وهو ما حرفوه، ودع ما فقد وهو ما نسوه.
ومن ثم كان التحقيق عندنا معشر المسلمين أن نؤمن بالتوراة والإنجيل بالإجمال، وبأن ما ورد النص عندنا به بأنه من حكم الله تعالى كحكم رجم الزاني الذي ورد فيه
{ { وعندهم التوراة فيها حكم الله } [المائدة: 43] نجزم بأنه مما أوحاه الله إلى موسى عليه السلام، وما دل النص على كذبهم فيه ككون هارون عليه السلام هو الذي صنع لهم العجل الذهبي الذي عبدوه، وكون سليمان قد ارتد وعبد الأوثان، وكون لوط زنا بابنته - فإننا نجزم بكذبه، وأما ما احتمل الصدق والكذب فإننا لا نصدقهم ولا نكذبهم فيه. واليهود والنصارى في هذا سواء عندنا، وتقدم بيان حالهم في نسيان حظ عظيم من إنجيل عيسى عليه السلام ويمكننا أن نستدل بهذا التحقيق، وبتحقيق مسألة كلمة الله وروح الله (روح القدس) التي ضل فيها قدماء الوثنيين وتبعهم النصارى، الذي جاءنا على لسان النبي الأمي الذي لم يقرأ شيئا من كتب أهل الكتاب، ولا من التواريخ العامة ولا الخاصة على أنه وحي من الله تعالى عالم الغيب والشهادة، فإنه هو التحقيق المعقول الذي ينطبق على نقول التواريخ وحكم العقل، ولم يسبق إلى بيانه أحد من أهل الكتاب، ولا من غيرهم.
كما أنه لا يسع عاقلا منصفا رده. ولا يعقل أن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ عرفه برأيه ; لأن الرأي في مثل هذا يبنى على معلومات كثيرة لم يكن له، ولا لقومه علم بشيء منها، وقد قال الله تعالى له بعد ذكر قصة نوح من سورة هود المكية:
{ { تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين } [هود: 49] ولم يعترض عليه أحد من أعدائه من قومه المشركين فيقول: بل نعلمها وهي من القصص المشهورة عن أهل الكتاب، وأين كانوا من علم أهل الكتاب؟ ولا يعقل أيضا أن يكون أخذ حكمه على التوراة والإنجيل عن أحد من اليهود أو النصارى، لا لأنه لم يكن يوجد أحد منهم في بلده فقط، بل لم يكونوا يعلمون ذلك ; لأنهم لو علموه لما قالوه ; لأنه طعن فيهم وفي دينهم - فلم يبق بعد ظهور صدقه إلا الجزم بكونه وحيا من عالم الغيب، ووجها من وجوه إعجاز القرآن السافرة النيرة.
فصل استطرادي آخر
نصرانية الإفرنج ولماذا لا يسلمون!؟
فإن قيل: إنكم معشر علماء المسلمين ما وقفتم على كل هذه الحقائق التاريخية التي تبطل الثقة بنقل كتب اليهود والنصارى، وعلى ما فيها من التعارض والتناقض والخطأ العلمي والتاريخي، وكذا التعاليم الضارة التي تدل على استحالة كونها كلها وحيا من الله تعالى، ولا على مصادر عقيدة التثليث والصلب والفداء من أديان قدماء الوثنيين - ما وقفتم على كل هذا مما لخصتم بعضه هنا وبعضه من قبل - إلا - من كتبهم الدينية والعلمية والتاريخية، ولا سيما كتب علماء أوربة من أحرار الماديين والمتدينين جميعا.
وبالاطلاع على هذه الكتب كان المتأخرون منكم كالشيخ رحمة الله الهندي، والطبيب محمد توفيق صدقي المصري رحمهما الله وغيرهما أعلم بما ذكر من فحول المتقدمين الذين ردوا على النصارى كالإمام ابن حزم وشيخ الإسلام ابن تيمية ـ رضي الله عنهما ـ فكيف نرى أكثر هؤلاء النصارى ثابتين على دينهم هذا في الشرق والغرب؟ ولا سيما الإفرنج الذين نشروا تلك الحقائق في شعوبهم بجميع لغاتهم، ولا يزال أغنياؤهم يبذلون القناطير المقنطرة من الذهب والفضة ; لنشر هذا الدين في العالم وتؤيدهم دولهم في ذلك؟.
بل كيف لا يستحيون وهذه حالهم في دينهم من دعوة المسلمين إليه ومن طعنهم في الإسلام؟ بل كيف لا يدخلون في الإسلام أفواجا، وقد اختبروا جميع الأديان والتواريخ، وآن لهم أن يعلموا أنه هو الدين القطعي الرواية، الموافق للعقل والفطرة. الحلال لجميع مشاكل الاجتماع المفسدة للحضارة، الذي بين لهم حقيقة دينهم، وما عرض عليه من البدع فأيدته فيه أبحاث المحققين من علمائهم الأحرار؟.
قلنا: إن حل هذه المشكلات والأجوبة عن هذه الشبهات لا يمكن بسطها إلا في سفر كبير، فنكتفي هنا بالإلمام بقضاياها الكلية المهمة بالإجمال، وهي مبسوطة في مواضع من المنار والتفسير بالتفصيل، فنقول:
1- أسباب بقاء النصرانية في أوربة:
إن للدين المطلق سلطانا على أرواح البشر ; لأنه غريزة فيها، فهو عبارة عن علاتهم بعالم الغيب مبدأ وغاية، وهي من عالم الغيب ; ولذلك ينكر وجودها المحجوبون بعالم الشهادة (المادي) وهو مع هذا حاجة من الحاجات الطبيعية لهذا التنوع الاجتماعي الذي خلق لحياة لا نهاية لها، فأعطى استعدادا لعلم لا حد له، يهدي إلى أعمال اجتماعية لا حد لها ولا نهاية، فلا بد لجماعته في التعاون عليها من وازع نفسي وجداني يزع كلا منهم، ويردعه عن البغي والعدوان على غيره ممن لا يتم علمه وبروز استعداده إلا بهم أينما كان وكانوا، وحيث لا وازع من قوة السلطان، والعدل بالأولى.
ولم يعرف السواد الأعظم من هذه الشعوب دينا تعليميا يتوجه إليه الدين الفطري المطلق ويتقيد به إلا هذا الدين الذي لا يزال فيه أثارة من هداية طائفة من أنبياء الله ورسله لم تقو أحداث الزمان القديمة على محوها، على كل ما أشرنا إليه من عبثها بها، فهو بها مظهر لما كان من تعرف الخالق العظيم إليهم بالآيات وخوارق العادات والإنباء بالغيبيات، وقد أتقن رؤساؤه نظام تربيتهم الوجدانية عليه، وتلقينه لهم بالأساليب المؤثرة، ودفع الشبهات عما يرد عليه من الاعتراضات الكثيرة، وارتبطت سياستهم ومصالحهم العامة والخاصة به، وصار وسيلة من أقوى وسائل الاستعمار والاستيلاء على الشعوب لدولهم، فاتفقت مع الجمعيات الدينية على نشره في جميع الأمم بدعاية التبشير، فاجتمع لهم من وسائل هذه الدعاية القوة والمال الكثير، والعلم والنظام الدقيق - فبمجموع هذه القوى والأسباب بقي هذا الدين حيا في هذه الشعوب على تفاوت عظيم بين أهلها في فهمه.
2- غلو الإفرنج في الإلحاد وشعورهم أخيرا بالحاجة إلى الدين:
إن المطلعين على تلك الحقائق التي تبطل الثقة برواية كتبهم، وكثير من معانيها المخالفة للعلم والتاريخ، وبعقائدهم أيضا قليلون بالنسبة إلى غير المطلعين عليها، وقد فشا فيهم الكفر والتعطيل، أو الكفر بدين الكنيسة خاصة من التثليث وألوهية المسيح. والفداء والاستحالة في العشاء الرباني - أي استحالة الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه - وقد كانوا غلوا في الإلحاد عقب تمكن الحرية فيهم، والتوسع في العلوم، بقدر ما كان من غلو سيطرة الكنيسة على الأفكار والأعمال.
وألفوا كثيرا من الكتب والرسائل في الطعن في هذا الدين، حتى كان يخيل إلى زوار أوربة من أهل الشرق أن أوربة أصبحت مادية، لا تدين بدين، وإنما بقي فيها بعض رسوم النصرانية يدين بها العامة المقلدون، والمتمتعون بأوقاف الكنائس وسلطانها الروحاني، ولكن الفوضى الدينية بلغت غاية مدها في إثر حرب المدينة العامة، فشعر العقلاء بشدة الحاجة إلى الدين المطلق بسنة " رد الفعل " وألفوا عدة جمعيات لإرجاع هدايته على قواعد مختلفة، بعضها قريب من العقل وبعضها بعيد عنه، بناء على أن الدين يجب أن يؤخذ كله بالتسليم بغير بحث ولا عقل، حتى قيل: إنه قد كثر في البروتستانت من الإنكليز من يميلون إلى الرجوع إلى الكاثوليكية، لأن لرسومها وتقاليدها، وصورها وتماثيلها، ونغمات نشيدها من السلطان والتأثير في القلب ما ليس للكنيسة الإصلاحية اللوثرية.
ومن أعظم أثر هذا الانقلاب تودد جمهورية فرنسة الإلحادية إلى البابا، وإعادتها لما سلبت من أوقاف الكنائس. واتفاق الدولة الإيطالية مع البابا على إرجاع سلطانه السياسي، والاعتراف بمملكته الدينية، ورد أملاكها إليها، ثم إجابة طلبه إلى إعادة التعليم الديني الكاثوليكي إلى جميع المدارس الإيطالية؛ لما ثبت عند رجل هذه الدولة ورئيس حكومتها في هذا، أن حفظ أخلاق الأمة من الفساد وجامعتها من الانحلال لا يتم إلا بالدين - أي دين يحرم الفواحش والمنكرات، ويجمع الكلمة - وأن دين الأمة الموروث أولى بذلك من غيره، إن فرض أن غيره ممكن قريب المنال. ومثل هذه الأفكار لا يعقلها ملاحدة هذه البلاد وأمثالهم ; لأنهم لا يفكرون فيما ينفع الأمة ويضرها، ولا في تأثير الدين في أخلاقها ووحدتها، فمنهم من ينشر إلحاده تلذذا بتقليد ملاحدة أوربة، وتشرفا بالتشبه بهم، لصغاره وخسة نفسه، ومنهم من ينشره خدمة للمستعمرين، ومساعدة للمبشرين، بأجر حقير، وإثم كبير.
3- محافظة الكنيسة على عقائدها وتأويلات المخالفين لها:
إننا نعتقد بما تيسر لنا من البحث والاختبار الطويل أن علماء الشعوب الأوربية ومستقلي الفكر فيهم، لا يؤمنون بعقائد الكنيسة التي أشرنا إليها في هذا السؤال، وفي المسألة الثانية من قضايا الجواب عنه، ولا بأن جميع ما في كتب العهدين القديم والجديد ولا أكثره حق موحى به من الله عز وجل، بل نعلم أن كثيرا منهم قد اهتدى بعقله واستقلال فكره إلى ما يقرب من إصلاح الإسلام للنصرانية التقليدية، وهو أن المسيح بشر مخلوق، ونبي رسول لا إله خالق، بل حدثني رجل كان من كبار رجال الدين الكاثوليكي فجهر بما يعتقده مما يخالف تعاليمهم فحرمه الرئيس الأكبر منها - حدثني بأن رؤساء الكنيسة أنفسهم الذين أدركوا حقائق العلوم لا يعتقدون ألوهية المسيح، ولا التثليث، ولا الاستحالة في العشاء الرباني، بل يعلمون أنها دخيلة في دين المسيح، ولكنهم يرون أنهم إذا صرحوا بهذا تبطل ثقة النصارى بالدين من أصله، فيتعذر على رجال الكنيسة بسقوط رياستها حملهم على الأصول الصحيحة من الدين، وهي الفضائل والآداب وتقوى الله الصادة عن الشرور والرذائل.
هذا وإن لكبار الأذكياء منهم تأويلات يتفصون بها من منكرات تلك الكتب والتقاليد كتأويل عاهل الألمان الأخير (غليوم الثاني) بعد عثور علماء قومه على شريعة حمورابي في العراق، وقولهم: إن جل شريعة التوراة مأخوذة عنها، فإنه كتب كتابا لصديق له في كون هذا الأمر لا ينقض دينهم المبني على أساس التوراة أي كتب العهد القديم ; لأنه مبني على ما يسمونه الروح الذي فيها لا على نصوصها وتشريعها، وقد قال في آخر ذلك الكتاب:
"ومن البديهي عندي أن التوراة تحتوي على عدة فصول تاريخية هي من البشر لا من وحي الله، ومن ذلك الفصل الذي ورد فيه أن الله أعطى موسى على جبل سيناء شريعة بني إسرائيل، فإنني أعتقد أنه لا يمكن اعتبار تلك الشريعة موحى بها من الله إلا اعتبارا شعريا رمزيا ; لأن موسى قد نقل تلك الشرائع عن شرائع أقدم منها على الأرجح، وربما كان أصلها مأخوذا من شرائع حمورابي، ويوشك أن يجد المؤرخ اتصالا بين شرائع حمورابي صاحب إبراهيم الخليل، وبين شرائع بني إسرائيل باللفظ والفحوى، وذلك لا يمنع قطعيا من الاعتقاد بوحي الله لموسى، وظهوره لبني إسرائيل بواسطته " ثم قال: وإنني أستنتج مما تقدم ما يأتي:
1- أنني أؤمن بإله واحد.
2- أننا معشر الرجال نحتاج في معرفة هذا الإله العظيم إلى شيء يمثل إرادته، وأولادنا أشد احتياجا منا إلى ذلك.
3- أن الشيء الذي يمثل إرادة الله عندنا هو التوراة التي وصلت إلينا بالتقليد، وإذا فندت المكشوفات الأثرية بعض رواياتها، وذهبت بشيء من رونق الشعب المختار - شعب إسرائيل - فلا ضير في ذلك ; لأن روح التوراة يبقى سليما، مهما يطرأ على ظاهرها من الاعتلال والاختلال، وهذا الروح هو الله وأعماله.
إن الدين لم يكن من مستحدثات العلم، فيختلف باختلاف العلم والتاريخ، وإنما هو فيضان من قلب الإنسان ووجدانه بما له من الصلة بالله " اهـ.
وأما مسألة المسيح، فإنه فسرها قبل ذلك في كتابه المذكور بأن الله تعالى يظهر دائما في الجنس البشري الذي هو خليفته وصنيعته بما نفخ فيه من روحه (قال): أعني أنه منحه شيئا من ذاته إذ أعطاه نفسا حية، وإن ظهوره هذا قد يكون في كاهن، وقد يكون في ملك، سواء كان من الوثنيين أو اليهود أو النصارى، وقد كان حمورابي من هؤلاء الرجال كما كان موسى وإبراهيم وهو ميروس وشارلمان ولوثر وشكسبير وجوت وقنت (أوكونت) والإمبراطور غليوم الكبير (يعني جده).... ثم ذكر أن ظهور الله في الأشخاص يكون على حسب استعداد أممهم ودرجاتها في الحضارة، وأنه لا يزال يظهر إلى عصرنا هذا (يعني في شخصه).
فبمثل هذه التأويلات والآراء يدين أهل العقل والعلم في أوربة لا بدين الكنيسة كما يزعم دعاة النصرانية (المبشرون) الكذابون الخداعون ليغشوا عوام المسلمين بعظمة الإفرنج الدنيوية، وبتسميتهم حضارة أوربة مسيحية.
وقد كان للفيلسوف تولستوي الروسي الشهير تأويل للإنجيل قريب مما قلناه في بيان حقيقته بهداية الإسلام، وخلاصته أن إنجيل المسيح الصحيح هو عبارة عن حكمه ومواعظه التي كانت جواهر ألقيت في مزابل من الخرافات والأوهام، وإنه هو قد عني باستخراجها وتنظيفها مما علق بها، وشبهها بتمثال مكسر ملقى فيها، فعثر هو عليه قطعة بعد أخرى حتى إذا تم وكمل، علم أن عمله حق صحيح، وألف في ذلك كتابا كبيرا سماه الأناجيل، وسمى ما استخلصه منها الإنجيل الصحيح، وقد سبق لنا تلخيص مقدمته التي بين فيها ما حققه في الموضوع (ص131 و226 و259 م 6 منار).
ومما قاله فيها: " إن القارئ لا ينبغي له أن ينسى أن من الخطأ الفاحش والكذب الصراح أن يقال: إن الأناجيل الأربعة هي كتب مقدسة في جميع آياتها " وأيد ذلك بما هو مسلم عندهم من " أن المسيح لم يؤلف كتابا قط كما فعل أفلاطون وغيره من الفلاسفة، وأنه لم يلق تعاليمه مثل سقراط على رجال من أهل العلم والأدب، وإنما عرضها على قوم من الجهال قد خشنت طباعهم كان يصادفهم في طريقه " أي فلم يحفظوها ولم يكتبوها، وفي هذه الأناجيل نصوص صريحة بأنهم لم يكونوا يفهمون كل كلام المسيح ولا سيما أمثاله التي كان يضربها لهم.
ثم ذكر تولستوي أنه جاء بعده بزهاء مائة عام رجال أدركوا مكانة كلماته فخطر في بالهم أن يدونوها بالكتابة، فكانت مدوناتهم كثيرة، ومنها ما كان محشوا بالخطأ والغلط، وأن الكنيسة اختارت بعد ذلك من ألوف المصنفات ما رأته أقرب إلى الكمال " وأن الغلط في الأناجيل القانونية هو بقدر الغلط في الأناجيل المهملة لاعتبارها محلا للشك والارتياب، وأن هذه الأناجيل المتروكة تشتمل أشياء جميلة، قد تعادل ما تضمنته الأناجيل الرسمية " إلخ ومما حققه في هذه المقدمة أن دين المسيح الصحيح أجنبي عن العقيدة العبرانية، وعقيدة الكنائس النصرانية وأن بولس لم يفهم دين المسيح ألبتة.
فهذه نصرانية هذا الفيلسوف الكبير، وتلك عقيدة ذلك العاهل الكبير، وما أتعب الأول في التفكير، والآخر في التأويل، إلا سلطان الدين الفطري على النفس، ومشاقة الدين الكنيسي للعقل والعلم، ولو أنهما اطلعا على حكم القرآن في أمر التوراة والإنجيل والمسيح وكونه من روح الله وآية من آياته، وأن معنى كونه كلمة الله، أنه وجد بكلمة التكوين " كن " - لكان هذا وحده برهانا كافيا لاهتدائهما بالإسلام، واتباعهما لمحمد عليه الصلاة والسلام، فكيف لو اطلعا على غير ذلك من الحقائق والحكم والأحكام، على أن القليل الذي بلغهما منه قد أنطقهما بما يدلان على إكباره، فللفيلسوف رسالة جليلة في (حكم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ. وللإمبراطور كلمة قالها لموسى الكاظم شيخ الإسلام في الآستانة إذ زارها في أيام الحرب الكبرى تغني عن مؤلف كبير وهي: فسروا القرآن التفسير الذي تظهر فيه علويته... فهو قد علم أنه علوي لا أرضي، بل هو الحق الذي يعلو ولا يعلى، والذي يحطم ما دونه.
4- إحصاءات نسبية في عقائد الإنكليز النصرانية:
لا تقل إن هذه آراء لبعض كبراء العقول ومفرطي الذكاء، وإنه لم يقل مثلهم في الإفرنج فقد نقلت إلينا الصحف أن جريدتين من أشهر الجرائد الإنكليزية نشرتا أسئلة في العقائد على ألوف من الناس، وذكرت خلاصة أجوبتهم بالنسبة المئوية، علم منها أن الملايين من المتعلمين منهم لا يدينون بدينهم البروتستنتي الذي هو على علاته أسلس من الدين الكاثوليكي، والدين الأرثوذكسي لقيادة العقل وإذعان النفس.
ومنها " هل تعتقد بإله مجسد؟ فأجاب إحداهما 40 في المائة و55 في المائة لا، و4 لم يجيبوا وأجاب الأخرى 71 نعم، و26 لا واثنان لم يجيبا ".
ومنها: " هل تعتقد أن المسيح ذو ألوهية بمعنى أنه يمكن أن يقال: إن جميع الناس هم أولو ألوهية مثله؟ أجاب الأولى 35 في المائة نعم، و61 لا، و2 لم يجيبا، وأجاب الأخرى 68 نعم، و29 لا، واثنان لم يجيبا.
ومنها: " هل تعتقد بمذهب الرسل أي تلاميذ المسيح؟ أجاب الأولى 21 نعم، و71 لا، و7 لم يجيبوا - وأجاب الأخرى 53 نعم، و36 لا، و10 لم يجيبوا ".
ومنها: " هل تعتقد بالمذهب الذي ترسمه الكنيسة؟ أجاب الأولى 24 نعم، و68 لا، و7 لم يجيبوا - وأجاب الثانية 52 نعم، و37 لا، و10 لم يجيبوا.
ومنها: هل تعتقد أن التوراة موحى بها؟ أجاب الأولى 29 نعم، 68 لا، و3 لم يجيبوا - وأجاب الثانية 63 نعم، و33 لا و3 لم يجيبوا ".
ومنها: " هل تعتقد باستحالة العشاء الرباني إلى لحم ودم كأنه من جسد المسيح؟ أجاب الأولى 4 نعم، و93 لا، و2 لم يجيبا - وأجاب الأخرى 10 نعم، و86 لا، و3 لم يجيبوا ".
وسبب التفاوت بين أجوبة الجريدتين أن أكثر قراء الأولى الذين لا يدينون بتلك العقائد من الخواص المستقلين، وأكثر مسئولي الأخرى الذي يدينون بها من العوام المقلدين.
5- عقائد علماء الإفرنج في هذا العهد:
ملخص القول في الدين عند الإفرنج كما يتراءى لنا: أن العوام لا يزالون يخضعون لدين الكنائس، ونظم رجالها في الجملة، ولعلهم يبلغون النصف في مجموع شعوبها. وإن الملاحدة المعطلين فيهم على كثرتهم هم الأقلون في النصف الآخر، وسائر النصف يؤمنون بأن للعالم خالقا، وأنه واحد عليم، يعرف بأثره في نظام العالم الكبير، وأما ذاته فهي غيب مطلق لا تتصور كنهها العقول. ضرب له الفيلسوف الألماني (أينشتين) الشهير مثلا غلاما مميزا دخل دارا من دور الكتب الكبرى، فرأى في خزاناتها ألوفا من الكتب منضودة مرتبة من أدنى الحجرات إلى سقوفها - فهو يدرك أن في هذه الكتب علوما كثيرة مكتوبة بلغات متعددة، وأن الذين وضعوها في مواضعها أولو فهم، ونظام هندسي دقيق، وأما ما دون فيها من العلوم والفنون فلا يصل عقله إلى أقل القليل منها.
وأما الإيمان ببقاء النفس بعد الموت، وجزائها بعملها بقدر تأثير الحسن أو القبيح فيها فقد كان قليلا في هؤلاء الناس، ولكنه كثر في هذا القرن بانتشار مذهب الروحيين الذين أدرك كثير منهم بعض الأرواح تتجلى لبعض المستعدين لإدراكها (وهم قليلون) وتخاطبهم وتملي عليهم كلاما لم يكونوا يعلمونه، وتحرك أيديهم بكتابة أشياء ربما كانت بلغة غير لغتهم، ويكثر عدد المصدقين بهذه التجليات الروحية سنة بعد سنة، ولهم جرائد ومجلات ومدارس خاصة بهم، ومنهم العلماء بكل علم من علوم العصر العالية من طبيعية وطبية ورياضية، الذين لم يؤيدوا هذا المذهب إلا بعد تجارب دقيقة أمنوا أن يكون ما رأوه وسمعوه من جانب الأرواح خداعا.
ورؤية أرواح الموتى وغيرها من الأرواح العلوية والسفلية مما نقل عن جميع الأمم ولا سيما الصوفية، ومجموع المنقول منها يدل دلالة عقلية على أن لها حقيقة ثابتة، ولكن الصحيح منها قد اختلط بالتخيلات والأوهام وبالشعوذة وصناعة السحر، فقلت ثقة العقلاء المستقلين بأخبارها ; لتعسر التمييز بينها، وإنما تجدد في هذا العصر جعل استحضار الأرواح ومخاطبتها صناعة تعليمية تثبتها التجارب لكل من يطلب معرفتها، ولكن بوساطة المستعدين لرؤيتها، وقد كثر في منتحليها الدجالون الذين اتخذوها ذريعة للكسب، فكان ما عرف من خداعهم أقوى صارف للعقلاء المستقلين عن تصديق غيرهم، ومن الناس من يعتقد أن هذه الأرواح التي يستحضرونها من شياطين الجن لا من أرواح البشر. وهو حجة على الماديين بوجود عالم حي عاقل غير عالم المادة وسننها - نواميسها - أيضا.
ورجال الدين يكذبونهم غالبا ; لأن ما ينقلونه عن هذه الأرواح يخالف بعض تعاليم الدين، وإن كان من جهة أخرى يؤيد ركنا من أركان العقيدة، وهو بقاء النفس والحياة الأخروية بعد الحياة الدنيا. وقد بالغ بعض الباحثين من المسلمين بمصر في إثبات هذه المسألة حتى زعم زاعم منهم أنه لا يمكن ثبوت الدين إلا بثبوتها، قلت له مرة: إن صح قولك فالدين لم يثبت في الزمن الماضي!!.
ومن الناس من يطعن في هذه الروايات عن الأرواح بالاختلاف والتعارض بين ما ينقلونه عنها، وإنما يتجه هذا الطعن بأمرين: (أحدهما) أن تكون جميع أرواح الموتى تعلم الحقائق كما هي عليه وتكون معصومة من الكذب والخطأ فيما تخبر به الوسطاء الذين تتجلى لهم. (ثانيهما) أن يكون هؤلاء الوسطاء يدركون كل ما تلقيه إليهم الأرواح كما هو لا يفوتهم منه شيء، ثم يؤدونه كما سمعوه لا يخطئون في شيء منه، ولا يقوم دليل على إثبات هذا ولا ذاك، بلى قرأنا مما نقلوه عن الأرواح أنها على درجات متفاوتة في عالمها، وأن الدنيا منها لا تدرك ما تدركه العليا، وأنها لا تعلم كل شيء مما تسأل عنه، وأنها لا تستطيع أن تبلغ كل ما نعلم منه، وأن منها ما لا يؤذن لها بتبليغه، وجملة القول: أن هذه المسألة تفتقر إلى تمحيص وتحقيق ليس هذا الاستطراد في التفكير بمحل له.
وأما الوحي، فمن المؤمنين بالله من هؤلاء الإفرنج وأمثالهم من يؤمن ومنهم من لا يؤمن بصحته، ومنهم الذين لا يؤمنون بأن للبشر أرواحا مستقلة من غير عالم المادة، ومنهم من يعتقد أن الوحي حالة من حالات النفس تستحوذ عليها فتفيض عليها بعض المعارف، وتنطقها بما تكون متوجهة إليه في هذه الحالة من الحقائق، ولكن صاحب هذه النفس لا يكون معصوما من الخطأ فيما ينبع في نفسه من الأخبار كلها، ولا من التعاليم العملية ونفعها. وقد بينا حقيقة الوحي في الإسلام المزيل لشبهاتهم عليه من قبل، وسنعود إليه في أول تفسير سورة يونس بما هو أوضح إن شاء الله تعالى.
6- آراء الإفرنج وأمثالهم في الدين والتدين:
للمتدينين من الإفرنج ومن على شاكلتهم في العلم والفلسفة والسياسة كاليابانيين والهندوس وغيرهم آراء في الدين، تصرف أكثرهم عن النظر والتأمل فيه بمثل النظر في المسائل العلمية الذي يراد به استبانة الصحيح الراجح أو الأرجح لأجل اعتماده والأخذ به، فأكثرهم يرى أن الدين تعاليم أدبية تهذيبية من ناحية، ورابطة اجتماعية سياسية من ناحية أخرى، وأن فائدته من الناحيتين تكون بقدر حسن تلقينه وتعليمه والبراعة في تربية النشء عليه - لا بقدر صحة عقائده ومصادره في نظر العقل - وجودة آدابه وأحكامه في نفسها أو بالإضافة إلى غيرها فهم لا يبحثون عن أقوى الأديان حججا، وأقومها منهجا ليعتصموا بحبله، ويدعوا قومهم للاهتداء به.
ومنهم من يرى أن محاولة تحويل الشعب عن دين وراثي تلقاه بالإذعان والقبول إلى دين آخر أصح برهانا منه لا يخلو من مضار، منها الخلاف والشقاق في الشعب وضعف ارتباطه بأمته ودولته، فهم يجتهدون في صيانة عقائد شعبهم، ودفع الاعتراضات التي ترد عليها لأجل ذلك.
وأما الأحرار المستقلون الذين لا ينظرون إلى هذه الاعتبارات السياسية والاجتماعية فيرون أن مسألة العقائد مسألة وجدانية شخصية لا يثبتها العلم العصري المبني على الحس والتجربة، فالصواب لمن قام الدليل عنده على حقية شيء منها أن يدين الله تعالى به في نفسه، ولا يعرض لغيره بدعوة إليه، ولا تخطئة له فيما يدين به ; لأن ذلك ينافي الحرية المشتركة، ولكن هذه الحرية لا تكاد تخلص من دخائل التقاليد الدينية، وتسلم من الشوائب الاجتماعية والسياسية إلا للأفراد من كل شعب.
وشرح هذا بالتفصيل يخرج بنا عن الغرض من هذا الاستطراد الذي يجب أن نقتصر منه على ما يختص بالعبرة من سياق موضوعنا في التفسير، وهو أن علاقة الدين بالسياسة والاجتماع وقوة الشعب الأدبية ومحافظته على مقوماته ومشخصاته الملية تحول دون البحث عن حقيقة أقوم الأديان وأحقها بالتقديم والإيثار للاهتداء به. ويستعان على هذه الحيلولة بنظام التربية والتعليم الذي بلغ الغاية من النظام، ولكن أطوار الاجتماع ستضطرهم إلى هذا البحث واختيار الأصلح بذاته.
ولا بد لنا مع هذا التذكير بما بيناه قبل، من أن الدين لا يكون دينا تتحقق به هداية من يؤمن به إلا إذا كان مصدره أعلى من جميع مصادر العلم الكسبي، لتذعن له النفس، وتخضع الإرادة، وقد وضع بعض حكماء أوربة قواعد لدين علمي عقلي استحسنوها ولم يذعنوا لها ; لأن الإنسان لا يذعن إلا لما يعتقد أنه أعلى منه وله السلطان والقهر عليه، وكل ما يدركه بكسبه فهو يراه دونه ومقهورا لإرادته ; لذلك لا يخضع البشر لكل ما يعتقدون أنه صواب وحق في نفسه، إلا إذا وافق أهواءهم كما هو معلوم بالقطع من سيرة أفرادهم وجماعاتهم على اختلاف أنواعها، والاختلاف من طبعها، فالدين الذي لا بد منه لإصلاح البشر لا يكون إلا بوحي من عالم الغيب، ولا يثبت هذا في عصرنا هذا إلا بالإسلام.
7- مبلغ علم الإفرنج بالإسلام وحكمهم عليه:
بزغت شمس الإسلام في عصر كانت فيه جميع شعوب الأرض متسكعة في دياجير الجهل والظلم والإسراف في الشهوات الحيوانية، وكان آخر عهد لأوربة بالعلم والأدب والحضارة عهد الروم (الرومان) الذين فتحوا أعظم ممالك الشرق المصاقبة لأوربة، وكانوا قوما وثنيين، ثم سطع عليهم بريق من نور الإنجيل، وانتشرت فيهم النصرانية ديانة الزهد والإيثار والسلام، ولكن كان إفسادهم لها أقوى من إصلاحها لهم، فأحالوا توحيدها وثنية. وحولوا سلمها حربا، وبدلوا زهدها إسرافا وطمعا، وطهارتها فحشا ودنسا، فلما جاء النبي الذي كانوا ينتظرونه وهو المصلح الأعظم، الذي بشر به المسيح وسماه الفارقليط روح الحق، ووعدهم بأنه سيعلمهم كل شيء، لم يلبث الحفاة العراة البائسون من أتباعه أن دكوا لهم ما بنوه من المعاقل والحصون في الشرق، وثلوا لهم عروش ما استعمروا من الممالك وطردوهم من سورية ومصر وأفريقية، فأرزوا وانكمشوا إلى أوطانهم الأصلية في أوربة فصار العرب المسلمون من أتباع محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يغزونهم وغيرهم في أوربة نفسها وتلاهم الترك المسلمون في ذلك، فصبروا إلى أن أمكنهم جمع كلمة دول أوربة على قتال المسلمين في هذه الممالك الشرقية بالدعاية إلى إنقاذ بيت المقدس مهد النصرانية منهم، فكانت الحروب الصليبية المشهورة في التاريخ بفظائعها وفجورها ومفاسدها وفواحشها ومطامعها، التي اقترفت باسم المسيحية الطاهرة البريئة منه ومن أهلها.
كان من تمهيد رجال الكنيسة دعاة هذه الحرب وموقدي نارها أن ألفوا كتبا ورسائل كثيرة، وزوروا خطبا بليغة، ونظموا أناشيد وأغاني مهيجة كلها في الطعن على الإسلام، وتشويه سيرة المسلمين، لم يعرف في تاريخ البشر لها نظير في الكذب والبهتان، وقلب الحقائق، وتشويه المحاسن، ومحاولة جعل النور ظلاما، والحق باطلا، والفضيلة رذيلة، حتى إن المسلمين الذين اطلعوا على شيء من تلك المكتوبات بعد تلك الحروب بقرن، أدهشهم العجب من تلك الأباطيل المخترعة التي لم تخطر لأحد منهم على بال، ولم تلح لها صورة في خيال، لمباينتها للقرآن المنزل والسنة المطهرة والسيرة النبوية، والفتوحات العربية، رحمة وعدلا، وكرما وفضلا، وشرفا ونبلا، وكذا ما دونها من الحروب الإسلامية.
ومن غرائب ذلك البهتان المشوه أنهم جعلوا بين دين التوحيد المطلق المجرد من جميع أوهام الوثنية دين وثنية وعبادة أصنام - وأنهم اختلقوا له " ثالوثا " وأصناما وزعموا أن " محمدا نفسه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ادعى الألوهية، واخترعوا له من المطاعن الفظيعة ما تعجز غير تلك العقول المظلمة القذرة عن تخيله، ويتنزه كل ذي وجدان بشري سليم عن افترائه، ويستحي غير الشيطان الرجيم من النطق به أو كتابته، ومن ليس له إلمام من المسلمين أو غيرهم بشيء من ذلك فلينظر في (كتاب الإسلام. خواطر وسوانح) للمستشرق الفرنسي (الكونت هنري دي كاستري) وترجمته العربية لأحمد فتحي باشا زغلول، وحسبه الفصل الأول منه في هذا الموضوع فقد ذكر فيه أسماء بعض تلك الكتب التي لفقوها، والأناشيد والأغاني التي نظموها فيما ذكر، لتهييج المسيحيين على الزحف من أوربة إلى الشرق ; لإبادة المسلمين والقضاء على دينهم، وكانت كل تلك المفتريات التي تقشعر منها الجلود، ويكاد يتصدع لتصورها الحجر الجلمود، تتلقى بالقبول والإذعان من جماهير الشعوب الأوربية لصدورها عن رجال الكنيسة المعصومة عندهم، ولا تزال سمومها تسري في أرواح الملايين من نابتتهم بما ينفثه فيها القسيسون المربون، وما يكتبه وينشره المبشرون، كما بينه اللورد هدلي الإنكليزي - بعد إسلامه - في كتاب مستقل ترجم بالعربية، ولا نزال نرى في كل سنة من مفترياتهم بمصر وغيرها ما نجزم بأن الذين يدونونه في الكتب يعلمون أنه كذب وبهتان، ونستدل بهذا على أنهم لا يدينون بالنصرانية نفسها ; لاستحالة إباحتها للكذب الذي هو شر الرذائل كلها.
زحفت الشعوب الأوربية على سورية وفلسطين ومصر لإبادة المسلمين، واقترفوا فيها باسم المسيح مثال الكمال والطهارة والفضيلة والزهد والرحمة من النقائص والأرجاس والرذائل والأطماع والقسوة، ما لم يتدنس بمثله شعب من شعوب الوثنية ولا القبائل الهمجية في تاريخ البشر، ثم عادوا من الشرق مخذولين. مغلوبين مقهورين، ولكنهم استفادوا من معرفة حال المسلمين من العلم والفضائل والعدل ما كان هو السبب لنهضة أوربة الأخيرة في العلوم والفنون والسياسة. يعترف بذلك فلاسفة الاجتماع والتاريخ منهم، وأما رجال السياسة ودعاة النصرانية فلا يزالون يفترون على المسلمين في دينهم ودنياهم، ولا تزال سياسة أوربة مع المسلمين حربا صليبية إلى اليوم.
أليس هذا الذي ذكرناه بالإيجاز سببا كافيا لجهل السواد الأعظم من شعوب أوربة بحقيقة الإسلام. وكتمان كثير من العارفين لما يعرفونه منه، وتشويه رجال السياسة والدعاية الدينية له، ومحاولة طمس نوره كلما لاح لهم شيء منه؟ بلى، وإنهم ليجدون من سيرة المسلمين الجغرافيين والخرافيين في هذا العصر ما يجعلونه حجة على الطعن في الإسلام نفسه، بدعوى أن سوء حالهم ما جاءتهم إلا من تعاليم دينهم، والحق أنها ما جاءتهم إلا من جهلهم له، وتركهم لهدايته، وإنهم ليجدون من الملاحدة الذين أفسدهم التفرنج، ومن المنافقين والفاسقين عن دينهم من يشايعهم أو يؤيدهم في مطاعنهم.
زد على هذا سببا ثالثا، وهو فشو البدع والخرافات في المسلمين، وإقرار بعض الحكومات لها حتى الحكومة المصرية التي جعلت من أسباب مشاقتها لحكومة الحجاز بدعة المحمل، والتي تأذن باحتفالات الموالد وأمثالها في المساجد، أضف إلى هذا سببا رابعا هو علة لما قبله وهو ضعف رجال الدين الإسلامي أنفسهم، وعجزهم عن إظهار حقيقة الإسلام لتلك الشعوب، ولنابتة المسلمين العصرية أيضا بالبيان والحجج المناسبة لحال هذا العصر، ومقاومة بعضهم للإصلاح العلمي والمدني ما استطاعوا، ونفاق بعضهم للأجانب في البلاد التي استولوا عليها، وهؤلاء شر آفات الإسلام، وأعدى أعدائه، وفتنة للذين كفروا تصدهم عنه:
{ { ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم } [الممتحنة: 5].
هذا ملخص ما يصرف الأوربيين وأمثالهم عن معرفة الإسلام والاهتداء به.
8- الرجاء الجديد في اهتداء الإفرنج بالإسلام:
{ { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق } [فصلت: 53].
كان نظام التربية والتعليم الذي يتولى أمره رجال الدين في بلاد النصرانية كلها، وحيث وجدت لهم مدارس وكنائس في غيرها - كان ولا يزال - مهيمنا على العقول والقلوب أن يتسرب إليها شيء يخالف عقيدتهم، فإن علموا شيئا منها نفذ إليها بادروا إلى نزعه وإزالة تأثيره، كما يبادر الأطباء إلى معالجة من يصاب بمرض معد أو جرح خطر.
بيد أن حرية الفكر، وحب العلم اللذين تغلغلا في أوربة بعد الحروب الصليبية قاوما هذه السيطرة الكنيسية، فوجد تعليم حر، وتفكير حر، وتصنيف حر، ولكن التربية الحرة لا تزال قليلة وضعيفة بما للتأثير السياسي والديني من القوة والسلطان.
أعقبت هذه الحريات وما اقتضاه الأخصاء في فروع العلوم والمعارف، من عناية بعض العلماء بدراسة الكتب الإسلامية، وكان مما أثمرته سياحة العلماء من قبلها في بلاد الإسلام، أن اطلع الأفراد بعد الأفراد من كل شعب من شعوب الإفرنج على كتب الإسلام الصحيحة، وترجموا كثيرا من مؤلفاتهم العلمية، وشاهدوا عبادات المسلمين، وأحاطوا علما بتاريخهم وسمح اتساع حرية العلم لمستقلي الفكر منهم أن يصرحوا قولا وكتابة بما علموا من ذلك، فشهد الكثيرون من علماء القرن الماضي والحاضر بأن عقيدة الإسلام أكمل عقائد التوحيد والتنزيه التي يتقبلها العقل السليم بالتسليم، وأن عباداته موافقة للفطرة البشرية، وأن أحكامه عادلة، وقد ألفوا في ذلك كتبا كثيرة فندوا فيها مطاعن رجال الكنيسة على الإسلام ومحمد خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام.
وقد نشرنا بعض هذه الشهادات في مواضع كثيرة من المنار، من أهمها ما جاء في المجلد الخامس مقالات الإسلام والنصرانية للأستاذ الإمامرحمه الله تعالى، وقد جمعت في كتاب مستقل. ومنها كتاب الدعوة الإسلامية للأستاذ أرنولد الإنكليزي. وقد كتب فيلسوف التاريخ والاجتماع غوستاف لوبون الفرنسي رقعة بريدية لأديب تركي بعد الحرب الكبرى قال فيها: إنه ألف كتابا كبيرا في (حضارة العرب) ; ليثبت لقومه أن العرب المسلمين أساتذة أوربة كلها في مدنيتها الحاضرة وعلومها. (قال): ولكن التربية الإكليركية (الكاثوليكية) المسيطرة على أكثر الشعب حالت دون علمه وإذعانه لذلك اهـ. ولا نزال ننشر بعض هذه الشهادات، وكان آخرها ما نشرناه في هذا العام (1348 هـ) من مقدمة ترجمة القرآن للعالم السويسري (مسيو مونتيه) الذي أظهر فيها تعجبه من إيمان نصارى أوربة بأنبياء بني إسرائيل، وعدم إيمانهم بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وذكر من خبر نبوته ما هو خلاصة لما ورد في كتب الحديث الصحيحة والسيرة النبوية.
وإنما عثرت أفكار بعضهم ببعض المسائل التي عثرت فيها أقلام علماء المسلمين من المتكلمين والفقهاء كمسألة القضاء والقدر، فلم يوفقوا لفهمها ولا لبيانها كما يجب، وأنكر كثير منهم بعض المسائل المخالفة لتقاليدهم وعاداتهم وتربيتهم كالطلاق وتعدد الزوجات، وهي في الإسلام من مسائل الضرورات، ثم قبلت جميع شعوبهم وحكوماتهم حكم الطلاق، وأفرطوا فيه بما لا يبيحه الإسلام، ولولا فشو الزنا في بلادهم لاضطروا إلى قبول تعدد الزوجات أيضا، ولا سيما أهل أوربة الذين اغتالت حرب المدنية الأخيرة زهاء عشرين مليونا من رجالهم.
وتصدى بعض المسلمين في هذا القرن للدعوة إلى الإسلام في بلاد الإنكليز، ثم في غيرها فأسلم بعض الناس بدعوتهم، على أن الدعوة إلى الإسلام لا تزال ضعيفة بضعف علم أكثر دعاتها، وابتداع في بعض الهنود منهم، وكما أسلم آخرون منهم باطلاعهم على ترجمة القرآن الحكيم بلغاتهم على كثرة ما في هذه التراجم من الخطأ والغلط، كما أن كثيرا من نصارى الشرق يسلمون في كل عام، ولكن بعض الوجهاء منهم وأصحاب العلاقات المادية والاجتماعية بعشائرهم وعشرائهم يكتمون إسلامهم، ويخفون عباداتهم الإسلامية عنهم، وقد اعترف لي واحد منهم ممن يلبسون (البرنيطة) بإسلامه بعد معاشرة طويلة كان يسألني فيها سؤال المستفيد عن بعض المسائل الدينية، ويتلقى أجوبتي بالارتياح - ولكنه اشترط علي كتمان خبره.
وكان رئيس من رؤساء الإدارة (قائمقام) في لبنان صديقا لوالدي، وكان يزورنا فيكثر من هذه الأسئلة، ثم مرض فعاده والدي بداره في مركز عمله فخلا به، فاعترف له في هذه الخلوة بإسلامه واضطراره لكتمانه عدة سنين، ثم قال: وإنني أشعر الآن بقرب الأجل فأشهدك على أنني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، وعلى هذه الشهادة أموت. ولو كان للإسلام دولة قوية عزيزة تحيي حضارته، وتقيم شريعته لرأينا الناس من جميع الشعوب يدخلون فيه أفواجا.
هذا وإن الذين يعاشرون علماء المسلمين - الذين يعرفون الإسلام الصحيح ويقدرون على بيانه - من عقلاء الإفرنج المستقلي الفكر يعجبون مما يسمعونه منهم، حتى ليشك أكثرهم في أنه هو الإسلام الذي جاء به محمد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
أذكر أنه قال لي اسكندر كاستفليس زعيم نصارى طرابلس الشام في عهده - وكان قنصلا لروسية وألمانية فيها - بمناسبة مذاكرة بيني وبينه بداره وكنت تلميذا: إن عندكم من الفضائل مثل الجبال ولكنكم دفنتموها وأخفيتموها بسيرتكم، وعندنا شيء قليل مددناه وكبرناه حتى ملأ الأرض، مثل ما ورد في الإنجيل من " حب الله والقريب ".
وذكرت في مواضع من المنار أنني عاشرت رجلا من خيار الإنكليز الذين تقلدوا بعض أعمال الحكومة بمصر، فكنت كلما ذكرت له شيئا من حقيقة الإسلام يتعجب ويقول: إنه هو يعتقد هذا، أو هذا فلسفة لا دين، وأنه قال لي مرة إن كان ما تقوله هو الإسلام حقيقة فأنا مسلم، وقال مرة أخرى مازحا: إما أن أكون أنا مسلما، وإما أن تكون أنت كافرا!! وفسر هذه بكلمة ثالثة قالها في مجلس آخر خلاصتها: إذا سألنا علماء الأزهر عما تقوله أنت والشيخ محمد عبده في الإسلام فوافقوا عليه فأنا أعلن إسلامي، ولكن أرى أنكما أوتيتما من العلم الفلسفة العالية في الدين ما لا ينكره عالم عاقل، فأنتما تسندانه إلى الإسلام، وما عليه المسلمون من الإسلام يباينه. قلت له: إنني مستعد لإثبات كل ما أقوله لك في الإسلام بآيات القرآن، وكنا نتكلم في مسألة فاستدللت عليها بآية من سورة الروم، ودللته عليها في ترجمة القرآن الإنكليزية، ولكنه لم يصدق أن كل ما أقوله له كذلك.
ونشرت في المنار شهادة لورد كرومر بنجاح الإسلام في عقائده القائمة على أساس التوحيد، ونظامه المدني وعدله، ثم نشرت شهادة لورد كتشنر لشريعة الإسلام بالعدل، وبأنها خير للمسلمين من قوانين أوربة نشرت هاتين الشهادتين في أيام حياة اللوردين فكانتا مثار العجب لبعض الناس ; لأن رجال السياسة قلما يصرحون بمثل هذه الشهادة للإسلام وهم خصوم أهله.
وفي هذه الأيام حدثني تاجر مسلم مقيم في مدينة مانشستر الإنكليزية أنه حضر وعظ قسيس من الإنكليز الموحدين في كنيسته فكان من وعظه إثبات فضائل محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ والرد على مفتريات المبشرين وأمثالهم عليه، ومنها زعمهم أنه كان شهوانيا همه في التمتع بالنساء. قال القس: إن من كان كذلك يحتقره جميع الناس، ولا يمكنه أن يؤثر تأثيرا صالحا في قلوب الألوف والملايين من الناس، فكيف أمكن لمحمد إذا أن يهدي هذه الأمة العظيمة، وتنتشر في هدايته في الشعوب الكثيرة؟ ثم إنه صلى بالناس، وقرأ في صلاته شيئا من ترجمة القرآن.
الخلاصة: أن الإسلام هو الخلاصة الصحيحة لدين الله الحق على ألسنة أنبيائه عليهم السلام، الذين لم يحفظ كتاب من كتبهم كله كما بلغوه لأقوامهم، وما في أيديهم منها ينافي مصالحهم كتشديدات التوراة في أمور المعيشة والحرب، وأثرة بني إسرائيل على البشر، وتشديد الأناجيل في الزهد وترك الدنيا. وقد نسخ الله بالإسلام جل ما جاءوا به ; لأنه كان خاصا بشعوبهم في أزمنتها، وزاد عليها ما أكملها به على لسان خاتمهم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ مبينا إياها أكمل البيان، مؤيدا بأوضح البرهان، مع أصول التشريع العام الموافق لمصالح البشر في كل زمان ومكان، وكان من براهين صحته ظهور هذه العلوم والحقائق على لسان رجل أمي لم يقرأ ولم يكتب، ولم يعاشر المتعلمين العارفين بالكتب السابقة. ومن معجزات كتابه الخالدة - وراء إعجازه للبشر بعلومه وتشريعه وإخباره عن الغيب وببلاغته وأسلوبه الذي يعلو جميع كلام البشر - أن ما وصل إليه علم البشر من العلوم والحقائق السماوية والأرضية لم ينقض شيئا منه.
فلا وسيلة لإنقاذ العالم المدني العصري مما انتهى إليه من المفاسد المادية، والفوضى الدينية والأدبية، وتعارض المذاهب الرأسمالية والشيوعية، إلا بهذا الدين الوسط كما يعترف الذين عرفوه في الجملة حتى من الماديين، وقد قوي استعداد الشعوب الأوربية للاهتداء به إذا أمكن بيانه لهم كما أنزله الله تعالى، وبينه رسوله الأعظم بسنته المتبعة التي كان عليها أهل العصر الأول سليمة من البدع والآراء المذهبية، والخرافات التصوفية، وكان حكيما الإسلام السيد جمال الدين والشيخ محمد عبده يعتقدان أن مآل الإفرنج إلى الإسلام، إسلام القرآن لا إسلام مسلمي هذا العصر، وكثير ممن قبلهم، وأنه ربما آل الأمر إلى أخذ الشعوب الإسلامية - بالوراثة دون العلم والحكمة - إلى أخذ الإسلام عنهم.
وها نحن أولاء نرى كثيرا من المسلمين يأخذون علوم الإسلام عن المستشرقين من الإفرنج، وبدءوا يقلدون دولة الولايات المتحدة في أمريكة بالدعوة إلى ترك شرب الخمر.
إن الإفرنج ولا سيما أولي التربية الحرة الاستقلالية منهم يقربون من الإسلام يوما بعد يوم، وإنما يرجى اهتداؤهم به في أقرب وقت بتأليف جمعية غنية ; لنشر دعايته في أوربة وأمريكة، وهذا ما كنا شرعنا فيه منذ بضع عشرة سنة، إذ أنشأنا جمعية الدعوة والإرشاد، ومدرسة الدعوة والإرشاد لها، وكنا قد وفقنا لتقرير وزارة الأوقاف الإسلامية بمصر للنفقة على المدرسة، ولكن الدسائس الأجنبية فازت بحمل وزارة الأوقاف على إلغاء هذه الإعانة في زمن الحرب الكبرى، ولم يوجد من أغنياء المسلمين الأغنياء السفهاء، ولا من أمرائهم المسرفين المتكبرين من يقوم بها، ونحمد الله تعالى أن لاح في مهد الإسلام نور جديد لإحياء هذا الدين هو الآن محمل الرجاء لجميع عقلاء المسلمين المصلحين
{ { ولتعلمن نبأه بعد حين } [ص: 88].
تفسير بقية الآيات في اليهود والنصارى
{ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم } هذا استئناف بين ما في قوله: { يضاهئون قول الذين كفروا من قبل } من الإجمال فإن أهل الكتاب لو أطلقوا لقب ابن الله على عزير والمسيح إطلاقا مجازيا، كما أطلق في كتبهم، ولم يضاهئوا به من قبلهم من الوثنيين لما كانوا به كفارا، وإنما كانوا كفارا بهذه الوثنية التي أشير إليها بهذه المضاهأة وبينها بهذه الآية.
الأحبار: جمع حبر - بفتح الحاء المهملة وكسرها - وهو العالم من أهل الكتاب والرهبان: جمع راهب، ومعناه في اللغة الخائف، وهو عند النصارى المتبتل المنقطع للعبادة، والرهبانية في النصرانية بدعة، كما قال تعالى في سورة الحديد:
{ { ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم } [الحديد: 27] وكانت نيتهم فيها صالحة، كما قال تعالى: { { إلا ابتغاء رضوان الله } [الحديد: 27] ذلك بأن الأصل فيها تأثير مواعظ المسيح عليه السلام في الزهد، والإعراض عن لذات الدنيا، ثم صار أكثر منتحليها من الجاهلين والكسالى فكانت عبادتهم صورية أعقبتهم رياء وعجبا وغرورا بأنفسهم، وبتعظيم العامة لهم، ولذلك قال تعالى: { { فما رعوها حق رعايتها } [الحديد: 27].
ولما صارت النصرانية ذات تقاليد منظمة في القرن الرابع وضع رؤساؤهم نظما وقوانين للرهبانية ولمعيشتهم في الأديار. وصار لها عندهم فرق كثيرة يشكوا بعض أحرارهم من مفاسدهم فيها. فكان ذلك مصدقا لقوله تعالى في سلفهم المخلصين:
{ { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } [الحديد: 27] وفي خلفهم المرائين { { وكثير منهم فاسقون } [الحديد: 27] وهذه الآية من تحرير القرآن للحقائق في المسائل الكبيرة بعبارة وجيزة هي الحق المفيد فيها. وقد نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الرهبانية في الإسلام لما سنبينه في تفسير سورة الحديد إن شاء الله تعالى أن يحيينا ويوفقنا لتفسيرها.
والمعنى: اتخذ كل من اليهود والنصارى رؤساء الدين فيهم أربابا، فاليهود اتخذوا أحبارهم وهم علماء الدين فيهم أربابا، بما أعطوهم من حق التشريع فيهم وأطاعوهم فيه، والنصارى اتخذوا رهبانهم أي عبادهم الذين يخضع العوام لهم أربابا كذلك، والأظهر أن يكون المراد من الأحبار والرهبان جملة رجال الدين في الفريقين أي: من العلماء والعباد فذكر من كل فريق ما حذف مقابله من الآخر على طريقة الاحتباك - أي: اتخذ اليهود أحبارهم وربانيهم والنصارى قسوسهم ورهبانهم أربابا غير الله وبدون إذنه، بإعطائهم حق التشريع الديني لهم، وبغير ذلك مما هو حق الرب تعالى، والرهبان عند النصارى أدنى طبقات رجال الدين، فاتخاذهم أربابا يستلزم اتخاذ من فوقهم من الأساقفة والمطارنة والبطارقة بالأولى، فالرهبان يخضعون لتشريع هؤلاء الرؤساء مدونا كان أو غير مدون، والعوام يخضعون لتشريع الرهبان ولو غير مدون سواء قالوه بالتبع لمن فوقهم أو من تلقاء أنفسهم ; لثقتهم بدينهم، وكذلك اتخذوا المسيح ابن مريم رباً وإلهاً.
أشرك تعالى بين اليهود والنصارى في اتخاذ رجال الدين أربابا شارعين، وذكر بعد ذلك ما انفرد به النصارى دون اليهود من اتخاذهم المسيح ربا وإلها يعبدونه. واليهود لم يعبدوا عزيرا، ولم يؤثر عمن قال منهم: إنه ابن الله أنهم عنوا ما يعنيه النصارى من قولهم في المسيح: إنه هو الله الخالق المدبر لأمور العباد، ومن النصارى من يعبدون أمه عبادة حقيقية ويصرحون بذلك، وجميع الكاثوليك والأرثوذكس يعبدون تلاميذه ورسله وغيرهم من القديسين في عرفهم، يتوسلون بهم، ويتخذون لهم الصور والتماثيل في كنائسهم، ولكنهم لا يسمون هذا عبادة في الغالب.
والظاهر أن من كان قد تنصر من مشركي العرب لم يكونوا يعبدون هؤلاء الرؤساء والكبراء في الملة إلا قليلا، وأما اتخاذهم أربابا بالمعنى المأثور في تفسير الآية، فقد كان عاما عند الفريقين، فإن اليهود لم يقتصروا في دينهم على أحكام التوراة بل لم يلتزموها، بل أضافوا إليها من الشرائع اللسانية عن رؤسائهم ما كان خاصا ببعض الأحوال من قبل أن يدونوه في المشنة والتلمود، ثم دونوه فكان هو الشرع العام، وعليه العمل عندهم.
وأما النصارى: فقد نسخ رؤساؤهم جميع أحكام التوراة الدينية والدنيوية على إقرار المسيح لها، واستبدلوا بها شرائع كثيرة في العقائد والعبادات والمعاملات جميعا. وزادوا على ذلك انتحالهم حتى مغفرة الذنوب لمن شاءوا وحرمان من رحمة الله وملكوته. وهذا حق الله وحده:
{ { ومن يغفر الذنوب إلا الله } [آل عمران: 135]؟ أي لا أحد. والقول بعصمة البابا رئيس الكنيسة في تفسير الكتب الإلهية، ووجوب طاعته في كل ما يأمر به من العبادات وتحريم المحرمات.
روى الترمذي وحسنه وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه وغيرهم عن عدي بن حاتم ـ رضي الله عنه ـ قال، أتيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يقرأ في سورة براءة، { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } فقال: " أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه " كذا في الدر المنثور.
قال ابن كثير: وروى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير من طرق عن عدي بن حاتم ـ رضي الله عنه ـ أنه لما بلغته دعوة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فر إلى الشام، وكان قد تنصر في الجاهلية فأسرت أخته وجماعة من قومه، ثم من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أخته وأعطاها، فرجعت إلى أخيها فرغبته في الإسلام، وفي القدوم على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقدم عدي المدينة، وكان رئيسا في قومه طيء، وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم، فتحدث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفي عنق عدي صليب من فضة وهو يقرأ هذه الآية: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم، فقال: " بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم " وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: يا عدي ما تقول؟ أيضرك أن يقال الله أكبر؟ فهل تعلم شيئا أكبر من الله؟ ما يضرك؟ أيضرك أن يقال لا إله إلا الله؟ فهل تعلم إلها غير الله؟ " ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم، وشهد شهادة الحق قال: فلقد رأيت وجهه استبشر، ثم قال " إن اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون " وهكذا قال حذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عباس وغيرهما في تفسير هذه الآية. اهـ وسنذكر في إسلامه حديثا آخر قريبا.
ولبعض المفسرين أقوال في الآية جديرة بأن تنقل بنصها لما فيها من العبرة لأهل هذا العصر، قال العلامة الشيخ سليمان بن عبد القوي الطوفي الحنبلي في تفسير هذه الآية من كتابه (الإشارات الإلهية، إلى المباحث الأصولية) أي ما يتعلق بأصول العقائد، وأصول الفقه في القرآن - ما نصه:
أما المسيح فاتخذوه ربا معبودا بالحقيقة، وأما الأحبار لليهود، والرهبان للنصارى، فإنما اتخذوهم أربابا مجازا; لأنهم أمروهم بتكذيب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإنكار رسالته فأطاعوهم، وغير ذلك مما أطاعوهم فيه فصاروا كالأرباب لهم بجامع الطاعة، والنصارى يزعمون أن المسيح قال لتلاميذه عند صعوده عنهم: ما حللتموه فهو محلول في السماء. وما ربطتموه فهو مربوط في السماء، فمن ثم إذا أذنب أحدهم ذنبا جاء بالقربان إلى البترك والراهب، وقال: يا أبونا اغفر لنا - بناء على أن خلافة المسيح مستمرة فيهم، وأنهم أهل الحل والعقد في السماء والأرض على ما نقلوه عن المسيح، وهو من ابتداعاتهم في الدين { وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا } [التوبة: 31] الآية - بدليل قول المسيح:
{ { يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار } [المائدة: 72] اهـ.
أقول: أما عبارته في الحل والربط فهي موافقة لترجمة اليسوعيين في التعبير بالفعل الماضي، وأما الترجمة الأميركانية فهي بالفعل المضارع هكذا (متى 18: 18 الحق أقول لكم كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطا في السماء، وكل ما تحلونه على الأرض يكون محلولا في السماء) وأما أمر المسيح إياهم بعبادة الله ربه وربهم، وكذلك موسى عليهما السلام فسيأتي.
وقال الإمام الرازي في تفسيره (مفاتيح الغيب): الأكثرون من المفسرين قالوا: ليس المراد من الأرباب أنهم اعتقدوا أنهم آلهة العالم، بل المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم نقل أن عدي بن حاتم كان نصرانيا فانتهى إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يقرأ سورة براءة فوصل إلى هذه الآية، قال: فقلت: لسنا نعبدهم، فقال: " أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ ويحلون ما حرم الله فتستحلونه؟ - قلت: بلى. قال: - فتلك عبادتهم " وقال الربيع: قلت لأبي العالية: كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل فقال: إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالف أقوال الأحبار والرهبان، فكانوا يأخذون بأقوالهم وما كانوا يقبلون حكم كتاب الله تعالى.
ثم قال الرازي: قال شيخنا ومولانا خاتمة المحققين والمجتهدين ـ رضي الله عنه ـ: قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله تعالى في بعض مسائل، وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات فلم يقبلوا تلك الآيات، ولم يلفتوا إليها. وبقوا ينظرون إلي كالمتعجب، يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات مع أن الرواية عن سلفنا وردت على خلافها؟ ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا الداء ساريا في عروق الأكثرين من أهل الدنيا اهـ. ثم قال: (فإن قيل) بأنه تعالى لما كفرهم بسبب أنهم أطاعوا الأحبار والرهبان فالفاسق يطيع الشيطان فوجب الحكم بكفره كما هو قول الخوارج. (والجواب) أن الفاسق وإن كان يقبل دعوة الشيطان إلا أنه لا يعظمه لكن يلعنه ويستخف به، أما أولئك الأتباع كانوا (؟) يقبلون قول الأحبار والرهبان، ويعظمونهم فظهر الفرق.
قال: والقول الثاني في تفسير هذه الربوبية أن الجهال والحشوية إذا بالغوا في تعظيم شيخهم وقدوتهم، فقد يميل طبعهم إلى القول بالحلول، والاتحاد، وذلك الشيخ إذا كان طالبا للدنيا بعيدا عن الدين، فقد يلقي إليهم أن الأمر كما يقولون ويعتقدون، وشاهدت بعض المزورين ممن كان بعيدا عن الدين كان يأمر أتباعه وأصحابه بأن يسجدوا له، وكان يقول لهم: أنتم عبيدي، فكان يلقي إليهم من حديث الحلول والاتحاد أشياء، ولو خلا ببعض الحمقى من أتباعه فربما ادعى الألوهية، فإذا كان هذا مشاهدا في هذه الأمة فكيف يبعد ثبوته في الأمم السالفة.
قال: وحاصل الكلام أن تلك الربوبية يحتمل أن يكون المراد منها أنهم أطاعوهم فيما كانوا مخالفين فيه لحكم الله - وأن يكون المراد منها أنهم قبلوا منهم أنواع الكفر فكفروا بالله - فصار ذلك جاريا مجرى أنهم اتخذوهم أربابا من دون الله - ويحتمل أنهم أثبتوا في حقهم الحلول والاتحاد، وكل هذه الوجوه الأربعة مشاهد وواقع في هذه الأمة، انتهى كلام الرازي.
يقول محمد رشيد: إننا أوردنا هذا عن هذين المفسرين من أشهر مفسري القرون الوسطى وأكبر نظارها ; ليعتبر به مسلمو هذا العصر الذين يقلدون شيوخ مذاهبهم الموروثة بغير علم في العبادات والحلال والحرام، بدون نص من كتاب الله قطعي الدلالة، أو سنة رسوله القطعية المتبعة بالعمل المتواتر، ولا من حديث صحيح ظاهر الدلالة أيضا، بل فيما يخالف النصوص وكذا أصول أئمتهم أيضا - والذين يتبعون مشايخ الطرق في بدعهم وغلوهم وضلالهم، ويوجد فيهم في هذا الزمان من هم مثل من ذكر الرازي، ومن هم شر منهم، وقد بلغني عن معاصر من الدجالين المنتحلين للتصوف في مصر، أنه قال لبعض الزائرين له ممن يظن أنه لا يقول بالخرافات: إن مريدي وأتباعي يعتقدون أنني أعلم الغيب فماذا أفعل؟ وبلغني عن رجلين لا يعرف أحدهما الآخر أن كلا منهما رأى في المسجد الحرام أحد تلاميذ هذا الدجال يقول: نويت أن أصلي ركعتين لسيدي الشيخ فلان - أو قال: لوجه الشيخ فلان.
وأما المقلدون لمنتحلي الفقه المذهبي في كل ما يقولون بآرائهم وتقاليدهم أنه حلال أو حرام، وإن خالف السنة ونص القرآن، فهذا داء عام قلما كنت تجد قبل هذه السنين الأخيرة في البلد الكبير أحدا يخالفه، فيؤثر ما صح في كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على قول مشايخ مذهبه إلا أفرادا غير مجاهرين، ونحمد الله تعالى أن رأينا تأثيرا كبيرا لدعوتنا المسلمين إلى هداية الكتاب والسنة، فصار يوجد في مصر وغيرها ألوف من الناس على هذه الهداية، ومنهم الدعاة إليها، وأولو الجمعيات التي أسست للتعاون على نشرها، على تفاوت بينهم في العلم بهما. وجهل بعضهم أصل هذه الدعوة، ومن جدد نشرها.
وقال السيد حسن صديق في تفسيره (فتح البيان في مقاصد القرآن) ما نصه:
وفي هذه الآية ما يزجر من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، عن التقليد في دين الله، وتأثير ما يقوله الأسلاف، على ما في الكتاب العزيز والسنة المطهرة. فإن طاعة المتمذهب لمن يقتدي بقوله ويستن بسنته من علماء هذه الأمة مع مخالفته لما جاءت به النصوص، وقامت به حجج الله وبراهينه، ونطقت به كتبه وأنبياؤه، هو كاتخاذ اليهود والنصارى للأحبار والرهبان أربابا من دون الله للقطع بأنهم لم يعبدوهم، بل أطاعوهم، وحرموا ما حرموا، وحللوا ما حللوا.
وهذا هو صنيع المقلدين من هذه الأمة. وهو أشبه به من شبه البيضة بالبيضة، والتمرة بالتمرة، والماء بالماء. فيا عباد الله، ويا أتباع محمد بن عبد الله، ما بالكم تركتم الكتاب والسنة جانبا، وعمدتم إلى رجال هم مثلكم في تعبد الله لهم بهما، وطلبه للعمل منهم بما دلا عليه وأفاداه؟ فعملتم بما جاءوا به من الآراء التي لم تعمد بعماد الحق، ولم تعضد بعضد الدين، ونصوص الكتاب والسنة، بل تنادي بأبلغ نداء، وتصوت بأعلى صوت بما يخالف ذلك، ويباينه، فأعرتموهما آذانا صما، وقلوبا غلفا، وأفهاما مريضة، وعقولا مهيضة، وأذهانا كليلة، وخواطر عليلة، وأنشدتم بلسان الحال:

وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد

فدعوا أرشدكم الله وإياي كتبا كتبها لكم الأموات من أسلافكم، واستبدلوا بها كتاب الله خالقهم وخالقكم، ومتعبدهم ومتعبدكم، ومعبودهم ومعبودكم، واستبدلوا بأقوال من تدعونهم بأئمتكم، وما جاءوكم به من الرأي أقوال إمامكم وإمامهم، وقدوتهم وقدوتكم وهو الإمام الأول محمد بن عبد الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.

دعوا كل قول عند قول محمد فما آمن في دينه كمخاطر

اللهم هادي الضال مرشد التائه موضح السبيل اهدنا إلى الحق، وأرشدنا إلى الصواب، وأوضح لنا منهج الهداية، اهـ.
أقول: والتحقيق أن اتخاذ الأرباب غير اتخاذ الآلهة، وأنهما يجتمعان ويفترقان، فإن رب العالمين هو خالقهم، ومربيهم بنعمه، ومدبر أمورهم بسنته الحكيمة، وشارع الدين لهم، وأما الإله فهو المعبود بالفعل، أي: الذي تتوجه إليه قلوب العباد بالأعمال النفسية والبدنية والتروك، للقربة ورجاء الثواب ومنع العقاب عن اعتقاد أنه صاحب السلطان الأعلى، والقدرة على النفع والضر بالأسباب المعروفة وغير المعروفة إذ هو مسخرها، وبغيرها إن شاء.
والحقيق بالعبادة هو الرب الخالق المدبر وحده، ولكن من البشر من يترك عبادته، ومنهم من يعبد غيره معه أو من دونه. وكانت العرب تتخذ أصناما تعبدها، ولكنهم لم يتخذوها أربابا، بل شهد القرآن بأنهم كانوا يعتقدون ويصرحون بأن الله الخالق لكل شيء هو رب كل شيء ومليكه ومدبر أمره، وهو يحتج عليهم بأن الرب هو الحقيق بالعبادة وحده دون غيره، فلا ينبغي لهم أن يعبدوا أحدا من دونه لا بشرا ولا ملكا ولا شيئا سفليا ولا علويا.
فمن اعتقد أن إنسانا أو ملكا أو غيرهما من الموجودات يخلق كما يخلق الله، أو يقدر على تدبير شيء من أمور الخلق والتصرف فيها بقدرته الذاتية، غير مقيد بسنن الله تعالى العامة في الأسباب والمسببات كأمثاله من أبناء جنسه فقد اتخذه ربا. وكذلك من أعطى أي إنسان حق التشريع الديني بوضع العبادات كالأوراد المبتدعة التي تتخذ شعائر موقوتة كالفرائض، وبالتحريم الديني الذي يتبع خوفا من سخط الله ورجاء في ثوابه - فقد اتخذه ربا، وأما إذا دعاه فيما لا يقدر عليه المخلوقون بما لهم من الكسب في دائرة السنن الكونية والأسباب الدنيوية، أو سجد له أو ذبح القرابين له، وذكر عليها اسمه، أو طاف بقبره وتمسح به وقبله تقربا إليه وابتغاء مرضاته وعطفه أو إرضائه الله عنه، وتقريبه إليه زلفى كما يطوف بالكعبة ويستلم الحجر الأسود ويقبله - ولم يعتقد مع هذا أنه يخلق ويرزق ويدبر أمور العباد - فقد اتخذه إلها لا ربا، فإن جمع بين الأمرين فهو المشرك في الربوبية والألوهية معا كما بينا هذا مرارا كثيرة.
وقد ثبت في الآيات المحكمة القطعية الدلالة أن الله تعالى هو شارع الدين، وأن رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو المبلغ له عنه:
{ { إن عليك إلا البلاغ } [الشورى: 48] { { ما على الرسول إلا البلاغ } [المائدة: 99] { { فإنما عليك البلاغ } [آل عمران: 20] فهذه أنواع الحصر التي هي أقوى الدلالات. وأركان الدين التي لا تثبت إلا بنص كتاب الله تعالى أو بيان رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمراده منه ثلاثة: [1] العقائد. [2] العبادات المطلقة والمقيدة بالزمان أو المكان أو الصفة أو العدد، ككلمات الأذان والإقامة المعدودة، المشروط فيها رفع الصوت. [3] التحريم الديني. وما عدا ذلك من أحكام الشرع فيثبت باجتهاد الرأي فيما ليس له فيه نص، ومداره على إقامة المصالح، ودفع المفاسد كما بيناه في محله بالتفصيل، ونصوص الكتاب وهدي السنة، وعمل السلف الصالح، وكلامهم كثير في هذا، ولا سيما التحريم الديني الذي هو موضوعنا هنا وكونه لا يثبت إلا بدليل قطعي الرواية والدلالة.
نقل ابن مفلح عن شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية أن السلف لم يطلقوا الحرام إلا على ما علم تحريمه قطعا، وذكر عقبه أن في إطلاق الحرام على ما ثبت بدليل ظني روايتين في المذهب. ونحن نقول يكفينا هدي السلف الصالح المتفق عليه بينهم ترجيحا للرواية الموافقة لما نقله ابن تيمية وغيره وتضعيفا للرواية الأخرى وإن جرى عليها الكثيرون أو الأكثرون من المؤلفين المقلدين ومن بعدهم، وتبعهم العوام حتى عسروا ما يسره الله من دينه، وأوقعوا أنفسهم والناس في أشد الحرج الذي نفى الله تعالى قليله وكثيره بقوله:
{ { وما جعل عليكم في الدين من حرج } [الحج: 78] { { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } [المائدة: 6] { { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [البقرة: 185].
وروى الإمام الشافعي في الأم عن القاضي أبي يوسف معنى ما ذكره الشيخ تقي الدين ابن تيمية عن السلف رحمهم الله تعالى، ولكن بعبارة أخص وأقوى وهي:
"أدركت مشايخنا من أهل العلم يكرهون في الفتيا أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام، إلا ما كان في كتاب الله عز وجل بينا بلا تفسير. حدثنا ابن السائب عن ربيع بن خيثم، وكان أفضل التابعين أنه قال: إياكم أن يقول الرجل إن الله أحل هذا أو رضيه، فيقول الله له: لم أحل هذا ولم أرضه - ويقول: إن الله حرم هذا فيقول الله: كذبت لم أحرمه، ولم أنه عنه. وحدثنا بعض أصحابنا عن إبراهيم النخعي أنه حدث عن أصحابه أنهم كانوا إذا أفتوا بشيء أو نهوا عنه قالوا هذا مكروه وهذا لا بأس به. فأما أن نقول هذا حلال وهذا حرام فما أعظم هذا" اهـ. ولم ينكر عليه الشافعي هذا النقل ولا مضمونه، بل أقره وما كان ليقر مثله إلا إذا اعتقد صحته.
وما نقله الإمام أبو يوسف وشيخ الإسلام ابن تيمية عن السلف هو الثابت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه وكبار علماء التابعين وأئمة الأمصار. فأما السنة وعمل الصحابة فأقوى الحجج فيهما ما علم نصا وعملا من عدم تحريم الخمر والميسر تحريما عاما تشريعيا بآية البقرة التي تدل عليه دلالة ظنية بقوله تعالى:
{ { وإثمهما أكبر من نفعهما } [البقرة: 219] بل ترك الأمر فيها لاجتهاد الأفراد فمن فهم من الآية التحريم تركهما، ومن لم يفهم ذلك ظل على الأخذ بالإباحة اعتقادا وعملا أو اعتقادا فقط كعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ الذي ظل يراجع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ذلك ويدعو الله تعالى أن يبين لهم في الخمر بيانا شافيا إلى أن نزلت آيات المائدة القطعية الدلالة كما بينا هذا في تفسيرها، وفي مواضع أخرى.
وأما أئمة الأمصار فمن النقل العام عنهم ما ذكرناه آنفا، ومنه النصوص الخاصة الكثيرة المنقولة عنهم في المسائل التي يرون حظرها والتعبير عما ليس فيه نص قطعي منها بمثل أكره كذا، أو لا أراه، أو لا أفعله وفاقا لما ذكره إبراهيم النخعي من أئمة التابعين عن علماء الصحابة وأمثاله من التابعين. ولكن قسم بعض أتباع أئمة الأمصار ما كانوا يصرحون بكراهته إلى كراهة تحريم وكراهة تنزيه، وجعل بعضهم التحريم هو الأصل المراد عند الإطلاق غلوا في الدين.
قال ابن مفلح في مقدمة كتابه الفروع في بيان ما جرى عليه الحنابلة فيما يسمونه مذهب الإمام أحمد ـ رضي الله عنه ـ، وقوله: لا ينبغي، أو لا يصح، أو أستقبحه، أو هو قبيح، أو لا أراه - للتحريم اهـ. ومنه يعلم الفرق بين احتياط الإمام أحمد، واتقائه تحريم شيء على عباد الله بغير بينة قطعية عن الله تعالى، وتساهل بعض الفقهاء من أتباعه وغيرهم وتشديدهم في ذلك. وأحمد الله أنهم لم يتفقوا على أن ما ذكر للتحريم، فقد نقل عنه ابن مفلح نفسه قولا آخر مستنده روايات عن أحمد في عدم التحريم. ثم قال: وفي " أكره " أو " لا يعجبني " أو " لا أحبه " أو " لا أستحسنه " أو " يفعل كذا احتياطا " وجهان. و: أحب كذا أو يعجبني أو أعجب إلي، للندب وقيل للوجوب إلخ. وقوله: وجهان. يعني للأصحاب أحدهما: أنه لكراهة التنزيه، والثاني: أنه للتحريم. وفي تصحيح الفروع عن بعضهم أن الأولى أن ينظر إلى القرائن في كل مسألة فتحمل على ما تدل عليه من الأحكام الخمسة. وأقول: ما كان أغناهم عن مجاراة غيرهم بجعل كلامهرحمه الله للتشريع واستنباط الأحكام الشرعية منه ولو بالاحتمال، وإذا كان كلام الله عز وجل الدال على التحريم بالظن الراجح المحتمل لعدمه بالاجتهاد لم يجعله الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه دليلا على التحريم العام المطلق ويلزموا الأمة العمل به، بل تركوه لاجتهاد الأفراد. فكيف يجوز أن نجعل كلام من لا يحتج بكلامه مطلقا بإجماع المسلمين دليلا على التحريم العام؟ مع العلم بأن اجتهاد العالم حجة عليه لا على غيره؟ وقد تقدم بطلان الأخذ بالتقليد، ومنع الأئمة له في مثل ذلك في مواضع كثيرة.
وجملة القول: أن الله تعالى أنكر في كتابه على من يقول برأيه وفهمه: هذا حلال وهذا حرام، وسماه كذابا وسمى اتباعه شركا، وصح عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه لم يحرم على الناس شيئا مما أحل الله تعالى لهم في حديث الثوم والبصل وغيره، وإنما أحل الله هذين بالنصوص العامة كقوله:
{ { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا } [البقرة: 29] وجعله العلماء أصلا من أصول الأحكام فقالوا: الأصل في جميع الأشياء أو المنافع الإباحة.
والعمدة في تفسير اتخاذ رجال الدين أربابا بما تقدم في حديث عدي بن حاتم، وما في معناه من الآثار - هي الآيات التي أشرنا إليها في كون التحريم على العباد إنما هو حق ربهم عليهم، وكونه تشريعا دينيا، وإنما شارع الدين هو الله تعالى، فإذا نيط التشريع الديني بغيره تعالى كان ذلك إشراكا بنص قوله تعالى:
{ { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } [الشورى: 21] وقد فصلنا هذا في مواضعه الخاصة به.
فليتق الله تعالى من يظنون بجهلهم أن جرأتهم على تحريم ما لم يحرمه الله تعالى على عباده من كمال الدين وقوة اليقين، سواء حرموا ما حرموا بآرائهم وأهوائهم، أو بقياس في غير محله، مع كونهم من غير أهله، أو بالنقل عن بعض مؤلفي الكتب الميتين وإن كبرت ألقابهم، وكذا إن كان أخذا من نص شرعي لا يدل عليه دلالة قطعية، على ما تقدم بيانه في الخمر والميسر، وليتق الله من يضعون للناس الأوراد والأحزاب الكثيرة، ويجعلونها لهم كشعائر الدين المنصوصة بحملهم عليها في الاجتماعات، واشتراكهم فيها برفع الأصوات، أو توقيتها لهم كالصلوات، فكل ذلك حق لله تعالى وحده، ولم يكن عند أكمل البشر في الدين من أهل القرون الأولى شيء من ذلك.
ووالله إن المأثور في كتاب الله وسنة رسوله من الأذكار والدعوات، خير من حزب فلان وورد فلان وأمثال دلائل الخيرات، وما هي بقليل، فليراجعوها في كتب الأذكار للمحدثين كأذكار النووي، وكتاب الحصن الحصين للجزري، ففيهما ما يكفيهم من الأذكار والأدعية المطلقة المقيدة بالعبادات المختلفة، وبالأزمنة والأمكنة وحدود الحوادث.
قد يقول نصير للبدعة، خذول للسنة: إن هذه الأوراد والأحزاب والصلوات التي وضعها شيوخ الطريقة العارفين، وكبار العلماء العاملين، من البدع الحسنة التي جربت فائدتها، وثبتت منفعتها بمواظبة الألوف من المسلمين عليها، وخشوعهم بتلاوتها، دون غيرها من الصلوات والأذكار والأدعية المأثورة فكيف يصح لأحد أن يأفكهم عنها؟.
وأقول: إن كاتب هذا ممن جربوها بإخلاص وحسن اعتقاد، وكان يبكي لقراءة ورد السحر، ولا يبكي لتلاوة القرآن، ثم رفعه الله تعالى بعلم الكتاب والسنة فعلم أن ذلك كان من الجهل وضعف الإيمان، وأنه عين ما وقع لمن قبلنا من العباد والرهبان. وإننا نكشف الغطاء عن هذه الشبهة القوية، التي قد تعد عذرا لجاهل ما ذكرنا من الآيات القرآنية، وسيرة السلف الصالح المرضية، دون من تقوم عليه حجة العلم، ونكتفي في ذلك ببيان الحقائق الآتية:
1- إن الله تعالى ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعلم بما يرضيه عز وجل من عبادته وما يتزكى به عابدوه منها، ولا يبيح الإيمان لأحد من أهله أن يقول أو يعتقد أن أحدا من شيوخ الطريق والأولياء يساوي علمه علم الله تعالى أو علم رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك. دع الظن بأنهم يعلمون ما لا يعلم الله ورسوله أو فوق ما يعلمون من ذلك، فإنه أصرح في الكفر بقدر ما تدل عليه صيغة (أفعل) في الموضوع.
2- إنه تعالى يقول:
{ { اليوم أكملت لكم دينكم } [المائدة: 3] فكل من يزيد في الإسلام عبادة أو شعارا من شعائر الدين فهو منكر لكماله مدع لإتمامه، وأنه أكمل في الدين من محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وآله وصحبه، ولله در الإمام مالك القائل: " من زعم أنه يأتي في هذا الدين بما لم يأت به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد زعم أن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ خان الرسالة " والقائل: " لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها ".
3- إنه تعالى يقول:
{ { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء } [الأعراف: 3] وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول على المنبر وغير المنبر: وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وقد بين العلماء المحققون أن هذه القضية الكلية عامة في الأمور الدينية المحضة كالعبادات، كما تقدم مرارا، وأن البدعة التي تنقسم إلى حسنة وسيئة هي البدعة اللغوية التي موضوعها المصالح العامة من دينية ودنيوية، كوسائل الجهاد وتأليف الكتب وبناء المدارس والمستشفيات وتنوير المساجد.
إن قيل: إن هذه الزيادة التي أتى بها الصالحون هي من المشروع بإطلاقات الكتاب والسنة العامة كقوله تعالى:
{ { اذكروا الله ذكرا كثيرا } [الأحزاب: 41] وقوله: { { صلوا عليه وسلموا تسليما } [الأحزاب: 56] فلا تنافي ما تقدم - قلنا:
4- إن حقيقة الاتباع المأمور به أن يلتزم إطلاق ما أطلقته نصوص الكتاب والسنة، وتقييد ما قيدته؛ ولذلك قال الفقهاء: " وصلاة رجب وشعبان بدعتان قبيحتان مذمومتان " - وهذه عبارة المنهاج - وما ذلك إلا أنهما قيدتا بعدد معين، وكيفية مخصوصة، وزمن مخصوص وهذا حق الشارع لا المكلف - وإلا فهما من الصلاة التي هي أفضل العبادات، وقد فصل هذا الموضوع الإمام الشاطبي في كتابه الاعتصام.
5- إن الزيادة على المشروع في العبادة كالنقص منه، وإن التكلف والمبالغة في المشروع منها غلو في الدين، وهو مذموم شرعا بالإجماع، وصح عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ النهي عنه، والأمر بالمستطاع منه.
6- إن الزيادة لا يتحقق كونها زيادة إلا مع الإتيان بالأصل، فمن ترك شيئا من المأثور المشروع، وأتى بشيء من هذه العبادات المبتدعة فهو مفضل له على ما شرعه الله تعالى أو سنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وكفى بذلك ضلالا واتباعا للهوى، ولا يمكن لأحد أن يدعي أنه يأتي بشيء منها إلا بعد إتيانه بجميع ما صح في الكتاب والسنة في ذلك، وأكثر المتعبدين بهذه الأوراد والأحزاب لا يعنون بحفظ المأثور ولا يعلمونه، إلا قليلا من المشهور بين العامة كالوارد عقب الصلوات، وهم يبتدعون فيه بالاجتماع له، ورفع الصوت به كما بينه الشاطبي وسماه البدعة الإضافية، ورد بحق على من تساهل فيه من المتفقهة.
7- إن هذه الأوراد والأحزاب لا يخلو شيء منها فيما اطلعنا عليه من أمور منكرة في الشرع، وأمور لا يجوز فعلها إلا بتوقيف منه، كوصف الله تعالى بما لم يصف به نفسه، ولا وصفه به رسوله أو القسم عليه بخلقه، أو بحقوقهم عليه بدون إذنه، أو القسم بغيره، وقد سماه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ شركا، وكذا وصف رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما لا يصح وصفه به، وإسناد أفعال إليه لم تصح بها رواية، وكذا الغلو فيه صلوات الله وسلامه عليه، بما لا يليق إلا بربه وخالقه وخالق كل شيء، ومنه ما هو كفر صريح. ولبعض الدجالين المعاصرين صلوات وأوراد فيها من هذه المنكرات ما لا يوجد في غيرها من أمثالها، والذين يعرفون سيرة هؤلاء الدجالين يعلمون أنهم وضعوها للتجارة بالدين واكتساب المال والجاه عند العوام، ولا تنس ما نقلناه آنفا من تفسيري مفاتيح الغيب وفتح البيان
{ { ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور } [النور: 40].
8- إذا بحث العالم البصير عن سبب عناية كثير من العوام بهذه الأوراد والأحزاب والصلوات المبتدعة، وإيثارها على التعبد بالقرآن المجيد وبالأذكار والأدعية المأثورة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع إيمانهم بأن تلاوة القرآن وأذكاره وأدعيته أفضل من كل شيء، وأن ما ثبت في السنة هو الذي يليها في الفضيلة، وفي كون كل منها حقا في درجته - لا يجد بعد دقة البحث إلا ما أرشدت إليه الآية الكريمة من شرك أهل الكتاب باتخاذ رؤسائهم أربابا من دون الله، بإعطائهم حق التشريع للعبادات والتحليل والتحريم غلوا في تعظيمهم، ومضاهأة مبتدعة المسلمين لها في ذلك كما ضاهئوا هم من قبلهم من الوثنيين، كما أنبأ عن ذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله المروي في الصحيحين وغيرهما:
"لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: " فمن "؟ وما قص الله علينا ما قص من كفرهم إلا تحذيرا لنا من مثله.
فأنت إذا بحثت عن عبادات هؤلاء النصارى من جميع الفرق تجد في أيديهم أورادا وأحزابا كثيرة منظومة ومنثورة كلها من وضع رؤسائهم، ولكنها ممزوجة بشيء من كتب أنبيائهم كصيغة " الصلاة الربانية " وبعض عبارات المزامير عند النصارى. وأنى لأهل الكتاب بسور كسور القرآن أو بأدعية وأذكار نبوية كالأذكار والأدعية المحمدية في وصف جلال الله وعظمته وأسمائه الحسنى. وطلب أفضل ما يطلب منه تعالى من خير الآخرة والدنيا؟ وهل كان أهل العصر الأول من المسلمين سادة للأمم كلها في فتوحهم وأحكامهم إلا بهداية الكتاب والسنة؟ وهل صارت الشعوب تدخل في دين الله أفواجا إلا اهتداء بهم؟ ثم هل صارت الشعوب الإسلامية بعد ذلك إلى ما صارت إليه من الذل والصغار، وتنفير الأمم عن الإسلام، إلا بترك هدايتهما إلى البدع أو الإلحاد؟
{ { ومن يضلل الله فما له من هاد } [الرعد: 33].
والغلاة المبتدعون لهذه الأوراد والصلوات يخدعون العوام بما يمزجونه فيها من الآيات مع تحريفهم لها عن مواضعها التي نزلت فيها أو لأجلها، ومن الأحاديث وكلام الأئمة والصالحين، ومنها ما هو كذب صراح، وما ليس له سند يعتد به، ويردون على دعاة الكتاب والسنة بأنهم لا يعظمون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو يكرهون تعظيمه صلوات الله وسلامه عليه - ; لأنهم يقفون فيه عند الحد الشرعي - وبأنهم يكرهون الأولياء وينكرون مكاشفاتهم وكراماتهم، والعوام يقبلون هذا منهم لجهلهم بعقيدة الإسلام، وبإجماع المسلمين على أنه لا يحتج بقول أحد معين، ولا بفعله في دين الله تعالى إلا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا الشيعة الإمامية، فإنهم يقولون بعصمة 12 رجلا من آل البيت ـ رضي الله عنهم ـ أيضا.
وقد أرسل رجل من دجالي عصرنا صلواته وبعض كتبه مع بعض الحجاج الصالحين إلى المدينة المنورة ; لتوزيعها فيها على نفقة بعض الأغنياء الأغبياء، فرأى ذلك الحاج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في نومه قبل دخول المدينة بليلة يأمره بألا يدخل تلك الكتب في مدينته ـ صلى الله عليه وسلم ـ فدفنها في ذلك المكان، ثم أخبر صاحبها بما رأى بعد عودته على مسمع من الناس فبهت الدجال.
إن في بعض كتب الصوفية كثيرا من المعارف والفوائد والمواعظ المؤثرة. ولكن أكثرها قد أفسد في دين هذه الأمة ما لم تبلغ إلى مثله شبهات الفلاسفة وآراء مبتدعة المتكلمين ; لأن هذين النوعين لا ينظر فيهما إلا بعض المشتغلين بالعلم العقلي، وأما كتب الصوفية فينظر فيها جميع طبقات الناس وإن كانت أدق عبارة، وأخفى إشارة من كتب الفلاسفة. ولا شك أن خير صوفية هذه الأمة السابقون، الذين كانوا لا يتصوفون إلا بعد تحصيل علم الكتاب والسنة والفقه والاعتصام بالعمل على طريقة السلف كالإمام الجنيد وطبقته، ثم ظهر فيهم الغلاة ومن يسمون صوفية الحقائق، فابتدعوا ما أنكره عليهم الأئمة حتى قال الإمام الشافعي: من تصوف أول النهار لا يأتي آخره إلا وهو مجنون.
وأنت ترى أن الحارث المحاسبي من أجل علماء الصوفية، وقد روى عنه الجنيد وكان من التمسك بالسنة بحيث لم يأخذ مما خلفه والده من المال الكثير دانقا واحدا على شدة فقره، وعلل ذلك بأنه لا توارث مع اختلاف الدين، وما كان والده إلا واقفيا، أي لا يقول: إن القرآن غير مخلوق، كما أنه لا يقول: هو مخلوق، وقد ألف الحارث في أصول الديانات والزهد على طريق الصوفية فسئل الإمام أبو زرعة عنه وعن كتبه فقال للسائل: إياك وهذه الكتب، بدع وضلالات، عليك بالأثر فإنك تجد فيه ما يغنيك عن هذه الكتب، قيل له: في هذه الكتب عبرة. فقال: من لم يكن له من كتاب الله عبرة فليس له في هذه عبرة - بلغكم أن مالكا أو الثوري أو الأوزاعي أو الأئمة صنفوا كتبا في الخطرات والوساوس وهذه الأشياء؟ هؤلاء قوم قد خالفوا أهل العلم، يأتوننا مرة بالمحاسبي ومرة بعبد الرحيم الدبيلي، ومرة بحاتم الأصم - ثم قال - ما أسرع الناس إلى البدع. وروى الخطيب بسند صحيح أن الإمام أحمد سمع كلام المحاسبي فقال لبعض أصحابه: ما سمعت في الحقائق مثل كلام هذا الرجل، ولا أرى لك صحبتهم انتهى. من تهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر، وتعقبه بقوله (قلت) إنما نهاه عن صحبتهم لعلمه بقصوره عن مقامهم، فإنه مقام ضيق لا يسلكه كل أحد، ويخاف على من يسلكه ألا يوفيه حقه اهـ.
فإذا صح هذا التعليل الذي قاله الحافظ في بعض أصحاب الإمام أحمد من خيار علماء السنة، أفلا يكون غيرهم كدجاجلة هذا الزمان وعوامه أولى بألا ينظروا في كتب من لا يعدون من طبقة الحارث المحاسبي في العلم والعمل، بحيث إن إمام السنة الأعظم في عصره (أحمد بن حنبل) لم ينكر شيئا مما سمع من كلامه بمخالفته للكتاب والسنة، وإنما أنكره هو وأبو زرعة ; لأنه شيء جديد مبتدع في أمر الدين، يشغل الناظر فيه عن كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ونهى عن صحبتهم لذلك أو لضيق مسلكهم، وكونه لا يفهمه ويستفيد منه إلا من هو مثلهم كما علله الحافظ.
فما القول بعد هذا بكتب من جاء بعد هؤلاء من أصحاب القول بوحدة الوجود وغير ذلك من البدع المصادمة للنصوص، كمحيي الدين بن عربي الذي يقول في خطبة فتوحاته:

الرب حق والعبد حق يا ليت شعري من المكلف
إن قلت عبد فذاك ميت أو قلت رب أنى يكلف

وغير هذا مما ينقض أساس التكليف ويصرح بأن الخالق والمخلوق واحد في الحقيقة، وإنما الاختلاف في الصورة، ومن شعره في ديوانه:

*وما الكلب والخنزير إلا إلهنا*

فهل يجوز لمسلم أن يجعل كلامه وكلام أمثاله حجة ويتخذه قدوة في عقيدته وعبادته ويدعو العامة إلى ذلك؟ ونحن نرى المفتونين به من المتصوفة والمتفقهين يقولون: إنه لا يجوز النظر في أمثال هذه الكتب إلا لأهلها من العارفين برموز الصوفية وإشاراتهم الخفية مع العلم بالكتاب والسنة، وقد ذكر الشعراني، وهو أشهر داعية في عصره إلى خرافات الصوفية أنه سأل شيخه في التصوف عليا الخواص: لماذا يتأول العلماء ما يشكل ظاهره من نصوص الكتاب والسنة دون المشكل من كلام العارفين؟ فأجابه بأن سبب ذلك القطع بعصمة القرآن، وما صح عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أمر الدين، وعدم عصمة هؤلاء الشيوخ من الخطأ انتهى بالمعنى من كتابه الدرر والجواهر، وهو حق.
وإنني أضرب لك مثلا للغرور بكتب هؤلاء الصوفية عن الحارث المحاسبيرحمه الله تعالى، نقل عنه الشعراني أنه قال: عملت كتابا في المعرفة، وأعجبت به فبينما أنا ذات يوم أنظر فيه مستحسنا له إذ دخل علي شباب عليه ثياب رثة، فسلم علي وقال: يا أبا عبد الله المعرفة حق للحق على الخلق أو حق للخلق على الحق؟ فقلت: أحق على الخلق للحق، فقال: هو أولى أن يكشفها لمستحقها، فقلت: بل حق للخلق على الحق، فقال هو أعدل من أن يظلمهم. ثم سلم علي وخرج. قال الحارث: فأخذت الكتاب وحرقته، وقلت: لا عدت أتكلم في المعرفة بعد ذلك اهـ.
أقول: يعني بالمعرفة هنا المعرفة المصطلح عليها عند الصوفية، وإنما رجع عنها الحارث لاقتناعه بقول الشاب وتذكره أنها لو كانت مشروعة مرضية لله تعالى لبينها في كتابه فإنه قال:
{ { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء } [النحل: 89] ويروى عن ذي النون الصوفي الشهير أنه قال: ليس بعارف من وصف المعرفة عند أبناء الآخرة فكيف عند أبناء الدنيا؟ يعني أن وصفها لا يجوز إلا لأهلها العارفين؛ ولهذا اتفق العلماء على أن من خاض من كلام صوفية الحقائق غير عالم برموزهم ضل وربما كفر، وأنه لا يجوز سلوك طريقتهم إلا على يد شيخ عارف من الواصلين، والعلماء العاملين.
وقد كان الشيخ محمد أبو المحاسن القاوقجي من كبار العباد المشتغلين بالعلم والحديث، وقد رويت عنه الأحاديث المسلسلة وغيرها، وكان من شيوخ طريقة الشاذلي، فقلت له يوما: إنني لا أحب أن أكون من أهل الطريق المقلدين، الذين يجتمعون على قراءة حزب البر وهذه الأذكار الاجتماعية في المساجد وغيرها، وإنما أريد السلوك الصحيح بالرياضة والتعبد السري كالمتقدمين، فهل لك أن تتولى ذلك معي؟ قال يا بني إنني لست أهلا لذلك فلا أغشك وأغش نفسي أو كما قال: ومن كان من أهل العلم والفهم، وأحب أن يستفيد من كلام خيار الصوفية في الحقائق مع التزام السنة وسيرة السلف في العبادة فعليه بكتاب (مدارج السالكين) للمحقق ابن القيم شرح (منازل السائرين) لشيخ الإسلام الهروي الأنصاري فإن فيه خلاصة معارف الصوفية التي لا تخالف الكتاب والسنة مع الرد على ما خالفهما.
وأما كتبهم في الأخلاق والآداب الدينية فيغني عنها كلها (كتاب الآداب الشرعية، والمنح المرعية) لابن مفلح الفقيه الحنبلي، فإنه مستمد من نصوص الكتاب والسنة، وكلام أئمة الحديث والفقه المتفق على جلالتهم من جميع المسلمين فهذا ما ننصح به لجمهور المسلمين الذين يطلبون العلم الصحيح للعمل. وثم كتب كثيرة لعلماء الصوفية مفيدة في فلسفة الأخلاق وعلم النفس وخواص الأرواح، والاستفادة الصحيحة منها خاصة بأهل البصيرة من العلماء.
ومن خيار الصوفية الوعاظ من المتقدمين منصور بن عمار، وقد ذكر ابن مفلح في كتاب الآداب الشرعية أن الإمام أحمد نهى عن كلامه والاستماع للقاص به، وأن القاضي أبا الحسين قال: إنما رأى إمامنا أحمد الناس لهجين بكلامه، وقد اشتهروا به حتى رووه وفصلوه مجالس يحفظونها ويلقونها ويكثرون فيما بينهم دراستها فكره لهم أن يلهوا بذلك عن كتاب الله، ويشتغلوا به عن كتب السنة وأحكام الملة لا غير اهـ.
فإن كانت حال الناس هكذا في زمن الإمام أحمد، زمن حفظ السنة وروايتها والتفقه والعمل بها، واشتراك الصوفية في ذلك، فماذا عسى أن يقال في هذا الزمن وأهله وأنت لا تجد في علماء مصر حافظا، ولا من يصح أن يسمى محدثا، دع متصوفته الذين يستحوذ على أكثرهم الجهل، ويوجد فيهم المنافقون الذين يتخذهم الأجانب جواسيس ودعاة للاستعمار، محتجين بشبهة الرضا بالأقدار، وهم أكبر مصائب الإسلام في المستعمرات الفرنسية الإفريقية ومن شيوخهم من يأخذ الرواتب المالية من حكامها، ومن نال بعض أوسمتها الشرفية.
فهذا نموذج من كلام أئمة الإسلام ندعم به ما ذكرناه من الحجج والنصوص في دعوة المسلمين إلى فهم القرآن والاهتداء به، وبما ورد في السنة من بيانه والاكتفاء بعباداتهما وأذكارهما والاستغناء بها عن كل ما عداها من غير غلو ولا تكلف لما لا يسهل المواظبة عليه، والتفرغ بعد ذلك إلى القيام بفروض الكفايات من الدفاع عن الإسلام وتعزيزه، ودفع الأذى والاستعباد والظلم عن أهله، وإعزاز الأمة بالقوة والثروة بالطرق المشروعة المبنية على الفنون الصحيحة والنظام، وإنفاقها في سبيل الله، فهذا أفضل من تلك الأوراد التي لم تبلغ أن تكون من نوافل العبادات على ما فيها من البدع والضلالات، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
{ وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا } أي: اتخذ اليهود والنصارى رؤساءهم أربابا من دون الله تعالى، والربوبية تستلزم الألوهية بالذات، إذ الرب هو الذي يجب أن يعبد وحده - واتخذ النصارى المسيح ربا وإلها، والحال أنهم ما أمروا على لسان موسى وعيسى ومن اتبعهما فيما جاءا به عن الله إلا أن يعبدوا ويطيعوا في الدين إلها واحدا بما شرعه هو لهم، وهو ربهم ورب كل شيء ومليكه { لا إله إلا هو } هذه الجملة استئناف بياني لا صفة ثانية لإله، فهي تعليل للأمر بعبادة إله واحد بأنه لا وجود لغيره في حكم الشرع، ولا في نظر العقل، وإنما اتخذ المشركون آلهة من دونه بمحض الهوى والجهل، إذ ظن هؤلاء الجاهلون أن لبعض المخلوقات من السلطان الغيبي والقدرة على الضر والنفع من غير طريق الأسباب المسخرة للخلق مثل ما لله، إما بالذات وإما بالوساطة عنده تعالى والشفاعة لديه، وهي الشفاعة الشركية المنفية بنصوص القرآن { سبحانه عما يشركون } أي: تنزيها له - عن شركهم في ألوهيته بدعاء غيره معه أو من دونه، وفي ربوبيته بطاعة الرؤساء في التشريع الديني بدون إذنه.
أما أمر الله تعالى إياهم بعبادته وحده على لسان موسى عليه السلام فهو في مواضع من التوراة، أظهرها وأشهرها أول الوصايا العشر التي جاءت في سفر الخروج، أن الله تعالى كتبها لموسى عند مناجاته في سيناء بأصبعه على لوحي العهد، وهذا أولها: " أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية، لا يكن لك آلهة أخرى أمامي، لا تصنع لك تمثالا منحوتا ولا صورة مما في السماء من فوق ولا مما في الأرض من تحت، ولا مما في الماء تحت الأرض، لا تسجد لهن ولا تعبدهن، لأني أنا الرب إلهك إله غيور " إلخ. وأما أمره تعالى إياهم بها على لسان عيسى المسيح عليه السلام فتجد منه فيما رواه يوحنا في إنجيله قوله: "7: 3 وهذه الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته) وفي إنجيل برنابا - الذي تعده الكنيسة غير قانوني - من آيات التوحيد المطلق المجرد من جميع شوائب الشرك ما هو أجدر من الأناجيل الأربعة القانونية بأن يكون من إنجيل المسيح الصحيح الموحى إليه من ربه عز وجل ثم وصفهم الله تعالى بوصف ثالث في تفصيل حال كفرهم المجمل المتقدم بعد وصفهم باتخاذ ابن الله ورؤسائهم أربابا من دون الله - وهو:
{ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم } أي: يريد اليهود والنصارى أن يطفئوا نور الله الذي أفاضه على البشر بهداية دينه الحق الذي أوحاه إلى موسى وعيسى وغيرهما من رسله، ثم أتمه وأكمله ببعثة خاتم النبيين محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالطعن في الإسلام والصد عنه بالباطل. كما فعلوا من قبل بمثل تلك الأقوال في عزير والمسيح، التي لم تتجاوز أفواههم إلى معنى صحيح، وبما ابتدعه الرؤساء لهم من التشريع، حتى صار التوحيد الذي أمروا به عندهم شركا، والعبد المربوب ربا، والعابد المألوه إلها على تفاوت بين فرقهم في ذلك، كما تقدم شرحه في تفسير الآيتين اللتين قبل هذه الآية.
والإرادة في الأصل: القصد إلى الشيء، وقد تطلق على ما يفضي إليه، وإن لم يتصوره فاعله. يقال في الرجل المسرف المبذر: يريد أن يخرب بيته. أو: أن يترك أولاده فقراء أي أن تبذيره يفضي إلى ذلك، فكأنه بقصده ; لأن فعله فعل من يقصد ذلك. وأهل الكتاب الذين عادوا الإسلام منذ البعثة المحمدية كانوا يقصدون إبطاله والقضاء عليه بالحرب والقتال من جهة، وبإفساد العقائد والطعن من جهة أخرى كما يأتي قريبا، وكل من الأمرين يصح التعبير عنه بإرادة إطفاء النور ; لأنه تمثيل لحالهم معه. وأما ما كان من إفسادهم في دينهم فمنه ما كان بقصد من المنافقين والمبتدعين فيه، ولا سيما الروم الذين اتخذوا النصرانية عصبية سياسية منذ عهد قسطنطين، ومنه ما كان بغير قصد إلى إطفاء نوره، بل كان بعضه بقصد خدمته (كما فعل بعض مبتدعة المسلمين الذين اتبعوا سننهم من حيث لا يشعرون بوضع الأحاديث والعبادات المبتدعة ونشر الخرافات) وهو ما بيناه مرارا في مواضع آخرها وأقربها ما قلناه آنفا في هذا السياق.
قال السدي: المراد بالنور هنا الإسلام. وقال الضحاك: هو محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال الكلبي: هو القرآن. وقال بعض المفسرين: المراد بالنور الدلائل على التوحيد ونبوة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأنها يهتدى بها إلى الحق في العقليات، كما يهتدى بالنور في رؤية الحسيات، وأقول: إن المعنى الجامع بين النور الحسي والنور المعنوي هو أنه الشيء الظاهر في نفسه المظهر لغيره، ولك أن تقول: إن النور المعنوي للبصيرة كالنور الحسي للبصر.
وقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى:
{ { ياأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين } [المائدة: 15] أن في هذا النور الأقوال الثلاثة التي ذكرناها آنفا وبينا وجه كل منها، واخترنا الثالث منها وهو القرآن لموافقته لقوله تعالى: { { ياأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا } [النساء: 174] وقوله تعالى في رسوله الأعظم: { { فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون } [الأعراف: 157] وقوله: { { فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير } [التغابن: 8] وأما التوراة والإنجيل فقد قال الله تعالى في كل منهما إن فيه نورا وهدى } [5: 44، 46] ولم يجعله عين النور كالقرآن.
ونختار هنا القول الأول وهو دين الإسلام بالمعنى العام الشامل كل ما جاء به رسل الله، ولا سيما دين التوراة والإنجيل والقرآن وقد كان كل منها نورا لأهله في الزمن الذي نزل به بقدر حاجتهم، حتى إذا نزل القرآن كان هو النور الأعظم الكافي لهداية جميع البشر إلى آخر الزمان، ولله در البوصيري حيث قال في لاميته بعد ذكر تلك الكتب:

الله أكبر إن دين محمد وكتابه أقوى وأقوم قيلا
لا تذكروا الكتب السوالف عنده طلع الصباح فأطفئ القنديلا

نعم إن القوم قد أطفئوا جل ذلك النور فزجوا بأنفسهم في ظلمات لا يلوح لهم فيها إلا وميض ضئيل منه، وهم يريدون إطفاء الآخر الأخير أيضا. والنور الحسي قد يطفأ بنفخ الفم كسرج الزيت القديمة، وإطفاؤه: إزالته وإطفاء النار: إزالة لهبها واتقاد جمرها معا، فهو أبلغ من إخمادها ; لأن الإخماد إزالة اللهب فقط. وإن كان إطفاء السراج سهلا فإطفاء نور الشمس غير ممكن.
وإنما اخترت هنا أن المراد بالنور دين الله الذي بعث به رسله في كل قوم بما يناسب حالهم في زمنهم ; لأنه هو الذي يقبل التمام المراد بقوله تعالى: { ويأبى الله إلا أن يتم نوره } الذي أضافه إلى اسمه ببعثة محمد خاتم النبيين، ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الخلق أجمعين، مبينا لهم كل ما يحتاجونه من أمر الدين، من عقائد يؤيدها البرهان، ويطمئن لها الوجدان، وتبطل بها عبادة الإنسان للإنسان، فضلا عن الأصنام والأوثان. وعبادات تتزكى بها النفس، وتطهر من كل رجس، وتجعل كفاية الأغنياء للفقراء حقوقا إلهية، تكفلها العقائد الوجدانية، ويبطل ثوابها المن والأذى، وآداب تطبع في الأنفس ملكات الفضائل، وتتوثق بها عرى المصالح. وتشريع سياسي وقضائي يجمع بين العدل والرحمة، ويجعل السلطان الحكمي للأمة، ويقرر المساواة بين جميع الناس في الحق، مع تعظيم شأن العلم والعقل، واحترام حرية الإرادة والرأي والوجدان. ومنع الإكراه على الأديان، والتوحيد المصلح للاجتماع البشري في العقائد والتعبد والتشريع واللغة، لإزالة التعادي بين الشعوب والقبائل، فمن لم يقبلها كلها، كان تشريع المساواة بالعدل كافيا لحفظ حقوقه فيها.
أتم الله تعالى ذلك كله على لسان خاتم النبيين، الذي أرسله رحمة للعالمين، وجعل آيته الكبرى علمية عقلية وهي هذا القرآن، وكفل حفظها إلى آخر الزمان، ولم يكفل ذلك لكتاب آخر ; لأن سائر الكتب كانت أديانا خاصة مؤقتة، وأنزل عليه بعد أن أتم الدعوة، وأقام الحجة، وأوضح المحجة
{ { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } [المائدة: 3].
وجملة المعنى في هذا التركيب: أنهم يريدون أن يطفئوا نور الله الذي شرعه لهداية عباده، وإنما قطبه الذي تدور عليه جميع عباداته توحيد الربوبية والألوهية، فتحولوا عنه إلى الشرك والوثنية، والله تعالى لا يريد ذلك، لا يريد في هذا الشأن إلا أن يتم هذا النور الذي بدأ في الأجيال السابقة كالسراج على منارته، أو كنور الهلال في بزوغه، فالقمر في منازله، فيجعله بدرا كاملا، بل شمسا ضاحية يعم نوره الأرض كلها، وما يريده الله كائن لا مرد له.
{ ولو كره الكافرون } ذلك بعد إتمامه، كما كانوا يكرهونه من قبل عند بدء ظهوره، وجواب " لو " محذوف للعلم به مما قبله كما يقول النحاة. فهم يكيدون له، ويفترون عليه، ويطعنون فيه وفيمن جاء به. ويحاولون إخفاءه، أو " خنق دعوته، وحصد نبتته " كما قال شيخنارحمه الله . فأما اليهود فكان من أمرهم في مقاومة دعوته، ومساعدة المشركين عابدي الأصنام في قتال أهله، ومن خذلان الله تعالى إياهم، ونصر رسوله والمؤمنين عليهم، ما بيناه في تفسير سورة الأنفال فكانوا في أول الإسلام أشد الناس عداوة لأهله كمشركي العرب سواء، ولما عجزوا عن إطفاء نوره بمساعدة المشركين على قتال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، قصدوا إطفاء نوره ببث البدع فيه، وتفريق كلمة أهله بما فعل عبد الله بن سبأ من ابتداع التشيع لعلي كرم الله وجهه، والغلو فيه، وإلقاء الشقاق بين المسلمين في مسألة الخلافة، وكان لشيعته من الدسائس في قتل عثمان ـ رضي الله عنه ـ ثم في الفتنة بين علي ومعاوية أقبح التأثير، ولولاهم لما قتل أولئك الألوف الكثيرون من صناديد المسلمين، فإن السعي إلى الصلح والاتفاق نجح غير مرة فأفسدوه بدسائسهم، ثم كان لليهود الذين أظهروا الإسلام والقيام بفرائضه نفاقا مكيدة أخرى لا تزال مفاسدها مبثوثة في كتب التفسير والحديث والتاريخ، وهي الإسرائيليات التي بينا بعضها في مواضع من هذا التفسير، ولا نزال نبين ما يعرض لنا فيه وفي المنار.
وأما النصارى فقد كان الحبشة منهم أول من أظهر المودة لهم، وأكرم ملكهم النجاشي من لجأ من مهاجرهم، ومنعهم من تعدي المشركين عليهم، بل أسلم هو على أيديهم، كما تقدم بيانه في تفسير:
{ { لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى } [المائدة: 82] الآية.
ثم انقلب الأمر وانعكست القضية بعد انتشار الإسلام وراء جزيرة العرب، فكان اليهود يتوددون للمسلمين ; لأنهم أنقذوهم من ظلم النصارى واستبدادهم، وصار نصارى أوربة المستعمرون للممالك الشرقية هم الذين يقاتلون المسلمين ويعادونهم، دون نصارى هذه البلاد ولا سيما سورية ومصر الأصليين، فإنهم رأوا من عدل المسلمين وفضائلهم ما فضلوهم به على الروم الذين كانوا يظلمونهم ويحتقرونهم، حتى آل الأمر إلى ما بيناه في تفسير الآية السابقة من الحروب الصليبية وغلو نصارى أوربة في عداوة المسلمين، وما بيناه قبلها في تفسير قتال أهل الكتاب من حال مسلمي هذا العصر مع دول أوربة المستولية على أكثر بلادهم، المهددة لهم فيما بقي لهم من مهد دينهم ومشاعره وحرم الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
وقد بين الله هذا المعنى في سورة الصف بمثل هذه الآية إلا أنه قال هنالك:
{ { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره } [الصف: 8] وباقي الآية ونص الآية بعدها كآيتي براءة سواء. فأما قوله: ليطفئوا فمن علماء العربية من يقول إنه بمعنى " أن يطفئوا " ; لأن اللام فيه مصدرية أو بمعنى المصدرية، ومنهم من يقول: إنها للتعليل والمعلل محذوف للعلم به من القرينة وهو التحقيق، وبيانه أنه قبل هذه الآية ذكر بشارة عيسى عليه السلام بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتكذيب اليهود له في رسالته وبشارته، وقال قبلها: { { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون } [الصف: 7] فالمعنى على التعليل: أن هؤلاء الضالين الظالمين لأنفسهم بإنكار نبوة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي بشرهم به عيسى عليه السلام - سواء كانوا من بني إسرائيل أو من غيرهم - بعد بعثته ودعوته إياهم إلى الإسلام وظهور نوره بالحجج الساطعة الدالة على صدقه - يريدون افتراء الكذب بإنكار تلك البشارات وتأويلها بما يصرفها عن وجهها ; لأجل أن يطفئوا نور الله تعالى بافترائهم الذي يخرج من أفواههم، ظنا منهم أن الافتراء بإنكارها وتأويلها، وبالطعن في محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يطفئ هذا النور، ثم قال: { { والله متم نوره } [الصف: 8] أي: والحال أن الله تعالى متم نوره بالفعل فلا يطفئه الافتراء، بل هو كمن ينفخ في نور قوي ليطفئه فيزيده بذلك اشتعالا، أو كمن يحاول إطفاء نور الشمس فلا ينال منها منالا. فالفرق بين الآيتين أن آية سورة الصف تعليل لافترائهم بإرادتهم إطفاء النور به، وآية براءة لما جاءت بعد بيان شركهم بمضاهأتهم لأقوال الوثنيين من قبلهم جعل ذلك نفسه بمعنى إرادة إطفاء النور بلا واسطة.
ثم إن بينهما فرقا آخر وهو التعبير في آية سورة الصف بقوله: { والله متم نوره } وفي سورة براءة بقوله: { ويأبى الله إلا أن يتم نوره } والأول: يفيد أنه متمه بالفعل في الحال. والثاني: وعد بأن يتمه في الاستقبال، فيجتمع منهما إثبات هذا الإتمام في الحال والاستقبال، فهو النور التام الكامل الذي لا ينطفئ بالقيل والقال، بل يبقى مشرقا إلى أن يأذن الله لهذا العالم بالزوال. ولما كان هذا الوعد الذي يتعلق بالمستقبل المغيب عن علم الخلق من شأنه أن يرتاب فيه الناس، أكده الله تعالى بما لم يؤكد به الخبر الأول ; لأن صدقه مشاهد لا يحتاج إلى التأكيد، وناهيك بقوله: { ويأبى الله إلا أن يتم نوره } أي: إنه لا يرضى ولا تتعلق إرادته بشيء في هذا الشأن إلا شيئا واحدا، وهو أن يتم نوره فلا يجعل في قدرة أحد أن يطفئه.
والآية تشعر بأن هؤلاء الكافرين الكارهين له سيحاولون في المستقبل إطفاء هذا النور، كما حاولوا ذلك في عصر من أتمه وأكمله بوحيه إليه وبيانه له، وهذا ما وقع من قبل وأشرنا إليه في هذا السياق، وأفظعه الحروب الصليبية ومقدماتها. وما هو واقع الآن، فإن دعاة النصرانية (المبشرون) من الإفرنج يغلون في الطعن على الإسلام والقرآن والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كل بلد لدولهم فيه حكم أو نفوذ أو امتياز، كمصر والهند وغيرهما، ولولا شدة غلوهم ووقاحتهم في الافتراء والبهتان لما أطلنا في هذا السياق بما أطلنا به من بيان حالهم في دينهم وكتبهم. وهذا ما يتوقع في الأزمنة الآتية، وقد صدق الله وعده:
{ { ومن أصدق من الله حديثا } [النساء: 87].
{ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق }؟ هذا بيان مستأنف للمراد من إتمام نور الله عز وجل. وهو أن الله الذي كفل إتمام هذا النور هو الذي أرسل رسوله الأكمل الذي أخذ العهد على النبيين من قبل:
{ { لتؤمنن به ولتنصرنه } [آل عمران: 81] إن جاء في زمن أحد منهم، أرسله بالهدى الأتم الأكمل الأعم الأشمل، ودين الحق أي: الثابت المتحقق الذي لا ينسخه دين آخر، ولا يبطله شيء آخر { { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه } [فصلت: 42] وهو في مقابلة قوله في أهل الكتاب الذي ذكر في أول هذا السياق: { { ولا يدينون دين الحق } [التوبة: 29] ; لأنهم أضاعوا حظا عظيما من كتب أنبيائهم ومواعظهم وحرفوا الباقي منها فلم يقيموه على وجهه، بل استبدلوا به تقاليد وضعها لهم الرؤساء بأهوائهم، كما تقدم شرحه في هذا السياق.
فعلم بهذا أن المراد بالحق الأمر الثابت المتحقق، وأن إضافة الدين إليه من إضافة الموصوف إلى الصفة كمسجد الجامع، وفيه وجه آخر صحيح يجامعه ولا يباينه، وهو أن معناه دين الله المحض الذي لا شائبة فيه كالشوائب التي عرضت للأديان السابقة ولما بقي من كتبها. وكلمة الحق من أسماء الله تعالى كما قال:
{ { فذلكم الله ربكم الحق } [يونس: 32].
ومن المعلوم عند جميع علماء التاريخ العام - ولا سيما تاريخ الأديان - أنه لا يوجد دين منقول عمن جاء به من رسل الله تعالى أو من غيرهم نقلا صحيحا متواترا بالقول والفعل متصل الأسانيد إلا دين الإسلام. وقد ذكرنا في الفصل الذي عقدناه لإثبات ضياع كثير من الإنجيل وتحريف النصارى لكتبهم المقدسة في آخر تفسير 5: 13 من سورة المائدة، أن فيلسوفا هنديا درس تواريخ الأديان كلها، وبحث فيها بحث حكيم منصف لا يريد إلا استبانة الحق، وأطال البحث في النصرانية لما للدول المنسوبة إليها من الملك وسعة السلطان، ونظر بعد ذلك كله في الإسلام، فكانت غاية ذلك الدرس أن عرف بالبرهان أن الإسلام هو الدين الحق، فأسلم وألف كتابا باللغة الإنجليزية عنوانه (لماذا أسلمت) أظهر فيه مزاياه على جميع الأديان، وكان من أهمها عنده أنه هو الدين الوحيد الذي له تاريخ ثابت محفوظ.... وكان من مثار العجب عنده أن ترضى أوربة لنفسها دينا ترفع من تنسبه إليه عن مرتبة البشر فتجعله إلها وهي لا تعرف من تاريخه شيئا يعتد به...
ثم بين غاية إرسال خاتم النبيين والمرسلين بدين الحق أو علته بقوله: { ليظهره على الدين كله } يقال أظهر الشيء: أوضحه وأبانه فجعله ظاهرا لا خفاء فيه. وأظهر فلانا على الشيء أو على الخبر: أطلعه عليه وأخبره به، ومنه قوله تعالى:
{ { فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول } [الجن: 26 و27] وقوله: { { وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه } [التحريم: 3] إلخ. وأظهره على الشيء أو على الشخص جعله فوقه مستعليا عليه. والاستعلاء هنا بالعلم والحجة، أو السيادة والغلبة، أو الشرف والمنزلة، أو بها كلها، وهو المختار، وإن كان الوعد يصدق ببعضها، والدين جنس يشمل كل دين.
وفي الضمير المنصوب هنا قولان: (أحدهما) أنه للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو مروي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ والمعنى حينئذ أنه تعالى يظهر هذا الرسول على كل ما يحتاج إليه المرسل هو إليهم من أمور الدين عقائده وآدابه وسياسته وأحكامه ; لأن ما أرسله به هو الدين الأخير الذي لا يحتاج البشر بعده إلى زيادة في الهداية الدينية ; بل يوكلون فيما وراء نصوصه إلى اجتهادهم واختبارهم العلمي والعملي مع الاهتداء بها، حتى لا يضلوا ولا يتفرقوا بتركها.
ونحن نعلم من كتب الأديان وتاريخها أنها ليست كذلك، بل لا تعدو كتب كل منها حاجة المخاطبين بها من قوم رسولها، فاليهودية دين شعب نسبي أراد الله تربيتهم بشريعة شديدة التضييق عليهم ; لتطهيرهم من الوثنية وعبادة البشر، ليقيموا التوحيد في بلاد مباركة استحوذ عليها الشرك، وقد كان ذلك زمنا ما، ثم فسدوا وصار أكثرهم وثنيين ماديين فبعث الله إليهم المسيح عليه السلام بتعاليم شديدة المبالغة في الزهد ومقاومة المفاسد المادية، وكبح جماح الشهوات الجسدية، فكان له ما كان من التأثير فيهم في الروم وغيرهم زمنا ما، ولكن غلا بعضهم في الزهد، وعرض لهم فيه الغرور مع الجهل، وعاد الأكثرون إلى الإسراف في الشهوات والعلو في الأرض، وكان هذا بعد ذاك تمهيدا للدين التام الوسط الجامع بين المصالح المادية والمعنوية، والمزايا الروحية والجسدية ; ليكون عاما للبشر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وهذه النصرانية التي يدعي أهلها أنها دين عام بالرغم مما في أناجيلها من قول المسيح لهم إنه لم يرسل، ولم يرسلهم إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة، يعترفون بأنه قال: (مت 5: 17 لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ما جئت لأنقض بل لأكمل) إلخ ونقلوا عنه أيضا أنه مع هذا قال: (يو 16: 12 إن لي أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم ولكنكم لا تستطيعون أن تحتملوا الآن 13 وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق ; لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية) إلخ.
وهذا لا يصدق ولا يمكن تأويله إلا بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي أخبرهم وأخبر غيرهم بكل شيء من أمر الدين:
{ { ما فرطنا في الكتاب من شيء } [الأنعام: 38] وإنما أخبر عن الله عز وجل لا من عند نفسه { { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } [النجم: 3، 4] وأخبرهم بأمور آتية كثيرة جدا صريحة بعضها في القرآن، وأظهرها غلب الروم الفرس في مدى بضع سنين، وبعضها في الأحاديث الصحيحة، ومن المتواتر منها قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعمار بن ياسر: " تقتلك الفئة الباغية " وفي روايات بالغيبة، أي قال هذا له ولغيره، وقوله على المنبر في الحسن عليه السلام "ابني هذا سيد، ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" وإخباره فاطمة عليها السلام بموته، وبأنها أول من يلحق به، وإخباره بموت النجاشي يوم موته وصلاته عليه إلخ إلخ. ولا يزال الزمان يظهر صدقه في كل ما أخبر به في وقته - وقد مجد المسيح صلوات الله وسلامه عليهما بنفي طعن اليهود فيه وفي أمه، وإثبات كونه ولد طاهرا من الدنس بكلمة الله، وكونه من روح الله ومؤيدا بآيات الله، وبينا كل ذلك في تفسير الآيات الواردة فيه، وقد سماه المسيح باسمه الدال على الحمد الكثير (أحمد) ومثله محمد وهو في نسخ الإنجيل اليونانية والعربية القديمة البارقليط، ثم غيروه في التراجم الأخيرة فسموه العزى كما فصلنا ذلك في تفسير سورة الأعراف.
والقول الثاني: أن الضمير لدين الحق الذي أرسل به ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومعناه أنه تعالى يعلي هذا الدين، ويرفع شأنه على جميع الأديان بالحجة والبرهان والهداية والعرفان والعلم والعمران، وكذا السيادة والسلطان (كما قلنا آنفا) ولم يكن لدين من الأديان مثل هذا التأثير الروحي والعقلي والمادي والاجتماعي والسياسي إلا للإسلام وحده.
لا ننكر أن جميع أتباع الأنبياء قد صلحت حالهم باهتداء كل منهم بنبيهم مدة اهتدائهم به، ولكن التاريخ لم يرو لنا أنه كان لدين من الأديان كل هذه الفوائد بتأثيره فيهم.
أما ظهور الإسلام بالحجة والبرهان، فلا يختلف فيه عاقلان مستقلان، عرفاه وعرفا غيره من الأديان، وقد ذكرنا في هذا السياق بعض الشواهد على هذا من كلام علماء الإفرنج المستقلين، وأشرنا إلى غير ما ذكرناه منها مما يمكن لمقتني مجلدات مجلة المنار أن يراجعوه في أكثرها بالاستعانة بالفهرس العام، ولا سيما لفظ الإسلام.
وأما ظهوره عليها بالعلم والعمران، والسيادة والسلطان، فالذي يتراءى للناس بادي الرأي في هذا الزمان، أنه معارض بما عليه دول الإفرنج واليابان وضعف ما بقي من دول الإسلام، وإنه إنما يظهر وجهه في دول العرب الأولى وكذا دولة الترك في أول عهدها.
ونجيب عن ذلك بأن ما عليه دول الإفرنج واليابان وشعوبهما ليس من تأثير أديانهما في تعاليمها، ولا في العمل بها، ولو كان كذلك لظهر عقب وجود الدين فيهم وأخذهم به، وقد نقلنا في هذا السياق عن علماء الإفرنج الأحرار المستقلين أن مدنيتهم الحاضرة وما بنيت عليه من العلوم والفنون، لم يكن إلا من تأثير الحضارة الإسلامية والاقتباس من كتبها، ومن المعلوم لكل ملم بالتاريخ الحديث أن اليابان اقتبست حضارتها وقوتها من أوربة في القرن الماضي، وحضارة العرب لا يمكن أن يكون لها سبب إلا هداية دينهم.
وقد قصر جميع المفسرين الذين اطلعنا على كتبهم في تفسير هذه الآيات ; لأنهم إنما يأخذون تفاسيرهم من معاني الألفاظ دون تحقيق لمدلولاتها في الخارج ومن الروايات المأثورة على قلتها وقلة ما يصح منها، وقد صح في بعضها قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
"إن الله زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها" وهو حديث طويل رواه مسلم من حديث ثوبان وفي مسند أحمد عن شاب من محارب مرفوعا " أنه ستفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها " وهو مطلق غير مقيد بما روي له ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأطلعه الله عليه من الأرض، ومن علماء الأصول من يوجب حمل المطلق على المقيد وفي بعضها تعيين مصر، وأوصى بالقبط خيرا والشام وملك كسرى وقيصر، وكل هذا قد تم، فإن كان شيء مما صح عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه سيفتح للمسلمين ولما يفتح فلا بد أن يفتح.
روى الإمام أحمد عن عدي بن حاتم ـ رضي الله عنه ـ قال:
"دخلت على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا عدي أسلم تسلم، قلت: إني من أهل دين. قال: أنا أعلم بدينك منك، فقلت: أنت أعلم بديني مني؟ قال: نعم ألست من الركوسية، وأنت تأكل مرباع قومك؟ قلت: بلى. قال ; فإن هذا لا يحل لك في دينك قال: فلم يعد أن قالها فتواضعت لها. قال: أما إني أعلم ما الذي يمنعك من الإسلام. تقول: إنما اتبعه ضعفة الناس، ومن لا قوة له، وقد رمتهم العرب، أتعرف الحيرة؟ قلت: لم أرها، ولكن سمعت بها. قال: فوالذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز. قلت ; كسرى بن هرمز؟ قال: نعم كسرى بن هرمز، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد قال عدي: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز. والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة ; لأن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قالها" ، انتهى من تفسير العماد بن كثير.
ومن العلماء من يقول: إن بعض هذه البشارات لا يتم إلا في آخر الزمان عند ظهور المهدي، وما يتلوه من نزول عيسى ابن مريم عليه السلام من السماء وإقامته لدين الإسلام الذي جاء به محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإظهاره بالحكم والعمل به، خلافا لما يتوقعه اليهود والنصارى على اختلافهما في صفته، وقد كان شيوع هذا بين المسلمين من أسباب تقاعدهم عما أوجبه الله تعالى في كل وقت من إعلاء دينه، وإقامة حجته وحماية دعوته، وتنفيذ شريعته وتعزيز سلطته اتكالا على أمور غيبية مستقبلة لا تسقط عنهم فريضة حاضرة، وقد تقدم في الكلام على أشراط الساعة من تفسير سورة الأعراف أن أحاديث المهدي لا يصح منها شيء يحتج به، وأنها مع ذلك متعارضة متدافعة، وأن مصدرها نزعة سياسية شيعية معروفة، وللشيعة فيها خرافات مخالفة لأصول الدين لا نستحسن نشرها في هذا التفسير. وأما أحاديث نزول عيسى فبعض أسانيدها صحيحة، وهي على تعارضها واردة في أمر غيبي متعلق بأحاديث الدجال المتعارضة مثلها كما تقدم بيانه أيضا في ذلك البحث فينبغي أن يفوض أمرها إلى الله تعالى، وألا تكون سببا للتقصير في إقامة الدين والدنيا بما شرعه الله تعالى فيهما.
وقد كان اليهود يتكلون في إعادة ملكهم في فلسطين وما جاورها على ما في كتب أنبيائهم من البشائر بظهور المسيح (مسيا) الذي يعيده لهم بخوارق العادات فلما طال عليهم الأمد، ومرت ألوف السنين، ولم يقع ذلك هبوا إلى إعادته بالأسباب الكسبية حتى إنهم سخروا الدولة الإنكليزية لمساعدتهم عليه، ومعاداة العرب وسائر المسلمين في سبيله، أفلسنا أحق بحفظ ما بقي من ملكنا، واستعادة ما فقدنا منه بكسبنا واجتهادنا، من هؤلاء اليهود على قلتهم وكثرتنا؟ بلى والله، وإن من الجهل بالدين وسنن الله في الخلق أن نقصر في ذلك اتكالا على المستقبل الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل، ومتى جاء وكنا مقيمين لديننا كنا أجدر بالانتفاع به، بل لا يعقل أن يعتد المهدي والمسيح بدين أحد لا يفعل ما يستطيع في إقامة فرائض الله وحدوده وسبق لي أن أطلت في بيان هذه المسألة في كتابي (الحكمة الشرعية) الذي ألفته في عهد طلبي للعلم في طرابلس الشام، وقد بينت في هذا السياق ما نرجوه ونتوقعه من ظهور الإسلام في المستقبل القريب، وبذلك تتم هذه البشارات على أكمل وجه، وكذا ما في معناها كقوله تعالى:
{ { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم } [النور: 55] الآية.
{ ولو كره المشركون } ذلك الإظهار، وفيه ما تقدم في مثله من الآية السابقة والشرك أخص من الكفر، وفي الجملتين إخبار بأن إتمام الله لدينه، وإظهاره على جميع الأديان سيكون بالرغم من أنوف جميع الكفار والمشركين منهم بالله تعالى وغير المشركين
{ { لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون } [الروم: 4 - 7].